الديكتاتورية

والمقصود منها فرض الإرادة على الآخرين متوسلا بالقوة القاهرة لإرغام  الرافض منهم على القبول وآلا سلب منه ما يحبه من مال أو حرية أو نفس. وبما  أن الإنسان لا يقوى على إشباع شهواته لما جبل عليه من الضعف والقصر، إذ أن  اللذة في الدنيا محدودة فهو يندفع نحو احتكار السلطة وتوسيع رقعتها. لكننا  أتينا دون اختيارنا إلى هذا النمط من الوجود لحكمة إلهية عليا، وأكرمنا  بالنعم على اختلاف كيفياتها وكثرة كمياتها. هدف الخالق على ما يبدو، ليس هو  مجرد تنعم الآدميين، لكنه أسبغ علينا ما شاء من العطيات لحفظ النفس والبدن  ولإنجاب الغير، حتى نمضي فترة الاختبار. ذلك التلذذ العابر ضروري لإبقاء  التوازن بين الحياة والموت، ونحن نسير في درب طويل باتجاه المجهول. كلما  تمادينا في الملذات، كلما انحرفنا عن الطريق وابتعدنا عن الهدف. هذا النهج  الخاطئ لا يرضينا أبدا ولا يدخل الطمأنينة في قلبنا قطعا. ولنا في حكايات  الغابرين خير العبر: هل استقر "إسكندر مقدونيا" عند حد؟ أم هل اكتفى سيروس  بما ضمه إلى حكومته الفارسية؟ أم هل اقتنع نمرود وفرعون بواسع ملكهما؟ فلو  استعاد المستبدون رشدهم وصوابهم، لرأيتهم يتركون القصور، ويقبلون على  القبور. أنّى لهم التبصر وانسلال العمايات، وقد كتب عليهم الضلال في الضلال؟  يا ويحهم!

الحكومة الاستبدادية ظالمة في عدلها، ضارة في نفعها، فالديكتاتور  يتشبث بالهيبة لإخفاء ضعفه، ويعتاد أو يكاد يتطبع على الكبرياء والخيلاء. هو  يشعر بأنه الأكبر الأعلى وأن الطريق مبلط له والأبواب مفتحة أمامه والبساط  الأحمر قد صبغ من أجله، وما أوتي الناس من خير فهو تكريم له. ولو ثنيت له  الوسادة لادعى أنه العلي الأعلى كما فعله أغبى الأغبياء "فرعون". الملك الذي  نظر باتجاه واحد هو الأسفل فحسب! دون أن يكون لبصره أبعاد أخرى؛ لذلك تمثل  بالإسراف حتى مثله الخالق العزيز  -في سيد الكتب-  نموذجا للإسراف بين بني  آدم.

لو فرضنا عبقريا على الصهوة، ابتلي بالزهو والخيلاء -كالعادة- فرأى  نفسه أعقل وأزكى ممن دونه، واحسبه هو هو؛ فلو قارنّاه بنواب الأمة  والمنتخبين بحرية وأناة من قبل العامة من الناس؛ هل يرجح تدبير ذلك  العبقري على تدبيرهم جميعا؟ ولو فرضنا أنه استعان برأي المجموع دون التزام  بالعمل مفروض عليه بموجب الدستور ؛ فكيف يمكن حمله أعباء مسؤولية الوطن  ومسؤولية انعكاس آثار الأوامر والأحكام التنفيذية على مشارق البلاد ومغاربها؟  ثم ما الداعي لهذه المخاطرة العظيمة ووضع أمة تحت تجربة ديكتاتور عبقري  علاّم؟ ما الذي يدعو هذا الديكتاتور العبقري أن يتقبل هذه المسؤولية الخطيرة  سوى حرصه على إشباع غريزة حب الجاه في أعماقه؟ أمن العدل والأنصاف إيقاع أمة  تحت رحمة فرد يسعى لدرك شهواته ونزواته؟

إن كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد مرفوضة بحكم العقل، حيث أن كل  إنسان خلق مسؤولا عن نفسه؛ وان كثيرا من المسؤوليات لا يمكن نقلها إلى شخص  آخر. لعل نقل بعض المسؤوليات إلى الآخرين يخلو من الرجحان العقلي بل ينطوي  على ضرر بليغ يستحيل التعويض عنه. فلو انتقلت مسؤولية الدفاع عن الوطن إلى  فرد ثم احتل الوطن أو قتل الفرد أو وقّع ذلك الإنسان الواحد على اتفاقية  القيمومية على البلاد مع حكومة قوية أو أقدم على أي شكل من أشكال الخيانة  وتم محاكمته وثبتت خيانته وألقي عليه أقسى جزاء ممكن مثل الموت، فهل يستعاد  بذلك ما فقد من الوطن؟ كلا وألف كلا.

الكثير من المسؤوليات أو الواجبات لا يتأتى الإقدام عليها بصورة  فردية أيضا. في المثال السابق، ليس للأفراد - حال كونهم أفرادا- أن يواجهوا  معسكر الأعادي أو يوافقوا على شروط الصلح بل هو عمل جماعي يناقشه نواب  الأفراد ويحيلونه للتنفيذ إلى من هو تحت سيطرتهم وهيمنتهم الكاملة. من  الواضح أن أي شكل بشري آخر لاتخاذ القرارات الحاسمة بغية الدفاع عن كيان  الوطن أو الحفاظ على الثروة الوطنية غير منطقي، و محفوف بأخطار جهنمية  تستحق أن نخاطر بأنفسنا لتغييره ونفيه. كيف نسمح لأبنائنا الجنود والحرس  والشرط أن يقدموا على قتل وسجن الآخرين باسم الدفاع عن الوطن وتثبيت الأمن في  البلاد بأمر الحاكم الفرد فنواجه -في حدود تمكيننا للحكومة- استجواب القادر  المتعال واعتراض الأمم إضافة إلى تنديد الضمير والوجدان؟ يجب استعادة  قدراتنا الطبيعية لإبعاد الديكتاتورية عن بلادنا ولمحو السلطة المطلقة التي لا  تستند في تشريعها واستمرارها وفي أخطر قراراتها وأحكامها إلى المجالس  النيابية.

وقد رأينا وسمعنا عما يتشبث به الحكام المستبدون في التكتم والتستر  على الحسابات والأموال والعلاقات الخارجية والتعيينات الداخلية والقضاء،  وكذلك ما يتذرع به هؤلاء من الأعذار والحجج القومية والمذهبية والوطنية وكل  ما يثير الرأي العام ويحفز ويشجع العامة من الناس.

الأمة مطالبة بالتصدي لهؤلاء المستبدين ورفض أعذارهم وعدم الاكتراث  بوعودهم الزائفة. علينا ألا نعير اهتماما بظاهر الحشمة والوقار ولا بما يظهر  من الأردية والستر الخارجية ولا بالدعايات والاستدلالات المضللة التي تتبناها  زبانية الديكتاتور وحاشيته والمستفيدون منه، فهمّ أولئك بطونهم وقبلتهم  نساؤهم وهدفهم الملذات ووسيلتهم نحن الشعوب، بنفوسنا وأموالنا. إن أقل  تكريم للمستبد سوف يقويه ويعزز طغيانه ويشقق معارضته ولذلك فعلينا أن "نتغدى فيه قبل أن يتعشى فينا".