الحكم

تعريف:

لا شك بأن الحاكم هو الذي يملك الأمر المطاع وقدرته بقدرة المحكومين  الذين يوالونه وينصاعون له. وهو الذي إن كرم أذاع الخير وأمر بالحق والعدل  وان لؤم استعمل الأمر لإرضاء أنانيته وغروره فأساء التمتع بالأمر والحكم. ] لا بد للناس من أمير بر أو فاجر [، فلا معنى للحكم الجماعي إذ ليس للجماعة أن تبت في الأمر بالسرعة اللازمة لإصدار التعليمات بالكثرة والسعة المطلوبة، فقد يطول البحث بين المقتنعين والمعترضين فتتراكم المسائل و ينتفي الموضوع تلو الموضوع؛ ثم تبلى الجهاز الحكومي ومن بعدها الوطن بالضعف والهوان.

يستقر الحاكم -كما نوهت عنه- بين استغلال للسلطة وإشباع للشهوة،  وبين خضوع لرغبة الأمة وشعور بحاجتهم وحرص على مصالحهم ومصالح وطنهم،  فالحاكم؛ يصعب اختياره لأننا نجهل ما يضمره وتشتد صعوبة إقالته عن الحكم لأنه  حرصا على البقاء في السلطة لا يعطي الفرصة حتى لانتقاده فكيف بإبعاده عن  منصبه.

ولكي نجمع بين قوة الحاكم وإمكان إزاحته إذا بان منه ضعف أو خبث أو  استئثار؛ يلزمنا الكفّ عن منح الثقة المطلقة للحاكم مهما كان طيبا ومثاليا  وعلينا -أيضا- عدم التّخلي عن سيطرتنا على رأينا الذي يسند الحاكمين ويقوى  ملكوتهم. واستراتيجية بلوغ هذه الأمنية تكمن في إحياء المجتمع الديمقراطي  السائر في درب التكامل، وان شئت ادعه: "المجتمع التكاملي". يجب أن يستمر  المجتمع  في إحياء النشاط التصحيحي دون توقف أو ركود، حتى لا يسمح لسرطان  الحكومة المطلقة أن تنشط فتقضي على كل ما اقتطفته الأمة من ثمار الكفاح  والجد.  لنعلم بأن غدة الديكتاتورية متضخمة ومتورمة في نفوس طالبي النفوذ مهما طابوا وطهروا إلا إذا اتسموا بالعصمة الإلهية، كالأنبياء الذين نفتقدهم  نحن اليوم. وان كان هناك بين الخلق من ينطوي على ذلك الصفاء والخلوص والوجدان الفعال الذي يمنع صاحبه من الاستئثار فإن اهتداء المجتمع إليه أشبه بالمحال والناس يختارون الولاة حسب علمهم وتفهمهم.

أرجو ألاّ يخفى علينا  سذاجة السّواد الأعظم و قلة علمهم بالأمور، مما يصعب معها التوصل إلى  المثاليين الذين عادة ما يبتعدون عن الحكم خوفا من الحوبة والإثم. ما أكثر  الضجيج والادعاء وملاحة الظاهر التي تغوي و تغري العامّة، وأقل الحق والعدل  وصدق السريرة التي يخفيها أصحابها خجلا وخوفا من سوء العاقبة، وهم يقرءون  كتاب الهدى إذ يقول ]تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض  ولا فسادا والعاقبة للمتقين[. فالمتقون ليسوا طلبة للجاه ولا شيّقا للسلطان.

حصفاء طالبي الجاه يراءون درء الحكم وهم أشوق ما يكونون إليه،  والعاقل الحكيم يقرأ ذلك على ملامحهم وأعمالهم وسيرتهم المليئة بالقبائح  الخفية التي يستعصي كشفها وإظهارها للشعوب. لذلك، فالأفضل أن نقلص من  صلاحيات الحاكم ونربطه بالبرلمان القوي الفعال وبالقضاء العلني المفتوح  والمستدل وبالصحافة الحرة النزيهة وبالجلسات الشعبية المتاحة للجميع  وبالمراقبة الدائبة والدائمة من الكل وعلى الكل وفي الكل. هكذا نشكّل  المجتمع التكاملي الذي لا يفتأ يشارك حكامه في إدارة البلاد ويحد من نزواتهم  ونزعاتهم ويقلل من المظالم والمفاسد ويحتوي الأخطار والأطماع الخارجية ويؤمّن  السلامة والأمان والاطمئنان لكل الأفراد في جميع الطبقات.

