لم تكتف الحسناء كاترين بتقديم العشاء الصحي والمزين واللذيذ،
الأكلات بسيطة طبخت بكل مهارة ودقة ونظافة. فالحلوى ضرورية بعد الأكل،
لكن كاترين لا تريد إيذاء ضيوفها لينتفخ بطونهم وينشغلوا بآلامهم. إنها
تفضل أن يستفيد الجميع من هذه الجلسة ويخرجوا متزودين بالعلم ومترقين
درجات نحو التكامل.
قدمت كاترين نوعين من الحلوى التي ابتكرتها بنفسها مطبوختين
بالحليب نصف الدسم ونشا الذرة وقد أضيف الزعفران العجمي إلى إحداها وأما
الثانية فقد أضيفت
إليها نسبة ضئيلة من عصارة الجوز المنقع بماء الورد وحب الهال، كما حليت
كلتاهما بقليل من العسل فإن الهال والزعفران يسدان مسد الحلاوة نسبيا.
كاترين وضعت طبقي الحلوى وسط السفرة واكتفت بقولة: تحلوا ولو
قليلا لكي نكون حلويين، ولم تبالغ في التقديم لأنها تعرف مضار الحلوى
الزائدة ولا تريد المرض والسمنة لضيوفها. بعكس عامة المضيفين الذين
يهتمون بإظهار قدرتهم في تحضير الأغذية والحلويات اللذيذة وفرضها على
الضيوف ولو جبرا أو تخجيلا. إنهم لا يهتمون بما يعود على الضيف من وبال
وبلاء بل يحاولون بشتى السبل أن يصبوها في جوفه، ولو أظهر الضيف خوفه من
العواقب قالوا له بأنها مرة واحدة. مثل هذه الليالي مستمرة في خليجنا
وبطون الناس تتوجع من هذه المكارم الحمقاء.
كثر المديح للحلوى البسيطة واللذيذة، حتى العم محمود تذوق منها
قليلا وقال: أعتقد بأن هذه الحلوى لا تضرني كثيرا.
ماري: ولكن قليلا يا عم، فأنت في سن يجب فيه الحذر من الحلويات.
محمود: إنني مهتم كثيرا بصحتي وأراعي التعادل بين نسب مواد الدم، وأشكرك
كثيرا على نصيحتك الخالصة واهتمامك المحمود بصحة العجائز.
كاترين: الفتيات في فرنسا يفضلن العجائز يا عم محمود وماري فرنسية.
ضحك الحاضرون جميعا بمن فيهم الطفلان البريئان.
محمود: ولكن ماري هي في سن أحفادي وأنا أُكبر
فيها ذكاءها وعلمها وأدبها.
ماري: شكرا يا عم محمود وشكرا للجميع.
وبعد الانتهاء من الأكل كان الملح المذاب في الماء الفاتر
مهيئا على المغسلة ليتمكن الحاضرون من غسيل أسنانهم بأبسط وأرخص الطرق
ويتفادون أعراض التسوس إثر بقاء بعض الأكل بين اللثة والأسنان وفي فجوات
الفم.
ماري، استحسنت ذلك وقالت: كاترين، من علمك هذه الطريقة غير المكلفة
والممتازة للتخلص السريع والمضمون من أمراض الفم والأسنان؟
كاترين: سمعت من علوي قبل عدة سنوات رواية نبوية أن نبدأ بالملح ونختـم
بالملح ففكرت في السبب وأدركت بأن رسول الله كان مهتما بالصحة فأراد
لأمته أن ينظفوا أفواههم من الجراثيم التي تنتقل إليها من الجو حتى لا
ينقلوها مع الأكل إلى أجوافهم. إن الميكروبات إذا انتقلت مع الأكل، تمكنت
من التزود بالطعام والعيش مدة أطول وتكاثرت مختبئة بين فجوات الغذاء.
لكن مجرى الأكل الفارغ من الغذاء ليس مكانا آمنا لكثير من الجراثيم
التي طالما فقدت حياتها متأثرة بالغازات والحوامض التي تغزوها وهي في
طريقها إلى الجوف. أما بعد الأكل فهي تفيد التخلص من كل البقايا التي
تمثل مرتعا خصبا للبكتيريا الضارة والمؤثرة في أمراض الأسنان واللثة
وكذلك اللوز.
علوي: يا ليتك علمتني طريقتك المبتكرة من ذي قبل يا كاترين.
كاترين: تعلمت منك يا علوي فكيف أعلِّم من علمني؟
علوي: أنا نقلت لك الحديث النبوي وأنت التي تعبت وفكرت فيه واستفدت منه
على أكمل وجه بنظري، فأنت التي علمتني أكثر مما فعلت. ما قلته لم يتجاوز
نقلا لقراءة ساذجة قمت بها من خلال مطالعة بسيطة، ولكنك قمت بتحقيق مفيد
ودقيق وملفت، وأنا أشكرك على ذلك.
الكثير من الواعظين والمقرئين يقرءون الأحاديث على الناس بكل
سذاجة ودون عناء. لعل الكثير مما ينقلونه إلى مريديهم وأتباعهم خاطئ
وتمثل كذبا على رسول الله ولكنها توصلهم إلى مآربهم المالية والاجتماعية
وحسبهم ذلك. أتمنى أن يدرك الناس ذلك فيتركوا هذه المجالس الضارة التي
تمسخ عقيدة الإسلام وتضر بالمجتمع الإسلامي ويتفكروا في انتخاب الذين
يدققون في أخبار الرسول وفي آي الذكر لعلهم يبنوا بذلك دنياهم ويتزودوا
لآخرتهم.
