الفطرة الدينية

مفتاح الباب:

نسعى في هذا الباب لنقرب النظرية الديمقراطية إلى الإسلام، دين  الفطرة ودين الطبيعة. ذلك الدين الذي يرشدنا إلى ما يجب أن نكون عليه حتى لا  نظلم ولا ننظلم فلا يحق علينا القول، فيدمرنا تدميرا سريعا ومفاجئا، ولا  يستولي علينا الفقر والذل والهوان فنذوب تدريجيا حتى نستضعف في الأرض. لقد  اجتاز تاريخنا مراحل مختلفة من الحكم الديني والحكم الإسلامي، وكلها منسوبة  إلى الدين والإسلام، ولعل أصحابها وأبطالها كانوا يتفقدون شريعة الرحمن،  لكنهم عدلوا عنها جهلا أو أثارة أو قسرا. كانوا في كل الأحوال مصرّين على  الحكومة الدينية والخلافة الإسلامية. أكثر أولئك وكثير من الظالمين الذين لم  يصروا على العنوان الإسلامي، قتلوا وسرقوا ونهبوا وكذبوا وسكروا وفجروا تحت  ظلال الإسلام، كما أن بطل العرب في زماننا يغزو المسلمين ويدعو للإرادة ويسجن  الضيوف والوفود ثم يستغفر الله!  كما أن حكومتنا أيضا عطلت البرلمان وأصرت  على الديمقراطية!  سمعت من أحد المحققين وهو يرى ويلمس انحراف الحكومات  الإسلامية في عصرنا أن الإسلام -والعياذ بالله- عاجز عن إدارة أمور المسلمين  وحينما أثبتّ له زيف الادعاءات قال لي: "أنت مخطئ، هذا هو الإسلام وهؤلاء هم  المسلمون وعلماء الإسلام يؤيدونهم في كل مصر ولن  يؤيدك أحد" فاحتملت منه  سورة الغضب لأصحح أخطاءه وفزت بعد قليل بإسكات صديقي المحقق، هداه الله  وإياي.

من هذا المختصر لا يمكننا إمرار التاريخ على كل المقولات للوقوف على  مدى صحة ادعائي، لكنى سوف أستشهد بالتنزيل ثم بما اشتهر من أقوال و أفعال  سيد الخلق عليه وآله الصلاة والسلام ثم ببيان الأستاذ الأكبر الإمام علي عليه  السلام، و ذان هما العالمان اللذان حكما بالعلم والاطلاع إلى جانب التقوى  والفضيلة. نحن بالطبع لا يمكننا تشكيل حكومة إسلامية على غرار حكومتهما إذ  أننا نفقد ذلك التكامل الإنساني الذي انطويا عليه ولذلك نستند في تحليلاتنا  إلى السيرة التي مضى عليها بعض المسلمين عند انتخاب الخليفة أبى بكر رضي  الله عنه ثم عرض البيعة على بقية المسلمين والإصرار على أخذ البيعة ولو  قسرا. هذا ما يدل على تأصل حق الأمة في تعيين مصيرها وفي ممارسة الحكم على  نفسها في أذهان الذين فارقوا حبيبنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم من وقت  قريب.

لو نمعن النظر في وضع البشرية إبان القرن السابع للميلاد -بداية  القرون الوسطى- نرى أن الأمم ترضخ لحكم الملوك وتنزل لسلطة النبلاء والأشراف.  العلماء والفرسان تخلصوا من التعرض للاسترقاق والاستعباد لصالح الغرباء بفضل  تشكيل وتقوية الحكومات الملكية لأقطارهم المتبوعة، لكنهم كانوا أذلاء أمام  ملوكهم وأعوان ملوكهم. في مثل ذلك العصر، يبايع المسلمون خليفتهم بالإمارة  والحكم. ولو أن صورة الانتخاب قد محيت حين جلوس الخليفتين عمر ومن بعده  عثمان رضى الله عنهما إلا أن الإمام علي عليه السلام تسنم الإمارة بإصرار الأمة  وإجماعها على انتخابه، وقد أقام نظاما إداريا تفتقده الحكومات الديمقراطية  في القرن العشرين.

