مع فلسطين

كرة في ملعب:

لعل الكثير من المفكرين والحكماء العرب يتوارون من إبداء الرأي في هذه القضية المؤلمة، ولعل هؤلاء يحملون الحلول الممكنة والواقعية للمسألة لكنهم يتحاشون التعرض للمواجهة الشعبية. إن كل عربي وكل مسلم بل وكل صديق للعرب والمسلمين يدلي فيها دلوه حتى كادت القضية أن تجف من الأعماق وكادت  المسألة أن تتحول إلى شعبها الفرعية فيذبل الأصل ويصير حطاما. إن القضية  أصبحت من جهة، الورقة الرابحة التي يقاتل عليها الوصوليون الذين يكنون غايات سياسية لا تمت بصلة للأرض الطاهرة، أو مشكلة مشتركة مع بعض الساسة الذين يسايرونها حتى يفكوا قضاياهم من الشرك ثم يتركوا مواطن الأنبياء لمن  يؤمن بهم، أو مصدر خطر يهدد أمن الوزارات والسفارات والمراكز السياسية والمؤتمرات الدولية وغيرها؛ فالمعنيون يمارسون شتّى الأساليب العسكرية  والأمنية والسياسيــة لإنقاذ أموالهم وأنفسهم وغير ذلك. ومن جهة أخرى فإن كل عربي -يافعا أو كهلا أو ما بينهما - يداول القضية ولا يقتنع بإظهار الرأي  فحسب؛ فإن أكثر العامة عاجزون عن كتابة أو إعلان أو نشر آرائهم، بل انهم  يستعملون الزنود القوية التي عندهم لإرغام الآخرين على تقبّل أفكارهم والعمل  بها. في هذه الدوامة الدوارية التي مضى عليها العقود حتى اقتربت من اليوبيل  الذهبي -الشبيهة بحالة الديماغوجيا المثيرة للفوضى- تقام المباريات بالكرة  الفلسطينية على كؤوس مآربهم الخاصة. ففلسطين التي على شفاهنا، هي الكرة  التي يتقاذفها اللاعبون ويتفرج عليها الشعوب العربية، يرقصون ويرفلون في  الملعب العربي الكبير. أما فلسطين المحتلة، فهي تتوسع احتلالها فترة بعد  فترة وقد جرّتنا اللاءات المعروفة التي تغنينا عليها أعواما طويلة إلى إضافة الجولان والضفة الغربية إلى الوطن الأم فلسطين!

ولكن متى سوف يحين الحين لإعادة النظر في هذه المأساة، وتتغير كل ما هو ضروري من مُسُكنا، ليتطابق مع مختلف المتطلبات؟ إننا قد تمسكنا بالكثير وخلعنا اسم الأصول على كلها. لنوافق جدلا أنها أصول ولكن إذا تعارضت بعض الأصول في جوهرها أو تعارضت وجوديا مع البعض الآخر في العمل بها فهل نترك الجواب للأحداث تفعل فينا كما فعلت إلى اليوم؟ أليس خيرا لنا أن نغربل الأصول ثم نفرزها في مجموعات ندرجها تدريجا انحداريا فنعتبر الأسفل فرعا  للأعلى وهو بدوره أصل لما انحدر منه ثم نتمسك بالقمة ونساوم على ما دونه حتى  نكسب القوة الكافية لاعتبار الدرجة التالية أصلا لا نتخلى عنها وهلم جرا حتى  نصل إلى ما يمكن أن نصل إليه من أهدافنا؟

 

ليسهل الإدراك:

دعني أضرب المثلات، فأنا أيضا أخاف أن ألقى في حفرة المنبوذين:-

1-  نحافظ على الأرض والعرض فأيهما أصل للآخر؟ هل يمكن التخلي عن العرض لكسب الأرض؟  أليس التمسك بكل الأرض أهتكنا الأعراض؟ والواقع أننا  نريد الأرض لنحفظ فيها أعراضنا فالعرض أصل والأرض في الدرجة الثانية.

