الحسبة السياسية

مقدمة:

من الطبيعي أن يدور الحق إعلاميا مع القوي، والضعيف لم يكن ولن يكون  له أي تأثير سلبي أو إيجابي في أي تخطيط سياسي يقوم به بنو الإنسان. كل ما  في الأمر إن المدبرين السياسيين يخططون لإبعاد شبح المجاعة والعرى والمرض  حتى لا يتحول المعدمون إلى قوة ضارية تضرب القلاع السياسية وحتى يبقون مع  أدنى مراتب العيش منهمكين في جمع الغذاء غير مستعملين عقلهم وتفكيرهم. ولا  أنكر الدوافع الإنسانية لكنها تأتي في المرتبة الثانية.

كل ما زاد على ذلك يدخل في حومة التعامل ويمر على الموازين  الحسابية بمنتهى الدقة والإمعان. يتبع هذا الأصل استراتيجية متفق عليها وهي مبدأ الاحترام المتبادل، فالتعامل بدون مراعاة الاحترام المتبادل غير  مطلوب وغير متعارف عليه، ولذلك فان أيّ تعامل اقتصادي يتم عن طريق الوسطاء، لا يغلّ مردودا سياسيا على المشتري ولا ينمّ عن تعهد سياسي لدى البائع إلا  للوسيط وحده كما حصل  لإيران مثلا حيث  اشترت الكثير من الأسلحة والمعدات  والموارد الأمريكية دون أن يسجل الأمريكيون أي عدد في الجانب السياسي الدائن  لحساب إيران في دفاترهم وكانت المكاسب السياسية من نصيب الدول الوسيطة. على  هذا الأساس فان الدول  تسعى لتقوية العلاقات السياسية مع الدول المسيطرة على  البائعين وتمتنع عن السماح لشعوبها أو توصيتهم بالتعامل مع المجهزين  الخاضعين لدول يصعب التعامل السياسي معها أو يشك التنبؤ باستمرار التبادل  السياسي معها في المستقبل. إذن فعلى الحكومات أن تقوي ارتباطاتها السياسية  مع كل الدول، أطراف المعاملة، بنسبة التبادل التجاري والصناعي الموجود أو  المرتقب معها. وفي الواقع فإن إمكانية التعامل السياسي هي العامل الأساسي  لتعيين السياسـة التقنية لكل دولة ولتنظيم المعايير الصناعية والمقاييس  والأوزان فيها.

ويتم تعيين القيمة الحسابية للمسموحات والممنوعات بتقييم النتائج  الفعلية لآثار هذه الحقائق الاعتبارية المتفق عليها وتخضع هذه النتائج  لإمكانيات كل طرف واحتمالات الاستمرارية ومؤشرات التغييرات المرتقبة. وبما أن  هذه العوامل غير قابلة للتقييم الدقيق فإن الدول لا تتجنب التأثر العاطفي  الخاضع لكيفية التقرب والتقارب ولشخصية المندوبين السياسيين ولمشاعر الشعوب  المرتبطة. وبالتالي فإن التثمين العاطفي يتحكم في تهيئة حساب الأرباح  والخسائر بين الدول.

الشرقيون يجهلون التعامل معنا لجهلهم بنا فنحن لا نعبأ بهم كثيرا  لقلة حاجتنا إلى التعامل التجاري معهم.أما الغربيون فهم يفهمون لغتنا  وأخلاقنا ويتقصّون أخبارنا أولا بأول، لكننا نجهلهم ونجهل أخبارهم وسياستهم،  وبما أن المادة هي التي تتحكم كثيرا في المجتمع الغربي في عصرنا هذا فإنهم  لا يتكلفون عناء تزويدنا بما نحتاج إليه من معلومات بل يكتفون باطلاعنا على  ما يعود عليهم بالنفع أو يدفع عنهم الضرر وإذا كانوا يحاربون الشيوعية في  الأرض فهي إلى حد إبعاد المجتمعات من الولاء للفيلق الشيوعي لا بقصد نجاتهم  من ذلك الوباء الخطير. كل ذلك لأنهم لا يشعرون بتأثر مصيرهم بمصيرنا لكن  قراراتهم وتوصياتهم وتصرفاتهم تتدخل بصورة مباشرة في سير الأحداث بمنطقتنا  بل وبعالمنا فإنهم يملكون الكثير من المتغيرات ويتحكمون في كثير من الجوانب السياسية حتى جوانبها الاقتصادية والصناعية والتجارية بل وحتى جوانبها التثقيفية والتعليمية والتشريعية ولعل القضائية أيضا.

إن المقاييس الحسابية الحديثة برمتها تعود إلى ما وضعوه أو استعملوه في أكاديمياتهم المختلفة ونشروا آثارها في تعيين الزمان ومسح الأراضي وأحجام الأجسام ووضع  المعايير القياسية للمنتجات الصناعية وتعيين التركيبات الكيماوية  والتأشيبات المعدنية، ناهيك عن ترسيم أصول المحاسبة والمراقبة والإدارة  والتدقيقات الاقتصادية والعلمية والعملية والبرمجة الإلكترونية وحتى ضوابط  التحقيقات الجنائية والقضائية والاستجوابات البرلمانية وغير ذلك مما يدخل في  حياتنا وحربنا ودفاعنا وحكمنا وتعايشنا وتثقفنا وفننا واستحقاقاتنا ووو... إذا كان أسلافنا قد سبقوهم في وضع الخطوط الأساسية لأكثر النظريات الحديثة  فنحن المهملون والغربيون هم الوارثون. هذا ما كان يتخوفه قادتنا السابقون  حيث قالوا:  #]الله، الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم [. ها قد سبقنا بالعمل به غيرنا فسادنا وساد الأرض وراد الفضاء ونحن نلاعن بعضنا  ونغزو أوطاننا ونحرق شعوبنا ونضع اللوم على الغربيين. لا بل هم أكثر إيمانا  وعقلا منا وسيتضح لكم الأمر قريبا!