ولعل السبب في تدهور الأنظمة الإسلامية على مر الزمن هو أنانية  الحاكمين -الأذكياء نسبيا- مقابل الشعوب التي تجهل المفاهيم الإسلامية فلا تفرق  بين الحق والباطل ثم لا تميز بين الطيب والخبيث، فيستولي الاستغلاليون على  السلطة ليحولوها إلى ملك عضوض ويثبتوه لأبنائهم من بعدهم فيصطبغ بصبغة  الوراثة أيضا. هذا الأمر ثابت لمن يسلّم ماله ونفسه وعرضه بيد إنسان عاديّ  معرض للخطأ وللطغيان، بمجرد أن يسمع منه ما يطيب له ويتمتع بالإصغاء إليه،  كأن الكامن للفرصة والعالم بما نستحليه يقول غير هذا.

لذلك فمن الخير لنا أن نتحدث عن جوهر الحكم الإسلامي بغض النظر عن  الحكومات الإسلامية التي سيطرت على شتى الأمصار في مختلف الأزمنة وبمتفرق  الأشكال، والعبرة بشكل الحكم المحمدي (ص) وبالنظريات الإسلامية في مضمار  الحكم التي وردت في الكتاب العزيز أو تفوه بها صاحب الشريعة ووريث علمه  الإمام علي، أما بقية الحكام -حتى الطيبين منهم- فإنهم ليسوا أسوة مثل  الرسول الذي ورد في حقه كلام الله تعالى ]لقد كان لكم في رسول الله أسوة  حسنة[. ولم يأتوا بما أتى به علي وبعض أبنائه وأحفاده -الذين أوتوا الحكمة  والعلم- من البرهان العلمي المتقن لكيفية الحكم حسب رأيهم ولنظام الإدارة في  البلاد. مكتفين بما يؤيد دعوتنا للديمقراطية إذ أن هذا الكتاب لا يسع التعميم  والتطويل.

 

الملك لأنبياء السلف والشورى لخاتم الأنبياء:

مما لا يقبل الشك أن الباري جل وعلا قد آتى بعض رسله وأوليائه الملك  مثل طالوت وداود وسليمان الذين عينهم الله ملوكا على غيرهم. وأما بالنسبة  لسيد الأنبياء فلم أر من الكتاب العزيز ما يدل على ملكه وسلطانه فلعل  البشرية لم تكن مستعدة لأن تدير وتحكم نفسها بنفسها في سالف الأيام، حتى  تطوروا على مر الزمن و أفاض عليهم خاتم الأنبياء عيلما زخارا بالحقائق  العلمية ومصباحا وضاءا ينير طريق العرفان للمجتمعات الإنسانية عبر العصور  التالية. ومنذ بزوغ هذا الكوكب، الدّرّيّ انطلق شعبه الذين هم أهله وصحبه  ليستخدموا الفكر والعقل في سنّ تشريعات الحياة وأصبح الأمر ]شورى بينهم..  وشاورهم في الأمر[ يا رسول الخير ولو أنك  >بعثت معلما<  ولكن شاورهم حتى  تسنّ الشورى بينهم وتعلمهم كيف يحكموا أنفسهم بأنفسهم وكيف يثقوا بأنفسهم.  هذه الشورى أشبه بالشورى في عصرنا الحديث حيث عممها الله لكل الناس ولم  يحصرها في الخاصة إذ أن الآية تبدأ بقوله :]فاعف عنهم واستغفر لهم..   وشاورهم في الأمر[. العفو والاستغفار لمن أذنب وهم العامة قطعا. ثم جاء بعد  فترة دور التلميذ الأول، باب مدينة العلم، ولي المؤمنين وأميرهم وهو وان كان  من رسول الله >بمنزلة هارون من موسى< إلا أنه لم يتقبل استلام مقاليد الحكم  حين تأتّى له ذلك، إلا بعد إصرار المسلمين وانتخابهم له لأنه -على الظاهر-  كان يريد تثبيت حكم الشورى الذي نعرفه نحن باسم الحكم الديمقراطي.

