المؤمنة كاترين

المقطع العاشر

مفاجأة سارة

 

همت الفتاتان كاترين وماري للعودة من البلاج نحو سيارة كاترين ولكن كاترين التفتت إلى أن زميلها السيد علوي جالس مع طفلين في زاوية بعيدة على  البلاج وهو وإياهما يتطلعون إلى البحر. رق قلبها لما تعرفه من أمر هذين  الطفلين البريئين فنبهت صديقتها الجديدة إلى وجود زميلها وذهبتا سوية لإلقاء  التحية على علوي.

 

كاترين: السلام عليك يا علوي، ماذا تفعل هنا؟

 

علوي:  وعليك السلام يا كاترين، أروض إبنيّ هذين في الحدائق والشواطئ بكل عطلة لينسيا أحزانهما في مفارقة أمهما رحمها الله.

 

          تألمت كاترين ولم تمتلك دموعها التي سالت قطرة بعد قطرة على قسمات وجهها كقطرات الندى على ورود الفلق في أصباح الربيع، فكل مؤمن ومؤمنة لا يتحمل رؤية الطفل اليتيم دون أن يضطرب قلبه ويرق فؤاده. حاولت الزميلة أن  تتكلم ولكن بصعوبة:

 

كاترين: هل لنا أن نأخذ هذين الريحانين معنا إلى البيت فلعلي أنا وماري نخفف عنهما ونسعفهما بما نشاء من الحنان الأنثوي. إن ابنيك هما كابنينا ونحن أقدر منك بتمثيل دور الأم؟

 

علوي: ولم لا؟ فأنا أثق فيك كما كنت أثق في حبيبتي التي اختارت جوار الله.

 

كاترين: شكرا.. وهمت لتأخذ الطفلين، لكنهما تسابقا على أحضان كاترين التي سرت كثيرا وأعجبت بأدبهما كما أعجبت بأدب مربيهما علوي.

 

          ماري هي الأخرى عرفت قصة هذين البريئين فشاركت كاترين في الحزن والفرح وفي البكاء والضحك.

 

علوي: شكرا كاترين هداك الله وإيانا، ولسوف آتيك مع مغيب الشمس لآخذهما.

 

كاترين: ليتك تتعشى معنا فماري معزومة عندي على العشاء وهذان الطفلان سوف يتهنآ كثيرا إذا أكلا معك، عن إذن ماري طبعا.

 

ماري:  يسعدني التعرف على زميلك في العمل وأتمنى مشاركته معنا ومع هذين الضيفين البهيين. أنا واثقة بأنهما سيملآن يومنا هذا بهجة وحبا.

 

علوي: (لم ير بدا من الموافقة فأجاب وهو يمسح خده الذي تندى من الخجل):  شكرا كاترين وماري وأنا معجب جدا بكما وأتشرف بأن أشارككما الأكل مع  ولديّ.

 

          انفرد علوي في سيارته وخرجت كاترين ومعها ماري وزيد ولبيد من البلاجات باتجاه شارع فهد السالم. تنهدت كاترين بعد أن جلست خلف مقعد السياقة وقالت في نفسها: حرام على علوي أن يعيش فريدا.  إنني أشعر بأنه أحب الناس إلي فهو لي أكثر من رئيس عمل. ليتني كنت معه أواسيه وأخفف عنه وعن ولديه الطيبين. دخلت كاترين في أفكار غريبة قلما فكرت فيها من قبل. فهي مجتهدة في وظيفة البنك ولكنها غير مهتمة بالحب وبالعلاقات الثنائية. حاولت  أن تسيطر على أفكارها ولكنها ترسخت في ذهنها فكأنها شعاع علوي استولى على قلبها فلم تتمكن من تناسيها.

 

          ماري الغربية فكرت أيضا بأن من خير كاترين وعلوي أن يعيشا معا ويتعاونا في حياة مشتركة أكثر بهاء وحسنا من العمل. وهي كسائر الغربيات لم تخف أفكارها على صديقتها فقالت لها بكل أدب:

 

ماري:   كاترين لماذا لا تحبين علوي؟

 

كاترين: (دون التفات) وكيف لا أحبه؟ ثم انتبهت فأعقبت ذلك: إنه زميلي في العمل وهو الذي علمني الكثير طيلة الأيام التي قضيناها معا في البنك. إنه شاب وسيم ورقيق ومؤدب وليس في البنك من لا يحبه.

 

ماري: أقصد حبا خاصا أجمل من الحب العام يا كاترين، فهو يستحق منك حنانا واقترابا أشد مما أنتما عليه الآن. ثم إلى متى تستأنسين بالوحدة وقد كبر سنك وجاوزت الأربعين. سوف يذبل هذا الوجه إذا انعزلت عن الناس أكثر من ذلك. إن الله منحك الجمال وأنت لا ترينه ولكن غيرك الذي يراه فلماذا تحرمينه من بشرتك ونعومتك.

 

كاترين: أشكرك على اهتمامك بي وبعلوي ولكن ....

 

ماري:   ولكن ماذا؟ يا كاترين، تكلمي وردي علي دون أن تشعرين بأي حرج.

 

كاترين:   على أي حال فهو مسلم وأنا مسيحية.

 

ماري: وما المانع؟ أليس الله هو الذي يقول في قرآن المسلمين، سورة المائدة:5  "اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان".

 

كاترين: أما قرأت الآية 10 من سورة الممتحنة التي يقول فيها: "ولا تأخذوا بعصم الكوافر"، فلعل المقصود من الحل هنا هو المتعة أو الزواج المؤقت الذي يختص بالأزمنة الحرجة مثل الحروب وليس النكاح  الدائم. والذي يقوي هذا الاحتمال هو أن الله سمى المهر هنا أجرا وليس صداقا كما في آية الزواج.

 

ماري: إنك مخطئة فإن الله يقول للنبي في آية أخرى في سورة الأحزاب:50  "يا أيها النبي إنّا  أحللنا لك أزواجك اللائي آتيت أجورهن". فالأجر يعني المهر ويقول في  آية أخرى في نكاح المؤمنات من نساء الكفار في نفس الآية 10 من سورة الممتحنة "ولا جُناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أحورهن". ثم الكوافر ليسوا هم المسيحيين. نحن نؤمن بالله وحده ولا نشرك به شيئا. ليس كل المسيحيين يعتقدون بالثالوث، فالموحدون منهم يعتقدون بأن المسيح وأمه عبدان لله وليس  المسيح شريكا له تعالى كما أن الروح القدس ليس شريكا له. إن المسيح هو الذي كان يدعو الله فهل يدعو الشخص شريكه ويلتمس منه الاستجابة؟

 

كاترين: صحيح ما تقولينه يا ماري العزيزة، وقد قال ذلك شارلز راسل من قبلك أيضا. ولكن شهداء اليهوه  من أتباع شارلز راسل يقولون بأن الله خلق المسيح والمسيح هو الذي خلق الكون فهذا شرك والله يقول في سورة البقرة :221 "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم" . ومن الخير لنا أن نناقش أستاذا عارفا بمسائل الإسلام وبخفايا القرآن العظيم.