ألا وإننا عاجزون عن تجاهلهم وإهمالهم فكيف بمحاربتهم؟ إنها لسخافة  وحمق وغباء. نحن نجهل الكثير من الحقائق فنخسر كل مجابهة مع الدول الصناعية  وبما أنهم يبحثون عن الأمن والاطمئنان، فيمكننا التعاون معهم لصالح شعوبنا  وأوطاننا وسوف يرحبون بذلك. إن سلاح المنطق له فاعليته وتأثيره الواسع في  العلاقات الدولية مع الغرب. إذا كانت حكوماتنا تسعى لإقناعنا بمظالم  الرأسماليين فلأن الحاكمين لدينا -تبعا لجهلهم- أبشع ظلما على شعوبهم من  أولئك الأجانب على غير شعوبهم وهم ضعفاء في التعامل مع أولئك الذين يفهمون  ما يريدون، ولذلك يتشبثون بالسباب والشتائم ووضع اللائمة على الغير. سوف أقارن في باب الفطرة الدينية بين دعوات قادتنا اليوم وهدي الإسلام وبين أصول  الاستراتيجية الغربية والمفاهيم الإسلامية ليتعرف القارئ وإياي على أخطائنا  فنكف عن ملامة غيرنا ونستغفر الله لعله يهدينا بلطفه وفضله انه قريب مجيب.

 

الاستراتيجية الغربية الحديثة:

وتقضى بتقييم كل الإمكانات والاستعدادات العسكرية والصناعية  والإنسانية لبلوغ الأهداف التي يعتبرها الغربيون  معقولة وحقة، وبمباراة  القدرة مع كل من يمكن أن يقف أمام تحركهم قبل أية مجابهة، فإذا عجزوا عن  إقناع الخصم بادروا بالحرب الاقتصادية علنا والاجتماعية سرا ثم إظهار القدرة  بالقيام بالمناورات  العسكرية وقلما يطلقون الرصاصة أو يفلتون الصاروخ.انهم  يحجمون جهد الإمكان عن استفزاز العدو أو هدم الجسور المتوسطة حتى في أشد  وأحمى ساعات القتال.

ويراعى في هذا التقييم قدرة المادة (مالا أو جهازا أو سلاحا أو عتادا  أو معنويات) وإمكانية الانتفاع وقابلية الطرف المقابل للانفعال والاستمرارية  والمدّ والتفاعلات المستقبلية وكل تغيير احتمالي في الفاعل أو المنفعل أو في تأثير المادة.

إن هذه الاستراتيجية مشهودة في كل التحركات الغربية الاقتصادية والعسكرية  وكذلك السياسية. وقد أسسوا وتبنوا المنظمات والمؤتمرات الكبيرة والدولية  لتبادل الرسائل والإيحاءات ليقللوا من الحاجة إلى إجراء المناورات المتكلفة  والباهظة الثمن.

هذه الاستراتيجية منطقية ومعقولة، ولكنها شديدة على من يجهلها  وخاسرة لمن لا يقوى عليها. وتجاهلها يعنى الرضوخ للسيطرة الغربية التي يجب  أن لا نقبل بها أبدا. وقد أقبل البعض على صب اللعائن على دولة أو دول غربية  وإذا به يواجه وضعا يضطر معه أن يضاعف مشترياته من بضائع الدولة "الملعونة" دون أن يستفيد منها سياسيا ودون أن تشعر الدولة الغربية بأي تعهد تجاه اللاعن!

ألا هيّما مما لقيت و هيّما          وويحا لمن لم يدر ما هنّ ويحما

بل اضطر أن يتقبل ضغوط وشروط الدول الكبرى في النهاية، دون مداولة  أو مناقشة، لأنه لم يتعلّم لغتهم فما أمن مكرهم. وفي المقابل شاهدنا خلال  عامي 1975 و 1976 كيف تصدت دولة صغيرة مثل أيسلندا -والتي لا يقطنها سوى 200000نسمه- لبريطانيا العظمى في نزاع حول حدود مصايد الأسماك التي وسعتها  أيسلندا من جانب واحد، متحدية دول المنطقة، و قد بعثت بريطانيا سفنا حربية  إلى المنطقة دون أن ترعب أيسلندا، بل تصدّوا لهم بقوة النقاش حتى توصلوا  إلى اتفاقية مع بريطانيا دون أن يخسروا نفسا واحدة. إن أيسلندا الصغيرة  قوية المنطق، فأربع جرائد يومية وخمس مجلات أسبوعيه كانت تنشر آنذاك في  أنحاء البلاد بالإضافة إلى الجرائد والمجلات المحلية.

لذلك، فإننا مع احترامنا لكل أسلافنا ومعاصرينا الذين واجهوا  مخالفيهم بالشدة حتى خلقوا منهم أعداء ألداء وهدموا كل الجسور في وجه  أنفسهم حتى لا يبقى أمامهم إلا طريق واحد إلى الهدف، وذلك بغية الحفاظ على  الكرامة والعز -وباعتقادي، الأنانية وحب الذات المفرط- سواء القلة الذين  بلغوا مناهم أو الكثرة الذين خسروا جل الصفقات؛ فإننا سوف نحكّم العقل  والمنطق ولا نخاطر على حساب حياة شبابنا الذين هم آمالنا وآمال كل الأمة  المحمدية، ونحاول أيضا ألا نخاطر على حساب راحتهم وصحتهم وأمنهم جهد الإمكان  فإن عقولهم وأنفسهم سيحسن استخدامها في سبيل تقدم مجتمعنا ورفعة شأنه  وتطوير ثقافته ليجاري الزمن ويبارى أصحاب الزمن. نريد الوطن لأجل هؤلاء  الأحباب، فهم لنا هدف -قبل الله ودينه طبعا- إلا إذا اضطررنا للتضحية ببعضهم  في سبيل أكثريتهم وهو ما نسميه الدفاع عن الوطن. أما أن يفنوا جميعا ويبقى الوطن، فهو جهالة نستعيذ بالله منها.

