مقدمة

لقد دارت علينا الدوائر، بعد أن خانتنا أنفسنا التي أمرتنا بالسوء  والشر، فبدلت نعيمنا جحيما واستقرارنا نفورا. والمرء (ذكرا و أنثى ) من  تعلم في الصعاب، فغير سيرته وحسن سلوكه وصحح أخطاءه، استجلابا لرحمة الله  واسترضاء لكبريائه وجبروته جل وعلا.

من هذا المبدأ.. انطلقت سابرا أغوار الماضي ومتطلعا شوارق المستقبل، مستعينا بهادي المضلين ومستفيدا من تجاربي السياسية والاجتماعية  طيلة أيام تفكري وتدبري خلال عمري الذي جاوز الخامسة والأربعين؛ فأمررت  الريشة لترسم على بساط الرّق، صورة صادقة عما أضمره وأخفيه.. وأنا بين  إظهار ضعفي وهواني، وبين أن أؤدي ما ظننته عموما فرض كفاية لم يؤد وخصوصا  فرض إطلاق على كل من يرى رأيا أن يظهر علمه امتثالا لأمر سيد الأنبياء. وقد  بدأت بإخراجه على شكل كتاب بعد أن حاولت مرارا نشر آرائي في الصحف، دون أن  أصادف من يرضى بضمها إلى مقالات جريدته التي تحتوى على فصول مطولة من حكايات  الساخرين وقصص البائدين؛ ولعلي أنا المقصر، إذ عجزت -قاصرا- أن أبلغ ذروة  التنميق اللغوي والسياسي الذي يميز سطور جرائدنا العربية، أو ضيعت الطريق  إلى قلوب مالكي الصحف الذين هم يملكون مسامع شعوبنا المظلومة؛ هذه الشعوب  التي حرمت من الانطلاق في أجواء التفكير الحر، وكتب عليها التململ في أزقة  العوالق الذهنية الضيقة التي ورثتها من آبائها وأجدادها المسجونين في ما  يسمى بالعالم الثالث، والمحكومين بما يرسمه لهم غيرهم ويمليه عليهم الأسياد  ، أصحاب الحظ السعيد واللون الأبيض وغير ذلك من عناصر التمييز المعروفة .  وأنا شخصيا قريب من تلك الأسر ومن أولئك المحظوظين لكني عاجز عن إقناع  الضمير المؤنب والوجدان الموبخ للاستفادة من تلك الميزات حتى ولو كانت لصالح  الأمة. ولعل ذلك غير حاصل فعلا إذ أن الخاصة ستستفيد منك أكثر بكثير من  العامة.

وقد قادني اهتمامي وهمومي إلى المكتب يوم السبت، الأول من ربيع الأول  لعام 1411 هجرية وقد مضى على احتلال وطني العزيز "الكويت" تسعة وأربعون  يوما، دون أن أعطى الفرصة لتقديم أصغر خدمة لبني جلدتي الذين بددهم غرور  اتباع الغرور وطمع أصحاب المطامع.  ذلك الشعب الذي ملأ الدنيا عطاء وكرما  فأثار لنفسه الأحقاد وحفز الضغائن وهو مكب على أخطائه. تلك التي سوف أذكرها  في هذا الكتاب؛ وأنا في طريقي لمعالجتها ولتصفية خصالنا وبلبلة خصائصنا،  واضعا نصب ناظريّ أننا مقلّون أمام الخلق مهما أكرمناهم إذ أن ربهم هو الذي  أكرمنا بالكثير الوفر أضعافا مضاعفة مما أسديناه؛ وبأننا تنعمنا اكثر من  حقنا، وحولنا المواقد التي لم توقد إلا يسيرا، والبطون التي تتطلع إلى كسرة  الخبز؛ وقد ملأنا أكياس القمامة من طيب الطعام، حتى غزتنا الفئران وشكرتنا  الكلاب والقطط؛ حتى الأدوية أسرفنا فيها، والفقراء يموتون تحت وطأة الأدواء  والأسقام، إلى غير ذلك ممن فارقوا الأنفاس في شدة القيظ، أو جمدت أبدانهم من وقعة البرد القارس، أو أحرقوا بقنابل الأعداء -وهم لا يملكون ملجأ عدا  الخيام البالية-؛ أو باعوا أعراضهم طلبا لما يسد الرمق، أو فارقوا أحبابهم  وأزواجهم بحثا عن لقمة العيش؛ ونحن نستبدل الخادمات ونستنقيها ونستكثر  عددها، كأنها قطيع الإماء؛ ووراء كل خادمة زوج جائع أو طفل عار أو أبوان  مريضان، ليس من يمرضهما أو يترحم عليهما . 

كل هذا، إلى جانب الكبرياء والخيلاء والتفاخر والاعتزاز بما لا نملك  حراسته والحفاظ عليه؛ إذ داستنا أقدام العدى خلال ساعات من كسر حواجز الدفاع  ،وأصبحنا وأصبحت أعراضنا وأموالنا ومن وما يتعلق بنا تحت رحمة الجندي  العراقي الفقير؛ الذي يخطو شوارع الكويت بالإطارات الحديدية متبخترا، فيهز  كل المشاعر من خلفه، كما يكسر وقعته بلاط الشارع من ورائه. ولا أدري، لماذا  اختفوا في ذلك الترس الحديدي المطلّى.. دبابة أو مدرعة ؟ هل ليتقوا منا  الطلقة التي نفقدها أو المواجهة التي لا نقوى عليها ؟ أم فعلوا ما فعلوا..  ليقتلوا في قلوبنا كل أمل في استعادة الماضي وليحجبونا عن وطنيتنا وقوميتنا  التي بنيناها طوال قرنين ونصف؛ من تاريخ مليء بالتجارة والصناعة والتعمير،  ومميز بالدفاع وخوض عدة حروب، خرجنا منها ظافرين منتصرين .

وقد فكرت في أن أضفر خيوط هذا الكتاب في ذؤابتين: الذؤابة الأولى..  تضم وصفا للحال، تتخلله حقائق علمية وسياسية واجتماعية.. ظفرت بها وأنا  أدبر مواضيع الكتاب في مخيلتي؛ وما سيزيدني الجواد الكريم -جل شأنه- حين  انهماكي في التحرير وأنوي تسميتها بالمتشابهات. والذؤابة الثانية.. تضم  العلاج المطلوب حسب رأيي، وهو عرض موجز ومنقح لمفهوم القيادة السياسية  ووظائفها واستراتيجية التوصل إليها. وأفضّل تسميتها بالمحكمات.. تبركا  واستيحاء من التنزيل. وفقنا الله لفهمه والعمل به . مع الفارق الكبير بيني  وبين الكتاب، إذ أن متشابه الكتاب متشابه على القارئ، لا على المنزل -جل من  أن يسهو-؛ ولكن متشابهاتي.. على الكاتب الفقير!. ومحكمات القرآن، أمر لا  مناص منه إلا إليه؛ أما محكماتي.. ظن ورأي عرضته عليك يا ابن الديرة؛  لتستفيد منه؛ وأنت تخطط سياسة الكويت، وتضع دعائم الحياة والبقاء للوطن  بإذن الله تعالى .