 

صفات الحاكم:

الذين يقبلون الحكم أو يسعون وراءه يندمجون عادة على مستوى من  الدهاء والعقل لإخفاء نواياهم التوسعية و طمس قبائحهم الفظيعة. ظاهرهم  المليح يوحي إلى من دونهم سعة من العلم والحلم، تخولهم لاستغلال السواعد  القوية لحمايتهم ودرء الخوف والخطر عنهم. ثم إن جاذبية الحكم تطلي على  حقيقتهم صبغة الحق والتأهل والتبصر فلا يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد فشل ذريع  يمنّون به أو ظلم صارخ يأتون به بسعة و كثرة. هناك صفات نذكرها قلّما يتمكن  المرء أن يختبئ وراءها أو يوحي بها دون أن يكون له منها نصيب أو يتنصل  منها وهو مبتلى بها أو يتراءى بمحاسن لا نصيب له منها وهي :-

 

1-        صدق اللسان:

ونقصد به تطابق اللسان مع الجنان أو الإفصاح عمّا هو كامن في القلب  بغض النظر عما هو لصالحه أو ضد مصالحه. ولا أقصد به ما يضادّ الكذب، الذي  هو تغيير أو تزييف الحقيقة أمام السامع؛ فهو لا يكفي للتعرف على سلامة الشخص  وصفاء قلبه، إذ يتوارى الإنسان عن الكثير من الحقائق متبعا المثل المعروف  >ما كل ما يعلم يقال<، فيخلّف ببعض الحقائق التي يذكرها، صورة مزورة لدى  السامع لا تمت إلى الواقع بصلة. فالصادق في منطقنا هو المصارح الذي لا يخفي  أكواما من المكتّمات في ذهنه، فذلك ينبئ عن طهارة السريرة وصفاء الباطن.

الصادق بهذا التفسير، لا يعني خلو المرء عن الأسرار، فقد ورد في  الحديث الشريف *]استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان[، فأسرار الحرب -مثلا-  لا تشاع؛ ولكن لا يتوارى المرء كثيرا فيغرى السامع بالجهل. والخلاصة أن الصادق  يتحلى ويعرف بالصدق بين أهله وقومه وهو المطلوب.

 

2-        حفظ الأمانة:

كل ما أودع لدى الأمين بهدف الرعاية والحفظ، وجب صونه والدفاع عنه  بجدية كما يجدّ المرء لحفظ نفسه وأهله وماله وأسراره. وقبول الأمانة يستلزم  تمكّن المؤتمن من تجنّب الضّياع والتلف، وانطوائه على أحسن أساليب الصون  وخير سبل التدبير والمراقبة. فتعهد من جف ثديها بالرضاعة خيانة واحتيال ومن  جهل المحاسبة بثبت الحسابات غدر وتغرير ومن يعزب عنه أسرار السيارة  بصيانتها وتصليحها خداع وتحايل.

صدق الحديث وحفظ الأمانة كما وضحت صفتان تلازمان الحاكم المثاليّ وقد  عرف بهما سيد الأنبياء أيام الجاهلية قبل تشعشع سنا نبوته. فالصادق الأمين  يعرف بين أهله قبل أن يتسنم الذروة وقبل أن يظهر أمام الشاشة الاجتماعية  ويسطع نجمه. أما الذي كسب شأنا اجتماعيا ثم طمع في اعتلاء المناصب العليا  فهو يتظاهر قطعا بأجمل مظاهر الأخلاق ويتشكل بالصورة المحببة لنفوس الأمة.  آنذاك لا سيما في مجتمعاتنا المتسمة بالسذاجة والمستعدة للانخداع يصعب كشف  حقيقته بدون الدقة المتناهية والإمعان في أقواله وأفعاله.

