النشأة الخاطئة للتدين و الوطنية

يتعذر علينا -نحن- أن نطول سقف الحقائق المحضة لأن الحاجة والعوز  لا تفارقنا، وفقرنا الطبيعي يتحكم في تعرفنا على الحقائق ويصيغها في قالب  النسبية. هذا ما يضطرنا إلى التمسك بالدين حتى يلين الخباء المغطي  للواقعيات الخالصة ونقوى على إزاحتها والنظر إلى ما تحتها بالتعمق الممكن.  اختيار الدين أو المذهب تابع قطعي لحاجتنا وفقرنا ولا يصح لنا الاتكال على  الغير -بشرا أو شريعة- في كشف هذا الأصل.

لذلك:-

علينا أن نحجم عن أهوائنا ونشد على أنفسنا -ولو لوقت قصير- مادّين  الطرف هنا وهناك، متجاهلين الآباء و الأهلين وهيمنة الأقربين ومتطلعين إلى  الدين الصحيح والمذهب الحق كائنا ما كان؛ دون احتساب متبعيه،  فدين الديان لا  يقاس بالمتدينين. الإسلام العظيم حمل على أكتاف العبيد وبقية الذين استضعفوا  في الأرض فجعلهم ربهم أئمة وجعلهم الوارثين. موسى بن عمران قاد الذين استحل  دماؤهم واستبيح حريمهم لشن الهجوم على فرعون منهيا بذلك شنشنة التربب لدى  العواهل وكبّار الملوك.

العاقل المدرك هو الذي يظن الخطأ في معتقداته كي يتوخّى الصحيح  باستمرار. المتعصب ولو كان ناسكا فهو عبد أهوائه، لم يسلم أمره إلى الله  إلا  باللسان. انه يحترز من الإصغاء إلى غيره لأنه لا يحتمل التخلي عن عقائده. مثله  يتشبث بالخرافات والمنامات وادعاءات أكثر أصحاب العمائم واللحى دون أن يعدّ  نفسه للتظنن في ما يقوله أحدهم  فلعله خاطئ، أو لعله كاذب متظاهر بالإحسان.  لو كان مثل هذا الرجل مصيبا في عقيدته فهو مخطئ في نهج اختياره لهذا التمسك.  لعل الله أن يعفو عنه لكنه لا يستحق الغفران أو غير جدير به، وإلا فما الفرق  بين الذي يستعدّ لنصرة الله ولو بمخالفة أهله، وبين من لا يريد الخروج عما  وجد عليه آباءه وأقاربه وان كانوا أتباع الباطل وعبدة الشهوات. يلزم اختيار  المذهب الصحيح بين المذاهب والأديان المعروضة حتى نسلك الطريق الصحيح قبل أن  نعتقد بالحقائق الكونية وقبل أن نرسم أهدافنا ومناهجنا على هداها.

ولنعلم أن التمسك بمعتقدات الآباء والأجداد لا ينطوي على الحجة البالغة  بل هو اتكال وهن على الغير ودليل بيّن على الهزال الفكري وسوء التدبير  والتصرف الساذج. فإذا دققنا النظر في غالبية عاداتنا وتقاليدنا الموروثة،  رأيناها نسيجا باليا حاكتها أيادي تجار الدين والوطنية وموّلتها ذخائر  الجبابرة والطغاة المتسلطين على رقاب الناس والقابضين على حناجر الأمم في  مدرّج التاريخ الطويل والواسع. كل هذه المواريث الخلقة موضوعة تحت القبعات  العاطفية والوطنية والإلهية وغير ذلك من ظواهر التقدس المقبولة عقلا ونقلا.  وقد غمرتها هذه الظواهر القدسية بهالة من النور والكبرياء، لا يبيح لإنسان  مهما بلغ ما بلغ من القدرة العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية  والمالية، أن يسأل عن مصدرها أو يتحقق من أصلها أو يفكّ خيوط الربط من  حولها. بل لا يجوز إلا الإذعان بصحتها والركوع حينما يقرع اسمها أمواج السمع أو  يظهر رسمها على صفحة المقروءات والمنظورات، كتابا أو جريدة أو تلفازا أو شاشة  عرض.

