الصحافة في الكويت

كانت الصحافة الكويتية في الخمسينات تمثل رأي الحكومة وآراء بعض  التجمعات السياسية، تتخللها أحيانا نشرات وصحف تهتم بالإرادة الشعبية وتدافع  عنها. لكن الهيمنة الحكومية وقلة إدراك أمتنا لأهمية الصحافة كانت تحول دون  استمرار الصحافة في ممارسة حريتها وخدمتها للشعب والوطن. رأينا الكثير من  القرارات المضادة للإعلام الحر والنزيه تعقب -مع الأسف- هتافات مؤيدة للنظام  الحاكم خاصة قبل تمكن الأمير الديمقراطي الراحل من إظهار إرادته في صناعة  الشورى وإقامة البرلمان. وقبل دعوة النواب لصياغة الدستور توقدت المجابهة  السياسية بين التقدميين والحكومة فاختفى معها الإعلام الشعبي وكانت المسألة لا  تتعدى سوء التفاهم في الواقع إذ أن الأمير الراحل كان يؤمن بالديمقراطية وهو  الذي أرسى قواعدها حقا. وأنا لست بصدد البحث حوله. وعند بزوغ الحياة  البرلمانية ظهرت صحف جديدة يملكها الأفراد أو التجمعات المالية والسياسية  وانتشرت بجوارها المجلات السياسية والاجتماعية والعلمية وغير ذلك. وكانت  الصحف تحكمها الدولة في الدرجة الأولى ثم تمثل آراء أصحابها.  في مختلف  الأدوار النيابية، اختلفت درجات الحرية في الصحف، ولم تكن للبرلمان أية يد  في سياسة الجريدة وفي حمايتها إلا أن الحكومة كانت -رعاية للبرلمان- تساير  الجرائد نوعا ما.

فلما حلّ البرلمان برغبة من الأمير الحالي -على ما اشتهر- وبمرسوم  من الأمير صباح السالم رحمه الله؛ رفعت الكلفة بين الحكومة المستبدة وبين  الشعب. آنذاك، شاهدنا نماذج فظيعة من الديكتاتورية الفردية مثل إغلاق  الجريدة لمدد مؤقتة بأمر مجلس الوزراء لأنها تجاوزت الإرادة السامية أنملة  واحدة، أو فرض الرقابة المسبقة على الجريدة ووو.. حتى عدلت الجرائد  سياستها لتواكب الرغبة العلية تماما. وهكذا أصبحت الجرائد مصابيح ملونة  تستسقى الطاقة من تيار موحد موصل بمولّد قصر السيف، فتنتشر الأخبار السياسية  والتحليلات الموجّهة لخلق الحقائق المزعومة بعبارات مختلفة وألوان متباينة.

هذه الحركة الصحفية المنسّقة أدّت إلى تقدّم الكويتيات ببذل زينتهن  لتقوية القدرة القتالية لدى صدام حسين، والى غفلة الشعب عن الخطة الجهنمية  التي وضعتها بعض الأيادي العربية لغزو الكويت وهذا الشعب غارق في سباته  المعتاد ويحاول مد إجازة الصيف وشراء بطاقات السفر إلى الخارج واستئجار  الشقق في القاهرة ولندن؛ والحشد العراقي هو اختلاف بين الأشقاء، والحكومة  تحاول عدم استفزاز الأخوة العراقيين! حتى هرب السياسيون ومسح المواطنون  عيونهم ليشاهدوا الأشقاء العراقيين (أشقاء للاخوة، أشقياء للفتنه) وقد دخلوا  وطنهم الثاني الكويت لينجوا أهلها من حكم أبناء الكويت ويسلموها إلى الثوار  المزعومين الذين لعبوا الشوط الأول من المسرحية التي انتهت بإعادة نقطة  التاريخ إلى التاريخ!! هذه الصحافة المضغوطة ذابت بين القيود والأغلال فلم  تلعب أي دور إعلامي حتى قضت نحبها دون أن تكتب حرفا واحدا عن الحركة  العسكرية والإعلامية العراقية قبل الاحتلال وحينه.

وكانت الصحافة تغتنم فرص الخير في المناسبات الخاصة والعامة  لتضاعف صفحاتها عدة مرات لنشر التهاني والتعازي تحت صور (أصحاب السمو).  طالما سهر المحررون والرسامون والخطاطون والطباعون طوال ساعات نومنا  ليتفننوا في إمالة الصور الأميرية وتأطيرها وفي خلق التعابير الساحرة التي  تعبر عن شدة تألم مدير الشركة المعلنة وموظفيها وعمالها الذين قدموا  للارتزاق من الغرب والشرق والشمال والجنوب، لفقدان جدة زوجة أخ الوزير  الكويتي "تلك المرأة المأسوفة على شبابها" والتي كانت من المفروض ألا تموت  في هذا الظرف العصيب من تاريخ الأمة العربية بل تعيش إلى الأبد حتى تنشر لها  الجريدة تهاني عيد ميلادها سنويا وفضيا وذهبيا وماسيا وزمرديا ولؤلؤيا حتى  انتهاء كل اليوبيلات وتولّد اليوبيلات الجديدة. هذه صحافتنا التي نأسف لها ولا  ضير.

أما الأخبار فإنها تمر على مصافي شتى حتى يتم زفافها إلى المجتمع  بالطريقة والشكل ولون الملابس ونوع الضفيرة والماكياج والعطر المميز، وسوف  يظهر الخبر كما تريده وتستفيد منه السلطة لا كما هو على حقيقته. هذا ما  يسيء إلى الحاكم والمحكوم. فالأول يحرم من حكمة الآخر والتالي يعيش متخبطا  في الدياجير حتى تفاجئه الحوادث والمكائد دون أن يتأهب لها.