 

3-        الشجاعة وعزة النفس والكرم:

أو ما يضادّ الجبن والحرص والبخل. هذه الصفات يجب انطباع الحاكم  عليها ومن السهل كشفها والاطلاع عليها لمعرفة قابلية ولياقة المرشّح للمناصب  العليا. فالبخيل أو الحريص أو الجبان هو سيئ الظن بالله وقليل الإيمان به  تعالى.

 

4-        سعة الصدر والقدرة على الاستماع:

فهو أحيانا دليل على غزارة العلم وعدم الاكتراث بالظهور. كان سيد  الأنبياء شديد التمالك واسع الصدر حتى قيل له أذن ]يقولون هو أذن قل أذن خير  لكم[. وقيل أيضا: >آلة الرياسة سعة الصدر<.

 

5-        القدرة العلمية:

هذه الخاصية أصل لا مفر منه، فالجاهل أو قليل العلم يتعذر عليه حمل  الأمانة؛ ولكل عمل أو مهنة أهلها. فلا تقنعوا بنى جلدتي بالادعاء، وإياكم أن  تصبحوا سلّما يعتليه الجهال ليبلغوا القمة، فيرضوا بها شهواتهم غير مكترثين  بكم وبآلامكم. انهم يضرون أنفسهم ويضرونكم ويسيئون استعمال القدرة السياسية.  فلو كان طالب الرياسة متصفا بجميع الخصال لكنه لا يجيد الإدارة ويجهل المهنة  فلا حق له فيها وقد قيل في المثل الكويتي >عط الخباز خبزك لو باك نصه<.

 

6-        حسن التدبير:

وهذه صفة تكاد تكون طبيعية وذاتية. لكن العلم والخبرة وسعة الاطلاع  تقوي القدرة على التدبير ولا توجده. إن أهم آثار حسن تدبير الحاكم هو تحقق  الصحة والأمان في البلاد، فإذا ساءت الأحوال وجاء الخوف تبين عدم جدارة الحاكم  ووهن تدبيره. المدراء والتجار الموفّقون يسهل عليهم تمييز التدبير الصحيح  والقوي من التقرير الخاطئ والضعيف وبه يمكنهم معرفة المدبّر القدير،  فاسترشدوا بهم.

 

7-        حب الأخذ بالثأر:

ويبديه المتصفون به عادة لجذب العامة وكسب آرائهم -مع الأسف- لكنّ  هذه الصفة ممقوتة جدا وغير مطلوبة لأصحاب السلطة. انه من مظاهر ضعف النفس  ومن علامات الحقد والضغينة، وقد نعت النبي بعدم اندماجه على العداء والحقد  حتى بالنسبة لمن ظلموه، فهو الذي جاء ليهدي ولينذر ويبشر؛ لا لينتقم ويأخذ  بالثأر.

 

8-        الهيبة:

والوقار الزائد الذي يكبّر الشخص عدة مرات أكثر من حجمه، وهي من  الصفات المضلّلة التي لا تعود على صاحبها ولا على قومه إلا بالخذلان والخسران  #]قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان[. ويوازيه الاختفاء داخل الملابس  الخاصة وتحت العمائم والعقل والتيجان. يقال أن سيدنا المصطفى كان يجلس في  الحلقات الدائرية فلا يمتاز عن بقية الجالسين بالملبس والمجلس. وقد شاعت  اليوم هوية الأزياء أكثر من أي يوم مضى، فرجال العلم ورجال العمل ورجال  السياسة وطالبو اللهو والهواة حتى الفنانون؛ كل هؤلاء يعرفون بأزيائهم. يلي  الزيّ ما يحيط المرء بنفسه من الحجب والأستار والحرس والتشريفات وغير ذلك  من معالم الدعاية وعلائم الأبّهة والعظمة الزائفة، إضافة إلى الألقاب والأوصاف  الكاذبة.

في مثل هذه الأجواء العاتمة والمليئة بالكذب والرياء والقبح المطلّى  يتم اختيار أسنمة الأمة وزعمائها. يتبع كل هذا حب الإطراء والتحسين؛ ومن خير  ما كتب في هذا الصدد: #]إياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب  الإطراء فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين...  والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على ألا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله  فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة[. وخير القول: [لا تحسبن الذين  يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من  العذاب ولهم عذاب أليم].