وفي تفضيل الإمام للحكم والقيادة المسندة إلى الأمة والمثبتة لمن هو  أهل للقيادة، استدلال منطقي بارع ذكره وهو يتأوه من بعض الميل الذي حصل في  طريقة الحكم الجماعي المتقي على الشورى كما وضعه هادي البشرية بأمر من ذي  الجلال وذلك بالنسبة لأسلافه الثلاثة الذين كانوا يبادلونه الحب والاحترام  ويستقون ما شاءوا من غيث علمه وينتفعون جهد إمكانهم من إحاطته وسعته بالأمور  -رضي الله عنهم أجمعين- قاله بعد أن انتقد السقيفة التي ضمت نزرا معدودا من  المسلمين لانتخاب أبي بكر رضي الله عنه ثم انتقد ولاية الخليفة عمر رضي الله  عنه بتعيين من سلفه دون أي انتخاب ثم أبدى شديد انزعاجه من الشورى الصغيرة  التي عينت الخليفة عثمان رضى الله عنه.  كما يتضح من خطبته التي قال فيها:  #]أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود  الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم،  لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد  عندي من عفطة عنز[. من الأفضل أن نرقّم ما يهمنا ذكره من الموضوعات التي  سردتها هذه الكلمة السامية.

1-   القيادة تنتخب برأي الأمة وإصرارها وتهيئها للنصرة والعون.

2-   القيادة من حق العلماء لا أصحاب الحظ والدّجالين. والعلماء هنا -باعتقادي- تعني معنى أخص مما ذكرت مما لا مجال لذكرها هنا تحاشيا من البلبلة وتوخّيا لتوحيد الصفوف، وما يهمني ذكره أني لا أعتقد بأن المقصود هم المعروفون بيننا اليوم برجال الدين على أني أعتقد  بلزوم انطواء الحاكم على الفقه وعلم الدين.

3-   القيادة المشروعة تبدأ اهتمامها بالطبقة السفلى من الناس وتكافح الجوع والظلم فترفع مستوى المعيشة وتقرّب الناس من بعضها  البعض حتى يتحقق التوازن. هذا المقطع الأخير يصعب استنتاجه من الكلمة المنوه عنها، ولكن الأمام قد افصح عنها في أماكن أخرى.

4-   إذا شاع الظلم فعلى من له علم أن يظهر علمه وجوبا كما أن العالم الزاهد ليس له أن يتنصل من القيادة إن وجد من ينصره أو رشحته العامة للقيادة فإن من واجبه الانصياع للإرادة العامة.

 

5-  الشعب هو الذي ينصر الحاكم والحكومة؛ لا يخدمهما أو ينصاع لإرادتهما.

6-   الشعب هو الذي يبحث عن القيادة ولذلك فإن من واجبه-بحكم العقل-  أن يتعرف على معنى القيادة وواجباتها وصلاحياتها وأن يتعرف على أهل وطنه ليصطفي القائد الأهل والصالح وهذا قمة النظام الديمقراطي، وقد دعا إليه إمام المسلمين قبل أربعة عشر قرنا.

         

مثّل الأمة في مكان آخر بالأمهات، والأئمة بالأبناء بقوله عليه السلام #]فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون: البيعة، البيعة،  قبضت كفّي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فحاذيتموها[ >العوذ جمع عائذة وهي  الحديثة النتاج من الضأن والإبل، و المطافيل جمع مطفل، أي ذو أو ذات الطفل< ولعل في  هذا التشبيه إشارة إلى عظيم مقام الأمة على منتخبها للحكم والقيادة فإن أمومة الأمة لا يمكن تجاهلها بحال من الأحوال على بنوة القائد المنتخب إذ أنهم هم الذين يصنعون من الرجل اللائق قائدا شرعيا و يولّونه الحكم والسلطان.

بما أننا اليوم نفتقد تلك الصفوة العلمية الطيبة المتمثلة في نبينا  العظيم و الأقربين عهدا إليه من العلماء >الذين سار إلى علمهم الركبان وانتشر  صيتهم في البلدان< كما يعبر عنهم ابن حجر الهيتمي في كتابه المعروف  "الصواعق المحرقة"؛ فإننا نختار الأفضل الأكمل حسب رأينا لمدة محدودة ونغيره  قبل أن يتحول إلى دكتاتور يقفل علينا أبواب الشورى والمعروفة اليوم  بالمجلس النيابي أو البرلمان أو مجلس الأمة.

