الديمقراطية

أول الطريق:

بحثا عن العدالة وطلبا للتوازن الاجتماعي، تلجأ الأمم إلى  الديمقراطية المعروفة وهي لها ميزاتها الكثيرة ولها عيوبها، فهي تخلق  الشعور الحقيقي بانطلاق القوة من الشعب. و لو عرفت الأمة كيفية تطبيقها فإنها  تكافح بجدارة ديكتاتورية العائلات والديكتاتورية الفردية وتحقق بعض  التوازن. ومن عيوبها تفوق الأحزاب الكبيرة أو تفوق حزب كبير على سائر الأحزاب وانفرادها بالسلطة التنفيذية وتأثر السلطة التشريعية بها بقدر كبير، وشعور  قسم كبير من المجتمع بعدم وجود نائب يمثله و يدافع عنه، لأن مرشحيهم لم  يحصلوا على الأغلبية الكافية لدخول البرلمان. وحتى تتقلص القدرة لدى  القابعين على السلطة فإن الأمم المتقدمة أوجدت المنابر الحرة مثل الصحافة  والإذاعة والتلفزيون والمسرح والتجمعات العامة والخاصة وكل ما يمثل  الرأي العام.

وهناك أنظمة أخرى تشكل وتصوغ السلطة الحاكمة؛ سوف نتطرق إلى بعضها  في نهاية هذا البحث خاطفين غير مسهبين، فالاختصار هو طبيعة هذا الكتاب.  وليعلم أنني أكتبه للكويتيين، وعليه فإن هذا الكتاب ليس منصة ينطلق منها  الثائرون الساخطون على حكامهم وليس مرجعا علميا يستدل به للرد على  المعتقدات السياسية والاجتماعية. إنني أحب البشرية جمعاء لأنهم نظرائي في  الخلق، وكانسان أشعر بآلامهم وهمومهم وكمسلم أهتم بأمور المسلمين منهم؛  لكنني لست وليا عليهم ولا وكيلا عنهم ولست منهم بقدر ما أنا من الكويتيين.  وإذا تطرقت إلى بعض المسائل غير الكويتية مثل مسألة فلسطين، فلأنها تهم شعب  الكويت الذي دافع ودفع وجاهد بالمال والنفس. ثم إن هناك عددا لا يستهان به  من الفلسطينيين يعيشون بيننا ونحن ملزمون بالدفاع عنهم.

هذه "الأنظمة الأخرى" كلها تنادى بالديمقراطية وتمارس بعض أصولها،  لترائي شعوبها -البعيدة عن الديمقراطية- أنها متنعمة بها. لكن ديمقراطيتها  المزعومة غير قادرة على تحقيق السعادة لها. الواقع أن آفة هذه الشعوب هي الجهل؛ الجهل العام السائد. فالغالبية العظمى من أبناء آدم لا يعرفون حقوقهم ولا يحيطون علما بإمكاناتهم ومواهبهم فيتعرضون للاستغلال والاستعباد من قبل  الآخرين، وإذا اشتدت عليهم المظالم يندفعون لطرد وزير أو رئيس أو حكومة أو  نظام ثم يهدؤون ليفسحوا لظلم جديد وحاكمين حاقدين حديثو عهد بالحكم وطالما  تحول هؤلاء الجدد إلى ظلمة مثل من سبقهم أو أكثر قسوة منهم.

إن الكثير من دعاة الديمقراطية هم استغلاليون يريدون السلطة،  فيأتونها من باب الديمقراطية، ذلك الباب المنمق الجميل والخلاّب، وهم  وفعالهم أشد وطأة على الأمة من الأنظمة الموجودة فعلا، حتى يذهب الناجون من  الاستعمار -وبعد فترة من استقلالهم- إلى تمني الاستعمار، لينقذهم من الفقر  الداعص ومن الفساد والمرض والفوضى والقلق. كل هذا لأنهم يسيئون فهم  الديمقراطية ولا يحسنون استخدامها والدفاع عنها.

