العبادة |
مفهوم العبادة نسمع كثيرا عن هذا المفهوم ونقرؤه في كتاب الله تعالى وفي أحاديثنا اليومية وكتبنا ورسائلنا. ويتهم الناس بعضهم البعض بأنهم قد عبدوا غير الله تعالى مثلا دون أن يقبل المتهمون ذلك في العادة. الكل يصر بأن ما فعله تجاه غير الله تعالى لا يُعتبر عبادة بأي حال من الأحوال. ونحن في هذا البحث المختصر بصدد اكتشاف المعنى المقصود قرآنيا لعله يفيد الذي يسعى لإرضاء ربه أو يتشوق لتصحيح عقائده وأعماله. ولكي نتمكن من معرفة معناها بدقة فإننا نبدأ بالبحث عن:
الفرق بين العبادة والركوع والسجود وبما أن السجود عام لكل الممكنات أمام ربهم وخالقهم فنبدأ ببيانه. السجود لغويا يعني نهاية التطامن والانحناء، ولا فرق بينها وبين الركوع، إلا أن الركوع يتحقق بمجرد الشروع في الانحناء ولكن السجود هو نهايةُ الانحناء وحيلولةُ الأرض دون المزيد أو بالأحرى الوقوعُ على الأرض. هذا هو المعنى الفيزيائي للكلمتين. ولكن المصطلح مختلف قليلا. فالركوع في القرآن وهو مختص بالبشر قد أتى بمعنى الشروع في الانحناء بقصد عدم النظر في وجه الذي يُقدَّم له المساعدة المالية. ذلك لأن المؤمن يُقدم المال باعتباره حقا للفقير لا تفضلا منه عليه. {وفي أموالهم حق معلوم 24 للسائل والمحروم 25}سورة المعارج. و قد ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين الصادقين بأنهم عمليا يركعون حين تقديم الزكاة ولعل السر في ذلك أنهم لا يحبون النظر في وجه الفقير فلا يخجل المحتاج. وذلك يصدق بجدارة إذا ما سعى الذي يدفع المالَ تزكيةً لماله ولنفسه لإيصال المعونة إلى من يحتاج بدون المواجهة وبدون أن يروي القصة لأحد إمعانا في التخفي على المُعوِز لصيانة وجهه وهكذا عدم إظهار نفسه للمجتمع ولأهله أيضا تورعا عن الرياء. قال تعالى في سورة البقرة: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ وقال تعالى في سورة المائدة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿55﴾. هذا الركوع يصدق فيزيائيا بمجرد انحناء الرأس للمنع من النظر في وجه المحتاج.
وأما الركوع الكامل المعروف في الصلاة، والذي ورثناه من نبينا الحبيب عن طريق المسلمين، فلم نر في الحيوانات الفقارية من يقوى على هذا النوع من الانحناء من منتصف البدن غير الإنسان. ولعل هذا هو السر في تخصيص هذه الكلمة بالبشر قرآنيا. فلا غرو أن يكون الركع السجود المذكور بالنسبة للطائفين هو باعتبار أن الحج والطواف خاص بالبشر وهم القادرون على أن يركعوا ساجدين لا غيرهم. وركوعهم الفيزيائي في الطواف هو عدم النظر إلى وجوه الآخرين تماما مثل الركوع حين الزكاة ولكن بقصد الابتعاد عن الروابط الإنسانية بين الأصدقاء والأزواج والأحباب والتوجه بخضوع وذلة أمام رب العالمين. وأما الركوع في الصلاة وقد سمي الركعة به ركعة، فهو بمعنى الانحناء لحد مس الركبتين براحتي اليدين وهو منتصف الحد الفيزيائي للركوع. ذلك تعبير عن قيام الإنسان بما يخصه من سجود فيزيائي أمام ربه بقصد الذلة وبما أن الركوع ميزة إنسانية لا يقوى عليه غير الإنسان فإنه يخر ساجدا مرة للاستغفار بما يُتوهم معه الشعور بما يميزه ويرفعه عن بقية الحيوانات ويعقبها بسجود آخر بغية السجود الخالص غير المشوب بالاستغفار بل بغرض التسبيح فحسب. ولذلك فإني لا أحبذ الدعاء حين الركوع والسجود بل أفضل الاكتفاء بالتسبيح الخالص لرب العالمين جل جلاله. هذا ما يبدو لي في ما يرتبط بالصلاة وأرجو أن يكون قريبا من الواقع بإذن الله تعالى. ومما يقوي هذا الاحتمال عندي هو قيامنا بسجدتين بعد الركوع دائما على أننا يمكن أن نسجد مرة واحدة خارج الصلاة للشكر مثلا، إذ أنه حينئذ سجود بلا سبق ركوع.
