المؤمنة كاترين

المقطع السابع

العم محمود التمار (2)

 

هنالك نادى الزبائن المنتظرون بصوت واحد: لا يا ست نحن نحب أن نسمع  أيضا. قال أحدهم يا حج محمود: إن بحثك هذا خير لنا من التمر وهو خير  إنفاق لوقتنا فأفض علينا من معارفك، و نشكر هذه السيدة التي فتحت هذا  النقاش ونطلب منها مواصلة السؤال فنحن مستمعون، هل أنتم موافقون يا حضرات  الزبائن؟

 

الزبائن:  بصوت واحد: نعم موافقون وشاكرون.

 

كاترين: أشكر الاخوة وأرجو من العم محمود أن يوضح لنا باختصار ما هو سر هذه  الغوغاء العجيبة في الأديان التي نسمعها من رجال الدين. المسيحيون واليهود  والبوذيون والمسلمون والمجوس وبقية الأديان باختلاف مذاهبهم وآرائهم. هل  يدعو هؤلاء جميعا إلى الله أم أنهم يدعون إلى شيء آخر باسم الله.

 

محمود:  يا آنسة كاترين، نحن البشر مخلوقون بيد الله تعالى وحده لا شريك  له. هو أوجدنا وسرحنا في هذه الحياة وأرسل إلينا تشريعا واحدا ليختبر مدى  تجاوبنا مع تشريعه، فتكون له الحجة البالغة في يوم القيامة. يوم يقوم الناس لرب  العالمين. كل المخلوقات بصورة طبيعية فطرية تسير باتجاه خالقها وتطيع  أوامره شاءت أم أبت. فالحيوانات وكل الموجودات التي لا عقل لها ولا خيار تنفذ  أوامر الله وحده. والعقلاء الذين لا شهوة لهم مثل الملائكة فهم يطيعون الله  وحده أيضا ولا يعصون له أمرا.

 

          أما الإنسان فهو يميل إلى نفسه بحكم حاجة النفس إلى إرضاء  شهواتها ونزواتها وبحكم تحريض النفس صاحبها على إشباع تلك الشهوات.  لكنه بالطبع وبصورة لا شعورية يسير باتجاه العودة إلى الله. إن توضيح  فلسفة العودة إلى الله ليس هينا وسوف يؤدي إلى نقاش غير مرغوب إذا  خضناه ولذلك دعنا نتركه اليوم فلعلنا نتمكن من بحثه في فرصة أخرى أكثر من  اليوم وتكونون جالسين لا واقفين على أرجلكم في السوق. الذي يهمني من العودة  أن أقول لكم أن الإنسان بصورة فطرية لا إرادية متوجه إلى ربه وبحكم  أهوائه متوجه إلى هواه ولذلك يسمي أفكاره تسمية إلهية.

 

          هذه التسمية تريح مريديه (ذلك الإنسان الوصولي) وتعطيهم نوعا من  الاطمئنان للاستماع إليه. كما أنه هو يشعر معه بنوع من الرضا لأنه في هذه  الزاوية من زوايا الحياة لا يخالف الطبيعة ولا يعارض السير الفطري للناس  ولنفسه. أما الذين يدعون إلى غير الله وينفون وجوده تعالى فهم غير  مستقرين وغير هادئين ولذلك لا تبقى كلمتهم ولا تطول مدتهم كما رأيناه في  الاتحاد السوفيتي بعد حياة قاتلة دامت حوالي ثلاث وسبعين سنة ثم انهارت وتلاشت واضمحلت.

 

          لكن شكل الدعوة إلى الله، تلك الدعوة الممزوجة بهوى النفس تختلف  لدى الأفراد والجماعات باختلاف أهوائهم. حتى الأديان التي نزلت فعلا من السماء  عن طريق أنبياء الله المكرمين مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن شكل  التسليم إلى الله يختلف لديهم. ليس ذلك لأن المسيحية تعارض الإسلام أو  تحارب اليهودية، فمصدر هذه الأديان واحد وهو الله تعالى والأنبياء لا يدعون  إلا لشيء واحد ولا تعارض بين تشريعاتهم. النبي اللاحق يؤيد النبي السابق  ويكمل دينه دون أن يناقضه.