 

البرلمان:

تظهر الديمقراطية في انتخاب الأمة للأكفاء، ليمثلوها في البرلمان  القائم بمهمة التشريع التي تسع القانون ومنفذ القانون، وفقا للدستور والنظام الأساسي. فالنواب هم الذين يعطون الشرعية للسلطة التنفيذية أو يتكفلون تعيين أفرادها وهم الذين يصنعون التشريعات والقوانين اللازمة لإدارة  البلاد ويسنون أو يجيزون شكل العلاقات الخارجية ويأذنون بالحرب والصلح  ويراقبون تنفيذ ما صدر منهم مبقين لأنفسهم الحق في إجراء أي تغيير في  تعييناتهم وتأييداتهم وتشريعاتهم. وأما السنام أو رئيس السلطة التنفيذية  فهو إما أن يمر على أبواب البرلمان منبثقا منها أو مؤيدا من قبلها أو ينتخبه الشعب -المالك للسلطة العليا- ثم يجعله تحت المراقبة البرلمانية المستمرة مع  تفويض كامل القدرة للبرلمان لتشريع صلاحياته ومسؤولياته وأحيانا عزله عن  السلطة.

 

الدستور:

أما الدستور فإن الأمة تختار خيرتها وعلماءها الذين يندمجون على  أسرار السياسة والاقتصاد والدين والإنسانية ومختلف متطلبات الحياة، لتحمّلهم  مسؤولية وضع الدستور الملائم لأوضاع البلاد والمتناسب مع السياسة الدولية  والمساير للطبيعة البشرية كما يثبتها التاريخ مارا على سير الغابرين  والحاضرين وناظرا لآثارهم ونتاج أفعالهم ومعتقداتهم، مستنتجا الخلاصة السائغة التي تكوّن الحقيقة العلمية القابلة للاستدلال. مثل هذا الدستور يناسب الجيل  المعاصر ويلزمه إذا صوت عليه ووافقه. أما الأجيال القادمة فلهم حقهم في صياغة الدستور الملائم لهم وقبول ما شاءوا من برنامج الجيل السابق دون إرغام أو فرض. وتغيير الجيل معناه -في رأيي- "رجحان كفة الداخلين الجدد في  الحياة العملية". والحياة العملية عادة ما يكون بين سن الثالثة والعشرين والثامنة والخمسين بالمتوسط النسبي. فمن في جوانب ذلك السن, له رأيه ولكنه عادة ما يكون غير مسؤول وغير ملتزم (في المجتمعات المتقدمة طبعا حيث يوجد الضمان الاجتماعي الشامل). ويعود تعيين المدة الزمنية في عهدة مسئولي الإحصاء الذين يعرفون نسبة الإنجاب والوفيات ونسب الأعمار. هذا مع العلم بأن الاتفاق الشعبي يغير الدستور كيف ومتى ما شاء. الشعب المثقف الواعي يحافظ دائما على  حقه في تقرير المصير ويقاتل دونه. وقد استعمل شعبنا النامي برمته حقه في تشريع حكومتنا الفعلية طيلة مدة الغزو الآثم في حين أنها كانت غير شرعية  فارضة نفسها على الأمة قبل الغزو ويجدر بها أن تنصاع للإرادة الشعبية بعد  الانتصار.

