مسجد شعبان

ولو تعبأت خيول المختالين لترعد بهماهمها نياط القلوب أو امتلأت فسح  الأقطار بعساكر الغرور والشرر أو تناقلت الصعداء من مغادرة المتنفس همّا  وغمّا فإن عواطف الهبيب وأعاصير الدهناء تنتج الرطب الجنيّ وان مفاتيح  اليسر تكمن في مخابئ العسر، وما من مؤمن يدخل الجنة قبل أن يمر على الجحيم  والسعادة تلمع من بريق السيوف كما يفتح الوليد عينيه في الدم. إذا كان هدف  الذين خلقوا ليالي  " تصحيح مفهوم المساواة " في مسجد شعبان هو النهوض  بالأمة لتتعرف على حقوقها وتهتدي إلى قدراتها وتستفيد من مواهبها فإن تحمّل  الصعاب لاهتداء أمة ليس ثمنا غاليا فالتضحيات هي طريق الأنبياء والشمعة تحرق  نفسها لتنير درب الآخرين فسوف نمر على قصة تلك الندوات ونكشف غوامضها وما  يتيسر لنا من ذلك.

 

الحادث باختصار:

اتفقت مع بعض إخواني في الوطن الحبيب وذلك في مستهل أيام الصيام  من آخر رمضان في القرن الماضي أن نتدارك تسامحنا مع قضايانا الوطنية قبل أن  تنفلت المائة الرابعة عشرة، فأقمنا ندوة عامة ليالي الأحد في مسجد شعبان  بالشرق حول موضوع المساواة وأسمينا الندوة " تصحيح مفهوم المساواة ". إذ  أنّ التعدي والظلم كان قد عودّ مواطنينا وأقنع بعضهم أن المساواة والعدالة  والتوازن لا تغاير وضعنا وحالتنا السياسية والاجتماعية داخل الكويت. وكان هذا  التفسير الخاطئ لكلمة المساواة بحاجة لمن يتصدّى لحل الموضوع وفكه  ومناقشته وتصحيحه في الأذهان لكي تتعرف الأمة على قدرها  فتقف على حقوقها. ثم  رشحت من قبل أولئك النفر الطيب لإدارة الندوة ولفتح مصاريع النقاش الوطني  في بيت الرحمن واضعين أنفسنا وبصائرنا في مكانها الصحيح أمام الله مستمطرين  غياث رحمته ومستلهمين فيض إحسانه جل وعلا.

مضت الجلسة الأولى متبوعة بثلاث ندوات خلال أربعة أسابيع أعقبتها  الحكومة بصدّ السبيل عليّ فتصدّى أحد أشقائي بمساعدة بعض الوطنيين الكرماء  وبعض رجالات العلم والثقافة الذين ضحوا براحتهم ومناصبهم لإدامة الندوة  الوطنية العامة، حيث فوجئوا بالتدخل الحكومي بعساكرها وجنودها لإقفال أبواب  المسجد ليس في وجه المنبر الشعبي فحسب بل حتى على المصلين. ثم اضطررت  بعدئذ للإقامة القسرية في إيران حوالي أحد عشر عاما.

 

مواضيع الندوة:

تطرقت حين استعراضي لمفهوم المساواة إلى مشاكل إثبات الوطنية  (الجنسية بالتأسيس و بالتجنس وبدون جنسية) وكلهم مواطنون كويتيون إذ أنهم  جميعا لا يحملون جنسية بلد آخر وقد تربّوا و ترعرعوا في الكويت ففتحوا  عيونهم -هم وآباؤهم- داخل الكويت؛ والى حقوق المرأة الكويتية المظلومة والى  المشكلة الكبرى في تعطيل البرلمان لفترة أطول بكثير مما سمح به الدستور  الكويتي والى مشكلة الأمّية والفقر الثقافي الذي يضع الكويتيين دون المستوى  المقبول دوليا والى الممارسات الاقتصادية الخطيرة التي يقوم بها أثرياء  الأسرة الحاكمة وأقاربهم لامتصاص القدرة المالية لدى العامة والى الرشاوى  والابتزازات و السرقات التي يحدثها بعض أصحاب المناصب ضد الأموال العامة و  ضد الضعفاء من المواطنين والمقيمين والى المناقصات والمشتريات الحكومية  والى التطلعات الاقتصادية في المستقبل والى الكيان الوطني والطائفية والإكراه  المذهبي والى مآسي الفتيان والفتيات والى الكبت الصحافي والسياسي والى  الديكتاتورية والانفراد بالسلطة وتجاهل الرأي العام وغير ذلك من المشاكل  الاجتماعية والسياسية والدينية التي ألمت بالكويت وخاصة منذ تولي الشيخ جابر  الأحمد وإخوانه، المراكز القيادية والسياسية والعسكرية في البلاد.