 

ماري: على كل حال فإنني مسيحية ولا أؤمن بأن المسيح خُلِق قبل ميلاده بل هو إنسان مثل بقية الناس إلا أنه بلا أب بمشيئة الله تعالى.

 

كاترين: ما تقولينه هو المسيحية التي انقرضت بعد نبينا عيسى، أما اليوم فهناك مذاهب مسيحية معروفة والمسيحي من يعتنق إحداها. لعل الذين أباح الله الزواج بهن من المسيحيات في الآية التي قرأناها هن أمثالك أنت. مثلك خير لها أن تسلم وتترك المسيحية. ولعلهن أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد ولذلك أضاف الله كلمة (من قبل) بعد (أوتوا الكتاب). على كل حال فإنك تفتحين أمامي نوافذ جديدة من العلم القرآني وأنا متعجبة من إصرارك على البقاء على دين آبائك.

 

ماري:   إنني صححت الكثير من معتقداتي وأرى نفسي أحيانا أشك في أنني مسيحية أم مسلمة. حتى أنني أهيم      أحيانا للدخول إلى المسجد والصلاة خلف إمام المسلمين. لقلما يفوتني صلاة جمعة دون أن أتسمع إلى         الخطبة ولو من الإذاعة.  وما تدري لعل الله يهديني وإياك يوما لاختيار الدين الصحيح.

 

كاترين: لقد اقتربنا من البيت، ودعني أقول لك بأنني أنا مثلك شاكة في ديني، ولكنني مهتمة بالكشف عن أخطاء   آبائي ومستعدة لقبول الحق أينما كان.  لازلت أبحث عن الحقيقة في كل مكان وعلوي يساعدني كثيرا          كما أن العم محمود  التمار أيضا يفيض علي من علمه الكثير الوفر. وقد فكرت في مشكلة صديقتك المطلقة ولسوف أعرض المسألة على العم محمود لعله يفك العقدة.

 

ماري:   ومن هو العم محمود يا كاترين؟

 

          وصلت السيارة للبيت فنزلتا وحملتا الطفلين الذين أصرا على المشي بمعيتهما والصعود إلى شقة كاترين. دخل الطفلان بيتا منظما ونظيفا وتذكرا أمهما التي كانت تهتم كثيرا بأناقة البيت وسلامة الزوج والأطفال. قال أكبرهما وهو في سن  الخامسة:

 

          يا ماما لماذا لا تأتين إلى بيتنا وتساعدين البابا على تنظيف البيت. لقد تغير البيت منذ أن توفت أمنا ونحن   صغار غير قادرين على تنظيف الشبابيك  أو الطبخ أو غسل المناشف كل يوم وبابا يقضي أكثر وقته في البنك؟

 

          تهيجت كاترين وبكت داخل قلبها حينما تعرفت على بعض مشاكل علوي  الداخلية وأحست بما يعانيه الصبيان. لقد تحملت الكثير للامتناع عن العويل وإظهار البسمة أمام الطفلين الذين فقدا أمهما. فكرت كثيرا فيما تجيب به هذا  الطفل البريء الذي لا يقصد شيئا غير ما يقوله. إنه لا يعرف المداهنة والمراءاة ولا يدين بغير الصدق. توقفت كاترين عدة دقائق وهي لا تدري ما ذا  تقول وكيف ترد على هذا الطلب الذي بدأت تتمنى تحققه فعلا منذ أن ركبت السيارة بعد أن ودعت علوي.

 

          أحست ماري بما تعانيه صديقتها من الإحراج أمام هذا الطفل البريء  فتدخلت قائلة:

 

ماري:   ستأتي كاترين إلى بيتكم قريبا يا ابني وستعين البابا في كل أعمال البيت كما تساعده في أعمال البنك.      إنني متفائلة وسيفتح الله عليكم جميعا.

 

          ذهبت كاترين نحو الثلاجة وأحضرت البوظة و قدمتها لزيد ولبيد وماري.  أشفقت كاترين على الطفلين اللذين فقدا أمهما وغمرتهما بحنانها وحبها  وأعطتهما الكثير من كل قلبها وهي مسرورة بما تفعل فلقد غسلتهما وأطعمتهما وروتهما من السوائل كما لاعبتهما بكل لطف وود. كانت ماري تتسابق معها على  مداعبة زيد ولبيد حتى امتلأ الطفلان حبا لهما وكانا يخاطبانهما خطاب الأمومة فيخوضان شغاف قلبي الفتاتين عطفا ورقة. ومن يدري فلعلهما -كاترين وماري- قد  هزا أذيال السماء ليفتح ربهما عليهم أبواب الرحمة من كل جانب. إن الله يبعث بالرحمة إلى الأرض كما يفيض على أهل السماوات ولكن ما السبب في ما نراه من  معالم البؤس والشقاء لدى الكثير من البشر؟

 

          هذا ما يبديه كتابه المنزل على نبيه محمد بقوله جل وعلا: "وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن   كلا بل لا تكرمون اليتيم   ولا  تحاضون على طعام المسكين   وتأكلون التراث أكلا لمّا   وتحبون المال حبا جما".

 

          حضّرت كاترين أكلة جزائرية لذيذة كما صنعت بعض الحلوى ورتبت الطاولة لاستقبال زميلها علوي، فلولا وجود ماري والأطفال معها لما تمكنت من دعوة زميلها إلى البيت. إنها فتاة كريمة الأخلاق مهذبة مؤدبة وفي منتهى  الشرف. كاترين تقدس العفة وتتمتع بالحياء والإيمان، في حين أنها لبقة ورائعة.