ولا يفوتني أن أنبه بأن تغيير الجيل يتطلب إعادة النظر في الدستور أو تغييره إذا توصلت المناقشات الحرة إلى ذلك، لأن الجيل الجديد -على حد تعبيري المشروح أعلاه- هو الذي يتأثر بالدستور أكثر من غيره، فهو أكبر المستفيدين وأكثر الناس دفعا للثمن. لكن ليس له أن ينفرد بالرأي متجاهلا  المسنّين والأحداث. فكل عاقل بالغ -صغيرا كان أو كبيرا, ذكرا أو أنثى, عسكريا أم مدنيا- له الحق في أن يدلي برأيه أو يرشح نفسه للبرلمان والقضاء  ولاقتناء السلطة التنفيذية. ومن الأفضل الأكمل لكل المجالس والمجامع أن يندمج  فيها ذوو التجربة الذين اكتملوا خلقا وعقلا مع من دونهم من الطبقة الفتية.  فيتعرفوا على عواقب الأمور ليحسنوا التدبر ويصلوا إلى أكمل الآراء وأكثرها  فاعلية وأجمعها للشتات وأوثقها للنتائج وأقربها للإمكان وأسهلها للتنفيذ  وأوسعها تقبلا واحتمالا على الأمة بل على الناس أجمعين، في مجتمعنا المتصل بأقاصي الأرض طولا وعرضا.

 

الأمــــــــة:

إنها الكلمة التي تعم كل من هو مرتبط بالمجتمع المنوه عنه ارتباطا  أصيلا ومصيريا. فكل من عاش في منطقة دون أن يشعر بأنه ضيف فيها ودون أن  يكون له ارتباط وطني بدولة أخرى فهو من هذه الأمة. إذ أن من غير المنطقي أن  نتصور إنسانا في القرن العشرين، لا يحمل جنسية من بلد آخر وقد تربى وترعرع في  هذه الرقعة الجغرافية وليس له حق الدفاع عن نفسه ولا حق التملك ولا حق  السفر، أو ليس له أن يشارك الآخرين في التصويت والترشيح. إن كان القانون قد  حرمه من الجنسية فهو قانون ظالم يجب تعديله وتنظيفه من الظلم. وإذا كان  المنفذ قد فعل فهو ظالم يجب إرغامه على مراعاة العدالة وإجباره على وضع  الشيء في محله. كل من هو قادر -عادة- على إدارة نفسه بالقوة- ذكرا أو أنثى،  شابا أو شيخا, يحمل شهادة الجنسية أو مظلوم لا يحملها, عسكريا أو مدنيا- فهو  من حقه أن يصوت لنواب الشعب، وان كان سنّه وقدرته العلمية تؤهلانه لإبداء  الرأي في التشريع فمن حقه أن يرشح نفسه للنيابة في البرلمان، ومن من هؤلاء  ينطوي على الخبرة الكافية لإدارة دفة الحكم فمن حقه أن يعرض نفسه لعضوية  مجلس الوزراء. من واجب الآخرين تشجيع كل من ذكرنا على استعمال حقوقهم،  ومساعدة العامة ليتعرفوا على خيرة المرشحين ولينتبهوا لخطورة أصواتهم فلا  يبيحونها محاباة أو استحياء أو تعصبا أو أثرة، ولا يبيعونها لقاء مال أو  مائدة دسمة سخية، ولا يأذنوا للخوف والوعود أن تؤثر في انتخابهم لمن يمثلهم.  وسوف يعين الدستور سن الناخبين ومواصفات من يخدمهم ويخدم وطنهم.

المقيمون الذين تربوا ونشئوا في البلاد ثم تزوجوا بها وأنجبوا  السواعد الفتيّة القوية والأنامل الرقيقة الطرية، فهذا البلد أحق من غيره  فيهم. إذا كانت الدول المتقدمة تجنس المقيمين لا سيما ذوي الشأن منهم؛ فكيف  بنا نتحاشى هذه السيرة الحكيمة والحميدة. هل الكويت أكثر امتيازا من  أمريكا؟ وهل الكويتي أكبر سعادة واطمئنانا من الألماني؟ إن فكرة تحديد  التجنيس ضعيفة هشة لا تدل إلا على الجبن والحرص وعلى عدم الاعتماد على الله  وعلى الأنانية والإحساس بالنقص وعلى الهزال الفكري وقلة العقل والتدبير.

