الشيعة و السنة في الكويت

لقد تربّيت في بيت عجنت قواعده بماء التشيع وكان أبي فقيها يقيس  الحق بالمذهب الشيعي وكذلك مربيتي، التي كانت تقرأ علي الأصول الشيعية وهي  تحملني وترضعني وتنميني. في هذا البيت خيّر لي أبي الدين والمذهب وأنا أبلغ  أو أكاد ولم أكن سهل الاعتقاد بل أمضيت سنة وأنا أناقش الأديان والمذاهب مع  أخي الذي عرض عليه نفس الخيار، حتى اقتنعنا بأن المذهب الجعفري أقرب رأيا  وأكثر اتصالا وأشد ارتباطا إلى وبرسول الله كما وضعه الكتاب الحق لا كما نعته  المؤرخون من الفريقين. هكذا تخيّلنا وعليه تشّيعنا. كنت أشاهد حولي  المتعصبين من الشيعة الذين ورثوا المذهب من آبائهم دون أن يعرفوا شيئا عن  حقيقة التشيع إلا ما قلّ كمّا و كيفا. ولقد دخلت ديوانية شيعية وأنا في  العشرينات وإذا بأحد المتعصبين يذكر للحضور كيفية تصديه لسني -قليل العلم  مثله- واثبات بطلان عقائده وزيف أفكاره -على حد زعمه- فيقابل بالاستحسان من  قبل الحاضرين ولما خفت نشوته سألته قائلا: هل زدت صديقا أم خلقت بيديك عدوا  يعاملك بالعزة بما هو عليه وبالعناد؟ ثم هل فعلت فعلتك هذه وأنت تدعو إلى  الله أم فعلتها وأنت ترضي نفسك وتشبع أهوائك وشهواتك؟ فخيم الوجوم على  الجالسين حول المجمر المحمر دقائق أجابني المسؤول بعدها بسؤال، ما كان علي  أن أفعله وهو يعارضني مزاحا؟ تلاطفه وتخالقه حتى يشتد الوثاق بينكما ثم تذكر  مأثرة من مآثر أوليائنا لتباركان به اجتماعكما. أليس ذلك خير لك وله؟  فأجابني بالإيجاب وشكرت الله على توفيقي لهدايته.

وأذكر أيضا أنني زرت جمعية الإصلاح الاجتماعي قبل حوالي عشرين عاما مع  بعض أصدقائي المتحمسين للإصلاح الاجتماعي وكلنا شيعيون فاستقبلنا رجل حسن  الأخلاق كريم الخطاب وهو غير كويتي ثم دعا أحد كبار المؤسسين ليشترك في  مجلسنا وكان مواطنا طيب الكلام لطيف الترحيب ونحن لم نخف أنفسنا بل ذكرنا له  تشيعنا وانجذابنا لاسم الجمعية وكنا قاصدين ارتياد الإخاء والصداقة وناوين  كسر الحواجز المفرقة بين أتباع الرسالة الواحدة. لكننا كنا شديدي الدقة  والإمعان، نلاحظ كل حركاتهم ونهتم بكل أقوالهم وألفاظهم وكانت النتيجة  المستخلصة من هذه الزيارة الأخوية أننا أحرجنا إخواننا الذين يأبون مشاركة  إخوانهم الشيعة معهم إلا إذا تخلوا عن مذهبهم (على حد تقويمنا طبعا).   

لعلي خرجت عن طور الكتاب وابتعدت عن موضوعه لكنني هادف وسأزيد  فتحملني عزيزي القارئ الكريم.

