ردة الفعل

من الطبيعي أن يخضع الإنسان بضرورة نسبية لما يفرضه عليه القوي القادر وأن يتحمل الأذى والأسى رغم أنفه، وبالنتيجة فهو لا يحمل في أعماقه إلا الحقد والغضب، مترقبا أخذ الثأر أو المقابلة بالمثل أو إرضاء النفس الساخطة بما يقوى عليه ضد من ظلمه واعتدى عليه.

وردة الفعل هذه انعكاس طبيعي لما قاساه المظلوم من الظالم الجائر،  ولكن هل تنتهي المأساة عند استرداد المظلوم حقه من الظالم؟. كلا، لأن المسيرة  لا تنتهي عند تسلط الأسفل على الأعلى فهي في تنافر وتقاتل مستمر والقدرة  تتداول بينهما بصورة متواصلة.الأمر ليس بين اثنين حتى يقضي الموت بينهما  -مثلا- بل هو بين الأسر والأقوام وبين الأجيال والأحزاب وأصحاب الديانات. عادة  ما تشعر أسرة المعتدي بأن الظلم صب عليها أكثر مما تستحق لأن القوي الجديد  يريد أن يفقد سلفه كل قدرة وكل أمل في أن يستعيد ما فقده ولذلك فهو يرد  الصاع صاعين فعلا وقطعا.

لننظر إلى هذه الجملة المعبّرة:#] يوم المظلوم على الظالم أشد من  يوم الظالم على المظلوم[؛ فلعلها تشير إلى يوم الجزاء الإلهي، لكن التجربة  أثبتت تطبيقها على حياتنا الدنيا بجلاء. ولكن هل إرضاء شهوة الانتقام وتحرير  النفس من الأضغان تلازمان الهدوء والأمان والثبات والاستقرار وكل ما تهب  الحياة نعيما سائغا يبلغ النفس لذتها وطمأنينتها؟. بالطبع لا .

العقل يعقل أصحابه ويمنعهم من ممارسة ردة الفعل التي تعقب الدمار والخراب والخسران ولنا في حياة النبي العظيم خير مقياس لمكافحة رغبات  النفس وإنهاء الحروب الانفعالية. فهو الذي عفا عن الذين قاسوه مرارة  الحنظل، فقتلوا منه أعز أحبابه وأخرجوه من موطنه العزيز وأفسدوا عليه وعلى  أتباعه وأصحابه العيش على مر السنين. وقد قال عليه وآله الصلاة والسلام في  أشرس أعدائه :*] من دخل دار أبي سفيان فهو آمن[ وقال له ولبقية الكفار:  ]*اذهبوا فأنتم الطلقاء[.

إذا استهدى بهداه -عمليا- من ينكر نبوته مثل غاندي حيث ترك ظالميه  في ذمة الله قائلا أنه جاء ليغير لا لينتقم. فالأولى بنا أن نهتدي بهداه  ونستضيء بنور علمه؛ وحتى لا نغلظ صفعة المعتدي على خدودنا فعلينا ألا نتوعد  ولا نهدد ونحن نمضي أيام المحنة والبلاء وعلينا أن نعترف بأن المعتدي يمارس  ردة الفعل ضدنا. لطالما رأينا عالما في الطب أو متضلعا في الهندسة أو أستاذا في الكيمياء أو مجددا لنظام الإدارة يقف منحنيا أمام طاولة جاهل غبي يستميله ليكفله في البنك أو يضمن ابنه في المخفر -قبل أن يدان- لينجيه من  التوقيف الظالم. كثيرا ما سمعت بأن العطاء يقدّم لمن هو أفضل منا علما وعملا  مقرونا بالمن والأذى متحدّين بذلك أمر المالك العظيم حيث يقرر في محكم التنزيل: ]لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى[.

إن من قويم الهدى ألا ننوي ولا نتفوه بالانتقام حتى قبل أن ننتصر فإن  ذلك يؤدي إلى شعور المعتدي بضرورة الاستماتة للبقاء، إذ يرى في الإبقاء على  القدرة إبقاء لحياته فهو معذب أو معدوم بلا حكم؛ وبين أمرين: أن يكون الأعلى أو يموت. أما إذا أظهرنا السماحة ونطقنا عن شجاعة العفو وشهامة الغفران، خففنا عن عدونا عبء التراجع واستمطرنا بغزارة رحمة الكبير المتعال.

الخوف من ردة الفعل هو الذي يقود حكام الشعوب البسيطة إلى أخذ  المعارض بالشدة، ولعل الشدة تصل إلى حد نفي الحياة كما هو الحال في العراق  وكثير من الدول الشرقية؛ ناهيك عن التعذيب الوحشي والسجن المطول مع الأعمال  الشاقة ومصادرة الأموال وسحب الهويات والأذونات والرخص وغير ذلك من أنواع  العقاب بل التجاوز. وقد يساق الناصح والمنذر مع المعارض، إذ أن الحاكم  الشرقي لا يرى لنفسه مكانا في الأمة إذا تدلّى وعزل الصهوة.لذلك فهو لا يمكنه  أن يسمح بأن يبدأ بغير اسمه أو يطرى على غيره أو يذاع ما لا يعزز سلطانه أو  يشبع غروره ويروي ظمأه.