وان كانت السلطة قد أحست بعض الشيء بقلة عدد الكويتيين وشجعت بصورة  غير مباشرة كثرة التزاوج والتوالد بين المواطنين، فذلك لم يكن كافيا لإيصال  بلادنا إلى التمكن من تشكيل القوة الدفاعية المؤهلة والنشيطة عدديا وكيفيا.  على أن التأهل والنشاط الكيفي قد غابتا عن الجيش الكويتي الصغير. إذ كانت  غالبية العسكر في إجازة الترف والرتع والعدو يحشد على مقربة من حدودنا  السافرة والمفتوحة. والقلة الموجودة آثرت تسليم الكويت طرية ناضجة باخلين  عليها بالنفس والسلاح فالأسلحة والذخيرة قد سلمتا كاملة جديدة غير مستعملة  إلى الغزاة الغادرين، إلا النزر اليسير منهم الذين آثروا الموت على ركوب  العار؛ هم أصحاب الفضائل الخيّرون وذوو المكارم الخالدون.

 

مزايا الديمقراطية:

افضّل اتباع النمط العددي في ذكر مزايا وخصائص الديمقراطية ليسهل  فهمها والمطالبة بها.

1-  إسناد القوة إلى مصدرها الطبيعي وهي الأمة باعتبار أن الله تعالى قد أودع الأفراد ما يشكّل القوة البشرية ويؤلفها.

2-  الاهتمام برفع إمكانات الظلم أكثر من الاهتمام بإيجاد العدالة.

3-  عدم التفويض الكامل أو الدائم للقدرة، وبذلك تبقى المسؤولية علي عاتق الأمة لا على عاتق الفرد.

4-  تحديد صلاحيات الحاكم حتى لا يتمكن من استخدام الحكم كأداة لاستعباد الآخرين ولفرض الإرادة الشخصية عليهم.

5-  شعور الفرد بأهميته وأهمية دوره الفعال في استيفاء حقوق الجماعة. وهذا ما يشجعه على الاستمرار في مراقبة الحركة الديمقراطية وطرد النزعة الاستبدادية.

6-  تدريب الأفراد والأجيال على التفكير، لا على التقليد.

7-  سعي الحكومة لإرضاء الأمة فالعامة فالأكثرية، بعد أن كانت الأمة ساعية لتطييب خاطر الديكتاتور وإشباع شهواته وتقبل غروره وكبريائه.

8-  التنافس على الحسنـات واستبــاق الخيرات وتنمية المواهب والعبقريات والهدوء النفسي والاطمئنان وترك الخصام والسعي الجادّ لدرء الجهل والشر.

9-  ظهور الحرية في شكلها الصحيح والعادل بحيث لا تمس حريات ومشاعر الآخرين، جهد الإمكان، ولا تعقب الضرر والأذى لمن يمارسها ولو بعد حين.

 

إن فهم حدود التحرر يعود إلى فهم حقائق الأفراد وتباين صفاتهم  ومعرفة مشتركات الشعوب ومختصاتهم وإدراك آمال الأمم وآلامهم والوقوف على  طاقات الأفراد والمجتمعات وقابلياتهم واستعداداتهم والعلم بنتائج الأفعال  ومستقبل التطورات والاهتداء إلى التأثير التدريجي لممارسة مختلف الحريات،  بغية مكافحة سلبياتها الناجمة عن سوء الاستخدام جهلا أو عمدا، أو الناتجة من  تعارض المباحات (السوائغ) واختلاف العقائد والمواهب والأعمار. فسنّ الحريات إذن مستعصية وقاسية أحيانا، لعدم حصول القناعة لدى المشرعين والمستفيدين  بسبب تزايد الفرضيات. ومن الأفضل الرجوع إلى القواعد الدينية النازلة من  السماء والمحفوفة بالتوصيات الربانية والتخويف والتبشير والدعوة الخيّرة  لمكارم الأخلاق فضلا عن انتسابها إلى العلي الأعلى، العالم بما لا نعلمه عن  أنفسنا وعن مستقبلنا وحتى عن ماضينا. وفي الإسلام -حقا- سنن قويمة لتحديد  الانطلاق ورعاية كل الجوانب النفسية والاجتماعية والطبيعية.