محمود: ماذا نقول يا أحبابي، لقد توغل الناس مسلمين ومسيحيين ويهودا
وغيرهم في الأكاذيب وبنوا عليها أصول عقائدهم وأسس دينهم. إن هناك
برلمانات داخل الدول الإسلامية وغير الإسلامية تسن القوانين باسم تشريع
الله على أساس الخرافات الموجودة بين الكتب الضالة وتنفذها حكوماتهم
وينكلون في عقاب من يخالفها فكأنهم أولياء الله على خلقه.
علوي: باعتباري بنكيا فإني أضرب لكم المثل بالبنوك اللاربوية التي
تتكاثر يوما بعد يوم وتجذب عباد الله باسم الإسلام ولمكافحة الربا وهم لا
يعرفون معنى الربا ولا يميزون الفرق بين الربا والبيع.
كاترين: ليتك تشرح لنا ذلك يا علوي حتى نقف بدقة على هذه الظاهرة التي
فرضت نفسها على الناس باسم العودة للأصول الإسلامية في التعامل.
علوي: والأنفع أن نسمع ذلك من العم محمود، فهو تاجر يلمس الآثار وهو
منطو على أسرار علمية تفوقني أنا بكثير.
محمود: شكرا يا علوي، هذه المسألة شيقة ومفيدة بالنسبة لي ولكن ما دور
ماري في هذا البحث فهي ليست بنكية مثلكما ولا تاجرا مثلي. أخشى أن يصيبها
الملل من الإنصات لحديث لا يهمها. فيا ليتكم تؤجلونه إلى وقت آخر حتى لا
تنعزل ماري عنا اليوم وهي غير باقية بيننا لزمن طويل.
ماري: لا يا عم، فكل ما يلقى اليوم مفيد للجميع وباعث للبهجة لأننا نزيد
علما وتكاملا. البنوك هي حديث الزمان وما أهم التكلم حولها.
محمود: إذن تفضل يا أخ علوي فباعتبارك بنكيا عارفا بأصول الصيرفة، يسهل
عليك أن تسعفنا ببيان مقتضب حول كيفية معالجة هذه البنوك للربا قبل أن
ندخل في مناقشتها.
علوي: بكل بساطة، فهذه البنوك اللا ربوية تشارك المستدين في تجارته
-بشكل صوري عادة- وتضيف الفوائد بحسب المزاج على مبلغ الدين. وأحيانا
يشترى البنك سلعة ما باسمه بعد أن يحرز على توقيع المشتري بالموافقة على
شراء البضاعة من البنك بالسعر مضافا إليه الفوائد. لكنهم لا يتحدثون عن
الفائدة بل يضيفونها إلى البضاعة باعتبارها ربحا. أما بعض البنوك
اللاربوية فتقصر الطريق وتكتفي بادعاء المشتري وجود بضاعة وهمية لدى متجر
خيالي فيشتريه البنك وفي نفس المجلس يبيعه على المشتري نفسه بسعر أكبر ثم
يسلم شيك الشراء لنفس الشخص ويستلم منه شيك البيع المؤجل والمضاف إليه
الفوائد.
هناك معاملات مشابهة أخرى لتسليف طالبي السكن، فالبنك اللا ربوي
يشتري المسكن بعد أن يأخذ موافقة طالب القرض -مسبقا- على شرائه من البنك
ويتفق معه على سعر البيع قبل إقدام البنك على الشراء. هذا المبلغ يقسط
على المدين لقاء نسبة عالية من الأرباح وبضمان البيت نفسه الذي يرهن لدى
البنك. كل هذه الفوائد محسوبة مع سعر البيع، فإذا عجز المدين عن الدفع
شهرين أو ثلاثة قام البنك اللاربوي ببيع الرهن واستحصال حقه. أما إذا
أراد المدين أن يدفع مبلغ السلفة ويفك الرهن فهو غير قادر على تجاهل
الفوائد إلا إذا أراد البنك أن يكرمه مثلا. إنه قد اشترى البيت بذلك
الثمن المرتفع وله أن يدفعها فيما بعد جملة واحدة أو يستمر في دفع
الأقساط.
البنك اللا ربوي يتخذ لنفسه اسما غير بنكي في بلادنا، وأما
في بعض البلدان -حيث لا تحكمها القوانين المصرفية الصارمة- فهو يتخذ اسما
بنكيا بيد أنه يقوم بالتعامل كالتجار لا كالبنوك.
محمود: لا شك في أن هذه الأنواع من المعاملات التي ذكرتها ليست مبايعات
شرعية وهي بمجملها صورة أخرى من الربا المحرم كما سأشرحها الآن.
هناك في الأوليات الإسلامية موضوع هام جدا هو موضوع الخوف
والرجاء. فالمؤمن يخاف ربه ويرجو رحمته في كل شؤون حياته. حتى العبادات
وأعمال الرسل غير مضمونة العواقب. يقول تعالى لخاتم أنبيائه:
{قل
ما كنت بِدعا من الرسل ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم}
سورة الأحقاف:9. ليس أحد مبشرا بالجنة ولا من يعرف ما سيكون مصيره يوم
الحساب. ناهيك عن الفرية المعروفة بالمبشرين بالجنة فإن القرآن
يرفضها
كما يرفض
الطلاق بالثلاث.
هذه سياسة الله في الأرض حتى يكثر الناس بمن فيهم أنبياؤهم من
عمل الخير. وهذا الأساس الإسلامي دخيل في كل المعاملات والعقود
والإيقاعات. الزواج والإنجاب مثلا سنة مؤكدة ولكنها مخاطرة كبيرة لكلا
الزوجين. السفر من أكبر المخاطرات في حياة الإنسان. السياسيون يركبون
أكبر المخاطر التي تودي بحياتهم وحياة أهليهم أحيانا وتزلزل إيمانهم
للوصول إلى القمة. وهكذا المبايعة المشروعة فهي لا تبتعد عن هذا القانون
السماوي.