2-  إذا عرض عليك الطبيب الحاذق قطع عدة أعضاء رئيسية في بدنك حتى  تنجو من السرطان القاتل فإن جواب العاقل الموافقة قطعا لأن البقاء أصل،  والبقاء بكل الأعضاء في الدرجة الثانية وعليه فكسب جزء من الأرض واثبات أصل الحق في أرض فلسطين أصل لاسترجاع كامل الأرض.

3-  السياسيون (أفرادا) يرفضون التفاوض مع إسرائيل حفظا لكرامتهم وإرضاء لخواطر الشعب العربي الذي يكره جلوس زعمائه مع قاتلي الفلسطينيين وغاصبي أرضهم. "يكره الجلوس" تعني أن الشعوب تشتهي بشدة عدم التفاوض، فعدم التفاوض إرضاء للشهوة العربية وتكريم لبعض الساسة الذين لا يريدون التضحية ببعض كرامتهم في سبيل مصالح الأمة العربية. إذا فرضنا أن إسرائيل ومن ورائها ملوك المتغيرات في الأرض يصرّون على عدم التنازل عن شبر من  الأرض بدون التفاوض مع إسرائيل فهنا الأرض وجزء الأرض أصل وعدم التفاوض فرع يمكن التخلي عنه.

 

لنغيّر أسلوبنا:

التمسك بالأسلوب العربي في معالجة القضايا أصل تعوّدنا عليه وعرضناه ويصعب علينا تركه. كذلك اليهود لهم أسلوبهم الذي يختلف معنا بعض الشيء  ويختلف مع الدول الغربية كثيرا؛ فما معنى تمكن إسرائيل من جرّ إنجلترا  لمساعدتها ثم إقناع الدول الغربية و ثمت كسب الحماية الأمريكية الفعالة  والقوية؛ ونحن مع علاقاتنا التجارية الممتازة مع أمريكا عاجزون عن إقناعها بالتخلي عن هذه الدويلة الغاصبة؟ هل هناك اتحاد مذهبي أو عقائدي أو عنصري بين أمريكا وإسرائيل؟ أم هل الدولة العظمى تخاف من إسرائيل أو من اليهود الأمريكان الذين يملكون من المال ما نتفوق عنهم بكثير؟ كل الأجوبة ضد  إسرائيل؛ والواقع أن الإسرائيليين حين كانوا يعانون التشرد ويتعرضون لكل قسوة وظلم ويوم كان الفلسطينيون يستهزئون بهم ولا يقيمون لهم وزنا؛ في يوم معاناتهم كانوا يدرسون ويتعلمون لغة الدول القوية، فعرفوا قبلنا بأن لغتهم  التعامل. وعرفوا كيف يتعاملون. انهم تعرفوا على المبادئ الدولية ومبادئ  الدول العظمى والتزموا بها، ثم تابعوا التدرج الفكري الدولي والذي يولّد  مبادئ جديدة وينفي بعضها ويغير الاستراتيجيات وسياسات كسب الأهداف. فمثلا،  نحن لا زلنا نهاب الاستعمار الذي انتهى منذ أمد ونجهل مبدأ الاحترام المتبادل.

الرئيس العراقي الذي يحكم العراق منذ عقدين لا زال يجهل مبدأ سيادة  الدول الشرعية على أراضيها والذي تحترمه الأسرة الدولية في هذا العصر،  وتحارب من أجله؛ إذ أن هذا المبدأ لو حذف فإن كثيرا من الدول الكبيرة ستضم  الدول الصغيرة وتبتلعها. أليس الصين قادرة على بلع اليابان وألمانيا قادرة  على استرجاع النمسا وماليزيا متمكنة من إلتقام سنغافورة ووو... هذا مبدأ، لا  يتعامل عليه ولا يساوم. كان العراق راضيا أن يهب الكثير من خيرات الكويت  ويمنح كل الأسهم الكويتية في الغرب لقاء الاعتراف بشرعية البلع الذي أوقف  الهضم والتنفس وجريان الدم في الهيكل العراقي، حتى كاد يجفف المؤن  الغذائية والدوائية اللازمة لحياة العراقيين. لكن الغرب لم يسمح للعراق بأي  تفاوض وحتى أي نقاش قبل ترك الكويت وعودة الحكومة الشرعية إلى سيادتها  على كامل الأراضي والممتلكات الكويتية.