 

البرلمان والشّورى:

أما البرلمان، فهو المجلس الذي يناقش فيه أمور الناس ولا يمكن أن  يتحقق بالتعيين كما هو الحال في بعض البلدان الشقيقة أو كما أرادته لنا  السلطة في الكويت حينما عينت هيئة لإعادة كتابة الدستور "المسخ". لأن الله  تعالى يقول في محكم التنزيل ]و أمرهم شورى بينهم[، و لم يقل: وأمرهم شورى  بين الآخرين. إذا كانت الشورى بيننا فإن لكل فرد منا أن يشترك في مجلس  الشورى وبما أن عدد البالغين كبير لا يتاح لهم التشاور في كل الأمور فهم  يختارون ممثلين عنهم لتنفيذ تشريع الباري جل وعلا.

إن الله تعالى يحارب الديكتاتورية بقوله الكريم: ]إن الإنسان  ليطغى، أن رآه استغنى[. والحاكم المستبد مصداق جلي للذي يرى نفسه مستغنيا عن تأييد الأمة وتظهيرها ونصرتها إياه بل هو مظهر الطغيان حتما بما في الآية من تأكيد مكرر "إنّ" و "لـ".

نحن نحب أميرنا ونحب الأسرة الحاكمة -كما نحب كل المواطنين- ولا  نبتغي لهم طريق الطغيان والشر بل نسعى لتطهيرهم من الآثام والأرجاس و نحيلهم إلى الانتخاب، فلعلهم أكفأ من يقدر على إدارة البلاد، فلم ننتخب غيرهم في كل  دورة حكم؟.

 

الصفات الديمقراطية لدى سيّد الأنبياء:

أما من حيث العلاقات فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان  لينا جذابا مهذبا مؤدبا منطقيا متفهما متفاهما يكره التعصب ويحتقره وكان  يمارس سياسة المداراة مع الجميع فلا يبوح بكل أسراره ولا يفتح كل قلبه لأحد  ولا يشد في العداء فيقفل كل أبواب التفاهم مع أحد، وهو القائل *]أحبب حبيبك  هونا ما، فعسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، فعسى أن يكون  حبيبك يوما ما[. وكان يراسل غير المسلمين ويتقبل هداياهم، ويوقّع الصلح مع  أعدائه الذين تسببوا في هجرته من وطنه العزيز الغالي،  والذين تآمروا عليه  ليقضوا عليه فيتخلصوا منه ومن دعوته إلى الله. لم نقرأ عنه رد المفاوضات أو  رد العروض المعقولة للصلح أو رد البحث والنقاش مع دولة أو جماعة أو فرد.

إن بعض هذه المثل العليا والأخلاق الجميلة مشهودة بين الديمقراطيين، وقلّ منا من يتمثل بها فنحن فتحنا قلوبنا للعراقيين ثم لعنّاهم حينما نصّ عبد الكريم قاسم عنقه وسرّح فكيه ليبلع الكويت، ثم عدنا إليهم واحتضنّاهم  ومدحناهم ومجدناهم ودافعنا عنهم وظلمنا رهطا من المسلمين لأجلهم،  أطلعناهم  على كل جيوبنا و تخومنا ومتاريسنا حتى فاجئونا بأشرس مؤامرة دموية، فعدنا  عليهم باللعن والشتم والسباب أكثر مما واجهناهم بالمنطق والحكمة والاستدلال والإعلام الصائب. وكما يقول الإمام #]لا ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرّطا[ فقد  مارسنا الجهل مع العراقيين مصادقين ومعادين. لكن الديمقراطيين يعالجون  قضاياهم بهدوء وأناة وحكمة، فروسيا كانت تحارب الغرب فكريا، لكن الغربيين  حافظوا على التبادل الدبلوماسي على أعلى المستويات طوال سني الحرب الباردة،  حتى بادر الأمريكيون (الديمقراطيون) بزيارة روسيا محاولين تخفيف العداء بين  المعسكرين المهيبين. ويلاحظ أن الحكومات الديكتاتورية برمتها وبأنواعها  (العائلية والقومية والدينية)، تمارس السباب والشتائم ضد مخالفيهم وينفون  بشدة كل من لا يوافقهم. هذا ما لم يرض به الحكيم العليم حيث يقول: ]ولا  تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم[ حيث يمنع  المؤمنين من سبّ الذين يدعون لغير الله ولعلهم (الكفار والمشركون والعصاة  الذين يدعون لأنفسهم ولمواليهم ويتبعون أهواءهم وشهواتهم). وقد مر علي على  قومه وهم مشغولون بسبّ معاوية فقال: #]إني اكره لكم أن تكونوا سبّابين،  فلوا أنكم وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر،  وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم  واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج  به[.