هكذا سوف نطوي سجل الأمجاد الذي برع في صناعته أمثال المرحوم طارق بن زياد، وسوف نحفظ للتاريخ والذكريات خطابه المشهور لجيشه الذي غزا به الافرنجه بعد أن أغرق كل سفنهم بالبحر حتى لا يبقى أمامهم غير الموت أو النصر  "البحر من ورائكم والعدو من أمامكم و ليس لكم والله إلا الصدق والصبر".  الكثير من زعمائنا اتبعوا هذا المنطق واعتبروه منطق الإسلام والدين وطريق  العلياء والمجد. أمّا الدين، فسوف أحاول كشف أحكامه وتعليماته في باب الفطرة الدينية بمشيئة الرحمن وأما المجد والعلياء فإن التطور الحضاري في  الغرب والتدهور المتلاحق في الدول الشرقية والإسلامية وفي الاتحاد السوفيتي  خير شاهد على تفوق العقل والمنطق على السيف والدم.

 

السياسة الأمريكية في الخليج:

بما أن حكومة أمريكا حكومة ديمقراطية وهي أعظم دولة في العالم،  ولها حلفاؤها وأصدقاؤها في كل أرجاء الأرض، إلا أنها غير قادرة على اتخاذ أي  قرار يتضمن سلبيات كبيرة بالنسبة للشعب الأمريكي أو لبقية شعوب ودول العالم  ما لم يستند القرار إلى برهان سياسي يبرر تلك السلبيات، وما لم يؤيد من قبل  الكونجرس الأمريكي أو منه ومن المنظمات الدولية أو مجامع الحلفاء حتى يتسم  القرار بالشرعية المطلوبة، وبما أن أمريكا تستورد حوالي سدس احتياجاتها  النفطية من الخليج وتستورد أوروبا واليابان -من الخليج- حوالي ثلثي احتياجاتها فإن الآبار النفطية في الخليج مهمة جدا بالنسبة للدول الصناعية المتحالفة بل إنها حياتية بالنسبة لبعضها.

وبما أن حكومات المنطقة -عدا إيران- لا تستند في شرعيتها إلى تأييد  شعبي برلماني، بل تعتمد على إرضاء شعوبها عن طريق البذل؛ فإنها غير قادرة  على تقوية الكثافة السكانية وغير قادرة على حماية مواردها من الاعتداءات  المحتملة وهذه الحكومات -مع ضعفها- لا ترتبط ببعضها بميثاق دفاعي موحد، وغير  قادرة على تعديل الرأي العام لتقبّل القواعد العسكرية الأجنبية، خاصة وأن  دول الكويت والبحرين والسعودية يعانين من معارضة قوية وخطيرة ولا يستبعد  وجود معارضة غير متجلية في بقية الدول. كما أن إيران والعراق القويتان  -عسكريا- مبتليتان بوهن مالي مؤزم غب الحرب، وبمعارضة شديدة خارجية.

وحيث أن حكومة العراق التي تعد حليفة المعسكر الشرقي قد تمكنت من  اقتناء قدر كبير من الأسلحة القتالية الفتاكة قبل وبعد حربها مع إيران،  وتمتاز بإمكانية التنقل السريع لقواتها بين مختلف الجبهات وعلى نقل قوة  برية كبيرة إلى جارات العراق خلال يوم واحد؛ قد ازداد خطرها حينما ضعف  الفيلق الشيوعي بعد أن أصابته الأعاصير الاقتصادية الهدامة، فبات العراق  معتمدا على نفسه أكثر من ذي قبل وأقل عبئا بتعليمات الرئيس السوفيتي  السابق.

مجموعة هذه العوامل حتمت على التحالف الصناعي الغربي أن يكون على  أهبة الاستعداد لأي تدخل عسكري سريع لحماية حقول النفط في الخليج، وباعتبار  ما ذكرته في الفقرة الأولى فهو غير مأذون بدخول المنطقة إلا بطلب من إحدى  الحكومات الخليجية أو بتحريك زخم دولي -حكومات وشعوبا- لتشريع التدخل بحجة  مفتعلة إذا توقف ضخ النفط أو تقلّص، ذلك الأمر الذي يقود الكوارث إلى  المجموعة الصناعية وخاصة في دول حلف شمال الأطلسي.

هذا التأهب يتحدث عنه منذ فترة طويلة تربو على عشرين عاما وقد  ازداد تخوف الاعتداء على دويلات الخليج في السبعينات وتركز الخوف على العراق  الموالى لروسيا وكان التخوف من أية غارة عراقية موجودا منذ الحشد العراقي  الذي أقامه (الزعيم الأوحد ! عبد الكريم قاسم) في مقتبل الستينات، وكان  الثائرون الذين قضوا على حكومة الزعيم بمساعدة الإمدادات الكويتية يمارسون  طوال الثلاثين سنة الماضية، سياسة الابتزاز التهديدي مع كل الخليج لا سيما مع  الكويت، باعتبارها جسرا بريا سهل المنال، ويمكن استخدامها كفك آخر للكماشة  التي تطبق على المناطق البترولية السعودية تمهيدا لاحتلال شبه الجزيرة  بأكملها و لذلك فإنهم كانوا يتوسعون في تلك السياسة الابتزازية لتشمل  السعودية و بقية دول الخليج. كما أنهم توسعوا في إيجاد الحلفاء لهم.