 

          هذا التكميل ليس من مستلزمات الدين وليس تجديدا لرأي الله تعالى  فهو العالم بما سيأتي وهو الذي لا يزيد علمه بمرور الزمان. علمه عين ذاته  وهو واحد. لكن هذا التكميل من مستلزمات الاستيعاب لدى الناس الذين يتطورون  على مر الزمن. فلو كان ما أتى به موسى عليه السلام وما أتى به المسيح عليه  السلام وما أتى به محمد عليه السلام  بحقيقتها أمامنا اليوم  لرأينا أن الاختلاف بينها اختلاف تطوري لا تناقض فيه إطلاقا. لكن ما بيدنا  ليس هو ما أتى به أولئك العظماء حقا بل هو مزيج من ذلك مع ما أراده  أتباعهم الذين أشركوا أهواءهم بإرادة ربهم.

 

          إن التدين في عصور ما بعد الأنبياء يتحول بطبيعة المصالح الموجودة  في قلوب أصحابهم وأنصارهم إلى تحزب يدعو الناس إلى العضوية في ذلك  الحزب. أولئك التابعون ليسوا أتباع موسى ولا أنصار عيسى ولا شيعة محمد بل هم  عصبة أفراد أنانيين أو منظمات حزبية. الزعماء الدينيون والزعماء السياسيون  يستعملونهم لتنفيذ مآربهم ولإمضاء أوامرهم التي لا تصدر إلا لصيانة سلطانهم  باسم حفظ الدين ونصرة الله.

 

          ولذلك ترون الزخارف والملابس والشعائر والمميزات والعلامات والشارات مثل تماثيل الأنبياء والأوصياء والقبب والمنائر المربعة أو المدورة والخواتم المنقوشة والعمائم والتيجان والخوذات والجلابيب والصلبان والشموع وأكسية بيوت الله المقدسة وقلادات الصليب والقرآن المذهبة والألقاب المفخمة والقبعات وأغطية قمة الرأس وربطات العنق وتحت الحنك وذو الذؤابتين وحلق شعر الرأس  واللحية والشوارب أو إعفاءها وزرع العصبيات في النفوس وما شابه ذلك تحل محل مكارم الأخلاق وحرية التفكير وعدم الإكراه في الدين والدعوة إلى الله  بالحكمة والموعظة الحسنة وتكريم العلم وأهل العلم وصيانة النفوس والأموال  والأعراض.

 

          إن مصالح أولئك الزعماء تقتضي زرع الفتنة والبغضاء بين الناس  ليلتف أتباعهم حولهم خوفا من أتباع الأديان الأخرى. فكما تعلمين يا كاترين أن الشعوب تلتف حول زعمائها إذا ما جاء الخوف وتأتمر بأمرهم. هذا ما يشجع  الزعماء المنحرفين أن يختلقوا العداء حتى بين أتباع الدين الواحد. نحن نرى  المسيحيين فيما بينهم مختلفين في الشكليات والجزئيات اختلافا يجر بينهم الحروب وخوض ميادين القتال، وكذلك نرى المسلمين في خصام ونزاع وتناف بينهم  لحد الموت أحيانا. كان الزعماء يستعملون المذاهب لإقامة الحروب بين الأخ  وأخيه تثبيتا لحكمهم وسلطانهم على من هو تابع لهم أو مغرر بهم.

 

          حتى في كل مذهب من مذاهب الإسلام ترين أحيانا أتباع كل زعيم أو  إمام يحاربون أتباع الإمام الآخر بحجج واهية. أتذكر حربا عشواء قامت بين  الشيعة والشيعة في العراق حول مسألة بسيطة تافهة. نادى أحد علماء الشيعة  في بغداد قبل عدة عقود بحرمة أو منع جملة "أشهد أن عليا ولي الله" في  الأذان، فتجمعت حوله أتباعه المخلصون له بأسنتهم وأعنتهم تأهبا لمحاربة من يخالفهم واستعد المخالفون لمحاربة هؤلاء، ووقع الشقاق والنفاق والضرب  والتجريح بينهم، واشتهر وقوع القتل بينهم أيضا.

 

          أنا لا أدري ما هو غرض ذلك الزعيم الديني من إعلان تلك المسألة  الصحيحة بتلك الصورة ومن تجميع المجندين حول نفسه. فلعله قصد وجه الله وتغيير خطإ شائع بين الشيعة جمعاء.  إنني أعرف أن هذه  الشهادة غير واردة في الأذان لا عند الشيعة ولا عند غيرهم. وقد رأيت الكثير من  فضلاء الشيعة لا يأتون بها فعلا، إلا إذا خافوا الفتنة وثورة البسطاء من  الشيعة عليهم. إنه عمل لغو بلا شك ومخالف لإرادة المشرع العظيم صلى الله  عليه وآله وسلم.