وقد قال علي بن أبي طالب: التاجر مخاطر. يعني أن التعامل بدون
مخاطرة ليس تجارة وغير مشمول في حكم البيع المجاز شرعا. فتحريم الربا وهو
مثل البيع ليس إلا لأنه يضمن الفائدة ولا يدخل في قانون الخوف والرجاء.
وإلا فما الفرق بين ما تقوم به هذه البنوك الإسلامية وبين ما يقوم به
المرابون. إنهم جميعا يربون في أموال الناس، سواء خسر الناس أم ربحوا.
ولننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فإن الله يريد لعبيده أن
يعملوا ليستثمروا الطبيعة ويبدلوها لمصالحهم. يصلحون الأرض بالحرث
والبناء ومد الطرق، يحترفون ويصنعون الحديد ويستخرجون المعادن والأحجار
الكريمة، يقطعون الجبال والوديان ويحفرون اليابسة وأعماق البحار، ينقلون
المصنوعات والمزروعات من أبعد البلدان ويبادلون الأذواق والطلبات بين
الصانع والمستهلك و هلم جرا.
فلو تم الكسب
بهذه
الطرق التي أباحها الله لعباده فإن الثروة سوف توزع بصورة تلقائية بين
الناس ولسوف
يرى
العامل والذي يرهق نفسه آثار عمله في تغيير مظاهر الحياة والعيش ويطالب
بها كما أن المستثمر أو المضارب سيتعرف على مقدار تأثير رأسماله في
الإنتاج ويشارك العامل في المخاطرة. ولكن الكاسب بدون المخاطرة فهو
يزداد مالا دون أن يضيف عملا ودون أن يخسر. أليس ظلما أن يتعرض الذي يتعب
ويجتهد للخسارة ولا يصيب صاحب رأس المال أية خسارة؟ لعل هذا هو السر في
تحريم الربا و إباحة البيع.
بعبارة أدق فإن البيع التجاري يشمل العمل ورأس المال ولكن البيع
الربوي لا يشمل العمل بل هو تزويد رأس المال بلا عمل وبما أنتجه الغير.
يقال بأن رأس المال له قوته وتأثيره في التكاثر وهو صحيح ولكن من ذا الذي
يعرف النسبة الحقيقية التي تخص قوة رأس المال في مختلف النشاطات؟ وما هو
دور صاحب رأس المال في الخسارة التي تصيب الذي يستعمل رأس المال في
صناعته وتجارته؟
ولعل ذلك من علل تحريم الله للربح المضمون وهو الربا حتى يتم
التوازن بين الناس ولا ينفرد أصحاب رؤوس الأموال بالتكاثر غير الطبيعي في
حين أن العمال الحقيقيين في الحرف والمبادلات هم الذين يتحملون الخسائر
لوحدهم، فتنتقل الأموال بصورة تدريجية إلى أصحاب رؤوس الأموال ويتحول
الناس عبيدا لهم كما كان الحال عليه من سالف الزمان.
علوي: ولكن الاقتصاد الدولي اليوم يستند على الفوائد البنكية وهو ربا
أيضا، فكيف يمكن تغيير الوجهة الاقتصادية عمليا.
ماري: يا أخ علوي نحن نريد أن نعرف رأي الإسلام في الربا ثم نطبقه على
البنوك الإسلامية التي تدعي عدم التعامل بالربا، وأقترح أن يؤجل العم
محمود الإجابة على سؤالك هذا ريثما تأخذ هذه البنوك سهما من البحث.
علوي: أنت على حق يا ماري فيا ليت العم يوضح المسألة أكثر مما فعل حتى
يتجلى تطبيق الربا على معاملات هذه البنوك الإسلامية فلعلها تفيدهم
لتغيير موقفهم.
محمود: البيع عبارة عن تعاون رأس المال مع العمل والهدف منه إيجاد ربح
بالدرجة الأولى. هذا التعاون المشترك يتحقق أحيانا من جهة واحدة أو فرد
واحد وفي أحيان أخرى فإنه يتم عن طريق وحدتين أو نفرين. شركات المضاربة
هي المشاركة بين من يدفع رأس المال ومن يقوم بالعمل التجاري و/أو
الصناعي فبالنظر إلى رأي الإسلام في حالة الخسارة نقوى على التميز بين
حقوق صاحب رأس المال وحقوق العامل أو الذي يقوم بأداء المهمة التجارية
أو الصناعية البحتة. بالطبع أن المشاركة -عادة- تتم بالموافقة على توزيع
الربح بينهما بنسبة متفق عليها، وعادة ما يكون دخل الشريك العامل متوقفا
على الربح ولا يتقاضى مرتبا.
فإذا تعرض المال للتلف -بدون تفريط من الشريك العامل- فإن
صاحب رأس المال هو الذي يتحمل التلف وللشريك العامل المطالبة بأجرة المثل
لقاء عمله لدى صاحب رأس المال. وهكذا الخسارة فإن الذي يتحملها هو مالك
رأس المال نفسه لا الشريك العامل. أضف إلى ذلك أن الشريك العامل يعتبر
مالكا للربح بمجرد ظهوره وقبل الإنضاض (قبل أن تتحول إلى نقد).
ماري: ما هو الإنضاض يا عم محمود؟
محمود: النض أو الناض هو الدرهم والدينار وهو كناية عن النقد والمقصود
من الإنضاض هو تبديل الربح بالنقد، فإن الربح أحيانا يكون بالأجل أو بعين
أخرى غير النقدية.
وهكذا فإن صاحب رأس المال هو الذي يتحمل الجانب الأكبر من
الخسائر المادية. والعقل يحكم أيضا بهذا، لأن الذي لا يملك المال يشارك
بعمله وهو بحاجة إلى أن يعيش و إلى أن يواجه مسئولياته تجاه أفراد أسرته
الذين يعيلهم وينفق عليهم. أما صاحب رأس المال فهو إنسان غني -عادة- وهو
الذي يطلب الرزق بقوة المال وحده. يكفيه أنه لا يتعب بدنه ولا يضيع وقته
على الكسب.