هذا الضعف الذي كانت تبديه الحكومات الخليجية للعراق وخاصة حكومتا  الكويت والسعودية؛ كان مبعث التذمر لدى الأمريكيين و بقية الدول الغربية  المتقدمة و كنت أسمع من الكثير من الغربيين ما يوحي باستيائهم من سيطرة  العوائل و الأسر -المعزولة عن الشعوب- على هذه القطع الأرضية الغنية  بالبترول. على أنهم مضطرون في كل الأحوال أن يدافعوا عنهم ويسعوا لحمايتهم  حفاظا على الاستقرار في هذه المنطقة الحساسة وابتعادا عن الثورات الفوضوية  التي يتزعمها الذين ينقصهم معرفة أصول الحكم والتمكن من تنظيم السياسة  الخارجية المقبولة و المعقولة.

كان قادتنا مع الأسف لا يسمحون لغيرهم حتى بإظهار النصح والمشورة على  أن غيرهم من المواطنين لمّا يتدخل في السياسة إلا حفاظا على مستقبل منطقتنا  وصونا لأرواح شعوبنا الذين هم -الحكام- منهم، ولا يمكن بأي حال إنكار وطنيتهم  ودرايتهم وقدراتهم.

لذلك فإن المستقبل المظلم كان محط التنبؤ الغربي ومثار اهتمامه،  لكنّ الطريقة التي تم بها غزو الكويت لم تكن بالحسبان أبدا وإلا لكانت صورة  التأهب الغربي مختلفة عما رأيناه أو سمعنا عنه. ولعل ركون الغربيين إلى  المعلومات والتقييمات المقدّمة من الحكومات الخليجية، ورّطتهم في هذه الأزمة  الدولية الشديدة. وبه اشتد تخوف الدول الغربية من احتمالات الفوضى والحروب  داخل هذه البلدان.

هكذا يتطلع الغربيون اليوم إلى تمكن هؤلاء الحكام من صيانة أوطانهم  لضمان عدم تكرار الزلزال العراقي الأرعن ويستنكفون التخبط في المغمضات  الدجية حيث تسود الحوادث؛ إذ أن صــــدام و جــابــر كلاهما كانا يجهلان قدرة الآخر فيجهل الأول شدة ضعف الثاني ويتعتم على صاحبنا قسوة طرق الغازي وسرعة  وثباته، ولذلك حصل ما حصل لا لصالح العراق ولا الكويت ولا دول الخليج ولا  الغربيين بل جلب الضير لهم جميعا. وبما أن التوازن العام قد اهتز في  المنطقة اثر استعمال العراق لقدرته العسكرية المتفوقة فإن السياسة الغربية  قد اتجهت -على ما يبدو- لإيجاد توازن جدي في الخليج، وحيث أن تضعيف العراق  نسبيا يساعد على تحقيق التوازن، و بما أن إيران هي الدولة الوحيدة التي  ترعب العراقيين الذين أمضوا سنوات في الجبهة ينظرون إلى الحارس الثوري  الإيراني نظر المغشي عليه من الموت، فخلق في أذهانهم أهول تصوير للموت على  يد المحارب الفارسي الكرار المكبر لله تعالى في كل ضرباته و حملاته. ولذلك  فقد بدأ الغربيون يتحملون ندود الإيرانيين ليعيدوا الدور الإيراني في المنطقة  كدولة قوية تهتم بمصالح جاراتها وتتدخل في مسائلها العامة فتعود منافسا  قويا للعراق. وإني أعتقد بأن إعادة طهران إلى الشاشة الخليجية نسبية جدا  فالغربيون؛ لا أظن أنهم يرغبون في تحقيق الوئام الكامل بين السعودية و إيران، إذ أن ذلك يؤثر تأثيرا بليغا في تسعير البترول ولذلك فهم يفضلون  تقوية الصداقة الإيرانية مع صغيرات الخليج فقط.

هكذا يمكن عزل العراق عن الارتباط بالخليج، وهذا يكفي لرد شره، إذ  أنه سوف يجهل رويدا رويدا منافذ جاراته نتيجة لعدم تجدد المعلومات لديه كما  وإني لا أظن أبدا أن تكون أمريكا راغبة في توسيع الإطلال العراقي على المياه  المالحة فهو بالطريق البري قد غزا الكويت وسيتمكن بالبحر أن يستولي على كل  المناطق النفطية خلال أيام وسوف يكون للربط الأرضي الموجود بين البحرين  والسعودية أكبر خطر على السعودية ولذلك فإنه سوف يختلق قصة تاريخية أخرى  ليضم البحرين الصغيرة ويحقق أخطبوطيته على الثروة النفطية في المنطقة  الشرقية بالمملكة.

والعراق بتكوينه الاجتماعي الخاص محكوم بالديكتاتورية القادرة على أخذ القرار بلمح البصر، يليه نقل القوات بأسرع ما يمكن وسيكون الانتشار  البحري بالنسبة لهم أسهل من الانتشار البري، فقد رأينا كيف استفادت إيران من  الطرادات البحرية السريعة لنقل القوات وحتى القتال. هذه القوارب لم تعامل  معاملة الأسلحة ولم يشملها أي حظر عسكري وتحولت إلى آلة حرب في عدة أيام.  والعراق يطمع ببوبيان -أكبر جزيرة في شمال الخليج- التي تشرف على ثلاث حقول  كويتية للنفط واقعة في الأراضي المتاخمة للعراق و هي تعدّ أهم جزيرة  استراتيجية تهدد الكويت وإيران.