 

          أما علوي فقد اهتز من الأعماق حينما شاهد ابنيه يهمان نحو كاترين وهي تقبلهما وترأف بهما كأنهما  ابناها. لقد كانت لفلتة كاترين حينما قالت: إن ابنيك هما كابنينا، لقد كانت لهذه الجملة البريئة رنة غير مفارقة في سمع  علوي. كأن صحبة السنوات وزمالة العمل الطويلة قد صبت في قالب آخر خلال لحظات لتحول الزميل علوي إلى حبيب ولهان، وكأنه كان يحب كاترين منذ أن بدأت تعمل  تحت رعايته. لقد تحولت كل كلمة سمعها من كاترين إلى أنشودة تحيي قلبه وتبدل كل سلام منها عليه إلى دعوة للحياة المشتركة.

 

          لم يكن علوي يعرف ما دار في خلد كاترين ولم يدر ما حصل في غيابه بين ماري وكاترين والطفلين. لكنه ارتبط مع كاترين قلبيا فكان يستوحي كل معاني الحب المتبادل بصورة لاشعورية. كأن إحساسا غريبا لف قلبه بالدفء  ليخيل إليه بأن كاترين لا تحب غيره. لكنه غير مطمئن من وحي الخيال فالتجأ إلى الله وهو يأخذ سبيله نحو صلاة الجمعة. دعا ربه بعد الصلاة أن يجمع بينهما  وأن يهدي كاترين وإياه إلى الصراط المستقيم. كان يشعر بأن الدعاء ينزل على  شفتيه بكل سهولة لأنه كان يفسر حديث القلب ويصبه في قالب الابتهال. كان يصوغ الحديث المنمق مع ربه فيطمئن نفسه بما يصوغه من جمل الاستغاثة برب العباد.

 

          لقد مضت ساعات طويلة جدا قبل أن تشرف الشمس على المغيب فيحين وقت  لقاء الحبيب. لقد هم عدة مرات أن يتقدم على الوقت الموعود ليشفي غليله بالرؤية والحديث لكن الحياء منعته من ذلك بل فرضت عليه أن يتأخر قليلا. كان لا يدري بأن دقائق التأخير تعصر قلب كاترين وتبث إليها الوساوس خوفا على علوي الزميل القديم الذي دعته استجابة لنداء قلبها وليس من أجل المجاملة.  ماري الذكية كانت تقرأ كل شيء على وجه كاترين وكانت تتأهب لتقرأ ملامح علوي حينما يحضر للعشاء.

 

          فتحت كاترين الباب لعلوي الذي سلم عليها مع القشعريرة الواضحة والارتجاف البين: سسلام عل علي عليكم كاتترين. عرفت كاترين كل شيء وطلبت من بارئها أن يسهل عليهما هذه النشوة المتبادلة. ولا تسأل عن ماري فهي تقرأ  الأنفاس قبل الألفاظ. اتضح كل شيء للجميع ولكنهم احتفظوا بالرزانة والهدوء ريثما يحين وقت البوح بأسرار القلوب. أقبل الصبيان على أبيهما وهما يذكران  له مظاهر الحنان التي شاهداها من كاترين وماري فأضافا العطش على غليل علوي  وربطا بطفولتهما عقل علوي وروحه بكاترين.

 

          تخيل لعلوي أن مائدة السماء قد نزلت في شقة كاترين، كل شيء نظيف وجميل ورائحة الطعام تهف نسيم الربيع على نتوءات الوجه فيغمر الأنف بالشمائم  كما تستريح النفس والقلب لعطره الفائح. إن يدا ساحرة نضدت السفرة وأفاضت عليها الألوان القسطلانية البهية. فكر علوي قليلا في كاترين قائلا في نفسه: متى تقوم هذه الفتاة الغارقة بالعمل والتفكير بتنظيم هذه الشقة الفاتنة وتنظيفها وكيف تجيد الطهو والتزيين وترتيب طاولة الأكل. إنها حقا امرأة رائعة.

 

          توجه لحظة إلى السقف ليخفي خجله فإذا به يقول: كاترين، هل هذا سقف الشقة أم قبة النجوم؟

 

كاترين: طالما تخيلت النجوم والمجرات وما في السماوات بدلا من النوم ليلا، فعمدت على رسم خريطة البروج       على هذا السقف ورسم خريطة مصغرة لدرب اللبانة على سقف غرفة النوم كما رسمت خريطة   افتراضية للعالم العلوي على سقف  الصالة.

 

علوي:  ياله من رسم جميل يوحي بعظمة الرسام ودقة تعبيرها عن نجوم السماء. إنك امرأة مثالية يا آنسة كاترين.   كلما أفكر فيك أزداد إعجابا و..  (انتبه إلى وحي الخيال فأمسك عن التفوه بكلمة وحبا) ثم أردف:   واحتراما.

 

ماري:   يا أستاذ علوي: كلاكما توحيان بالإعجاب والاحترام وتزيدان من يتأملكما إعظاما لشأنكما. إنني          أتعجب من....

 

كاترين: تفضل يا علوي عصير البرتقال الطازج فأنت مرهق قليلا.

 

علوي:  شكرا كاترين وأنا مرهق فعلا.

 

ماري:   يا آنسة كاترين، لقد سألتك عن العم محمود التمار ولكنك نسيت أن تردي على بعد أن نزلنا من          السيارة. أنا مهتمة جدا بإيجاد حل لقضية صديقتي وأتمنى أن أحل مشكلتها مع زوجها.

 

          تحدثت كاترين عن العم محمود التمار الذي يسكن قريبا منها وعن علمه وأدبه فاتفق الجمع على دعوته للمشاركة معهم في عشائهم. لكن كاترين استدركت بعد لحظات عظمة شخصية العم محمود التمار وهابت من الإقدام على دعوته بهذه  السرعة. أظهرت كاترين تهيبها إلى علوي وماري، لكن ماري طلبت منها عنوان العم محمود وقالت: سوف أذهب إليه وأدعوه فأنا لا أخاف من هذه الوجوه  المحبوبة. قامت وقامت معها كاترين لتصاحبها إلى بيت العم محمود بعد أن فكرت  أن عدم ذهابها إلى بيته مصيبة أخرى مادامت ماري مصرة على دعوته.

 

          عادت الفتاتان إلى البيت دون العم محمود لأنه كان غائبا عن البيت،  لكن ماري جلست على الشرفة تنتظر عودة العم حسب مواصفات كاترين لتكرر الذهاب إلى بيته.

 

ماري:   ها هو الرجل الرباني الذي يمشي الهوينا ولا يفارق التفكير، تعالي يا كاترين لتؤكدي على فراستي.

 

كاترين: إنه هو يا ماري وانظري إلى الهيبة التي تتألق من ظاهره البسيط.