 

لا تجربوا ما جرّبه الأقدمون:

بما أن الأمة ليست أنبوبة اختبار يجرّب فيها الأفكار والآراء الحادثة فإن الواجب على المشرعين ألا ينحرفوا عن السير الطبيعي للبشرية ويتّبعوا الخطوات التي مر عليها تجارب السلف تقليلا للعثرات. إلا إذا جاء أمر الله  واطلعنا على قانونه فهو مضمون النتائج، لعلم الخالق بالحقائق والعواقب.  الذين انحرفوا عن السلم الطبيعي؛ هووا من أعالي هذا المدرج المرتفع، كالذين  أرادوا للإنسان المنطبع على حب الذات أن ينكر ذاته فأردوه في الدرك الأسفل  وقتلوا في قلبه وعقله الابتكار والإتقان.

 

كافحوا جنون السلطة:

البشر بطبيعته المحبة للذات يحافظ على نفسه وعلى مقوماته. والسلطة  من مقومات الإنسان فهو يستميت للإبقاء عليها. ألا ترون المظلومين كيف يموتون  دون زعمائهم معتبرين في إبقاء الزعيم، إبقاء لسلطتهم ولمدّخراتهم وبقية مقوماتهم.

وما جهاد العدو إلا محاولة لحفظ ما يملكه الإنسان ويحوزه. بناء على  هذا الأصل فإن الملك أو الحاكم المطلق يجاهد ويكافح لصيانة مقوّماته ولدرء  الضرر والنقص عنها فهو حريص على الهيمنة الكاملة وإلا فقد السلطة المطلقة.  هكذا يبرر المستبد إقدامه على خنق كل صوت يضر بالهيمنة الشاملة الدائمة. إن  على الشعب أن يجد ويجتهد بل ويجاهد لمنع الفرد من ممارسة السلطة المطلقة  قبل أن يغرر الملك الخالص بأميره فيعتّم عليه الحوالك، حاجبا عنه طريق  الحق وفاتحا أمامه تيه المفازر، كما حصل لصدام حسين إذ اظلم عليه فلم يلتفت  إلا بعد خراب البصرة ودمار بغداد. وكما حل بأميرنا من قبل حيث استيقظ من  تخبطه والغزاة على مقربة من قصره فلم تمهله الملمات أن يلم شعثه أو يشد  حيازيمه. نحن لا نريد له لفافة المفاسد واحتواء الرزايا فلا نملك إصلاحها كـ  (دابغة وقد حلم الأديم).

فالحاكم الصالح هو المدير الذي يدبر شئون الناس ويتدبر أمورها  بصورة مؤقتة، وهو جزء من الهيكل الحكومي المناط إليها تسيير البلاد بمرأى  ومشهد من الأمة وفي متناول الاستدراج والإحاطة النيابية. والتوقيت يلازم  التعيين الصحيح للسلطة التنفيذية. وكل رأس (أميرا أو وزيرا أو رئيس  دائرة) ينحى عن دائرة حكمه بعد فترة معقولة. والاستدلال بخبرة المدير القديم  وسعة اطلاعه مردود بأن سلبيات البقاء في الحكم تقضي على محاسن الخبرة  والتجربة، وبأن انهماك المدير في حمل مسؤولية مميزة زمنا طويلا يبعده عن  التعرف على دقة التطورات ويزيد من ثقته بصحة تقريراته إلى حد الزهو والاختيال وبأن سرعة تسلق الأجيال تعتم على القابعين على السلطة، تحوّلَ رغبات  ومستلزمات ذلك الجيل الصاعد. وبالتالي فإن هذا الحاكم فاشل في مواصلة السير إلى الأعلى وإدامة التوجه نحو الكمال إذا طال عهده في مركز واحد.