 

الحرية في الإسلام ثم في الديمقراطية:

حرية إبداء الرأي ليست مسموحة في النظام المحمدي فحسب، بل هي  ممدوحة أيضا فقد قال علي عليه السلام: #]من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع  الخطاء[. وقد جاء سيد الرسل ومعه كتاب امتلأت سوره وأحزابه بالدعوة إلى التفكر والتعقل، دعوة مفتوحة لجميع البشر. وقد ضمنه رب العباد ما يرشدنا إلى وجوده ووحدانيته بالبداهة العقلية، فبذلك نجّانا و باعد بيننا وبين  السوفسطائيين، وكذلك قرّب به الإيمان بالفطرة ليغنينا عن الخوض في أغوار الفلسفة الاستدلالية أو استجلاء الإشراق.] أفي الله شك، فاطر السماوات والأرض [والعقل يشعر بالبداهة أن العالم حادث ولكل حادث محدث. وقوله تعالى:] لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [، فبالبداهة يشعر العاقل بأن المدار تحت قيادتين متوازيتين محكوم بالخراب والفساد وسوء النتيجة. فالدعوة الإسلامية إذن تشجع الخلق أجمعين للنظر في كل المسائل كبيرها وصغيرها، جليها وغامضها، ظاهرها وباطنها. ومن مستلزمات هذه الدعوة منح حرية التفكر وحرية الاعتقاد وحرية إبداء الرأي ومن مستلزماتها أن يوصي الإمام ولاته ومدراءه ومن وصل إليه كلامه أن يستقبلوا وجوه الآراء حتى يسهل عليهم التعرف على مواقع الخطأ. هو في حد  ذاته دعوة عامة للمشاركة في التدبير حتى لا تسقط الأمة والوطن تحت رحمة الفكر  الفردي والعقل الفردي، مهما كان ذلك الفرد عاقلا أو متفكرا. هذا المبدأ  يقابل الفكرة الديكتاتورية والحكم الفردي بالتنافر والتضاد.

هذا ما تنادي به الديمقراطية حقا دون أدنى شك. هؤلاء الأمريكيون  وأولئك الأوروبيون كانوا قبل التحول الديمقراطي سبابين مستبدين ظالمين  مجرمين، يتميز كبراؤهم بالكبرياء والغرور وصغراؤهم بالحرمان والخيبة  والضياع. لكن الديمقراطية غيرتهم وعدلت سلوكهم. والديمقراطية -كما وصفنا-  كادت أن تكون إسلاما في كثير من دعاويها ولكن دون قبول الرسالة المحمدية.  فهو في الحقيقة إسلام للدنيا دون الآخرة. والمسلم الذي يمهد لآخرته مأمور بألا  ينسى نصيبه من الدنيا. فالمسلم الحقيقي أكثر من ديمقراطي وأجدر به أن يكون  كذلك.إن هذه الديمقراطية التي وصفناها جزء من إسلام المسلم. وهنا أود أن  أنوه بأني لا أمجد فلسفة ديمقراطيس المادية ولا أقصدها، بل أتحدث عن النظام  السياسي القائم على الحرية والمساواة والقاضي بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه.  وأنا كمسلم، أضيف إليه جملة "وذلك في غياب الأنبياء والمعينين من قبل الله  تعالى" وليس أحد منهم اليوم باد للعيان. كما أني لا أبرئ ساحة  الديمقراطيين من المظالم، لكني أنظر إلى آثار النظام بالقوة والى نسبية  تبعات تطبيقه بالفعل.