وبما أن العالم يتخوف من العراق وتحركاته وتحايلاته ومكايده، فعليه أن  يقلص من قوة العراق ومن استراتيجيته حتى يأمن شره وإلا فإن العراق مع وربة  وبوبيان والأراضي والحقول النفطية الإضافية، أسرع وثبة وأقوى تحاملا وأشبّ  ضراوة منه قبل هذه الإضافات. إذن كان من غير المنطقي وغير المعقول أن نوافق  على طلبات العراق هذه. إن كان بعض سياسيينا قد ألمحوا بالموافقة على هذه  التنازلات -كما كنا نسمعه داخل الأروقة السياسية- فلأنهم بسطاء وأحذيتهم  الواسعة لا تصلح للرقص على الصفّة السياسية. ولذلك فإن سياسة عدم مكافأة  المعتدي التي تبنتها أمريكا كانت متكافئة تماما مع الوضع السائد في الخليج  وكان واجبا السعي لملازمة هذه السياسة مع قضيتنا مهما بلغت التكاليف، إذ أننا  مع التنازلات للعراق كنا نحفر قبورنا بأيدينا.

ثم إن هذه التنازلات كانت تضر الأسرة الدولية برمتها بما فيها  الدولتان العظميان، فإن الأطماع سوف تتهيج لدى كثير من الدول الكبيرة  والمتوسطة لابتلاع الدول الصغيرة، والمثل يقول: "المال السايب يعلم الناس  الحرام" وسوف يبلى العالم في مقتبل القرن إلحادي والعشرين بتغييرات  جديدة  في خريطته وتصيب اليابسة فيضانات دموية شديدة. إن تكرار مصيبة الغزو ضد الدويلات الفقيرة تصحبها ملاحم مأساوية من أثر البؤس، لا يحتمل التصدي لها لعدم وجود الإمكانات الاقتصادية الكافية حتى لدى الدول الكبرى نفسها، ولا يمكن  السكوت، لأن تلك مقدمة تنذر بالفوضى بين الشعوب و تعيد البشرية إلى عصر  الحروب بدلا من الأمن و السلام. نحن اليوم دون تلك الكوارث مهددون بالسرقات  والإختطافات والتفجيرات وغير ذلك، فما بالنا آنذاك حيث أن الشقاء و الفقر  سيدبان بين الشعوب، وسوف تتحول فرق بشرية إلى أسود ونمور غاضبة جائعة  تستعمل العقل والذكاء الإنساني لقطع ضريبة الرخاء والأمان من الأمم المتقدمة  والغنية.

قال لي أكثر من واحد -وبعضهم من كبار المسؤولين السياسيين- أن  العراق سوف يعرض على أمريكا كلما كنتم تبيحون لها؛ فكنت أقول لهم بأن  أمريكا تحب مصالحها بالثمن المعقول والمخاطرة الحكيمة. لا يمكن لأمريكا أن  تخاطر بديمقراطيتها لتوفر خسائر الحرب مع العراق وتشتري النفط كما في  السابق بسعر السوق ولكن مع فارق كبير؛  هو أن دولة قوية سوف تكون مستولية  على احتياطي بترولي أكبر من ذي قبل وتتكلم في كارتل نفطي بقوة أكبر وبين  أعضاء نقصوا فسهل النقاش و تقوت إمكانية الاحتكار. على أن هذه الحكومة  الطامعة سوف لا تترك الغزو لكي تسود منظمة الأوبك وتشد من احتكار النفط فتجر  الويلات على الغرب والشرق.

القول بأن فلانا قد كسب أو استغل، مردود، ذلك لأن العراق قد خسر كل  ما بيده من إمكانات الحرب في إيران وخسر مليارات الدولارات من توقف ضخ النفط  العراقي وخسر النتاج المتوقع من فعاليات المدنيين المجندين. وكسب المنقولات  الكويتية التي نهبها، على أن غير النقد والذهب منها يفقده الفك والنقل  الكثير من قيمته وأمريكا تخسر شهريا في حدود ثلاثة مليارات دولارا ثمن ارتفاع  قيمة البترول والدول الغربية في حدود 12مليار دولارا في الشهر واليابان في  حدود ملياري دولارا كل شهر ومجموع هذه الخسائر النفطية هي في حدود سبعة عشر  مليار دولارا شهريا، أي ما يعادل حوالي مائتي مليار دولارا سنويا وقد خسر الأمريكيون نتاج جنود الاحتياط الذين دعوا للخدمة العسكرية وكذلك فإنهم  يصرفون على كل رعاياهم الذين استعادوهم من الكويت والعراق -وأكثرهم من كبار  المستشارين- وإذا كانوا قد باعوا كميات كبيرة من الأسلحة التقليدية على دول  الخليج -غير الكويت- فقد توقفت كل مبيعاتهم للكويت و العراق طوال أشهر الاحتلال وكذلك توقفت الكثير من المشاريع والمشتريات غير العسكرية في الخليج،  ثم إن الرئيس الأمريكي والإدارة الأمريكية العليا التي تكلف الدولة ثمنا  باهظا جدا كانت تصرف جل وقتها على القضية الكويتية.