الشعب الواعي ليس راغبا في إيقاف مداولة السلطة، بل هو تواق لرؤية  التغيير وتحسس الابتكار والتجدد. من المستحسن أن يعين القانون أقصى مدة  معقولة مقبولة لبقاء أي مدير حسب درجته في منصب واحد. ويجب إقناع المدراء  والخبراء ليقوموا بتربية خلفائهم على أكمل وأتم وجه. يلزم مداولة السلطة  والقدرة بين الأكفاء لنواكب الحدوث والتقدم ولنساير الزمن قبل أن يودي بنا  التأخر فنسقط متجمدين في ثلوج القطب وتستمر قوافل السباق والتطور في  تحدّيهم بنا زاحفين بسرعة النجوم نحو الأكمل الأفضل.

 

مقومات الديمقراطية:

01-  تفتّح أفراد الشعب وإدراكهم العلمي للحقوق العامة والخاصة وإحاطتهم بالإمكانات والمتطلبات وشعورهم بأنهم يملكون القدرة وقد  فوضوها جزئيا ونسبيا لمن يخدمهم، ومشاركتهم في الحكم بصورة مستمرة وذلك بإظهار وإعلان آرائهم والاطلاع على كل الأرصدة والحركات  المالية وإجراء الانتخابات البرلمانية والبلدية وانتخاب رئيس الحكومة والاستفتاء العام في المسائل ذات الأهمية القصوى.

02-  ابتعادهم عن الشعارات والإثارات وتصديهم ضد كل أنواع الاستغلال الخطابي والمذهبي والحربي وكذلك الاستغلال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

03-  وقوف الأمة بأكملها في صف واحد -دون الحاجة إلى أي نداء أو تهييج- لضرب كل من يتعمد خرق القانون ولو جزئيا أو ضد أصغر الناس حتى يضمنوا عدم اتساع الخرق ويوقفوا المجرم والمستبد عند حدّه ولو كان هو الرئيس الأعلى بنفسه. وهنا يلزم استدراك أن الأخطاء الصغيرة من الشخصيات الكبيرة أكبر ذنبا وإجراما من الأخطاء الكبيرة التي يأتي بها الشخصيات الصغيرة. فعلينا مكافحة ظاهرة الصفح بسعة عن مظالم القادة بل يجب أخذهم بشدة وحزم تحاشيا لظهور السلوك الاستبدادي عندهم.

04-  تمكن الجمهور من النظر إلى ما قيل قبل النظر إلى من قال.

05-  الشك في كل ما صدر من الحاكمين من قرارات وأوامر وحقائق يدعونها وأقوال يفندونها، وعدم البقاء على هذا الشك، بل السعي لكشف  الحقيقة. وأملنا في جيلنا العصري المتحضر أن يبرمج الموازين لأجهزة المحاسبة المتطورة (الكمبيوتر) ويقيم الأعمال والأشخاص بها حتى لا يضيع وسط المتغيرات اللامتناهية. هذه البرمجة الحسابية  ممكنة وعملية لكنها صعبة مستعصية وليس لنا أن نهدأ قبل أن  نتخطاها.

علينا أن نعرف أن الحكام -مهما بدا الإيمان وطيب الأعمال منهم- غير معصومين عن الخطأ، يفرط منهم الزلل ويستحوذ عليهم الشيطان ثم يستغلون القدرة لمصالحهم إذا ما اختفى الاعتراض وقضي على المعارض وشعر سارق الألقاب بالاستغناء عن الغير وبأنه هو الذي يستحق التسلط، فهو طاغ  -آنذاك- لا محالة. ] إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى [بلا استثناء ألبته.