ما من شك أن المسلم الذي يعرف ويريد الإسلام كما هو، سوف لا يضيف شيئا  إلى عقيدته الإسلامية إذا اتّبع النهج الديمقراطي، لكن الديمقراطية تتحلى  بمعنويات الإسلام وترتشف من معينه العذب ما يطري جفافها ويسد معايبها.

 

الديمقراطيون وأم المعاصي:

يتنافى الإيمان -قطعا- مع الكذب >#جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان<.  هذه الرذيلة سلاح المستبدين في عصرنا الزاخر بالعلم، فالأنظمة الديكتاتورية  بكل أشكالها لا ترعوي عن الكذب، أم المعاصي. وقد اعترضت على الكثير من  المسؤولين الإسلاميين وغير الإسلاميين، فكان الجواب انهم غير قادرين على إصحار الحقيقة للامة. لكن الإسلام والديمقراطية كلاهما يحاربان الكذب ويمنعان من  إخفاء الحقائق عن الناس. الأمة في الحكومة الديمقراطية قادرة على مواجهة  المسؤول أو الحاكم الكذاب إذا ما علمت الحقيقة، فالحاكم أو المسؤول  الديمقراطي مضطر لتحاشي الكذب. وفى الحروب يخفون بعض المسائل دون أن  يكذبوا، مع تكرار التصريح بأن هناك مسائل أخفيت عن الإعلام لأسباب أمنية خوفا من انتقال المعلومات إلى العدو كما شاهدناه في الإعلام الغربي طيلة حرب  الخليج. هذا ما يؤكده الإمام في قوله: #]ألا وان لكم عندي ألا أحتجز دونكم سرا  إلا في حرب[. لكن الحكومات الأخرى تكذب وتعلق على الكذب وأحيانا تشرع  القوانين أو القرارات المؤقتة على أساس الكذبة الملفقة، ليس فقط في الحرب،  بل كلما اقتضت مصالحهم وبقاؤهم -في السلطة- ذلك. وعند الاعتراض يتذرعون  بمصالح الإسلام أو الأمة أو الشعب تبعا لنوعية الحكومة المستبدة. يستحيل عليهم  -فعلا- مقاطعة الكذب لأن نظامهم غير متكافئ مع متطلباتهم ومشاكلهم. انهم  مضطرون للإيعاد الزائف ولطمس الواقعيات والتهرب من الأسئلة والطلبات حتى  طلبات الاسترحام. ولذلك فهم يتشبثون بالألقاب والملابس والهيبة والوقار  الزائد وعدم التجاوب مع الناس. حضورهم أمام الجماهير يكون في حشد كبير من  الحرس والمتملقين المحيطين بهم ولا يتحدثون إلى العامة إلا من عل، دون أن  يندمجوا معهم بعكس ما كان يفعله محمد وعلي وغاندي وبقية الزعماء المثاليين في الأرض. أولئك الذين غرسوا الديمقراطية بأعمالهم وتصرفاتهم وبأقوالهم، في  قلوب من قرأ عليهم أو سمع عنهم. حذّر علي من الاغتيال فقال: ]وانّ عليّ من  الله جنّة حصينة، فإذا جاء يومي انفرجت عنّي وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم[ وقد قتل اغتيالا في المسجد ساعة الصلاة، وحذّروا غاندي  من الاغتيال ناصحين إياه الكف عن الاختلاط بالناس فأبى وقتل بين شعبه.

 

النهج المرفوض:

ومن مظاهر غير الديمقراطيين وغير المحمديين ضرب المدنيين العزّل في  الحروب، وهذا ما يتحاشاه الذين حاربوا تحت راية محمد وعلي وكذلك الذين  حاربوا تحت راية الخلفاء الذين سبقوا معاوية بن أبي سفيان. وقد رأينا أن  الحكومة الخليجية الوحيدة التي تتمثل بنوع من الديمقراطية وهي حكومة إيران  -بعد الشاه- كانت تتحاشى ضرب المدنيين في الحرب الإيرانية العراقية عدة  سنوات. لكن صداما أجبر الإيرانيين على ضرب بغداد إذ لم يستنكف أبدا عن شن  الغارات الجوية على المدن دون الجبهات. كما انه في حرب تحرير الكويت أرسل  الصواريخ على المدن الآمنة داعيا ضرب المدنيين في إسرائيل (تحريرا لفلسطين).  وأنى لفلسطين أن تتحرر بضرب السكان الآمنين في بيوتهم. إن كان ذلك ممكنا،  فإن منظمة التحرير بمختلف حركاتها قد أمضت عقودا في ضرب السكان، لكنّ  إسرائيل كانت تتقوى يوما تلو يوم.