بعد الاحتلال العراقي بثلاثة أشهر وأنا أزور مدينة لندن وقد أحضرتني  دعوة عامة لاستماع محاضرة باسم "المأساة الكويتية بين الإعلام الخليجي  والعراقي" يلقيها الأستاذ الدكتور إسماعيل الشطي، رئيس تحرير مجلة المجتمع  وكان الرجل متمكنا من اللغة العربية ومسيطرا على قواعد النحو والبديع ولم  أتدارك عليه إلا نصبه لاسم كان المؤخر والمقدم عليه خبر غير مفرد وهذا الخطأ  مستحسن فيمن يسترسل بالخطاب. ومن حيث المغزى فقد أعطانا المعنى للمأساة  الكويتية وقلّ من لم تذرف عيناه بالدموع وهو ينصت إلى ذلك الوصف المتقن  والبليغ المارّ على شغف الفؤاد ليافع أنظروه أهله ليتنعم بينهم على أول  مائدة بعد العودة إلى الحرية والنور. وحينما يطلق الجناة سراحه بين المغرب  والعتمة يطلقوا عليه رصاصات الغدر ليستشهد بين أحضان والدته المقبلة عليه  بلهفة الأمومة فلا تمهله القذيفة لتقديم خده بين المشافر التي مدّت لتقبيلها  فتهوي الثاكلة لتقبّل الجثة قبل أن يبردها الموت فتكحل الدم والليل إثمدا.

وأما عن الإعلام فقد أتى به قبل أن يتحدث عنه وكنت أتمنى أن تذاع  محاضرته على الأمم ليشعروا معنا بمحنتنا ويتأوهوا لمصيبتنا وقد تطرّق للظلم  الإعلامي في العراق وللقصور الإعلامي في الخليج فأجاد في إبانتهما وعرض  مقترحات مقبولة لتحسين سيرة الإصحار ولبلوغ كمال الإعلام.

لكن استجابة المخاطبين لم تكن مرضية فمن اعترض على الإسلاميين الذين  ينتمي إليهم المحاضر ومن عارض جريدته أو جمعيته وغير ذلك ولكنه استدرك عمق  الإشكالات فاستجاب لها بدعوته الجميع للعمل الموحد "سنتنا وشيعتنا وبدونا  وحضرنا و..." فقوبل بتصفيق حار تذكيرا له بمواقفه المعادية لمن له رأي غير  رأيه أو رأي جمعيته المعروفة بالتعصب والأنانية.

ولما استعرضته في مفكرتي أدركت إكمان العداء لي كشيعي ولو عرفت  بالاعتدال، لكني لمست الحقيقة في وطنيته والصدق في أقواله والإيمان في حديثه  فأنا كوطني لا يمكن أن أتخلى عنه وعن كل أصحابه ونظرائه الذين يمقتوننا  ويكرهوننا فأنا أحبهم وذرهم يعادونني فسوف أحبهم وأحبهم حتى ينقلبوا عن  عقيدتهم فيّ وفي أمثالي، أحبهم لأنهم صادقون غير منافقين وغير مرائين وأعاتب  نفسي التي عجزت عن إظهار إخلاصها وولائها لهم ولكويتنا الحبيبة فخلقت من هؤلاء  الطيبين أعداء يخطئون تقييمنا ويردّون حبنا.

والتعصب السني في كل المنطقة مذهل وغير مقبول وبحاجة إلى دراسة  جدّية لمعالجته؛ فقد عشت في إيران منفيا أحد عشر عاما لم أر الشيعة فيها  يعادون السنة بل بالعكس كان السنة يكرهون الشيعة وكانت مكتبات طهران وقم  مليئة بالكتب السنية ومطابع قم تطبع الكتب السنية باستمرار لكنك قلّما ترى  كتابا شيعيا لدى علماء السنة في إيران. وفي الكويت كنت أشاهد مكتبة والدي  مليئة بكتب السنة ولكن يندر وجود كتاب شيعي في المكتبات العامة. ولما سكنت  الإمارات شاهدت نفس التعصب في الإمارات حتى في دبي المتحضرة والمشرفة على  التقدم، رأيت الكتب الشيعية غير معروضة في مكتباتها وقيل لي أن الرقابة  تشدد على دخول كتب الشيعة ووزارة التربية تفرض على كل الطلاب تعلم المذاهب  الأربعة وتمنع تدريس المذهب الجعفري في مدارس الشيعة (عدا المدارس  الحكومية الإيرانية فهي وحدها تدرّس المذهب الجعفري). لكن المدارس  الحكومية في إيران تدرّس المذهب الجعفري في المناطق الشيعية وتدرّس  المذاهب الأربعة في المناطق السنية. التعصب ضد الشيعة في الخليج ظاهرة كريهة  يجب القضاء عليها. أنا لا أرى مظاهر التعصب لدى الشيعة إلا الجاهلين أو  المغفلين من الشيعة وهم يمارسون ردة الفعل ضد ما يرونه من إخوانهم السنة.