وأما السر في ذكر السجود قبل الركوع بالنسبة للعالمة الفاضلة مريم ابنة عمران هو أنها وكما سنعرف عنها فيما بعد بلغت درجة رفيعة جدا من التفاني في سبيل الله تعالى. إنها ذابت فعلا في حب ربها فتحقق لها الخضوع المطلوب ولكنها كانت تركع وتسجد مجاراة للناس، وهو واجب على كل الناس بالطبع. والآية في سورة آل عمران تقول: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ﴿42﴾ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾ ويمكننا استنتاج ذلك بملاحظة أن الأمر بالركوع مسبب لتكون مع الراكعين بعكس السجود الذي يتبع القنوت ومعناه برأيي التوجه الحقيقي إلى الله تعالى بكامل القلب. فإذا توجه المرء بكامل قلبه إلى سيد الكائنات جل جلاله خشع قلبه واضطرب وتحقق السجود الحقيقي مجاراة مع بقية الموجودات اللاّ إرادية مثل الملائكة. مع العلم بأن الإنسان موجود يملك الإرادة ويسعى للاحتفاظ بها جهد الإمكان فالعبرة بأن يتخلى عن الإرادة أمام مالك الملك وعليه يستحق الجزاء. فالسجود ومعناه الخضوع المشترك مع بقية الموجودات والتي تتحقق بمجرد القنوت ثم حركات البدن الخاصة بالبشر الراكعين التي تعطي الناظرين نبأ قيام القانت بالصلوات التقليدية المعروفة. هكذا صلت مريم عليها السلام. وأما نحن فقلما يتحقق لنا ذلك بل نقوم بما قاموا به شكليا أملا في التشبه بهم عليهم السلام.
وأما العبادة، فهي عبارة عن خضوع الجن والإنس إراديا لربهم وهي خاص بهما دون غيرهما. وأما عدم استكبار الملائكة عن العبادة فهي لا تعني العبادة الفعلية بل تعني أن الملائكة في غاية الخلوص والحب لله حتى لو أنه سبحانه منحهم الإرادة فإنهم سوف يعبدون الله تعالى وهذا معنى عدم الاستكبار عن عبادته سبحانه. ولا ننس بأن العبادة وهي خاصة البشر والجن في الدنيا ونحن جميعا دون مستوى الملائكة الذين هم الملأ الأعلى بالنسبة للناس جميعا وللجن دون استثناء، فالعبادة بالنسبة لهم نزولٌ عن الرتبة لأنها خاصة البشر ولكنهم لا يستكبرون عنها لأن العبادة تمثل اللحظات التي يتقرب بها العابد إلى ربه وهم لا يستكبرون عن التقرب إلى الله تعالى بأي شكل كان. مثالُهم مثالُ الإنسان المؤمن الذي شاء الله تعالى له أن يعيش ولكنه مستعد للتضحية بالنفس في سبيله سبحانه إذا رأى في ذلك ضرورة أو شعر بأن الله تعالى يريد له ذلك. والاستعداد للموت نزولٌ عن مرتبة الحياة واستعدادٌ للموت الذي هو غير مطلوب للإنسان. وسنشرح ذلك بالتفصيل مستقبلا بإذنه سبحانه.