إن ضرب السّكّان العزّل هو دافع قوي وفعال لتقوية الجند وتحميس  الجيش ضد الأعداء وهو -مع اختفاء الديمقراطية والإسلام- تشريع للانتقام  المماثل. وعند الانتقام يشد كل طرف ضربته بالقسوة الممكنة، دون التوجه إلى  التكافؤ والتقاص. والإسلام طبعا لا يجيز هذا التقابل بتّا، حيث يقول تعالى:  ]ولا تزر وازرة وزر أخرى[، ]ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق[. وما  هو أكثر حرمة من نفوس الأطفال والعجائز والأبرياء الذين يقتلون بالقنابل  العنقودية وصواريخ سكود وبالقنابل اليدوية والقنابل المزروعة في الأماكن  العامة. لكن جميع الأطراف -مع بالغ الأسف- تتعامل مع القضية الفلسطينية كما  يحلو له، والشعب الفلسطيني لا يهتدي السبيل إلى الخلاص.

اكثر القادة الإسلاميين والقوميين المعاصرين يدعون إلى الشغب  والغوغائية وتوسيع اللعائن ورفض الصلح وهدم الجسور، والله يقول: ]لا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه  ولي حميم[. والديمقراطيون يدعون إلى الهدوء ويعرضون الحلول السلمية  المتوالية تجنبا من التوغل في حرب لا يعلم نهايتها، لطالما رضوا قبل الحرب  بالحل الذي يصلون إليه بعد حرب مدمرة.

من أسوأ مظاهر القصور أو التقصير لدى كثير من علماء المسلمين  وحكامهم التكبر عن طرق أبواب ذوي القدرة -خاصة من غير المسلمين- بقصد  هدايتهم أو التوصل إلى ما يحسن أحوال المسلمين ويقل من الإضرار بهم، والأعيب  من ذلك رفض هؤلاء كل محاولات التقرب وفتح أبواب النقاش حول قضايا المسلمين.  وإذا دعوا إلى الهداية فعن طريق الاستعلاء والإحساس بالعظمة كأن يدعو رئيس  جمهورية أقوى منهم بكثير إلى التوبة على أيديهم. أولئك هم الديمقراطيون  وهؤلاء هم المسلمون. لكن العزيز الحكيم يأمر نبيه موسى عليه السلام -بمعية  أخيه هارون- بالذهاب إلى دار فرعون ودعوته إلى الله دون  يأس أو تثبّط ]اذهبا إلى فرعون انه طغى. فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى[، وان  اخفقا في هدايته فلعلهما بالتفاوض يتوصلان معه إلى حل لتخليص بني إسرائيل  من العذاب [إنّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم[.

لو ننظر إلى حربنا مع إسرائيل وحرب الإيرانيين مع البعث وحرب  الباكستانيين مع الهند حول بنجلادش؛ لقد انقلبت الحروب على المسلمين ولم  يستجب دعواتهم إلى الله وظهر سوء تدبيرهم وقصور منهجهم. لقد طالت الحرب  الباردة بين باكستان والهند وطالت الحرب القتالية بين إيران والعراق ودامت  حالة الحرب بين الفلسطينيين والصهاينة منذ نصف قرن. إن الصلح فرض على  المسلمين في كل الحروب الثلاثة، لأنهم لا يقيمون إمكاناتهم ولا يقيسون ما بيدهم  مع ما بيد أعدائهم ولا يتدبرون العواقب ولا يزنون الخسائر، وحينما يظهر عجزهم  يتشبثون بمقايسة المعنويات بالماديات؛ تلك المقايسة التي تخدع الشعوب  المغفلة التي لا تدرك أصول التقييم. أما الحروب الإسلامية الأولى؛ فكانت أبواب  المفاوضات مفتوحة طيلة الوقت والرسول الحكيم يحمل حكم الله لينفذه في أية  لحظة يتأتى له ]وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، وان يريدوا أن  يخدعوك فإن حسبك الله، هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين[. وكان المسلمون قبل الحرب و إبّانها يتجسسون على العدو ويلاحظون قدراته في استراتيجيتهم العسكرية. لقد نجحوا في حروبهم بفضل دقة المعايير لديهم؛ إلا غزوة بدر حيث الإمكانات غير متكافئة؛ هناك أنزل الله إليهم الملائكة لتقوية قلوبهم وتضاعف   هممهم. إذا اتبعنا الأصول كسبنا النتائج المادية المؤكدة وكتب علينا رحمة الحكيم الخبير وإلا فلا.