إذن، البنوك الإسلامية التي تتعامل بالمرابحة لا تحمل من
الإسلام إلا اسمه وليست مرجعا مقبولا للمعاملات المباحة.
ماري: يا عم، ما هي الطريقة الصحيحة والإسلامية لإيجاد بنوك غير ربوية
ومشروعة دينيا بنظركم؟
محمود: إن من الصعب أن يجمع الإنسان بين حبه الشديد للمال وحرصه على
جمعه ودرء الخطر
عنه
وبين اكتساب رضا الله وغفرانه. لعل الصحيح
أنه
لا توجد طريقة صحيحة أصلا. المسلمون عامة يجهلون السياسة المالية للإسلام
فيتشبثون بكل حيلة للوصول إلى مآربهم الاقتصادية التي تنحصر في التكديس
والتكاثر والكنز والله قد منع كل ذلك صراحة وبأحكامه العملية.
إن الله تعالى شرع القوانين لإيجاد التوازن بين الناس ورفع
الظلم الذي يأتي به الإنسان على الإنسان. إنه يكسر الثروة المكدسة لما
فيها من ضرر اجتماعي وإنساني. تقسيم الميراث، الزكاة، الضرائب، الإنفاق
على الفقراء واعتباره إقراضا حسنا لله تعالى يستعيده الإنسان يوم
القيامة، الصرف على الخدمات العامة، تحريم الاحتكار، الصرف على الجهاد
والدفاع وغير ذلك من أوامر الدفع والبذل دليل واضح على عدم رغبة المشرع
العظيم في تكاثر المال وكنزه. البنك اللا ربوي هو خدعة ذو مظهر إسلامي
بغية الاحتفاظ بالثروة ومنع تحطمها بل ازديادها وتكثيرها ما أمكن، وهو
يخالف سياسة الإسلام العليا في توزيع الثروة وتحطيم الكنز.
حينما يستبدل النتاج الزراعي والصناعي والتجاري بالنقد أو الذهب
أو الفضة، يسهل عملية الكنز واستغلال قدرة المال، فيلزم تحطيمها لا
تقويتها. الغلبة المالية خطيرة على الناس وعلى صاحب المال نفسه. إنها
تحول الناس إلى فقراء يستحبون الفوضى ولا يتمتعون بالحياة السهلة واللينة
فيندفعون نحو السرقة والسلب والنهب ثم القتل والاغتيال و إشعال الحروب.
هكذا يغيب الأمان ليعطي مكانه للاضطراب والفتنة وهي ما لا يريدها الله
لعبيده.
علوي: البنوك يا عم ضرورية لتوجيه الأموال النقدية نحو الحركة الصناعية
والثورة الزراعية ووجودها واجب لحفظ الثروة النقدية وتنسيقها وفقا
للأولويات العامة ولحاجة الأفراد ولإيجاد التوازن بين الدخل العام وبين
الصرف المعقول والصحيح. بقاء هذه البنوك يتوقف على الفوائد الربوية فكيف
يمكن القضاء عليها و إهمالها. لولا البنوك لبقيت الثروات النقدية بيد
الناس العاديين الذين يجهلون الاحتفاظ بها كما أنهم يجهلون تشغيلها.
ماري: هذا صحيح يا علوي، فالبنوك شر لا بد منه ولكن البنوك هي أيضا مصدر
القلاقل والاضطرابات في العالم. ألا ترى الأسعار في ارتفاع مستمر وهي
نابعة من إضافة مصروف خفي في كل عملية صناعية أو تجارية باسم الفوائد.
فلكي يغطي الفوائد ويكافح الابتزاز المالي، يضطر البائعون والصناعيون
إلى ترفيع أسعارهم بنسبة تقارب نسبة الفائدة التي يدفعونها. نسبة
الفوائد العامة تُجاري سعر التضخم في مختلف دول العالم. المستثمرون
يسعون لرفع الفوائد والتجار يضطرون لرفع الأسعار، وفي هذا الوسط يحتار
المستهلكون في تنظيم حياتهم المالية وتحقيق التوازن بين دخلهم المحدود
وحوائجهم الضرورية الآخذة في التوسع.
المستهلكون -وهم كل الناس بلا استثناء- يمثلون بالتأكيد، عامة
الناس الذين لا يملكون دخلا كبيرا. في أيامنا هذا يدخل غالبية الناس
-وهم غالبية المستهلكين أيضا- في سلك التوظيف العمالي العام والخاص. فهل
نتوقع أن يشرع الله في دينه ما يساعد العامة أم يقوي القلة التي تقتني
الثروة النقدية يا علوي؟
علوي: إن استدلالك هذا يا ماري لا يحل مشكلة البنوك. إنها ضرورية لأصحاب
الثروات الكبيرة ولذوي الدخل المحدود. ولولا الفوائد سواء بشكل الربا
الصريح أو الربا الخفي كما هو في البنوك الإسلامية، لما وجد بنك ولما
أمكن تنسيق الاستثمار في يوم تعج فيه بقاع الأرض بالبشر الذين يتكاثرون
تكاثرا هندسيا مطردا.