وقبل أن نتعرف بدقة أكثر على الفرق بين العبادة والصلاة أو الصلوات التقليدية المعروفة بين المؤمنين بالله، فإني أوجه عناية القارئ الكريم إلى الآية 21 من سورة البقرة : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. إنها تدل دلالة واضحة على أن العبادة مقدمة للتقوى. في حين أن الصلاة لا يأتي بها إلا المتقي. وقد سمعنا كثيرا عن الذين سبقونا من الرسل بأنهم لم يأمروا أقوامهم بالصلاة بل أمروهم بعبادة الله تعالى والخوف منه سبحانه. ولعل معرفة السبب في العبادة يعيننا على فهم معناها بيسر أكثر.
لماذا نعبد الله تعالى: اعتدنا ونحن نقرأ كتاب الله تعالى أن نرى كلمة العبادة بكل صيغها مصحوبة بالألوهية أو الربوبية أو خطابٌ من الله تعالى يأمر أن يعبدوه ولم نر هذه الكلمة مصحوبة بالرحمن إلا ما في سورة الزخرف وهن : 1) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ ﴿20﴾ وذَكَر الرحمن هنا بأنه رحمن لكل من في الوجود فكيف تعبدون موجودا يقع تحت رحمة رب العالمين؟ إن في ذلك العمل تشبيه ٌ مشينٌ بين الراحم والمرحوم. 2) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴿45﴾ وفي هذه الآية أضاف الله تعالى مسألة الجعل من عنده إلى الرحمة العامة، فكيف يمكن عبادة من هو مجعول بغيره ومرحوم بغيره؟ 3) و قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴿81﴾ وفي هذه الآية إشارة واضحة بأن الرحمن لا يمكن أن يكون له ولد إذ أنه يكون مرحوما حينئذ والمرحوم لا يجوز عبادته. فلو قبل العقل أن يكون لمن هو مرحوم سنخيةً مع الله تعالى بأن يكون ولدا له فأنا أول من يعبد ذلك الولد. يقول النبي ذلك لاستحالة تحققه لا لاستعداده بأن يعبد غير الله، معاذ الله.
وما عدا ذلك فلا ترى العبادة في القرآن الكريم مصحوبة بالرحمن ولا بالرحيم، على أنها وردت بمعنى عبادة الله تعالى وكلها مشتقة من عبد نحو 72 مرة في القرآن الكريم كما ورد قريبا من نفس العدد للسلب. ذلك لأن العبادة في عمق معناها تدل على الخضوع والذل تماما كالسجود أو الركوع، ولكنها مقيدة بالإرادة. ونسمي الطريق الذلول المعدل طريقا معبّدا. ذلك لأن من شأن الأرض أن تكون غير معبدة بطبيعتها ولكننا نذللها فعليا، فالعبادة عمل إرادي خارج عن نظام الطبيعة التي تُخضع كل شيء بطبيعتها لله تعالى. فمتى ما شعر الإنسان أو أشعر نفسه بأنه منقاد خاضع لموجود آخر فهو عابد له. ولم يرض الله تعالى لأي موجود أن يخضع أو يسجد لموجود آخر غير الله تعالى وما نراه من أمر بالسجود لآدم فهو مسألة فيزيائية أمَرَ الأقوياءَ بها لضعف آدم وليس خضوعا له كما تراءى للمفسرين الكرام. وسوف أشرحها في مكانها ولقد شرحتها عدة مرات لإخواني وأخواتي التلاميذ. والذل يتناسب مع الاسم الدال على النظام الذي يُخضع بطبيعته كلَّ الممكنات ولذلك ذكره الله تعالى مع الله ومع الرب باعتبار الربوبية التي تعني تطور الموجودات تحت نظام الألوهية وذكره متكلما ليأذن لنا بالعبادة كما سنعرف بعد قليل.