 

ماري:   حقا، إنه ملاك كريم وليس إنسانا. ولكننا لا نخاف الملائكة مادمنا مؤمنين بربهم وربنا.

 

كاترين:  ولكن لا تغفلي أنه يخاطب ربه يوميا خمس مرات أو أكثر، يقف أمامه بخشوع ليؤكد له عبوديته ويجلب رضاه ومغفرته. أما نحن فلا نصلي إلا مرة واحدة في الأسبوع وكم من خطابات جاهلة نخاطب بها ربنا العظيم خالق  الكون. هل رأيت مسلما يدعو ربه بالأب ويدعو عبيده وأنبياءه بل وعامة الناس بأبناء الله، كما نفعله نحن. بالله عليك هل يمكن خلع الارتباط العائلي بين الابن والأب على الارتباط العبودي بين فاطر السماوات والأرض وبين مخلوقيه الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة إلا به.

 

كل ابن يمكن أن يصير أبا بعد سنوات وكل ابن مسبوق بعلاقات عاطفية تمت بين  أبويه وكل ابن يضاهي أباه ولكن بنسبة أصغر. الأبناء يرثون آباءهم والآباء  يموتون كما يموت أبناؤهم. الآباء ضعفاء أمام طلبات أبنائهم والأبناء يطمعون في مجاراة آبائهم. الآباء والأبناء من جنس واحد ومن فصيلة واحدة والابن جزء من جسد أبويه كما أنه يخلق من نطفة أمشاج. فأي هذه الروابط موجودة بين  القديم الأزلي الجميل البديع وبين أي ممن دونه؟ وهل من دونه أحد سوى الذين  خلقهم بيديه وأفاض عليهم الحياة من فضله وهو يمدهم ويمدهم بإمكانات البقاء لحظة تلو لحظة دون توقف كما يمد المولد الأسلاك بالطاقة وحدة بعد وحدة بعد  أخرى.

 

ما الذي يحصل إذا توقف الخالق لحظة واحدة عن مد ذرات الكون بالطاقة الخفية للدوران حول النواة فلو حصل ذلك فإن الكون سوف ينهار خلال تلك اللحظة  ثم هو بحاجة إلى بلايين السنين ليعود إلى ما هو عليه اليوم. فهل من ارتباط مثل الأبوة والبنوة بين الخالق وعبيده؟ ما الذي يحصل لو أهلك الله المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا؟

 

ماري:   إنني متشوقة جدا لأحاديثك ولكني وإياك بحاجة أكبر للتزود من علم العم محمود التمار فهلم نذهب إليه.

 

          استأذنتا مرة أخرى من علوي وابنيه ونزلتا من الشقة باتجاه بيت العم محمود.

 

ماري:  السلام عليك يا عم محمود أنا ماري صديقة كاترين وهي واقفة خلفي. أتيناك ندعوك لتشاركنا عشاءنا مع السيد علوي وابنيه الصغيرين الذين فقدا  أمهما في السنة الماضية.

 

العم:    عليكما السلام يا ماري ويا كاترين. أشكركما، اذهبا فسوف ألتحق بكما قريبا، لعلي أشارككما الثواب في مداعبة الطفلين اللذين فقدا أمهما.

 

          تأثر العم محمود من قصة ابني علوي وتأوه في قلبه ثم قال يارب: لا تبل صغيرا بفقد أبيه أو أمه.

 

         دخل العم محمود لأول مرة بيت جارته المسيحية المؤمنة وبعد السلام التقليدي توجه بكل قلبه نحو الطفلين ليمسح وجهيهما ورأسيهما ويقبلهما كأنهما حفيداه. استكان الطفلان كثيرا للشيخ الودود وسرا به كما سرّ هو بهما.

 

          توجهت كاترين إلى السماء تشكر ربها على هذه المناسبات والمفاجآت السعيدة التي هيأها الله لها في ذلك اليوم الأغر وعلمت يقينا أنها إرادته  تعالى الذي يسبب الأسباب ويخلق المودة والرحمة بين الناس بلمح البصر. لم  تكن تفكر أبدا بأنها سوف تستقبل في يوم واحد هذه الوجوه الطيبة واحدة تلو الأخرى. إنها مغتبطة جدا ولا تعرف كيف تقدم الشكر لخالقها العليم الحكيم.

 

ماري:  نحن سعداء اليوم بأن تكمل يا عم محمود اجتماعنا على مائدة كاترين فلم نقبل إلى هنا إلا على خير نأمل أن يرضي ربنا. هذا اليوم هو أجمل يوم في حياتي التي مضت، فقد تعلمت الكثير من جارتك كاترين بعد أن تعرفت عليها صدفة على شاطئ السالمية. كما أن تقدير العزيز العليم أتى بعلوي المهذب والكريم في نفس المكان لأتعرف عليه وأتلذذ كثيرا بمصاحبة ابنيه البهيين زيد ولبيد.

 

محمود:  إن قلبي يعرفكم ويمنحني السكينة بوجودكم. أشعر بالإيمان حينما  أستقبل الطيبين الذين ينطوون على مكارم الأخلاق وينشرون بأقوالهم  وأفعالهم شذا الخير وعبق العلم والكمال. أتمنى أن تطول هذه الليلة لأتزود  من مجلسكم ما أرضي به ربي وأحتسبه لذنوبي وسيئاتي.

 

علوي:    كم أنا سعيد اليوم فإن ابنيّ لا زالا إلى هذه الساعة يستزيدان الحنان والأنس كما أني كذلك. يا عم محمود: قلما يمر يوم دون أن تنيرنا كاترين بقبس من ضياء علمك. كنت أزداد اشتياقا وولعا لرؤية طلعتك الكريمة  كلما أسمع عنك وإني فخور بالالتقاء بك وأتمنى أن يتكرر هذا اللقاء.

 

كاترين: يا عم محمود قبل أن نخوض في حديث أطول فإن لماري مشكلة ابتلت بها صديقتها ولعلك تسعفنا بحل لها.