قايسوا بين الاستراتيجية الغربية الحديثة وبين منهج المسلمين اليوم  لتروا شدة ابتعادنا عن هدي الإسلام وتنفّع غيرنا بهذه الأصول التي أتى وعمل  بها محمد المختار (ص). قارنوا بين السياسة الغربية المتفوقة وبين نضال  سيدنا يوسف عليه السلام في سبيل الدعوة إلى الله والذي خصص الله له سورة  طويلة في الكتاب الكريم، وزنوا تصرفاتنا الرافضة للبحث والتفاوض وانظروا  أيُنا اتبع النهج الرسالي القويم و أيُنا اتبع هواه؟ أليس الديمقراطيون كما  وضحت في "الحسبة السياسية" هم أكثر اقترابا من سياسة يوسف عليه السلام وهم  بذلك يكسبون ونحن الذين نخسر.

هل من زعيم مسلم أصلب إسلاما من سيدنا الحسين عليه السلام الذي فاوض  عدوه يوما أو يومين قبل عاشوراء وجلس مع عمر بن سعد جلسة ثنائية -على ما  يذكره المؤرخون- في خيمة على أرض كربلاء في محاولة لتجنب القتال؟ لقد نجح  في إقناع العدو على عدم الخوض في الحرب وتسليمه إلى يزيد بن معاوية ورضي  بذلك عبيد الله بن زياد، إلا أن شمرا -بدهائه وعدائه- أقنعهم بغير ذلك  وفاجئوا الحسين بإقفال باب التفاوض. هل اتبعنا نحن المؤمنون هذه السياسة  الحكيمة؟ مع كل هذه الأخطاء نرجو التوفيق من الله واضعين اللوم على أعدائنا  الذين يعيشون كل حياتهم للتآمر ضدنا!

اللهم اهدنا لاتباع الحق ولترك التعصب وإرضاء الشهوات باسم الدفاع  عن دينك في الأرض.وضعنا في الطريق القويم.

 

الدور القيادي للمرأة المسلمة:

وأخيرا نتحدث عن الدور القيادي للمرأة في الإسلام، وهو غير دورها  التربوي الذي يخرج عن نطاق هذا الكتاب -طبعا-. قال الله في سورة التوبة وهي  سورة سياسية تفوح بالأحكام السياسية والاجتماعية وتعكس الصورة العسكرية  للقيادة السياسية في الإسلام ]والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض[،  فالمؤمنة تتولى المؤمن أحيانا وهذه الولاية مشتركة متراض عليها وهي تمثل  مجتمعا أوسع بكثير من المجتمع الديمقراطي. الحديث عن ذلك النظام الإصلاحي  يعبر عن تفاؤل خيالي خارج عن معادلاتنا الاجتماعية وغير متطابق مع واقعيات  مجتمعنا الممسوخ. لقد تقمص ذئاب عصرنا أردية الصالحين، وحتم قيود الاحتراس  على دعاة الإصلاح بيننا أن يمجدوا باللصوص والمرائين ويركعوا أمام الذين هم  أخف شرا توقيا من الذين هم خلاصة الشر والفساد والطغيان. الديمقراطية  بتعميمها لحق الدفاع والمشاركة في التشريع بين الرجل والمرأة، تعتبر أقرب  الطرق العصرية إلى المجتمع الإسلامي الفاضل والمرتجى لمستقبل البشرية ريثما  يأتي وعد الله ]ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون[.