الصحافة في الكويت لمّا تتطرق بعمق إلى المسائل والمشاكل الاجتماعية  إلا في حدود الخطط المستقبلية للدولة فحينما تشاء الدولة أن تنشئ شارعا،  سبقتها الصحافة بالتذمر والشكوى والاعتراض والاقتراح. وحينما تشعر السلطة  بضرورة القيام بخدمة عربية أو إسلامية، تسمح للصحافة أن تتحدث عن الواجبات  القومية والدينية وهكذا.. فإن الوصف والخبر والنقد والمعارضة والصفحة الحرة  والمحاكمة العلنية والمنبر الوطني ومشاكل ذوي الدخل المحدود وحتى حوادث  الشارع والسرقات والإختطافات وكل خبر أو تعليق أو تحليل أو تحقيق سياسي  واقتصادي واجتماعي أو حفلة أو ندبة لا بد وأن تمر تحت نظارات السلطة؛  تستخلص وتطور وتكبر أو تصغر أو تمحى ثم يلقى النتاج على القائمين بإصدار  القطعة الصحفية.

الصحافة الكويتية بمختلف صورها وأشكالها اليومية والأسبوعية  والشهرية والخبرية والعلمية والاجتماعية كانت جهاز التنفيس لتحرير الرئات  من صعدائها، ووسيلة مضللة لخلق الترويح والترفيه الصناعي للشعب المظلوم  ومطيبة لخواطر الكتاب والفنانين والأدباء ليكتبوا فيها ما يمكن كتابته  ويرسموا ما يجوز ترسيمه ويصوروا ما لا يضر تصويره فتضيع أوقاتهم وتخمد أجيج  قلوبهم، لكن السلطة تظل ماسكة للعنان بكل شدة وحزم إبقاء للملك والحكم في  يد فرد وحاشيته. الأمة ومصالحها نبتة في معرض المناخ تورق تارة وتصفرّ أخرى  وتسقط أوراقها حينما شاء "المنـــــاخ ".

هذه السّيرة المؤسفة جرّت مجتمعنا للالتجاء إلى الصحافة الأجنبية،  التماسا لصحيح الأخبار وواقع الأمور. وهذه الصحافة الأجنبية أيضا لم تنج تماما  من العيون السحرية للدولة فكانت الشوكة العريضة تجر على الكلمة والسطر غير  المطلوب. والمقص الرقابي يقطع الورقة المنبوذة من المجلة والكتاب. فكلمة  الخليج الفارسي (مثلا) تختفي تحت الحبر الأسود وتختفي معها بعض الكلمات  المجاورة أو المظهرة. أنا لا أدري ما معنى هذه الفعلة ؟ لو يسمى الخليج  فارسيا كما كان من ذي قبل أو عربيا كما سماه المرحوم جمال عبد الناصر خلال  حرب 1956 فما هو نتاجه هل نتزيد من حقنا فيه شبرا أو نخسر مترا ؟ سوى أننا  نهيج الإيرانيين ليؤكدوا كلمة "الفارسي" دون أن يستزيدوا شيئا فوق التقسيم  الجغرافي المتفق عليه. وأما مياه الخليج فهي مياه دولية غير مملوكة لأحد ولا  يجوز لأية دولة مطالبة أية أجرة مقابل الاستفادة منها. إذا كانت التسمية مهمة  جدا فلنحاول إقناع جيراننا الإيرانيين بأن الخليج كان عربيا منذ سالف الدهر  وبدليل وجود السكان العرب المحيطين به حتى في القسم الإيراني. فخوزستان  وهرمزجان وبوشهر والجزر الإيرانية خليط من العرب الأصليين والفرس الذين  هاجروا فيما بعد وكلهم يتحدثون العربية.  بعض الموانئ مثل خرمشهر وماهشهر  ولنجه وكنجان والجزر مثل لافان وشيخ شعيب مختصة بالعرب وحدهم. أما تغيير  الاسم الدولي من جانب واحد غير مقبول دوليا بل يعتبر عملا عشوائيا مثيرا  للنقد والحقد.

لقد تطور السياسي الكويتي بعيدا عن صحافته مهملا إذاعته المسموعة  والمرئية متطلعا إلى تلكسات وكالات الأنباء الأجنبية ومهتما بمشاهداته الشخصية  المتكلفة حتى يتمكن من اكتشاف الحقيقة. وابتعد المجتمع الكويتي عن الثقافة  الإعلامية حتى أن العامة أصبحت تظن أن الخبر لا يمكن ذكره على حقيقته بل يجب  تطويره حسب السياسة والمصلحة (المسماة بالمصلحة العامة). وليست هناك أية  مصلحة عامة في الكذب بل إنها مصالح تخص الحاكمين دون الشعوب. هذه هي  المأساة الإعلامية التي تربّى عليها أبناء وبنات الكويت ولذلك أخطئوا كثيرا  في نقل مشاهداتهم -إبان الغزو-إلى العالم الخارجي مما حدا بوكالات الأنباء  الصديقة أن تتحاشى ذكر الخبر المنقول بواسطة أصحاب القضية الكويتية بل  كانوا يؤخرونه حتى يتثبتوا من صحته وهذا شيء مشين للشعب الكويتي لكنه حقيقة  يجب علاجها والتصدي لها في المستقبل.