 

          توجه العم محمود إلى ماري التي ذكرت قصة الطلاق الأسطورية بين ذين الحبيبين،  فتنهد قائلا:

 

         كفى الله المسلمين شر الذين وضعوا أنفسهم أولياء عليهم. لقد أنزل  الله كتابه على نبيه ليكون هدى للناس والقرآن هو المعجزة التي بقيت بحكمة  السميع العليم بين المسلمين دون تغيير إلى اليوم محفوظا من كل مس. إن  الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله مسته يد المارقين والكثير  من سيرته وتاريخه اختلف فيه بين طوائف المسلمين. إن هناك بين الروايات ما لا يقبله الوجدان البشري، فكيف نؤمن به في مقابل القرآن. نرى في صحيح مسلم  رحمه الله بابا بعنوان باب رضاعة الكبير. مسلم يروي في هذا الباب روايات من  السيدة عائشة ما يفيد تأثير الرضاعة بعد سن البلوغ. يا ترى هل من مسلم يرضى بأن يرتضع من ثدي امرأة أجنبية وهو مكلف في سن البلوغ وهل رضاعة الكبير بالحرام تجعل الانسان أخا رضاعيا لطفل أو طفلة بريئة؟ ثم يصححه بعض البسطاء  بقوله: "لعلها حلبته ثم شربته من غير أن تمس ثديها!". ثم يلتفت آخرون بأن الله حرم الرضاعة بعد السنتين فيقولون: لعله مختص بشخص معين!

 

بالله عليكم أليس النبي جاء ليبلغ حكم الله علينا فهل له أن يخص  بعض أصحابه ومواليه بحكم معين يخالف القرآن. ولنا في مسألة ارتفاع عدد  أزواج النبي عن الحد المسموح للمؤمنين بأمر الله في القرآن عبرة بعدم جواز مخالفة النبي للقرآن المنزل من ربه وسيده جل وعلا. كيف نتقي من تكذيب الإمام مسلم رحمه الله ولا نتقي من الكذب على نبي الله وخاتم رسله (ص)؟ إن من  الخير لنا في مثل هذا الباب أن نكذّب الرواية ونضرب بها عرض الحائط.

 

إنهم لا يعون أن الرضاعة تؤثر في تكوين البدن ونموه خلال السنتين الأوليين فكما كان الطفل يتغذى على دم أمه في الرحم وبذلك أصبح أخا أو أختا لمن يتغذى من نفس الرحم، فهو بالرضاعة ينمو على حليب   المرضعة وبه يصير أخا أو أختا لمن نمى بدنه من نفس الحليب. فالأخوة بالرضاعة مسألة طبيعية وضحها لنا المشرع من رحمته ولطفه علينا فحسب.

 

فما بالنا بالذين اجتهدوا في مقابل القرآن. ولعلهم لم يفعلوا ذلك ولكن التغيير الذي مس أحاديث الرسول يمكن أن يمس آراء هذه الفقهاء أيضا. إذا اجتهد فقيه في زمن ما فكيف يبقى حكمه ملزما للمسلمين إلى يوم القيامة؟ هل هو نبي نادى بحكم الله ليكون حلاله حلالا وحرامه حراما بعده وهل هو خاتم الأنبياء ليكون عموم حلاله حلالا إلى يوم  القيامة وعموم حرامه حراما إلى يوم القيامة؟

 

إنني أخجل حينما أسمع من بعض شيوخنا هداهم الله وهم يذكرون هذه  الفتاوى البائسة في الإذاعات. لقد سمعت مرة شيخا من شيوخ الدين في الإمارات العربية المتحدة وهو يرد على سؤال سائلة قالت بأن زوجا قال لزوجته وهو في  حال الغضب: لو وضعت قدميك خارج البيت فأنت طالق ثلاثا. واضطرت المرأة لحفظ ابنها من دهسة السيارة أن تخرج أمتارا خارج البيت لتنقذ ابنها فقال الشيخ إنها طالق ثلاثا ولا علاج له. ألحت المرأة عليه بأن يفتي بغير ذلك فإن الرجل نادم أكثر من المرأة  وقد كان في حالة غضب لا يؤاخذه الله عليه، فكان الجواب هو الطلاق بالثلاث.

 

          عيب على شيوخ الدين أن يهينوا المرأة إلى هذا الحد الشائن. ما ذنب هذه المسكينة أن تطلق بالثلاث        على خلاف القرآن لأن مفتيا أخطأ قبل أكثر من ألف سنة؟ هكذا يبعدون الناس عن الإسلام وعن أحكامه الإلهية التي تفيد البشر في كل  زمان ومكان. ليس للرجل هذا الحد من الولاية على المرأة. إنما هو        مدير لبيت الزوجية تبعا لطبيعته التي تتناسب مع أخذ القرارات الصعبة. كل ذلك إذا كان هو الذي ينفق        على البيت فعلا. ولا يملك الزوج الذي لا ينفق على البيت المشترك أي ولاية على من في البيت. إن           طلاقا مثل هذا  يرعب الناس ويبعدهم عن سنة رسول الله في الزواج. وما حكم الله بهذا أبدا.

 

          هذه المرأة لا زالت في قيد الزوجية، أما الطلاق فهو مرفوض بصريح  القرآن. فهو لم يصدر حتى مرة       واحدة. هذا الرباط يحبه الله ولا يفكه بهذه السهولة ولا طلاق حين الغضب كما لا اعتراف حين      الغضب أيضا. ولا قسم حين الغضب. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم    الأيمان. والطلاق عقد من العقود ويحتاج إلى التعقيد بروية وتعقل وبكمال الصحة وصحة الإرادة.    وللزوج أن يطلق زوجته مرتين يعود بعد كل منهما عليها ثم إن طلقها ثالثة حرمت عليه ما لم تتزوج   بآخر، والطلاق بالثلاث باطل قطعا ولا نقاش فيه لأنه يخالف نص القرآن. إن الله تعالى أمر بأن يُحصوا  العدة لكل طلقة فلا يجوز تجاوزها أبدا. ثم إن شهادة الشاهدين العادلين لازم بحكم الله في سورة الطلاق:2 "وأشهدوا ذوي عدل منكم" ثم إن خطاب الطلاق للنبي  باعتباره الحاكم الشرعي وليس للرجال باعتبار الزوجية: سورة الطلاق:1 "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن..."

 

 

 

 

كاترين: وما تقول يا عم محمود في ما يفتونه بأن كل عقد تم على الشريعة التي تعتقد بها فهو ملزم لك.

 

محمود:  هذه الفتوى غير ملزمة دائما. إنها ضرورية لأن الإنسان يتحول أحيانا من دين إلى دين ومن مذهب إلى مذهب، فاللذين تزوجا وأنجبا في اليهودية ثم اعتنقا الإسلام فإن الزواج السابق يعتبر زواجا شرعيا والأولاد شرعيون يرثون. أما الذي عمل بفتوى مجتهد مات قبل اثني عشر قرنا ثم انتبه أنه كان قد أخطأ في فتواه ولم يستتبع العمل بالفتوى فهو غير ملزم. ولكن لو أن المطلقة كانت قد تزوجت من شخص آخر في ما بعد فلا مناص من قبول ذلك الطلاق  الخاطئ رجاء رحمة من الله.