ماذا تريد أمريكا والغرب من الكويت والخليج في إطار التعاون  الاقتصادي، غير أن تبيعها المجموعة الخليجية النفط وتشتري منها في المقابل  حاجياتها من البضائع والخدمات.السوق هو الذي يتحكم في أسعار معروضات  الفريقين. إذا كان الغربيون يجدّون في احتكار بضاعة أو خدمة بالسعي وراء  بسط المعرفة الصناعية فإننا نحن نحتكر البترول داخل منظمة الأوبك -وهي أكبر  كارتل احتكاري في العالم- دون أن نسعى وراء التكنولوجيا كما يفعلون. هذا  الاحتكار الرخيص يدرّ علينا مالا نستحقه من المال، هذا المال الذي يملأ جيوب  مسئولينا، ويمتّعنا الفائض منه بما يرفع مستوى المعيشة في خليجنا على  مستوى المعيشة في كثير من الدول الصناعية المتقدمة، ويطفر مسيرة حياتنا من  الخشونة البائسة التي عشناها قبل ثلاثة عقود، إلى النعومة الفائقة التي  عشناها قبل الاحتلال العراقي وسيعيشها بقية الأخوة والأخوات من أهل خليجنا إلى  اليوم المجهول! ولا يخفى على الجميع أن أمد الترف قصير.

لست مواليا لأمريكا أو لغيرها من الدول الصناعية الكبرى، لكنّي أمقت  التعصب وأسعى في النظر إلى المسائل كما هي لأتعرف على الحقائق. لذلك فأنا لا  أرصّ الشتائم ولا أتفنن في تنضيد السلبيات لأحارب دولة معادية، بل أحاول كشف  أعذار تلك الدولة أو ذلك الحزب أو الإنسان لأعالجها ولأزيل الحجب بيننا،  فالبشرية بحاجة إلى التكاتف والتعاون لقهر الطبيعة وجلب السعادة، لا للتنازع  مع أعضائها طلبا للبقاء، إذ لا أرى حاجة لأن يأكل الآدميون أنفسهم فالخالق  الكريم قد مكّننا من تسخير ما يكفينا من ثروة الكون بما يغنينا عن التعدي  على نظرائنا في الخلق، لذلك فإني لا ولن أدعو لقمع العراقيين، بل أدعو لقلع  أنيابهم الضارية التي باتت تفترس أهلي وخلاّني في الكويت واستطابت التروي  من دماء المهج الكويتية، مصرّين على شائن فعالهم غير عابئين بالمناشدات  الخيّرة؛ كأنّ ماء وجههم قد نضب، وجبينهم لم يتند خجلا أبدا بل يرون في  المنكرات والآثام جلبة خير وطلبة حق. وما وراء ذلك، فإني أعقل من ألاّ أدرك  أنني كخليجي لا بدّ لي من الحياة مع جارى العراقي ولا مناصّ من الدفاع عنهم  إذا أوذوا. كنت أتمنى أن صــداما بما أوتي من قوة بدنية وما انطوى عليه من  حنكة وتصميم وحكم يسند الأمة العربية والإسلامية ويجاهد عدوها ولا يخادعها أو  يفرق بينها ويضرب من أعانه منها. فيصبح كما قالت تلك المرأة العربية :"أسد  عليّ وفي الحروب نعامة".

أما عن الحرب فكنت اعتقد أنّ أمريكا سوف تضخم قرقعة الطبول وتصعّد جلبة المسالح أكثر من إقدامها على قدح الموريات وإشعال المدافع والدبابات لأنها وحلفائها يعرفون ضربات الحرب ويشعرون تبعاتها وويلاتها. صــدام وجيشه  قد لمسا الحرب ودمرتهما النائرات و صــدام يتذكر أنه ناشد الإيرانيين  المعتدى عليهم، إيقاف الحرب منذ الأيام الأولى لحملته الهمجية والعشوائية  واستمر يلتمس الخلاص ثمان عجاف مظلمات حتى نجى من الحرب بعد أن اتفق الغرب  والشرق في فرض الصلح على إيران. وقد لف صدام عجاجته على أهل الكويت بعد أن  مني العراق وهنا على وهن ونضت مصادره الاقتصادية في أعقاب الحرب التي فرضها على الجارة المسلمة إيران، لينقذ العراق من الورطة الاقتصادية؛ فكيف يخاطر بخوض حرب جديدة مع الأعظمين وكيف يتجاوز التحطم الاقتصادي غب هذه المواجهة المرعبة والمفزعة. إن العراق بلا حرب عاجز عن تلافي خسائره الفادحة  اثر التطويق الاقتصادي وسوف يفشل قطعا في مكافحة الفقر والإملاق وفي تجنب  المجاعة ودرء الأوبئة والأمراض التي تلازم الهزال المالي المرتقب. ولذلك فهو  قطعا لا يرغب في القتال، لكنه ليس بالقائد الخائف ولا السهل فطالما تلمس  لين التصريحات الصادرة من الحلفاء  متجاهلا الحرب. كان على المجموعة  المتحالفة أن تقول كلمة واحدة هي الحرب أو الانسحاب الكامل غير المشروط  وتوقّت للحرب، عندئذ أو عند بدء الدقائق الرجعية للحظة الإطلاق، كان يحتمل أن  يعلن صدام الانسحاب صاغرا.

وعلى أي حال فقد بذل الجميع ما في وسعهم لتجنب الحرب ولكن شاءت  الأقدار دون ذلك. وما كان  تمادي صدام في غيه إلا أملا في حادث يعيق الإرادة  الدولية حتى تقبل أشهر الحر، ورجاء في فسخ عزيمة الحلفاء و احتمالا لانفصام  الوحدة الخليجية التي تمد القضية الكبرى بالمال، إذ أنه يترقب مشكلة  اجتماعية عويصة عوراء إن أنهى اغتصابه لعروس الخليج وعليه فما كان يرى  أمامه سبيلا خلاف الجلد و تحمل ما يمكن من التهديدات والتنديدات والضرب  المبرح، ثم يبدأ مرحلة المساومة إذا تسنى له، يليها الانسحاب رويدا رويدا  تحسبا لردة فعل شعبه وهو الآن منهمك في إقناع شعبه بضرورة تحمل الجوع  والبؤس والقصف والدمار حتى يتمكنوا من إحباط المؤامرة الدولية أو الأمريكية  ضد العراق! ليس بغير هذا الأسلوب قادرا على إغفال الشعب العراقي المتخبط في  أمواج الظلام، هذا الشعب الذي يتخلص من سحابة دكناء لتظلل عليه سحابة أشد  دجنة فلا يملك طي المعاثر و لا دفع الأعاجيج فويحا لهم ثم ويحا.