كاترين: أعتقد أن الدين الإسلامي جاء ليغير الكثير من المفاهيم العامة
وليوجه الناس نحو نوع آخر من الحياة المتعادلة والمتوازنة. لا يمكن
للناس
أن يجمعوا بين رضوان الله وبين طموحاتهم التوسعية في تكديس المال. ولذلك
علينا بأن نغير طريقة تفكيرنا قبل أن نخوض في مسألة جزئية مثل الربا. إذا
كنا نطمع في الآخرة فعلينا أن نهتم بخلق الله في هذه الأرض ونمتنع عن
ظلمهم وسحقهم كما هو الحال بين الأقوياء والضعفاء. ولو كنا نفكر قليلا في
مصيرنا الطبيعي داخل هذه الحياة الدنيا لأدركنا أن حرصنا وجشعنا لتكديس
الثروة قد يتحول إلى نار تلتهمنا وتبلع حياتنا الناعمة الطرية التي
نعيشها اليوم. ألم نر الثروات كيف تتداول بين الناس وتنتقل بين الأمم على
الرغم من اهتمام الدول الكبرى بها؟
من كان يفكر أن دولة مهزومة في الحرب العالمية الثانية تسيطر
خلال ثلاثة عقود على صناعة السيارات والإلكترونيات في العالم؟ هذا ما حصل
لليابان ضد موجدي الصناعة المتطورة في أوربا وأمريكا. إن الكثير من
النقدية العامة هي اليوم بحوزة الكوريين والتايوانيين، ولكن أسلحة الدمار
الشاملة متكدسة في روسيا الفقيرة وفي أمريكا والصين وفي فرنسا و إنجلترا
و إسرائيل. سوف يضطر العالم أن يدخل حربا كونية أخرى إذا ما بقيت
الثروات النقدية تتكدس عن طريق الفوائد البنكية لدى بعض أبناء يأجوج و
مأجوج في الشرق الأدنى. وإذا بقي أصحاب البلايين في الخليج
وبروناي وغيرها
يهتمون بتقوية بنيانهم النقدي ويصرفون وقتهم وجهدهم في الترف دون التفكير
في الصناعة المتطورة وفي التسلح المنطقي والمعقول.
الربا هو مصدر الخطر ضد مستقبل البشرية ويجب مكافحته والقضاء
عليه، لا تغيير شكله واسمه كما هو الحال لدى البنوك الإسلامية.
علوي: لا زلت بانتظار من يرد علي، فأنتما يا ماري ويا كاترين تتحدثان
بانفعال وعطف تجاه الفقراء والمعدمين ولا تفكران في طريقة تضمن سلامة
البنوك وتعيد الطمأنينة للعامة من البشر. لقد قالت ماري أن البنوك شر لا
بد منه وهو صحيح ولكن البنوك بلا فوائد غير مضمونة البقاء بل غير قادرة
على التواجد ومحكومة بالزوال والفناء.
كاترين: ماذا لو وافق المستثمرون أن يشاركوا الصناعيين والتجار في
مخاطراتهم ويقدموا لهم الدعم المالي بالمشاركة الفعلية أو يقرضوهم بلا
فوائد؟ إنهم لو فعلوا ذلك لتوقف الصعود غير الطبيعي للأسعار ولاحتفظوا
بقيمة مدخراتهم على الأقل دون التعرض المستمر للتضخم ولانخفاض القيمة
الشرائية للنقد. بذلك
يتوقّون
شر الحركات الثورية للفقراء والمقعدين ويسود الأمن والسلام في كل العالم.
لكنهم جشعون لا ينظرون إلا إلى الثراء بأي ثمن ولو بثمن أرواحهم. ولعل
الشيطان يزين لهم أعمالهم فيغفلوا عن نتائج أعمالهم ولا يعتبروا من
التاريخ ومما حصل لمن قبلهم ولغيرهم من رجال زمانهم.
علوي: هذا كلام معقول ولكنه غير عملي يا كاترين. ليس هناك مستثمر واحد
يصغي إليك وينظر إلى عواقب الكنز بالصورة التي تتراءى لنا نحن في هذه
الجلسة. فمادام الناس عامة لا ينظرون إلى الأمور نظرة واقعية تتصل
بالعواقب البعيدة حسب تصورهم، فما هو دور بعض المؤمنين الذين يخشون ربهم
في استثمار أموالهم النقدية؟ إنهم إن فعلوا كما تقترح كاترين لخسروا
مرتبتهم المالية بين أهل الأرض وتلك خسارة لعامة المؤمنين بالله، حيث
ينزل تباعا نسبة المدخرات النقدية لدى الشعوب المسلمة والمؤمنة بالله.
ولو أودعوا أموالهم لدى البنوك بلا فوائد فإن غيرهم سيودعها بفوائد
وبالتالي سوف لا تتوقف حركة التضخم ولكن هؤلاء هم الذين يخسرون فعلا حيث
أنهم لا يعوضون بعض قيمتها الشرائية عن طريق الفوائد. فما الحل يا رفاق
الصدق؟
محمود: أتصور أن البنوك غير المقرونة بصفة الإسلام هي أقرب إلى الحل
المؤقت للمشكلة التي صورها لنا علوي. حقا أن انفراد بعض الأفراد بترك
الفوائد البنكية لا يستتبع إلا تقلص الثروة المالية العامة لدى مجموعة
المؤمنين بالله، ذلك إذا أرادوا أن يتركوا الربا فعلا، أما التشبث
بالطرق التي تتبناها البنوك الإسلامية فهي -كما قلنا- أشد وطأ من الربا.
ألستم معي أن البنك هو الخزينة المخصصة لحفظ أموال الناس، فكيف
يجيز البنك لنفسه أن يمارس التجارة؟ التجارة تستند على المخاطرة وركوب
الأهوال طلبا للتكاثر والربح، فلا يجوز لمن ائتمنه الناس على أموالهم أن
يخاطر بهذه الأموال. فالبنك الذي يدين الناس باسم التجارة هو بنك يقوم
بالمعاملة المحرمة ويقدم أمانات الناس للمستدين، ثم يتاجر المستدين بهذه
الأموال ويكسب ما لا يدخل في ملكه شرعا لأنه تعامل في مال كله محرم.