هذا هو طريق الهلاك الذي أبلانا به شيطان الخمول وإبليس التعصب  الأعمى، ولكي ننجو ونتخلص، أدعوكم للتحقيق في كل ما تعتقدون به قبل أن  تؤمنوا به، والنظر في كل ما يعرض عليكم قبل أن تعتقدوا به. ألا يحق لنا أن  نعرف سر اقتران بعض الأفراد الذين هم منا ومثلنا، بالحصانة الذاتية التي  لا يمكن أن يسأل أو يخالف؟ ما هو معنى ربط الولاء للوطن الذي ورثناه من الأجداد  وأعددناه للأحفاد، بالولاء لرؤساء الدول الذين هم معرّضون للموت والفناء  واستلام السلطة من السلف وتسليمها للخلف شاءوا أم أبوا؟  أما في الكويت فإن  الولاء التام للأمير تؤكد الوطنية أحيانا (فالبدون يوالونه دون التمتع  بالوطنية). أما تقديم الاعتراض حتى نصحا لسموه يعني سلب الوطنية أو سلب حق  السفر، تبعا لنوع المعارضة وكيفية تقديمه. حتى في عاداتنا الدينية نتمثل  بالخرافات التي وضعتها لمسات أصحاب المتاجر دون أن يحق لنا البحث والتمحيص  عنها.

فديننا ووطنيتنا -مع الأسف- لا تنبعان من معين سائغ ولا تتصلان بجذور عميقة من الحقائق؛ تلك الجذور التي -إن وجدت- تفيض برشحات مقدسة في  أذهاننا وخواطرنا لنؤمن بها وندافع عنها ونحرص عليها كما يجب. فالدين هو  حياتنا الأبدية وعيشنا السرمديّ، والوطنية هي رمز استقرارنا ومنبت أظفارنا  وأطفالنا وحاوية شرفنا وعرضنا وكياننا، نموت دونهما لنكسب رضا الخالق  العزيز، ونحيا بسلام ماداما في سلامة.

حقا، إن الدين والوطنية لا يحرزان بلا فلسفة. والفلسفة تطارد التعصب  والحقد والأنانية وكل مظاهر الجهل والفساد. فاتقوا الله لضمان رضاه ولكسب  التدين واعرفوا وطنكم لتحبوه وتدافعوا عنه بلا اتكال على الغير ولو كان  الغير منكم! المؤمن الوطني لا يسكت على الظلم ولو كان في مأمن منه، فإذا ظلم  مواطن تحرك المواطنون المؤمنون برمتهم للدفاع عنه. إن كنا مؤمنين ووطنيين،  ما قامت الحكومة تكسر خياشيمنا بعد فصم فقرات الوحدة والتكاتف بيننا وتهشيم  أساطين العدل والمساواة من تحت الخيمة الكويتية. لقد عاش شعبنا الكريم بكل  فصائله وقبائله مأساته المؤلمة متكاتفين متألبين على البغاة -وهم رحماء  بينهم وإخوان متحابون- فما أن عاد الهاربون، أعادوا معهم سياسة التفرقة  ليلصقوها بالأمة بغراء الدينار وقد نجحوا مع الأسف في ذلك. انهم يتلقفون  أناسا منا بعد أن حرموهم من الجنسية ليرموا بهم في أحضان صدام ونحن ساكتون.  وقد سبق أن حرم هذه الفئة المظلومة من الأموال الكويتية وانفردنا بها دون أن  نشعر بالإثم. أموال الكويت لم يهبها الله إيانا دونهم وما أخذناه من حقهم  أشد من السرقة أحيانا فالسارق طالما استولى على فضل أموال الأثرياء، لكننا  نأكل أموال اليتامى والمساكين والأطفال والنساء الجوعى من بني آبائنا. ولما  سبق أن دعينا إلى الإدلاء بأصواتنا للدفاع عن وحدة الوطن وعن أموالنا وشرفنا،  وحرم من ذلك "البدون" وذووا الجنسية الثانية، تقبلناها راضين لا نشعر بأية  كراهية، وكأن من حقنا أن نقرر مصير الآخرين؟! كان لزاما علينا أن نوزع  ما استلمناه من الحكومة بيننا وبين من حرموا منه وكان علينا حتما أن نؤكد  لنوابنا في البرلمان بأنهم ليسوا نوابا عنا فحسب بل هم يمثلون المحرومين  والمحرومات من المشاركة في الانتخابات حتى يعقدوا العزم للدفاع عن جميعهم  بجدية تعيد الحق إلى نصابه، لكننا استنكفنا عن ذلك مقصّرين فالويل لنا! وان  غدا لناظره قريب.

هذا وان لم نصلح أنفسنا فإننا خرافيون دينا ووطنية وولاء وكل شيء.  أمرنا فرط ووجهتنا تيه وضلال ومصيرنا متبّر وهالك.