أما في الكويت، فإن التعصب السني كان حربة سياسية يستند إليها  طالبو السيادة من وراء التفرقة. حيث أن الجهاز الوظيفي كان يسعى باستمرار  لإبعاد الشيعة عن المناصب الرئيسية وعن المناصب العسكرية العليا. قال لي أحد  الشيعة قصة مفادها أنه في عام 1978 كان مع شيعيين آخرين يترأسان ثلاثة أقسام  من الأقسام الأربعة في دائرة حكومية بالكويت وقد فوجئ ذات يوم باستدعائه إلى  غرفة رئيسه السني ليتحدث إليه سرا بأنه قد استلم اعتراضا شفهيا في نفس  اليوم من كبار المسؤولين يزجرونه لتعييناته في دائرته ولما أجابهم بأنه  متمسك بالكفاءات ردّ بأنه مطالب بترفيع ربعه (بمعنى أهله والمقصود به  السنة) لا غيرهم وحينما رفض ذلك هدّد بتنزيل الرتبة وفي نفس الشهر جرّد  السني المنصف من كل صلاحياته.

تعالوا إخواني وأخواتي نتعاضد لتحرير وطننا وصيانته وحفظه فلا علي  ولا عمر سيدافع عنا. إن أعمالنا التي تحمينا وتجلب لنا رحمة الرحمن ولنا  العبرة بعلم أسلافنا الطيبين وبسيرتهم فهم اليوم أقرب أمدا إلى يوم "لا أنساب  بينهم" وهم مشغولون عنا إما متنعمين بالجنان أو متحضرين للقاء الحساب  والمثول أمام القاضي الديّان. إن نبينا وحبيبنا العظيم حاول أن يهدي أقاربه  فعجز عن ذلك وأمر بأن لا يستغفر لهم إذ انه إذا استغفر لهم سبعين مرة لن  يغفر الله لهم فكيف بنا نحن العصاة الذين اتبعنا أهواءنا بعد أربعة عشر  قرنا من مبعث النبي نطمع أن يشفع لنا النبي الذي عصيناه واتبعنا غيره.  وأنتم أيها الأعزاء السلفيون اطمأنوا أن رسول الله (ص) لم يركب السيارة ولم  يدخل الطيارة ولم يسر على الشارع المزفت ولم يأكل مأكلنا ولم يلبس ملبسنا  ولم يسكن مسكننا ولم يكافح ظلام الليل بالكهرباء ولا الحرّ بالتكييف فالملبس  القصير لا يشبهكم برسول الله ولكن #] أعينوه بورع واجتهاد وعفة وسداد[. إنكم  تعجزون وتجهلون اتباعه فكيف بكم عن التشبه به وهكذا نحن. انه هو الذي آخى  بين الوريث وقاتل أبيه، لو كنتم متمسكين به فما بكم لا تؤاخوننا ونحن لا ندين  لكم دما بل نود أن نشدّ على أكفكم ونتصافق معكم. إن كنا مخطئين في عقيدتنا  فادعونا إلى البحث الصادق والجادّ لعلنا نتقبل طريقتكم. لا تعادوننا فنحن  لا نعاديكم، لنا صدر واسع يتقبل كل بحث وكل اعتراض وعلى استعداد للتهنؤ معكم  على مائدة الرحمة المحمدية التي نقبلها جميعا.

كذلك أنتم أيها الشيعة، تبرعوا ببناء مساجد السنة كما تتبرعون  ببناء حسينيات الشيعة. لعل ما يؤكد الأخوة الإسلامية يحوز رضا الخالق الرحيم  أكثر من إقامة المرافق الشيعية فالمسلمون اليوم في خطر ومصالح الإسلام فوق  مصالح التشيع قطعا. أكثروا من التزاوج مع السنة ولا تعبئوا بالذين يتنفعون  في إبعادكم عن إخوانكم السنة ولا يغيضنكم تصرفات جاهل سني لتحكموا على كل  السنة الطيبين بالعداء وابتغوا في ذلك رضا الرحمن.