والعبادة هي أكبر علامة لعدم الاستكبار ويقوم بها الموجود المريد متقربا إلى الله تعالى. ومعنى التقرب هنا ليس التشبه بالله طبعا كما يتقرب الإنسان إلى الإنسان بل معناه إشعار النفس بأن إرادته التي تميزه عن بقية الموجودات والتي تمكّنه من عدم الخضوع لله تعالى لن تعوق عن أن يستعمل نفس الإرادة للعودة إلى الله تعالى وإظهار الخضوع الطبيعي الذي هو شأن المخلوق الضعيف للقوي العزيز جل جلاله. فهو يتقرب إلى الله تعالى بالذل أمامه كما يتقرب إليه ملائكته والذين عنده سبحانه. وحينما يشتد معاني العبادة لدى الإنسان فإنه يبدأ بإعادة الإرادة إلى الله نفسه كما قال تعالى وهو يُعلّم عبده محمدا في سورة المزمل: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴿8﴾ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴿9﴾ وهذه درجة رفيعة من درجات التقرب إلى الله تعالى وهناك درجة أرفع منها وقد شهد الله تعالى لعبده إبراهيم بذلك في سورة النجم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴿37﴾ ومعناها تسليم النفس كاملة إلى الله تعالى فلا يُتوفى الإنسان بعده ولم يذكر الله تعالى توفيا لإبراهيم كما ذكر ذلك لبقية الأنبياء حين موتهم، وسنشرحها في مكانها بإذنه تعالى.
أما ما ذكره المحدثون من أن الإنسان في عبادته وطاعته يصل إلى مرتبة يقول للأشياء كن فيكون، فهو محض خيال عار عن الصحة وهو تماما عكس ما قاله سبحانه في كتابه كما علمنا. لا أدري، فلعلهم يعرفون عن الألوهية أكثر من القرآن!!! والأنكى من ذلك أن صانعي الأحاديث - مع الأسف – يتخيلون أحيانا بأن بعض الناس في الآخرة يكونون أكثر اختيارا منهم في الدنيا وأنهم يشاءون كما يشاء الله تعالى والعياذ بالله. هذا الكلام يخالف صريح القرآن الكريم الذي يقول بأن الحكم كله سيكون لله من بعد الموت. وقوله سبحانه في آخر الانفطار: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴿19﴾، يشمل عدم تملك النفس شيئا لنفسه أيضا.
إنما، نحن نعبد الله تعالى خضوعا لنظامه الألوهي الذي أخضع به كل الموجودات للذات القدسية جل جلاله. والخضوع يتناسب مع اسم الجلالة أكثر من أن يتناسب مع الرحمن والرحيم. إن الاسمان الحسنان يدلان على إمداد الله تعالى لخلقه بما يحتاجون إليه تفضلا منه ورحمة واسم الله يدل على النظام الإلهي المسيطر على كل الممكنات والماسك لها ويدل الاسم بجوهره على إخضاع غير الله لله جل جلاله. فنحن بالعبادة نتمنى العودة إلى تلك الحالة الطبيعية لألا نكون شواذًّا بين الكائنات ولأن ندرب نفوسنا على العودة الطبيعية بعد الموت وحينما تتلاشى إراداتنا إلى الأبد فلا إرادة لأحد بعد الموت إلى الأبد. إن الناس والجن إذا خسروا الحياة الدنيا فإنهم لن يتمكنوا من التمتع بلذة العبادة بعد الموت. هناك السجود والخضوع دون العبادة. بالطبع أن المؤمنين يستمرون في خضوعهم لرب العالمين حتى في جنات النعيم ويصلون صلاة غير عبادية شكرا وحبا لله تعالى ويشكرون الله تعالى أن سمح لهم بالسجود فهو يمنع أهل النار حتى من السجود له بسلب قدرة السجود عنهم كما سنعرف مستقبلا.