 

إن قبول الزوجين المذكورين للإسلام أقوى بكثير من اعتناقهما لأحد المذاهب الإسلامية، فهما مسلمان قبل أن يكونا حنفيين أو مالكيين. التزامهما بالإسلام أهم بكثير من التزامهما بالعمل بفتوى المجتهد المسلم وهذه الفتوى تخالف النص القرآني. ثم إن الأعمال بالنيات فلو سئل الزوج لقال أنه لم ينو الطلاق فعلا ولكنه أخطأ في حال الغضب، فهل تقبل أية عبادة بلا قصد حتى يتحقق  الطلاق بدون أن يقصد. الطلاق هو فسخ موافقة الزوج على نكاح المرأة نفسها له من قبل وهو مثل العقد يترتب عليه آثار أهم مما يترتب على عقد الزواج نفسه ويجب فيه القصد والانتباه بل يجب فيه حضور شاهدين عادلين أيضا، فلعل  الشاهدان يمنعانه من الإتيان بالطلاق ويسعيان للإصلاح ؟

 

لو كان الزوج قد توفى بعد قولته هذه فلعلنا بنينا على أنه قصد الطلاق فعلا لأننا نحكم بالظاهر ولكنه حي يقول بأنه لم ينو ذلك فعلا فهو لغو واللغو غير ملزم حتى ولو أفتى المجتهد بذلك.

 

حتى المبايعة التي تتم ويتم القبض والتسليم فيها، فإن حقوق الجهالة والغرر والغبن تبقى لأي من البائع والمشتري قبل أن يتم التصرف الفعلي في المبيع. لكن هذه الحقوق تزول عند فسخ رباط الزوجية المحترمة! لا يتم الزواج إلا بالشاهدين ولكن الطلاق يتم بالغضب والخطأ وبالثلاث! هذا مالم ينزل الله به من سلطان. حاش لله أن يحكم بهذه الأحكام السفيهة. يعني أن البضاعة أثمن من الزوجة وأن عقد المشاركة المالية أكمل من عقد المشاركة في الحياة.

 

         وإنني أتعجب من الذين اشتهروا بالعلماء كيف يعتبرون قبول فتوى مجتهد ما، التزاما يستتبع وجوب العمل بجميع فتاوى ذلك المجتهد. المجتهد مثل الطبيب أو المهندس الذي يستشيره الإنسان ليتعلم منه العلاج الصحيح أو البناء المتقن فلو أخطأ الطبيب خطأ فاحشا كأن يقول علاج إصبعك المجروح أن تقطعه فهل تتقبل ذلك قبل أن تتأكد بنفسك علة هذه الوصفة وحيثيات المرض ولو كان الطبيب خيرَ من في الأرض. كل إنسان غير الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى لهداية البشر فهو معرض للخطأ، ولا يمكن للعاقل أن يلتزم بكل ما تفوه به المجتهد حتى ولو خالف عقيدته الأصلية.

 

         علينا أن نغير نظرتنا إلى المجتهدين وخاصة الذين توفوا منهم. إن أكثرهم يجهلون شؤون الحياة العامة لاسيما حياة الإنسان في القرن العشرين وأكثرهم لا يعرفون أسس المدنية. إنهم قضوا كل عمرهم في البحث والتعليم دون محاولة التطبيق إلا ما ندر، وكان مأكلهم وملبسهم وبقية مستلزماتهم تمنح لهم دون أن يتحملوا عناء الكسب فقليل منهم يدرك مشاكل الأمة. أكثر هؤلاء كانوا محصورين في حدود جغرافية، من منهم سافر إلى الصين أو عبر المحيطات ليتعرف على حياة  بقية البشر؟ الإسلام دين الله الذي أراده الله للجن والإنس، والمجتهدون لا يعرفون إلا بعض البشر. دين الله ليس بحد ذاته قابلا للتطبيق في أكثر موارده بل هو بحاجة إلى نظام تطبيقي عهد الله به إلى البشر أنفسهم. أكثر  المسائل الدينية بحاجة إلى الدقة والتعمق والتفسير الصحيح. وهذا لا يمثل نقصا في دين الله بل هو ضرورة الزمان والمكان والتطبيق المتغير.

 

         ذلك لأن الناس يتعارفون بلغات مختلفة ويتفاهمون بمباني غير متطابقة من الأوليات الذهنية، ولولا ذلك لكان يمكن إنزال القرآن بشكل آخر. ثم إن  القرآن والسنة قدر لهما أن يمرا على عهود وبين أيادي غير مهتمة بأحكام الله اهتمامَها بمصالحها. الخلفاء والملوك الغابرون -عدا القليل منهم- كانوا يريدون العلو في الأرض عن طريق الخداع وتسفيه عقول شعوبهم. لا يمكن لهؤلاء المجرمين أن يحافظوا على أحكام الله بل كانوا يحاولون الدس فيها حتى يأمنوا اعتراض  أتباعهم واحتجاجهم عليهم بأحكام الاسلام الذي سيطروا على الرقاب تحت لوائه.

 

         حتى أحكام وآراء المجتهدين الكبار مثل أبي حنيفة ومالك لم تكن لتبقى على ما هي عليه. إذا لم تنج سنة رسول الله من التغيير فهل يصان نظر الإمام الشافعي ويبقى دون اعوجاج؟

 

ماري:   يعني أنهما لا زالا زوجين أم بحاجة إلى إجراء صيغة الزواج مرة أخرى؟

 

محمود:  إنهما لا زالا زوجين وعلى الزوج أن يعوض زوجته بما سبق من النفقة، لأنها لم تكن ناشزة. ولكنهما إن أرادا إجراء الصيغة مرة أخرى واعتبار ذلك الطلاق الخاطئ الباطل طلقة واحدة فهو عائد لهما. أنا لا أظن بأن يلزم الله أحدا بما لم يلزم به نفسه. إنهما مسلمان وطلاقهما لم يضر بأحد. المسألة محصورة بينهما فلا إلزام أصلا، على فرض أنهما ألزما أنفسهما بما أفتى به أئمة المذاهب فإن ذلك ليس بسبب الاعتقاد الفعلي بل بأنهما انخدعا وظنا أن هذا الالتزام فرض واجب عليهما. فإن أتيا بعمل لا يضر بأحد ثم شعرا بأن التزامهما خطأ من الأساس بنيا على عدم الالتزام وتركا اتباع المذاهب.