وها قد انقلب اليوم على بصرة وبغداد، ودكتا دكة واحدة، وتعثر  القائد، وبطلت القادسية، وأجهضت أم المعارك، وقطع دابر القوم الذين ظلموا،  وتحررت الكويت، وفرضت إرادة الأسرة الدولية على أوهام الغافلين في العراق.

إن مجتمعنا المنطوي على أطيب قلب، سوف ينظر إلى ما يغتنمه  المتحالفون من فرص الخير، بعد أن  سفهوا أحلام ربّان الرافدين، وكأن ما حدث  كانت أسطورة سياسية نسجتها القوى الكبرى ونفذها عملاؤهم في العراق وبقية  الدول التي دخلت بدور في المسرحية. إن هذه المقولات شبيهة بما قالوه في  بداية الغزو من أن الأمريكيين أشاروا على ربيبهم صدام ليقوم بما قام به  تمهيدا لدخولهم في المنطقة وإنشاء قواعد عسكرية بدل القواعد المنتهية مهمتها  في أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة! إلى غير ذلك مما يتوهمه شعوبنا الصادقة  والتي لا تعلم عن السياسة إلا قليلا. لعل بعض أحاديث الليل هذه والتي انبثقت  من مواقد الليالي الطويلة في شتاء عام الحرب قد تحولت إلى أنباء رسمية  موثوقة نقلتها أفواه زعماء الخيال إلى مسامع ملوك الأحلام في العراق والأردن  واليمن والسودان وهم أصدروا القرارات الرئاسية الفاشلة بالاستناد إلى هذه الشتويات. هداهم الله فقد كلّفوا الأمة العربية نصبا طويلا.

أيها الاخوة والأخوات: لطالما واجهتم حسن الصدف وجميل الحظ وخير الله  ومعية الرحمن، أو سوء الحظ ونفثة الشيطان ومغبّة الظلم والعصيان في حياتكم  الفردية والاجتماعية يوميا. فهل أنتم تخططون لكل ما تهتمون به وتنتخبونه  لقادم السنوات؟ المؤثرات في الحياة الشخصية أقل بكثير منها في القرارات القطرية وهي أقل بكثير منها في القرارات القومية والإقليمية وهي فوق الحسبان  في التصميمات الدولية. ثم إن نسبة المخاطرة والتخبط في منطقنا -نحن  البسطاء- أكبر بكثير منها في المجتمعات الراقية. لقد خسر العراقيون مئات  الآلاف من القتلى في حربهم مع إيران ثم فجروا حربا أخرى ليخسروا عددا مشابها  في الخليج والغربيون جميعا حققوا هذا الانتصار العظيم على حساب مائة قتيل  وحسب. الحكومات الحريصة على حياة مواطنيها والساهرة على راحتهم وأمنهم  تتجنب الشغب والفوضى والمغامرات الكبيرة. والدول الكبرى ليس لهم ارتباط  مباشر أو غير مباشر مع الغيب وليس لهم عليكم سلطان، إذ لو كانوا لأسكتوكم  وقفلوا أفواهكم حتى يتسنى لهم عمل ما تنسبونه إليهم. انهم أناس منكم  ومثلكم، لكنهم يستفيدون من عقولهم ويستغلون حقائق الكون والحياة لصيانة  مصالحهم ولو شئتم لاستطعتم ذلك.

إن أسلافنا خلفوا لنا قاموسا غنيا من أدق  المعلومات لكشف غوامض الخلق، لقد قالوا: [إن الفرص تمر مر السحاب  فاغتنموا فرص الخير]وقد بدّدنا الفرص واغتنموها. قبّح الله الذين قالوا [نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين]. قد غرّتنا الأموال والأولاد دون أن  تغرّر بهم، فسادوا وعذّبنا بأيدينا. أمرنا النبي العظيم وأولياؤه بوحدة  الكلمة ومنعونا من التفرق والنيل من الآخرين والتعصب الأعمى والحرص على جمع  المال و الكذب فخالفنا هدي الإسلام وضعنا وضعفنا وعملوا كما أمر به سلفنا  الصالح فأخذوا مكانتهم وتقووا.

ليس في مقدور العلم أن يتجاوز ملايين الاحتمالات ويخطط لحرب رابحة  دون مخاطرة، والعاقل الحصيف المتنعم بجمال الخليقة وطيبات النعيم لا يركب  الأهوال التي تخفى عواقبها. الفرص في المسرح الدولي كثيرة وكبيرة وهم  يهنئون من سائغها ومحمودها ولا يخططون للتنعم على حساب أرواح الآخرين. إن في  منطقتنا ألف صدام وصدام يخفقون في الهمم ويأتون بما يفتح على الغربيين  العقلاء أبواب الخير وفينا ألف جاهل وجاهل يخطئون في الحسابات فيفتحون  الطريق للشركات الدولية لتتنعم بما أصبنا به. إن ما نسمعه من بني جلدتنا حول  المؤامرات والمكيدات الأمريكية والأوروبية تكاد تكون خاطئة؛ إلا أنها تكبّرهم  أكثر من حقهم في عيوننا وتملأ إعلامهم بالنكت المضحكة ومثارات السخرية  والطرب. ألا ليت أحبابي يفكرون لتنظيم أمرهم وتحسين مستقبلهم وإعلاء كلمتهم،  وليت زعماءنا يتفقهون أن (القاتل يقتل ولو بعد حين) و(إن الناس بالناس  ومن يعن يعن) و]إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور[.