 

التبعات في الكويت:

اثر الندوة الرابعة وهي آخر ندوة أدرتها، زارني أحد المسؤولين  الحقوقيين موفدا من قبل مجلس الوزراء ليستجوبني أو يستوضح بعض المسائل  مني -على حد تعبيره- يرافقه مسئول أمني وكان مؤدبا لبقا متفهما لما يلقيه  علي من الأسئلة والاستفسارات فسأل مما سأل عن سبب اختيار الشهر الفضيل  والمسجد لعقد الندوة. أجبته -مدركا نيته في ربط كيفية الاختيار بما يجاري  التحرك الثوري في إيران- : سبق في العام الماضي وبعد أشهر من إمارة جابر  الأحمد وتسنمه الصهوة أن بعثت كتابا إليه أستعرض فيه بعض ما كان يمكنني  عرضه في غياب الإسناد الشعبي وكان تجاوب (سموه) أن دعاني أحد موظفيه إلى قصر  السيف ليبلغني تفضله بقراءة الكتاب كله وارتياحه لما تطرقت إليه من القضايا  الوطنية دون أي طلب شخصي لكنه مع تشكره مني يود التعرف على حوائجي الخاصة.  فأجبته بالنفي فكرر ملحّا مستفسرا حوائج أقاربي و أصدقائي فقلت له: لعلهم  في حاجة أو مضيقة لكنني غير مستعد لنقل حوائجهم إلى الذروة الأميرية ولا أقصد  غير الصالح العامّ وغبّ بعض الاستفسارات المشابهة ودعني شاكرا. بعد مضيّ ما  يقارب السنة على ذلك الكتاب لم ألمس أيّ تغيير في سياسة أمير الكويت مما  أشعرني وجوب التصدي لاستبداده عن طريق الجمهور واخترت المسجد لأن الاجتماعات  محرّمة بقرار مجلس الوزراء، فتمسكت بحرمة المسجد لعلّ السلطة تكفّ عن  معارضتي. وسألني أيضا عن مدى متابعتي لمطالباتي فأجبته: إذا أطلق لي العنان  مرة أخرى فسأعود إلى المسجد وأواصل الندوات حتى تتحقق كل الأهداف التي  ذكرتها في الندوات. ثم تحدّث إلي دون تسجيل على الورق لأشعر بالراحة  والهدوء وكان مما قاله لي: ماذا كان مصيرك إن قمت بما قمت به في العراق؟  فقلت الإعدام طبعا لكننا لسنا عراقيين وبيننا وبين حكامنا حب وود متبادل  ونحن نطمع في المزيد من التواد.

وقبل هذا الاستجواب المطوّل بأسبوع تقريبا، استدعاني السيد/  عبد اللطيف الثميني -وكيل وزارة الداخلية و رئيس الأمن العام- وعرض علي  التقدم بطلب لمقابلة (صاحب السمو) في قصر السيف، فأجبته بأني مواطن أرحّب  بتلبية دعوة صاحب السمو، على أنه قادر على إرغامي لمقابلته قسرا متى ما شاء  و أراد. لكنّي في هذه الفترة بالذات، لا أستسيغ لنفسي طلب مقابلته، حيث أن  ذلك يعطي معنى يزيد عن معنى الولاء الإجباري للحاكم فقال: إن كنت تخشى رفض  طلبك فأخبرني لأتوسط لك فأجبته -و أنا أدرك من أمره بذلك-: إن المسألة الآن  قد عرضت على الأمة وقد دعوته في أول ندوة ليتفضل بالتشرف في المسجد والاستماع  إلى مطاليب شعبه دون أن أشاهد استجابة منه، ولذلك فلا يمكنني طلب مقابلته  إلا أنني مستعد لتلبية دعوته إذا تفضل سموه بتلك. وكنت أشعر خطورة رفضي  لنصيحة وكيل الوزارة لكنّي لم أتفطن جوابا سوى ما قلت. كما أنني لم أندم  أبدا مما فعلت إلى يومي هذا بالرغم مما قاسيته من آلام الابتعاد عن الوطن من  جراء تعرّضي لكبرياء الإمارة ورفضي للمبادرة العليّة التي خصّتني عبر الرموز  المذكورة.