 

          ولكن زرع الفتنة بين أتباع المذهب الواحد لتثبيت هذا الخطأ أو  محوه أمر يبعث بالأسف وبالشك لدى كل مخلص متبع لدين الله. كنت أسمع أن هذا  الشيخ الديني يبالغ في المنع من ذلك وأرى بعض شيوخ الدين الآخرين يبالغون في النيل من هذا الشيخ ويغلظون السباب والشتائم ضده حتى اشتد النزاع بينهم لحد إراقة الدماء.

 

          فيا ترى بم يدعو هؤلاء الزعماء المنسوبون إلى الأديان السماوية.  ماذا يدعو إليه الذين أراقوا الدماء في الهند لإقامة معبد مكان المسجد. ما  هو أهمية ذلك المكان بالنسبة لهم دينيا وتاريخيا؟ ما هي علاقة السيد المسيح بالصرب المجرمين الذين قتلوا واغتصبوا فتيات المسلمين في بوسنيا وما هو سر تعاون الكثير من مسيحيي العالم معهم؟ ما هو سر الحرب بين  الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا وما هو هدف الوهابيين في خلع لقب الشرك ضد من يقبل قبر النبي أو يعتقد بالتبرك بمسح ما ينسب إليه والحكم عليه بالموت؟ لاشك أن البركة كلها من الله وحده وليس للنبي أي يد فيه. هو الآن ميت من بيننا وحي عند ربه يرزق ولا قوة له لمساعدتنا. إن على من يعرف الحقائق أن يبينها للناس ويتركهم أحرارا في قبولها واتباعها أو رفضها.

 

          إن هؤلاء وغيرهم جميعا يجرون النار إلى قرصهم ويحاربون البشر من  أجل إشباع أنانيتهم ومطامحهم الشخصية. كل هذا الصراع من أجل النفس لا من أجل الرحمن ولعل أكثر هؤلاء هم أهل النار وهم حطب جهنم.

 

كاترين: لست على بصيرة من أمري ولا أدري ماذا أفعل يا عم محمود؟ لست ناظرة  إلى أفعال أتباع الأديان فهم لا يعكسون ذلك التشريع ولست مهتمة بالزعماء  الدينيين فإن متاعهم الدين، يتاجرون به وينتفعون منه إلا القليل منهم. قليل  يستعصي علينا كشفهم والتعرف عليهم. أرى أن القرآن لا يناقض الإنجيل ولا يعارضه كما أن الإنجيل لا يضاد التوراة ولست واثقة من أن عبقرية محمد بن  عبد الله تكفي لكتابة قرآن، وما اهتديت إلى دليل ملموس يعزز نزول هذا القرآن العظيم من السماء.

 

محمود:  كم عدد الفرق المسيحية وكم عدد الأناجيل الموجودة يا كاترين؟ لدى  الكاثوليك وحدهم أربعة أناجيل مختلفة وكل هذه الأناجيل وبقية كتب ورسائل  الكتاب المقدس في تعارض وتباين مع بعضها ومع حقائق الطبيعة والكون. الزنا يضر بالعائلات ويفسد الكيان البشري والكتاب المقدس ينسبه إلى أكثر أنبياء  الله بلا تحفظ. رب العباد وخالق الكون لايمكن أن يكون جسما و إلا كان محتاجا  إلى أجزائه ولا يمكن أن يكون مادة و إلا احتاج إلى مكان و إلى عناصر  لتركيب المادة.

 

           من هو الغني الذي خلق المكان والعناصر والأجزاء لله تعالى؟ إذن لا يمكن الاعتقاد بأن الرب الموصوف في الأناجيل هو الغني عما دونه وهو خالق  مادونه. ناهيك عن الاختلافات الكثيرة فيما بين هذه الكتب المنسوبة إلى  السماء و إلى أنبياء الله و إلى بعض أنصارهم المحترمين.

 

           إن القرآن لا يناقض الإنجيل الأصلي ولا يعارضه وكذلك التوراة الأصلية التي حرمنا منها نحن في هذا الزمان. هذا القرآن بكل مافيه، غير متباين وغير  مخالف للعقل وللطبيعة والحياة ولا يدعو إلى ما يناقض تكاثر البشر كما هو  الحال لدى الكتاب المقدس الذي يدعو إلى ما يسميه بالعفة للفتيات الكنائسيات.  والواقع هي ليست عفة بل هي قتل للنفس البشرية وقتل للطبيعة التي خلقها  الله للبشر ليتمتع بها ويتكاثر من جرائها.