أما البنك العادي فيقدم مالا حلالا للمدين ويطالبه بالربا.
فالتجارة مباحة لأنها تمت بالمال الحلال ولكن مطالبة البنك بالربا
والتزام المدين بالفائدة المحرمة هما فعلان محرمان غير مؤثرين في
المتاجرة الحاصلة.
لذلك، يلزم إيجاد مخرج شرعي للبنوك الفعلية واضعين في بالنا وفي
برنامجنا التحرك نحو تحرير الحركة المالية الدولية من قيود الربا
والفوائد وتقبل الواقعيات التي يلمح إليها النظام الإسلامي بعد أن نقوم
بحملة توعية دولية تشمل كل أرجاء المعمورة. ويمكن وضع خطة للبدء بتطبيق
الإقراض غير الربوي ولكن على نحو يشمل دولة مسلمة بكاملها، حتى لا يخسر
معتنقو الإسلام والمؤمنون حقا على حساب معتقداتهم فيتقوى أعداؤهم ويسهل
القضاء عليهم. ويمكن اقتراح برنامج عمل بالشكل التالي:
1- تتقاضى البنوك في الدول والمجتمعات الإسلامية نسبة مما يسمى
بالفوائد بقصد الاحتفاظ بالقيمة الحقيقية للقوة الشرائية للعملة. هذه
النسبة يجب ألا تزيد بحال من الأحوال عن نسبة التضخم التي تعلنها البنوك
المركزية أو أية جهة حكومية مسؤولة عن الثروة المالية في الدول التي تتم
فيها المعاملة. وتعطي البنوك جزءا من هذه النسبة لأصحاب النقدية
والمودعين.
2- يتم توقيع عقد الإقراض أو الاقتراض على أساس الذهب أو الفضة
أو أية ذخيرة وطنية مشابهة إذا كانت لها قيمة مالية يمكن الاستناد
إليها.
ويتم التعامل بالنقدية كقيمة لتلك الذخيرة ويكون المدين مطلوبا بتلك
الذخيرة لا بالعملة موضوع التعامل. ويتضمن العقد مصالحة بين المقرض
والمقترض على أن يعفي الدائن طرفه المدين من كل ما يزيد على نسبة معينة
من مبلغ القرض فيما إذا ازداد قيمة عين القرض على ذلك وقت السداد في
مقابل أن يتحمل المقترض تعويض الدائن بنفس النسبة المعينة إذا فقد عين
القرض قيمته عن تلك النسبة وقت السداد المتفق عليه، ويكون كل طرف وكيلا
عن الطرف الآخر لتنفيذ التعهد وكالة عنه.
3- يتعهد كل من المدين والدائن أن يوصي لمن يخلفه بتنفيذ
التعهد المذكور أعلاه فيما إذا حصلت له الوفاة ويعتبر هذا العقد بمثابة
الوصية فيما إذا تخلف الطرف أن ينفذ تعهده بكتابة الوصية.
4- تنشئ مجموعة البنوك المحلية صندوقا لإقراض كل من يقوم
بتأسيس منشأة تجارية أو صناعية في الدول الإسلامية أو بين المجتمعات
الإسلامية إذا ما احتاج إلى مال لتصريف العاجل من مشاكله أو لتوسيع
منشأته إذا قدم للصندوق دراسة اقتصادية مقبولة وضمانا متداولا حسب
الأعراف التي تتبناها مجموعة البنوك أو وكيلها الطبيعي المتمثل في البنك
المركزي أو ما يعادله. تتشارك البنوك كل بنسبة الإبداعات النقدية
والرأسمالية الموجودة لديه في التمويل المستمر لقروض الصندوق كما يدفع
المدينون نسبة ضئيلة من قروضهم كعمولة لتغطية مصاريف الصندوق ولتغطية ما
يلحق بالبنوك من خسائر نتيجة للسحب والإيداع غير المنظم.
هذه الأموال لا تشمل بأي حال إلا نسبة معتدلة من الإبداعات
بحيث لا تضر بتعهد البنك تجاه عملائه لدفع ما يسمى بالفوائد لهم بل يقلل
من نسبة أرباح البنك.
5- ينشئ البنوك فيما بينهم وبنسبة معدل إيداعاتهم شركة تأمين
لتغطية الخسائر المحتملة نتيجة لتباطؤ أو عجز المدينين عن سداد قروضهم.
ويقدم المستدينون نسبة من اقتراضاتهم -كل بحسب- مركزه المالي ومشروعه
ونسبة الخطر المحتملة في أعماله لشركة التأمين هذه وذلك لتعويض البنوك عن
القروض غير المسددة ولتحل شركة التأمين محلهم في حالة عدم السداد أو
التفليسة الرسمية.
6- تسند الدولة شركة التأمين المذكورة وتعوض خسائرها الفادحة
حتى تضمن عدم تأثير الخسائر على كيانها.
7- بما أن التشريع الإسلامي
لا يمانع
أن يدفع المقترض هدية لصاحب المال إذا ما حقق ربحا من ذلك دون إلزام
فيتعهد المدينون تعهدا خلقيا غير ملزم لهم بأن يدفعوا جزءا معينا من
أرباحهم هدية إلى الصندوق إذا ما حققوا ربحا في استخدامهم للقرض. ويؤثر
عدم وفائهم بهذا التعهد في حرمانهم من التمتع بمزايا صندوق الإقراض غير
الربوي. هذا الحرمان يشرع بموجب عقد تأسيس الصندوق
ويؤثر في تعامل المستدين مع الصناديق المشابهة.
8- يتمتع بهذا القرض الأشخاص أو الشركات التي يتعهد أصحابها
بتسديد القرض من أموالهم الشخصية.