في الجمعة التي سبقت آخر ندوة، دعاني نائب رئيس المباحث -وهو  المسؤول الوحيد الذي كلّمني على انفراد في مكتبه- و طلب مني أن أترك  الندوات مذكّرا إياي بمكارم الأسرة الحاكمة ومبادرات الحضرة الأميرية وتمتّع  الشعب الكويتي وقارن بينهم وبين شعوب الدول المجاورة. فأجبته بأني أخاف على  إخواني هذا التمتع والإسراف وأحذر مغبة الاستبداد والديكتاتورية في الحكم. ثم  سألته: ألا ترون أنني اشتركت في أكبر ثورة في المنطقة و أني أعرف كيف أؤلّب  الحشد في المسجد ضد النظام وأسيّرهم في الشوارع لأخلع أسلحة الشرطة من  المخافر وأستعملها لزعزعة الأمن وإضعاف النظام كما حدث في البلدان الأخرى؟  فأجاب: إننا نعلم إنك قادر على ذلك. ثم سألته: ألم أكن قادرا على تشكيل حزب  سري مؤلف من خلايا حزبية يألفها الأحداث لأقوم بأعمال الشغب و التفجيرات  المضعضعة لسدّة الحكم فأومأ بالإيجاب. قلت: لماذا لا أفعل ذلك؟ أليس ذلك  دليلا على مقتي وكرهي للشغب والاستهتار والتستر؟ فبدأ يمجّدني ويمدح صداقته و  تقربه إلي.. ثم قلت له: هلاّ أمعنتم لكشف الغموض عن هذا الإقبال المتزايد  لحضور الندوة السياسية الخطيرة في يوم حرّم فيه التجمعات وقامت السلطة  التنفيذية بمخالفة الدستور و الإقدام على التشريع. إن غالبية الحاضرين لا  يعرفونني ولا أعرفهم لكنهم أتوا ليسمعوا مكنوناتهم وآلامهم من سماعات المسجد  فهم قصدوا ما قيل لا من قال. لماذا لا تستفيدون من إقدامي على كشف خبايا  القلوب فتهرعوا لتلبية طلبات الناس قبل أن تتحول هذه الرغبات المكنونة إلى  بركان شعبي يتفجر في وجه الحكومة وينال من أمننا واستقرارنا وطمأنينتنا؟  فعجز عن الجواب. ثم قال لي لماذا لا تطلب الموافقة رسميا على عقد هذه  الندوات حتى لا تواجه المخالفة القانونية؟ أجبته بأني لا أحتمل أيّ ردّ غير  إيجابي على طلب كهذا. فقال: لا تكن يائسا وتقدّم غدا السبت بطلبك إلى وزارة  الداخلية وأنا آمل أن يلبّى طلبك. هنالك فكرت قليلا ووعدته بعمل ذلك خوفا من  أن يحجزني فلا أقوى على إقامة الندوة الرابعة وفي فجر اليوم التالي أخفيت  نفسي عن الأنظار وما شوهدت إلا متخطيا نحو منصّة الخطابة في المسجد.

كتبت ما ذكر جوابا على أسئلة كثيرة تلقى إلي بين الفينة و الفينة،  فلعل فيما قلت جوابا على ما يريده السائلون مني. أرحّب دائما بما يسألونني  عن مسجد شعبان لكنني أفضل الرّد على الاستفسارات المكتوبة في هذا الشأن.

 

التبعات في إيران:

حينما دخلت إيران عزمت على الالتزام بالصّمت، حفاظا على سمعة وطني  وتحاشيا من جرّ غير الكويتيين إلى مشاكلنا الخاصة، فغثـنا خير من سمين  غيرنا، وقد كنت أصرّ في الندوات بأرض الكويت- على عدم السماح لأية دولة أو هيئة صديقة للتدخل بيننا قائلا: "المشكلة التي نبحثها اليوم معا تخصنا وحدنا، ولا نقبل أية وساطة أو نصيحة من أيّ مصدر غير كويتي مهما بلغت صداقته  معنا و احترامه عندنا". و هذا هو معنى توصيد الباب على كل أصحاب المصالح و اعتبار الندوات مهتمة بمصالح أسرة موحدة لا يتخللها أجنبي أو غريب وإلا كنّا  >كمن شفى نفسه وجدع أنفه<. بعد الاستقرار في طهران، أتتني عروض كثيرة للمقاومة، فكنت آخذ على يدهم مبديا رفضي الشديد لهذه الأساليب فأنا >لا أشرب السّمّ اتكالا على الترياق<. ثم توالت عروض المقاومة التي قوبلت جميعها  بالرّد والسلب لاعتقادي بوجوب مناقشة المسائل الكويتية داخل الأجواء الكويتية. أما إذا كنت اليوم أتحدث عن أخص الأمور الوطنية خارج الكويت فلأن السلطة الأميرية المطلقة لم تلجم ولم تحدد بل تمادت في التوسع حتى انقشعت هنا وهناك وقشعت معها الطاقات الكويتية. فالسكوت اليوم بمثابة التعاون مع المعتدي، حيث >اتّسع الخرق على الراتق< وأبليت السرائر وانكشفت مخابئ  القصور وزال ظل السلطان وسقطت عمامة الأقرع.