 

         إن كل فرد عاقل يمكنه أن يعمل بالقرآن وفيما لا حكم فيه فهو يعود إلى أحد المجتهدين ويسعى بنفسه للكشف على حقيقة الفتوى. كل الفتاوى التي ترونها أظانين وليست علوما فلا يجوز نسبتها إلى الله ورسوله عدا ما هو ظاهر للجميع مثل حرمة الكذب والسرقة والزنا ومثل وجوب الصلاة والصيام والزكاة  والحج.

 

         نحن نتطلع إلى اليوم الذي يتفق المسلمون فيه على دعم أكاديمية إسلامية تهتم بالمسائل الشرعية وتستخرج أحكام الله بدقة وعمق من الكتاب ومن السنة الممحصة.

 

          ماري مخاطبة كاترين بهمس:  نوز آفون فن، لو دينر سيل تو بليت. (نحن  جائعون، العشاء رجاء).

 

محمود:  أتنسيون جن في، جو بارل فرانسيزاوسّي (انتبها يا أيتها الفتاتان، أنا أتحدث الفرنسية أيضا).

 

         خاف العم محمود من أن تتحدث الفتاتان عن مسائلهما الخاصة بالفرنسية فأراد أن يفهمهما بأن هذه اللغة ليست آمنة في ذلك المجلس.

 

         الجميع تعجبوا وضحكوا وعرفوا بأن العم محمود ليس إنسانا بسيطا. إنه تاجر التمور، وعالم بدقائق الأمور الدينية والفقهية ويتحدث بغير لغته أيضا.

 

         أحضرت كاترين الأكل وهو عبارة عن الكوسكوس والباستيلا والمربين ودعت الضيوف إلى الطاولة. المربين لفت انتباه ماري فقالت ما هذه الأكلة المحشوة  يا كاترين؟

 

كاترين: المربين وهي أكلة كويتية عبارة عن الرز والربيان أو الجمبري. خفت أن لا يستمتع زيد ولبيد من الأكلات الجزائرية فأضفت أكلة كويتية لعلهما يستسيغانها. جلس الحضور وكان التوجه شديدا نحو المربين الكويتية عدا العم محمود الذي فضل الكوسكوس على غيرها لأنها أكلة بسيطة غير مشبعة بالتوابل.

 

علوي:  من أين تعلمت الطبخات الكويتية يا كاترين؟

 

كاترين: من التلفزيون يا علوي.

 

علوي:  ولكنك خبيرة ماهرة في المربين ولا يمكن لأحد أن يمتهن الطبخ عن طريق التلفزيون.

 

كاترين: هذا هو الواقع يا حبي... حخي... (بلعت ريقها وتابعت)... أخي علوي.

 

ماري:   كاترين تسعى للتكامل حتى في الطبخ وفي أعمال البيت. هنيئا لمن سوف يعيش معها.

 

          اضطرب علوي وظن أن هناك نِدّا له أو أنها فعلا مخطوبة. تغير طعم الأكل لديه وفقد شهيته ولكنه انتبه أن كاترين غارقة فيه فاستكان قليلا وبدأ يستعيد  الشهية واستمر يأكل بلذة ونهم.

 

          لاحظت ماري أن الطفلين وبمساعدة أبيهما يسكبان الأكل بالملاعق الكبيرة المخصصة لذلك قليلا قليلا في الأطباق ثم يأكلان ما في طبقيهما بالكامل قبل أن يسكبا مقدارا آخر من الأكل وهكذا كان طبقاهما خاليين من الغذاء تماما كل مرة قبل أن ينتقلا إلى أكلة أخرى وقد وضع كل منهما شوكته بجوار السكين قبالته في الطبق. سرت ماري كثيرا من أدب الطفلين اللذين يختلفان عن بقية أطفال الكويتيين. لقد لاحظت كثيرا في الفندق أن الأطفال وحتى الكبار أحيانا لا يراعون أدب السفرة فيأخذون المرقة -مثلا- مع ملعقتهم الخاصة من الطبق الأصلي ويملئون أوعيتهم  بالأكل الزائد حتى أنهم يتركون من الأكل أكثر مما يأكلون.

 

         تذكرت أنها قبل يومين تكلمت مع أحد الآباء في مطعم الأبراج على الساحل بكل أدب: يا أستاذ هل تعرف بأنك وأولادك تسرفون في الأكل أكثر مما  تأكلون والله حرم الإسراف وأباح الأكل بقدر الحاجة أو بقدر التمتع.

 

أجاب الأب:  لا يا آنسة، هذا المطعم قد احتسب حساب هذا الإسراف حين قرر ثمن الأكلة الواحدة من البوفيه، فنكون نحن قد دفعنا ثمن ما نسرف إجبارا ولو أتعبنا أنفسنا لملاحظة عدم الإسراف فنكون قد دفعنا أكثر مما  أكلنا.

 

ماري:  ليس الأمر كذلك يا أستاذ، فلو لاحظ الناس ذلك لانخفضت قيمة الأكلة الواحدة، ثم إن إسرافك أنت محرم شرعا لأن الله خلق ما يفيد الناس بقدر احتياجهم فلو أن شعبا تمكن من استجرار مقدار أكبر من البضائع والمنتجات الغذائية وغيرها بقدرة المال فهو ظالم للفقراء الذين يتضورون جوعا ويموتون بردا ويعيشون بالعراء.

 

          كانت كاترين بحكم أدبها وشيمها العربية لا تنظر إلى أحد بل تأكل وعيناها أمامها حتى لا يخجل الضيوف بل يشعروا بأنهم في بيوتهم وليست هناك عين تراقبهم. هذه الصفة الجميلة هي من أجلى مظاهر الكرم لدى العرب منذ القدم وقد عرفوا به ومُجِّدوا من أجله. أما ما نراه اليوم لدى بعض العرب وخاصة البدو أنهم لا يأكلون أمام الضيوف أو يمنعون أولادهم من الجلوس على المائدة فهي صفة غير محبوبة وليست أصيلة بل انتقلت  إليهم من بعض القبائل الشحيحة مع الأسف.