 

          ثم انظر إلى تباين عقائد المذاهب الإسلامية وتشاجر المسلمين  وتناحرهم ولكنهم متفقون على كتاب واحد. الأباظي يشتري القرآن من الشيعي  والشيعي يثق ثقة كاملة في ما طبعه أتباع المذاهب السنية الأربعة وهم جميعا بكل  اطمئنان يقرؤون القرآن المطبوع لدى الوهابية. لا يوجد نسخة من القرآن في كل  الأرض تختلف مع بقية نسخ القرآن.

 

          هذا دليل واضح على أن الخالق المدبر هو الذي يتولى الحفاظ على  القرآن. ولو نظرنا إلى المسألة من زاوية أخرى فإن بارئ الخلق لابد وأن  يحافظ على تشريعه الذي يؤاخذ الناس به يوم القيامة. فأين ذلك التشريع  الذي يرعاه رب العباد؟ كل التشريعات تعرضت للتغيير والتبديل عدا الكتاب  المنزل على محمد بن عبد الله. أضف إلى ذلك أن كتاب كل الكتب السماوية الموجودة بين الناس غير القرآن لا يدعون أن الله كتب كتابهم بل يدعون بأن الله أوحى إليهم فحسب. أما القرآن فإنه ينادي بأنه غير مكتوب بواسطة البشر والله وحده الذي أنزله. إذن فلا منافس للقرآن حتى نناقش فيه، بل هو الكتاب الوحيد الذي يدعي أنه منزل بعلم الله وحده.

 

كاترين: يكفي يا عم محمود، هذا شيء جديد بالنسبة لي واتركني أفكر فيه إلى  أن نلتقي مرة أخرى.

 

محمود:  حسنا رعاك الله.

 

          عادت كاترين مع كيس التمر إلى البيت وهي محملة بثقل كبير وهموم  مضنية. إنها في حيرة من أمرها. لقد رزقت قدرا من العلم والحكمة، ولكنها لا  تكفي لفك العقد والألغاز التي تتزاحم في خيالها.

 

          القليل من العلم يزيد الارتباك والشك أحيانا، فهي تواجه الكثير من  مجهولات الحياة وتتعرف عليها ولا يبلغها علمها للتوصل إلى الحلول. إنها  تشعر بالحاجة الملحة إلى مزيد من المطالعة ومزيد من التساؤل والسؤال  ومزيد من التفكر والتدبر.

 

          كاترين لا تثق بأحد على حساب عقائدها. هذه العقائد تسير حياة الإنسان  وتقيم منزلته عند ربه. هي تعرف أن لا رجعة بعد لقاء الله ولا اختبار بعد أن ضيع الفرد فرصته في الحياة الدنيا. لعل هناك من بلسم لمن لم يعط الوقت  الكافي ليستيقظ وليرى نفسه وموقعه في الحياة كالذي يموت صبيا ولكن ليس  هناك من حل لمن قضى كل مراحل العمر في سلامة وصحة وخاصة إن كان في رخاء  ويسر أيضا. إن مخاطر الاتكال على الآخرين في تعيين العقيدة مصيبة لا تجبر  أبدا.

 

          كاترين قلقة من أن تلاقي ربها وهي في ضلال وكفر. لا يعذر المرء على  الغفلة في الدنيا ولا حجة لمن رأى آيات ربه وسمع عن رسالة السماء. كاترين  ترى أصحاب النار ينفخون فيها لتحمى على أهلها وتشعر بخدم الجنان الذين يوسعونها ويزينونها بأمر ربهم لاستقبال المتقين. إنها تعيش في كلا المنزلين، فهي بين الخوف والرجاء. تتلهف كاترين لكشف حقيقة الحياة وتتمنى كسب رضا خالقها الرحمن الرحيم.

 

          هي في حيرة من أمرها ولكنها في صراع مع هذه الحيرة لتقضي عليها  ولتستبدلها باليقين. كاترين تسير بوعي في درب الحياة فلا تنسى نفسها بل تعمل  في البنك لكسب المعاش ولا تنسى ربها فهي تبحث عنه وتتفكر في خلقه الذي يدل  عليه. إنها تعلم أنه لا مناص منه فهو الواجب ولولاه لم يكن هناك سماوات ولا  أرض ولا خلق ولا حياة. هو الذي دل على ذاته بذاته ولا مجانسة لخلقه به. فهو لم يلد ولم يولد وتنزه عن أن يتخذ لنفسه الصاحبة والولد. إن كل من في السماوات ومن في الأرض إلا آتى الرحمن عبدا.

 

          كاترين من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا والذين يتفكرون  في خلق السماوات والأرض وسيهديها العزيز الحكيم بلا ريب. وهكذا قضت كاترين  ليلة مضنية أخرى في صراع مع العقائد وفي صراع مع النفس.

 

يتبع: (في شارع البلاجات)