هذا الصندوق يتوسع بموجب برنامج زمني مدروس حتى يقضي على
القروض الربوية شيئا فشيئا وسوف لن يتم ذلك إلا إذا تعاطفت الدول والشعوب
مع هذه الصناديق بالعمل مثلها. وذلك يستوجب تضامن الوعاظ والصحفيين
والمعلمين والمؤلفين مع الفكرة وإيضاحها للشعوب وشرح مزاياها لهم حتى
يطالب بها أصحاب النقدية في مختلف أرجاء المعمورة.
ماري: فكرة رائعة وجميلة وتحتاج إلى عرضها على الأكاديميات العلمية
والدينية لدراستها وتقديم التوصيات بشأنها للحكومات والبرلمانات
والمؤسسات المالية والمؤسسات الإسلامية وغير الإسلامية. إنها تنقل الوضع
المالي المأساوي إلى وضع معتدل وتقضي على كابوس الربا بشكل مبرمج ومتقن.
علوي: رأي معقول ومتزن ولكنه بدائي وبحاجة إلى دراسة وافية من جميع
الزوايا حتى يمكن عرضه على المؤسسات المالية. أعتقد بأن المتدينين
والمهتمين باتباع أوامر الله هم خير من يسند هذا الرأي ولذلك من الأفضل
إفشاؤه للناس العاديين عن طريق الكتب والمقالات حتى يدخل الديوانيات و
يتداوله الشعوب والتجار ثم يتناوله الماليون وأصحاب الفكر ليشبعوه بحثا
وتمحيصا.
كاترين: أعتقد بأننا سوف نحل لغزا كبيرا إذا ما واصلنا هذه الجلسة
بجلسات أخرى لنناقش المسائل التي تعرضنا لها بدقة أكثر، لعلنا نتمكن من
تقديم خدمة لمن مثلنا من البشر رجاء المثوبة من الله تعالى. إن اقتراح
العم محمود يضمن بقاء رؤوس الأموال عن طريق التأمين ويضمن عدم تحميل
المدين ليس فقط الفوائد بل القرض نفسه إذا ما تعرض للخسارة فكأنه اشتغل
بماله لا بمال الناس. الذي يتحمل خسارة هذا العميل بصورة عملية هم أصحاب
الأرباح الذين يكثرون من الاقتراض ويدفعون النسب الضمانية لشركة التأمين.
يعني أن السوق بمعنى أوسع يعدل مشاكل أفراده بأن يتحمل جزءا من خسائرهم
وبأن يتحمل كل الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها نقدية الذين يستثمرون
المال.
هكذا يضمن المستثمر المصرفي بقاء رأس ماله على أنه لا يحرم من
سهم من الأرباح التي يتعهد بها الشخص الذي يشغل رأس المال لقاء كسب رضا
الله أو خوفا من أن يحرم من التمتع بالمساندة المالية التي لا يستغني
عنها أي تاجر مهما بلغت ثروته النقدية الخاصة.
ماري: شكرا يا كاترين على ملاحظاتك الجميلة وشكرا على دعوتك لاستمرار
هذه الجلسات. بالطبع أن التي سوف تدعونا هي كاترين لأن علوي يكفيه
انشغاله بتربية ولديه بعد وفاة زوجته والعم محمود يكفيه شيخوخته وما
نتوقع منه من أفكار وأنا مسافرة غير مستقرة.
محمود: لو تقتنعون بالتمر واللبن فأنا مستعد لاستضافة الجلسة القادمة،
أما ما زاد عن ذلك فإني أضعف من أن أتعهد بها.
علوي: أنا مستعد أن أدعوكم في أحد المطاعم ولي الشرف في ذلك. ولكم
الخيار في اختياره بالطبع في حدود إمكاناتي المالية.
ماري: لأسألكم سؤالا: ما الذي دعاكم للإعداد لمثل هذه الجلسات؟ هل هو
تلذذكم بالطبخة الشهية التي برعت بها كاترين، أو ما لمستم من جمال وزينة
في هذه الشقة الرائعة، أم المناقشات التي دارت بيننا فيما بعد؟
كاترين: بالطبع أن المناقشات وتبادل المعلومات هي التي دفعتني أنا لأن
أطلب منكم الاستمرار في الجلسات.
ماري: يعني أنكم مستعدون للاستمرار في عقد هذه الجلسات ولو غابت
الضيافة والجلسة المريحة والشقة الناعمة؟
علوي: بالطبع أننا مستعدون للتزود من العلم ولو وقوفا على أرجلنا ولكننا
بشر نفضل أن نتحدث ونفكر دون أن يزعجنا الجوع والعطش أو يرهقنا التعب
والوقوف والجو غير المكيف.
ماري: هل لي أن أقترح عليكم الاكتفاء بنوع واحد من الطعام الخفيف مثل
البسكويت أو التمر أو ساندويتش الجبن وبنوع واحد من الشراب مثل الماء أو
الشاي أو اللبن؟ أما التكييف فإن كل البيوت في الكويت مجهزة به ويكفيكم
اختيار أي بيت من بيوتكم.
محمود: كلام جميل وأنا قد دعوتكم إلى بعض ما اقترحته ماري وهو التمر
واللبن فهلا تتقبلون دعوتي المتواضعة؟
علوي: يشرفنا ذلك ولكن كاترين بدأت بدعوة مزينة وقدمت أكلات منوعة زكية،
فوجب على من ليس له عذر منا أن يكافئها بعمل دعوة مماثلة إكراما لها
ولضيوفها الحاضرين والحاضرات في هذه العشية الممتعة. وبما أنني عاجز عن
الإتيان بمثلها في بيتي، رأيت دعوتكم في المطعم.
ماري: شكرا يا علوي، ولكن دعوة كاترين كانت فلتة ومن الأفضل عدم تكرارها
حتى نتجنب إحراج أنفسنا كما أننا نطلب من كاترين أن تعيد نفس الجلسة
بالبسكويت والشاي حتى تتلافى هذه الفلتة غير المقصودة.