06-  تنسيق الأصول وتدريجها من حيث الإمكان العملي والفعلي للوصول إليها أو عدم الإمكان. وترك التعصب والتحفز لما لا نصل إليه، فذلك يؤدي إلى الخصام والى الهلاك والدمار. ولا نقوى على ذلك إلا إذا قمنا بكشف الواقعيات والنظر في الآراء المتضادة وفي مزاعم الخصوم. لطالما رأينا الحق مع خصمنا وتغافلناه أو واجهناه بالسفسطة والتشكيك، وهذا يتنافى مع أصول العدالة التي تنادي بها الديمقراطية.

07-  المنابر العامة والساحات المكشوفة والمحروسة لإبداء الرأي من قبل الأفراد العاديين  دون أن يحق للدولة أن تتعرض لهم، بل تحافظ السلطة على حريتهم وتحرس أبدانهم ومنابرهم لزاما.

08-  الديوانيات السياسية التي تناقش فيها الأحداث والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية بحرية وأمان وصدق وخلوص.

09-  الصحافة الحرة الأبيّة دون تحديد أو رقابة؛ وحتى نتقي الفوضى وزيف الحقائق عن طريق الإعلام يتحتم السعي وراء:ـ

10-  القضاء الاستدلالي المفتوح والمكشوف دون أن يسبقها العنت والنكال والتعذيب وأخذ الإقرار بالإكراه.

11- المساواة في الحقوق وفى العناية بالأفراد من حيث الحقوق لا من حيث التشريفات.

12-  غيبة الألقاب والتشريفات السياسية المكثفة عن الحكام والمسؤولين. فهذه الألقاب الزائفة المخلوعة على أصحاب النفوذ، تفسدهم وتزور شخصيتهم وتصيب المجتمع بالأدواء الوبائية التي تفسد عقولهم وتخضم قوامهم.

13-  أن يكون لكل إنسان بالغ يطلب منه تنفيذ قرار سياسي يد في صياغة ذلك القرار. أما القرارات العسكرية فمن حق الحاكم المؤمن والبرلمان الصالح أن يصدراه دون المنفذ، إلا أن المنفذ سيحاط علما وبأسرع فرصة ممكنة بعوامل وأسباب القرار الصادر وبفلسفته، ويجوز للمنفذ أن يتباطأ في تنفيذ أوامر القتل والجرح والتدمير الواسع حتى يعلم الأسباب.

14-  اختفاء كل الظواهر الاعتبارية المميزة مثل الملبس والمركب والمنزل والمنطقة والمقام وغير ذلك. أما الظواهر الحقيقية كأن يقتني الغني لباسا فاخرا أو يركب سيارة راقية أو يبنى قصرا فخما، فلا بأس بذلك.

 

تمييز المقولات:

شعبنا العظيم بحاجة إلى أن يتعرف على المقاييس الحقة الصحيحة  ليقيس الأعمال بها ثم يقيس الزعماء بأعمالهم؛ لا أن يقيس الحقائق بالزعماء  وبأبناء الزعماء.الشعب الواعي لا يقول لك في معرض الرد: "أأنت تفهم أم فلان،  أم ابن فلان؟". الكثيرون من أسلافنا -على مدى التاريخ- كانوا يقيسون الحقائق  بالأفراد، فالتبس عليهم الحقائق و أخطـئوا كثيرا في دعواهم. والصحيح أن نعرف  الحق أولا لنتعرف على أهله، ونعرف الباطل لنستكشف أهل الباطل وهذا صعب  المنال إلا أني لم أجد له بديلا. ليس لي إلا أن أهيب بأمتنا ليشقوا أمواج  الضلال بالإصغاء لكل ما قيل وانتقاء ما ساغه العقل واصطفاه الفكر وليستغنوا بها  عن التقليد عند العثرات والتبعية لسحق الملمات، فأكثر الذين تسمعون عنهم  محتاجون لأموالكم أو أصواتكم أو نصرتكم فاسمعوا لهم واتبعوا فطنتكم وبصيرتكم. لا تؤمنوا بأحد غير الله ومن أرسله بالآيات واعلموا أن بعض الدعاة دجالون يلتمسون الباطل بالحق وبما يشفي القلوب، ليسلبوا عقولكم ويستحوذوا على مشاعركم فتميلون إليهم كل الميل.