يا بني يعرب: إن كل يوم له مبادئه وقوانينه ومؤثراته، فتعرّفوا على  العالم وحاولوا المثول للإرادة الدولية فليس بإمكانكم تحدي العالم. إنكم لم  تتمكنوا خلال أربع عقود من كسر تحدي الصهاينة فكيف يمكنكم تحدي العالم. وها  نحن اليوم وقد وقف بعض العرب مرة أخرى في وجه العالم ليؤيد الاحتلال. يا  للعار ويا للخزي!

إذا كان تحرير فلسطين سيتم باحتلال الكويت، يعنى أن نغسل العار  بالعار والظلم بالظلم أو أن يظلمنا الصهاينة فنظلم أنفسنا كي ننجو من  ظلمهم! لا أدري كيف أكتب هذه المعادلة التي تجول في أذهان  هؤلاء البسطاء.  هداهم الله وإياي.

 

كيف نحرر فلسطين:

إخواني وأخواتي: إذا كنا مصممين على تحرير فلسطين فعلينا أن نضحي بالكثير  قبل أن نطرق باب التحرير. علينا: أن نترك التعصب والتمسك بما لا نطاوله، أن  نخضع للإرادة الدولية ثم نجاريها ونسايرها، أن نتعرف على إمكانياتنا ونقدرها  تقديرا واقعيا بعيدا عن الإفراط والتفريط، أن نوحد الصف العربي إذ أن  إسرائيل واحدة والعرب والمسلمون متفرقون، أن ننظم مبادئنا ونستدرجها بحسب  الأهمية، أن نعترف بأخطائنا ونحاول تصحيحها وخاصة ما يتعلق بتخلّي  الفلسطينيين عن أملاكهم عن طريق البيع، ومحاولة استرجاعها شراء فذلك ممكن  إذا أردنا، أن نقنع العالم بأننا شعوب مسالمة كارهة للاحتلال والظلم ونبحث عن  العيش بسلام وأمان وفي جوار مقدساتنا التي لا يمكننا التخلي عنها، أن نظهر  للعالم بأننا نحترم المواثيق ونحترم الأفكار ومستعدون للتفاوض والتباحث مع  من شاء ومن وافق فهذه ميزة نبينا العظيم صلى الله عليه وآله و سلم وهذه  خصيصة كل من ينطوي على منطق قوي مقنع لإثبات حقه وتأييد ادعائه، أن نتعلم  ونتثقف لندرك معنى الحرية والاستقلال ونؤمن بالديمقراطية ونحاول تغيير معالم  بلادنا التي نسكنها اليوم لتواكب التمدن والحضارة الدولية فأمريكا وأوروبا  وحتى اليابان يحكمها من اعتلاها برضا الأمة وعن طريق الانتخابات، والعالم ينظر  إلى إسرائيل أنه في إطار اليهودية ديمقراطي بعيد عن الهمجية وعن السلطة  الفردية المطلقة. وأن نعمم الإصلاحات بين شعوبنا لنتغلب على مشاكلنا  الاجتماعية والسياسية ونتخلص من الخرافات والعوالق الذهنية البالية  والبعيدة عن حقائق الحياة ومستلزمات التمدن العصري ونواكب الحضارة والتقدم  وهى بحاجة إلى إرادة قوية وجدية تدفعنا بمهارة وحسن أداء إلى الأمام بصورة  إنطلاقية مضمونة نحو الهدف السامي. وأن نستعين في كل ذلك بصدق وحسن نية إلى  القوي العزيز، تاركين تعصبات الجاهلية التي يمقتها العليم الخبير ولا يدين  بها أنبياؤه المكرمون.اللهم أرنا جمال العقل والفكر وباعد بيننا وبين الجهل  والغباء ونظفنا من التعصب الأعمى واهدنا صراطك المستقيم.