هذه القسمة المذهبية تصرّ عليها الدولة وتحرص على توسيع صدعها حتى  يسهل عليها التحكم بينهما. فهي تستميل طائفة لتضرب بها الأخرى ولا ارتباط  لهذا التحيز بعقيدتهم وبمذهبهم فكان الأمير الأب يتجاذب مع الشيعة والأمير  الابن يتنافر معهم بمقتضى مصلحة الشق الحاكم من الأسرة، أو لعل مصلحة الأمير  وحده. هداه الله وإيانا إلى سواء السبيل .

إنني أهيب بالجمعيات والأحزاب المؤطرة بالإطار المذهبي أن تتوسع في  تكوينها السياسي لتشمل الطبقات السياسية الكويتية بدلا من الذين يصلون  خاشعين مكتوفي الأيدي أمام الرحمن والذين يصلون خاشعين مفتوحي الأيدي، لأن  الاختلاف العبادي بينهما لا يحط من حبهما للوطن ولا يقلص تعلقهما بأرض الكويت  الحبيبة. أما الدعوة بضرورة تشكيل كيان للشيعة لئلاّ تذوب فىالمرجل السني  فهو دجل يخدم الأسرة التي تفقد السيادة عند وحدة الأمة ويغيظ الذين يفرطون  بالحقوق الشرعية الموسعة لدى الشيعة. هذه الحقوق تشمل 20% من صافي الأرباح  بالإضافة إلى النذور والأوقاف وما أوصى به المتوفون من أثلاث تركاتهم. هذه  الأموال الكويتية كانت مودعة في مختلف بنوك العالم حينما انهار الصرح  الكويتي وتبعثر أبناؤنا وبناتنا في البلدان يطلبون النجدة ولم يعد إليهم  شيء منها وهم أولى بها شرعا. هذه الأموال تصرف على من يدين بالولاء والتقليد  لفلان وفلان.

إن من واجبنا أن نشرف على صرف حقوقنا الشرعية بأنفسنا دون أن نأتمن  أحدا عليها. كل الفتاوى الذي نسمعها منهم حول تسليم الأموال بيدهم غير  مستدلة بوضوح. العلماء الذين يستنبطون الأحكام فنحن نقلد الأعلم منهم في عباداتنا شريطة أن لا يطالبنا بتسليم الحقوق إليه إثباتا لنزاهته وعدم  اتباعه للهوى وحرصه على جمع الأموال. نحن  نعرف تماما أن المال يعطيهم  القدرة على تكثير المريدين وتجميع الطلاب والمتعلمين حولهم. لكننا نحارب  الإمبراطوريات دينية أو سياسية. الأموال تصرف تحت نظر أصحابها. أمر الله  الناس بالإنفاق مباشرة دون وسيط. بيت المال الإسلامي يشرف عليه نبي أو إمام  معصوم وإلا فالأمة هو خير بديل للشؤون المالية. علماؤنا الأجلاء غرباء عن  المال، لا يمكنهم درك خطورته ما لم يتّجروا ويكسبوا. السلف الصالح كانوا  أصحاب متاجر متفقهين. النبي وأكثر أصحابه كانوا تجارا يعرفون معنى المال  ويدركون أهمية النقد. أما هؤلاء الطيبون فلا. المعصومون يدركون العلوم  والحقائق الكونية بالإتيان الإلهي وغيرهم بالتحصيل والتعلم. هؤلاء الشيوخ  المسنون الذين احتوتهم المدرسة العلمية غير المتطورة فملأت كل أيامهم بل  ساعاتهم؛ أنّى لهم استيعاب المسائل والمواضيع المالية والاقتصادية. هل لديهم  إدارة قوية ومكتب متطور قادر على تسجيل الإيرادات والمصروفات وتحليلها وعرض  النتائج والميزانيات على الأمة؟ إني أخاف عليهم أن يأثموا ويتمتع بأموال  الأمة غيرهم. المطلوب منهم أن ينشروا فتاواهم ونحن ننفذها. ليس مقبولا اليوم  أن يجتمع التشريع والتنفيذ في شخص واحد. إن ذلك غير مطمئن ولا يليق بهذه  الشخصيات العلمية والدينية المحترمة.