كاترين: تمت الاستعدادات للطفلين الحبيبين ولك أنت فتاة نورماندي الزائرة
ثم دعي علوي بالتبع والعم محمود للتزود من علمه. ولذلك فلا داعي
لانتقادي. أما مسألة دعوتكم مرة أخرى بالشاي والحليب فأنا مستعدة لحرصي
الشديد على تكرار ما قيل ونوقش، ولكن هل يصح حرمان الطفلين هذين من أكلة
تتناسب مع شهيتهما؟
ماري: لم أكن لأقصد انتقادك يا كاترين، فلقد دخلت في قلبي منذ أن حادثتك
على البلاج وأنت مثال للذوق والكرم والعلم وكل بيتك ينبئ عن اهتمامك بكل
شيء حسن. إنني قصدت استمرار هذه الجلسات لما فيها من فوائد لنا ولغيرنا
وذلك أهنأ لنا إذا امتنعنا عن تسبيب التعب والخسارة لمن سيضيفنا. ليس
فينا من لا يتمتع بضيافتك البديعة المبدعة بدليل إكثارنا من الأكل على
مائدتك ولكن استمرار ذلك غير محبب لنا. أما زيد ولبيد فيمكنك عمل
سندوتشات خاصة بهما دون إشراكنا في ذلك.
تغلبت كاترين على بقية الدعاة واتفق الحاضرون على تكرار الجلسة
بعد ثلاثة أيام في بيت كاترين على البسكويت والشاي وبعض السندوتشات
للطفلين فقط.
كان زيد ولبيد قد اختارا مكانا في غرفة نوم كاترين وناما بعد أن
ملاّ من اللعب وتغلب عليهما النعاس. كاترين انتبهت أنهما غير موجودين
فبحثت عنهما لتراهما في غرفة نومها فرفعتهما بيديها ووضعتهما على سريرها
وغطتهما بالملحفة. قال زيد بين النوم واليقظة: شكرا يا ماما كاترين.
ازدادت كاترين حبا وإشفاقا لزيد وأخيه وتلهفت كثيرا في نفسها
لأن تعيش بسرعة مع علوي. عادت كاترين إلى ضيوفها لترى العم محمود التمار
متأهبا للخروج.
كاترين: لعلك سهرت أكثر من عادتك يا عم فاستعجلت إلى الراحة والنوم؟
محمود: هو كذلك يا ابنتي، وأشكرك كثيرا على حسن الضيافة وكرم الأخلاق
وأشكر الجميع على اهتمامهم وأدبهم فقد أكلت من الخير وتزودت من العلم
الذي انتشر في جلستكم الممتعة والغنية بكل شيء. وأرجو لزيد ولبيد مستقبلا
باهرا منيرا كما أرجو لكم جميعا حسن العاقبة ولي ولكم الرحمة والغفران
والسلام عليكم، إلى أن نلتقي يوم الاثنين في هذا المكان إنشاء الله.
الجميع شكروا العم محمود وودعوه بإصرار حتى باب العمارة.
كاترين: وأنت يا ماري أليس من الخير أن تبقى معي هذه الأمسية ثم تعودي
غدا إلى الفندق، كما إني أدعوك أن تتعشي معي كل يوم ما دمت مقيمة في
الكويت.
ماري: أما البقاء هذه الليلة فهي مقبولة وأنا شاكرة، وأما العشاء كل
ليلة فلا. ستكونين طول النهار في العمل وتحتاجين إلى الراحة في الليل لا
إلى الضيافة. لكنني سأزورك أحيانا أو أدعوك إلى فندقي لأن تتعشي معي.
كاترين: فكري قليلا فلعلك توافقين على اقتراحي في الصباح الباكر، وعلى
أي حال فأنا شاكرة لك على كل ما أراه منك من حسن الخصال ومن لطف المقال
ومن الأدب والسيرة الكريمة.
تأهب علوي للخروج فتوجهت إليه كاترين قائلة:
كاترين: أرجوك أن تجلس قليلا وتعطي الفرصة لنوم أكثر لزيد ولبيد. هما
نائمان على سريري وأنا أكره أن أفيقهما، على أني أقترح عليك أن تبقيهما
لدينا هذا المساء وتأتي في الصباح الباكر لحملهما وإرسالهما إلى الروضة.
علوي: شكرا كاترين سوف أجلس قليلا ولكني أفضل أن آخذ زيد ولبيد معي لأني
قد تعودت أن أنام بجوارهما وإيقاظهما صباحا وتهيئتهما للخروج من البيت.
ماري: وماذا تقول كاترين التي تعيش وحيدة عدة عقود وتتمنى أن تعيش ليلة
واحدة مع أبناء زميلها في العمل.
انتبه علوي أنه لم يكن مراعيا شعور كاترين الأنثوي في التودد
للأطفال فاعتذر وقبل اقتراح كاترين لإبقاء الطفلين لديها طول الليل.
جلس علوي ساعة أخرى لدى الفتاتين ثم ودعهما وتقدم إلى الباب.
لم تكن كاترين لترغب بخروج علوي كما أن علوي لم يرغب بذلك، لكن الآداب
العامة والخصال الطيبة فرضت عليهما قبول المواجهة مع دعوة قلبيهما.
كاترين: شكرا على قبولك إبقاء زيد ولبيد لدينا، وأنا أنتظرك للفطور معنا
بحضور ماري.
علوي: اعذريني من الفطور فقد أكلت الليلة أكثر من اللازم وعلي أن أصوم
غدا لألا يزداد وزني. لكنني سوف أحضر في الساعة السابعة وسأجلس معكم ربع
ساعة قبل أن أغادر.
يتبع: (يوم
غير ما مضى من الأيام)