إذا أقدم صدام وأصدقاؤه على ما يوهن الدروع العربية فإن العالم  تستغل هذه الفرصة لفرض الصلح علينا في القضية الفلسطينية. وقد فوت العرب  فرصا كبيرة للسلام والفلسطينيون -ضحايا الأخطاء والمؤامرات والنوايا  الاستغلالية- يحترقون ويموتون تحت وطأة المدمرات والأمراض وقسوة الطبيعة.  انهم تاهوا بين استرجاع فلسطين والاعتراف بالدولة الغاصبة. وأنا أفضل قبول  الأمر الواقع لينقذ الفلسطينيون مما هم فيه اليوم من بؤس وشقاء، لعل الله  يحدث بعد ذلك أمرا. انه تعالى وعد المسلمين في الكتاب المنزل ]وليدخلوا  المسجد كما دخلوه أول مرة[، لكني لا أرى في الأفق ما ينبئ بقرب ذلك الموعد  ولا أرى في المسلمين ولا في العرب اليوم ذلك التكاتف اللازم لاسترجاع فلسطين  بالقوة، ولا معنى لأن يتعامل المدججون بالسلاح والمحاطون بأقوى الحارسين بهذه  القضية على حساب المظلومين المغفلين. لم يقل الله في كتابه بأنه سينصرنا  إذا واجهنا القنابل العنقودية بالسكاكين، بل قال تعالى [وأعدوا لهم  ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم[. ما دمنا نفقد  التكافؤ العسكري معهم فلا معنى لرفض مبادرات السلام الدولية. إذا خذل العرب  في السيطرة على أهوائهم وفي رفع الظلم من بينهم كما تجلّى ذلك في المصيبة  الكويتية حيث أباد الجيش العراقي -إرضاء لشهوة صدام- نفط العرب بصورة يهلك  معها الحرث والنسل، بعد أن قتل الآلاف من الكويتيين والعرب لأنهم رفضوا قبول  الغدر والغزو، فأنّى لهذه الأمة أن تلتمس طرد إسرائيل من فلسطين!

إن القوة العسكرية والسياسية هي القادرة على سحب الإبداعات الكبرى  في الأرض ليصرف على القضايا التي يتبناها أصحابها. التفوق التقني في وسائل  الحرب والسياسي في استقطاب الشرعية الدولية مكنتا الغرب من الانتفاع بمدخرات  الخليجيين واليابانيين والألمانيين وغيرهم للإنفاق على حرب الخليج. هذا ما  يدل على أن الحسابات المتضخمة لا تفيد أصحابها السفهاء، بل تحفظ -في خزائن  آمنة- لصالح ذوي الألباب القادرين على التحكم في الأرض. لذلك فلا معنى للتطلع  إلى الإمكانات المالية العربية لحل قضاياها، مادام الفكر العربي غير ناضج  وغير مواز للتقدم الحضاري فليقبل الوصاية على أمواله. إننا نفقد التقنية  المتفوقة ونجهل الحسبة السياسية ولا نسعى لكسب ما نفقده بل ننفق إمكاناتنا  في تبادلها بالمتع العاجلة التي يقبح ذكرها ويشين التفوه بها. وهكذا يكتب  علينا الهوان والخذلان.

أيها العرب المسلمون: إن من الحكمة أن ندفع الشرّ بالخير لا بشر  مثله، ]ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه  عداوة كأنه ولي حميم[. لماذا السباب ولماذا قول "لا". عيب على المسلمين أن  يتركوا منطق التفاهم الذي أمروا به في حين أن العالم قد هجر الاستعمار وترك  قول الزور واتخذ المنطق وسيلة للتفاهم وقد جنى الثمار الخيرة لهذه السياسة  الحكيمة. فابنوا دعواكم على المطالبة بالمعقول الممكن ولتكن مطالبتكم  بالتفاوض الهادئ والمنطقي واقبلوا بما ترتضيه لكم الأسرة الدولية مهما كان  قليلا، لتكسبوا ثقتهم وتجرّوا الأنظار إلى قضيتكم. هكذا كسب ويكسب اليهود.  فانتزعوا منهم زمام المبادرة واعلموا بأنكم خسرتم إلى اليوم وعشتم في عالم  الخيال والوهم كما حصل لزعماء العراق أخيرا؛ وما كان تأييد البعض لهم إلا  دليلا على تعاملهم مع قضاياهم المصيرية بمنطق الاستحسان والهواجس، فتتمسكون  بما يلوح لكم من وميض الخواطر وما يمثله في أذهانكم التمنيات والاحتمالات.  لقد مضى تأففكم على ألف "لو" إلى اليوم دون أن تغيروا منطقكم لتواكب منطق  العصر، ذلك لأنكم لا تنظرون ببصيرتكم إلى العواقب فيصيبكم ما قاله الشاعر  العربي:

ألام بـ"لوّ" ولو كنــــت عالما    بأذناب "لوّ" لم تفتني أوائلـه

ثم إنكم تعيشون الأحلام والشعائر الحماسية فلا يبدي مثقفوكم أفكارهم  الحقيقية لكم خوفا من السخرية أو الرفض المخزي أو اللوم أو الطرد.