 

         انتبه الضيوف أن ماري غارقة في تفكيرها وناسية الأكل فقال العم  محمود: مابالك يا ماري، هل أنت هنا أم في عالم آخر؟

 

ماري:  قبل دقائق لاحظت أدب هذين الطفلين المثاليين من أبناء هذا البلد فتذكرت قصة حصلت لي قبل أيام مع أب كويتي لم يعلم أولاده الأكل في الأماكن العامة وهو مصر على أن ما يفعله هو الصواب. كنت أمرر المحادثة التي تمت بيني وبينه في ذهني وأستمتع برؤية هذين البريئين اللذين ملآ عيني وقلبي إكراما وحبا لهما.

 

محمود:  هدئي أعصابك يا ماري فلو عشت معنا لظننت أنك في بلد العجائب المذكورة في أساطير الأولين، ولست في بلد عصري ولا بين شعب متقدم. هوني عليك الآن وانسي ما مر بينك وبين ذلك الشخص حتى تنتهين من الأكل ثم قصي لنا القصة لنشاركك في الاعتبار من غير المؤدبين.

 

علوي:  يا عم محمود: هل لي أن أقطع لك قليلا من الباستيلا لتجربها، إنها في منتهى الجودة.

 

محمود:  شكرا يا علوي، إن كل شيء هنا لذيذ وأهم ما فيها الود والحب الذي ألمسه بينك وبين كاترين زميلتك الأمينة  والمخلصة. أما ماري فهي تثير إعجاب كل من يلتقي بها أو يتحدث إليها.

 

          علوي وكاترين استحيا من انكشاف أمرهما لدى العم محمود واختجلا كثيرا ولكنهما حاولا عدم الاهتمام والاكتفاء بتقديم الشكر والامتنان للعم محمود.

 

زيد:     بابا، هل ستأتي كاترين إلى بيتنا أم أنك ستأخذنا إلى بيتها دائما؟

 

ماري:   كأن الأكلات الجزائرية متناسبة مع مذاق زيد ولبيد.

 

علوي:  كفاك الأكل يا زيد، أنت الآن شبعان وزيادة.

 

زيد:    أنا لا أريد كاترين للأكل يا أبي، إنني أحبها وأشعر بالراحة عندها، وهكذا أخي لبيد. إنها وماري قد اهتمتا بنا اليوم كثيرا ونحن فرحان ومسروران جدا بمعيتهما، لكن ماري ستعود بعد أيام إلى باريس، فليس لنا إلا كاترين الحنون.

 

جمع علوي شجاعته وقال بكل اطمئنان لابنه زيد:

 

         أنا عاجز عن تقديم ما يليق من الشكر لكاترين وماري، والله حسبكما يا ولدي وقطعتي قلبي. لقد أتعبتما كاترين كثيرا اليوم فلا تصرا على إيذاء  الطيبين والطيبات.

 

كاترين:   بالعكس يا علوي كان هذا اليوم جميلا جدا علي وعلى ماري. لقد استأنسنا كثيرا بملاعبة هذين الحبيبين وأنا مستعدة لأن أستقبلهما  دائما في بيتي. لك أن تأتي بهما متى ما شئت دون حرج وخاصة في أيام العطل. بل أنا أطلب منك ذلك بكل ود.

 

علوي:  هو ذا شيمتك الكريمة التي تكبرك في عين من يعرفك يا كاترين. أنت ذات فضل علي اليوم وكذلك ماري العزيزة.

 

محمود:  يا أخ علوي، أرى بأن كاترين صادقة في دعوتها المفتوحة للأطفال وهي أنثى وتتمنى خدمة الأطفال المؤدبين مثل ولديك هذين. فأجب دعوتها خير لك ولها وما تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. أنت الآن وحيد في بيتك وكاترين زميلة مؤمنة وطيبة ومن أخلاق المؤمنين والمؤمنات أن يعينوا إخوانهم وأخواتهم ويخففوا عنهم ويأخذوا بيدهم.

 

علوي:  كاترين كلها فضل وكمال وكلها إنسانية وعظمة وأنا أتلعثم أمام مكارمها الكبيرة.

 

كاترين: لعل العم محمود يقنعك بأني غير محرجة حينما أدعو أطفالك عندي بل أنا فخورة بهما ولا أتعب أبدا حين أخدمهما.

 

          علوي أنزل رأسه من شدة الخجل وهو لا يعرف كيف يشكر الجمع على ما  يبدونه من شعور تجاهه وتجاه طفليه. أصبح يشعر بأن له أهلا وأصحابا جددا  أكرمه الله بهم فلم يخف ما كان يحس به وأظهر أفكاره للحضور.

 

محمود:    إن من فضل الله علينا أن نتعرف على هموم أخ لنا فنواسيه ونقدم له ما نشاء من مساعدة. هون عليك يا علوي فنحن إخوانك وأخواتك وسوف  نتألم لو أنك لم تستنجد بنا متى ما كنت بحاجة إلى أي منا. أليس كذلك يا  كاترين ويا ماري؟

 

كاترين وماري: صحيح يا عم محمود.

 

ماري:   ليتني كنت مقيما بينكم فأشارككم في كل شيء فأنا أستمتع بمساعدة  الآخرين وأرضي بها ربي.

 

كاترين: إن لم تكوني بيننا، فإن أدبك وعلمك وأخلاقك سيبقى معنا حتى نراك مرة  أخرى. أرجو ألا تنسينا إذا سحت متنزهة مرة أخرى في الخليج.

 

ماري:  سأحاول أن آتي إلى الكويت لأزوركم لا للسياحة. إن رؤيتكم ومصاحبتكم ممتعة جدا وأنا بحاجة لأن أستزيد من علم العم محمود ومن أدبك وأدب الأخ علوي، كما أن سومة هذين الطفلين الجميلين سوف لا تفارقني أبدا. أتمنى  لهما ولكم جميعا كل خير وإقبال حسن.

 

         وفي نهاية الأكل كرر زيد ما قاله من قبل: والآن يا بابا هل ستأتي كاترين إلى بيتنا أم أنك ستأخذنا إلى بيتها دائما؟

 

علوي:  لا يرد الإحسان إلا اللئيم. لسوف تراكما كاترين كثيرا في المستقبل، حتى تتوجع منكما فتقول كفى يا علوي.

 

كاترين وهي تضحك: موافقة وسوف لن تسمع مني ما يفيد التوجع حتى يكبر الولدان أو أترك الكويت.

 

علوي:  ومن يدرى لعلي أنا أترك الكويت.

 

ماري:   مع كاترين طبعا، وإلى الجزائر أو فرنسا.

 

ضحك الحاضرون من خفة دم ماري ومزاحها الموحي.

 

 يتبع: (بعد العشاء)