يكفي للداعية أو القائد أن يسكن الأفواه فيأخذ بمجامع القلوب؛ ثمت  تتطبع كلماته السخيفة الكاذبة الباطلة بطابع الصلاح والصدق، ويتراءى جهله  وحمقه علما وحصافة. في مثل هذا الجو الساذج لا تستقر الديمقراطية بل تستغل ويستغل معها الأنام. فالحياة الحرة الكريمة نتوخاها تحت ظلال التفكر والتعقل.

أيها الاخوة والأخوات:-   فكروا كثيرا والهوا قليلا، خصصوا أجمل ساعاتكم للتفكر لتجلبوا السعادة والخير لكم ولوطنكم.

ما أجمل المثل الكويتي "نوبه لقلبي ونوبه لربي"، وربك يريد منك أن  تتفكر قبل أن تركع وتسجد. ] وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون [. ونعم القول *] تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة [. فالوقت الذي تفكر فيه هو مما صفيته لربك لا مما أسرفت فيه بين أهوائك ومبتغياتك.

 

القضاء الديمقراطي:

سوف يؤكد شعبنا على الاهتمام بتطوير القضاء وإصلاحها وبعدم السماح  للسلطة أن تسجن أو تنكل بالاتهام فإن *]المتهم بريء حتى تثبت إدانته[. حتى  القاضي لا يحق له الحكم بما يتنافى مع حرية المتهم ولو لكشف الجريمة وأخذ  الإقرار. الإسلام يرفض ذلك، وعنده ]تدرأ الحدود بالشبهات[. يجب تحديد التوقيف  الاضطراري كمّا وكيفا، دون أن يمس الموقوف أي ضغط عدا تحديد حريته لأيام  قلائل، فإذا برئت ساحته، لزم على رئيس المحكمة أن يعتذر منه كتبيا ويعوضه  بالنقد. أما إذا ثبت أن النائب العام أو القاضي قد سجن متهما يمكن تحاشي  سجنه أو أساء استعمال الأساليب القانونية ضده بقصد الإيذاء، مثل دعوته حين  انتهاء الوقت أو قبل العطلة، أو إيداعه التوقيف مع غياب الخطر الفادح  -جريمة القتل أو السرقة الجسيمة المقترنة بالشواهد الواضحة- فلو أقدم القاضي  أو النائب العام  في أي ما ذكر، نكّل به هو -من غير إسراف طبعا- وكل من ساعده  وأشهر بهم وطردوا من العمل ليرتدع غيرهم. وتقام السجون في وسط المدينة،  ويسمح بزيارة السجين متى وكيفما ابتغى أهله ومن شاء زيارته دون أن يتحقق  معه.

 

حقوق الأقليات:

تنظم الحقوق العامة بحيث لا تعارض حقوق الأكثرية ولا تظلم الأقلية وذلك  بإقرار حق المرء في أن يشعر بفرديته ويمارس نشاطاته التي لا تضر الآخرين  والتي يقره القانون مثل الملكية والتجارة والسفر والظهور والنقد والشكوى  والدفاع والخطابة والزواج والاحتفال وغير ذلك في حدود القانون المقيد  بالدستور.

إن كثيرا من الدول أو الأنظمة التي تدعى الديمقراطية تقضي على الفرد  أو الفردية بحجة إحياء المجتمع الذي يتمخض عن الأفراد ويظهر بهم إلى  الوجود. إن فردا واحدا يمكن أن يكون اللبنة الأولى لكل مجتمع فإذا قوينا  اللبنات تماسك الهيكل العام لمجتمعنا تماسكا شديدا لا تهزه السوانح والبوارح  ولا توقف تقدمه الأهواء والأغراض الفاسدة والشّرّيرة.