مظاهر العبادة: وتظهر العبادة في ثلاثة مظاهر اختياية على الأكثر وهي الشكر والطاعة والحب. فما قام به إبراهيم من استعداد لقتل ابنه فهو مظهر من مظاهر الطاعة والحب الكبير لله رب العالمين وما يقوم به هو نفسه وأمثاله من إقامة للصلوات فهي مظهر من مظاهر الشكر و الطاعة والحب لمن منحه كل ما يملك من مقومات وجودية وحيوية ومما يعطيه البهجة والرضا، سبحانه وتعالى. وما نشعر به من رضا وامتنان حينما نتمتع بنعم الله تعالى فهي مظهر من مظاهر الشكر العبادي وما نقوم به من مقاومة لشهواتنا فهي من منبثق الطاعة العبادية وما نتحسس من اطمئنان وسرور حينما نسمع باسم مولانا الرحمن الرحيم رب العالمين فهي مظهر من مظاهر الحب العبادي.
وفي المقابل فإن كلما يقوم به الناس من مظاهر الاحتفال والترحيب القومي أو الطائفي أو الوطني بزعيم سياسي أو ديني فهي مظهر من مظاهر الحب العبادي من إنسان تجاه إنسان مع الأسف وكلما يتسابق عليه الناس الموالون للبشر من الطاعة لبشر آخر كائنا من كان ذلك الشخص فهو مظهر من مظاهر الطاعة العبادية لمن لا يجوز طاعته طاعة عمياء وكلما ينحني الناس أمام إنسان حي يفيدهم أو ميت غائب عنهم فهي من مظاهر الشكر العبادي الخاضع لمن لا يتجاوز أن يكون أخا لهم. ليس في القرآن الكريم أية نسبة مولوية وسيادية بين الأنبياء الذين هم صفوةُ البشر وبين عامةِ الناس بل النسبة تنحصر في الأخوة والصحبة لا غير. لم يوجب الله سبحانه طاعةَ إنسان ولكنه تعالى أوجب طاعةَ الرسل باعتبار حملِهم لرسالة الله تعالى ووعد بأن يعصمهم من أي خطإ في رسالتهم. فطاعةُ الرسل طاعة فعلية لله تعالى ولا دخل للإرادات البشرية في ذلك أبدا. وطاعة الرسل واجبة على الرسل أنفسهم بأشخاصهم، ولذلك فسوف لن يفيدنا الأنبياء في علاقاتنا مع ربنا عدا التعليم الدنيوي والعلم عند الله تعالى.
وهذه الحقيقة لا تمنع أحدا من إظهار الحب المحدود لإنسان مثله ولا في طاعة أو شكر أمثاله من البشر فهي عين الأدب أو الرحمة أو الابتهاج المباح ولكن لا تتعدى الحدود المتعارفة لتصل حد العبادة. فالعبادة في الواقع نوع خضوع تحصل للمرء ليوجهه توجيها أعمى تؤدي إلى التفاني والتضحية في سبيل إنسان آخر أحيانا. ويصل هذا الخضوع في بعض الأحيان حد التضحية بالنفس. من واجب كل إنسان أن يحب نفسه التي منحها الله تعالى له ولا يجوز له أن يفدي نفسه لشخص إطلاقا إلا إذا كان الموت في سبيل الله وحده. وأما أن تموت في سبيل إنسان وتسميه سبيل الله فلا تنتظر أكثر من مقام المشركين بالله يوم القيامة. لم يقل إسماعيل جوابا على استفسار أبيه: يا أبت افعل ما تريد ولم يقل: يا أبت افعل ما تحب بل قال: يا أبت افعل ما تُؤمر. وهذا يعني بأنه هو وأبوه كلاهما كانا يطيعان ربهما في مشهد القتل المنتظر.
وقد لاحظت كثيرا بأن مفهوم العبادة غير واضح للناس مع الأسف وخاصةً المسلمين الذين يؤمنون بالكتاب الكريم. لعل ذلك بل قطعا ذلك من فعل الشيطان الرجيم الذي يسعى دائما لتضليل الناس وتشويه الحقائق في أذهانهم. فلا بد من بيان مقياس دقيق يساعد من يشاء في فهم معنى العبادة بعد أن عرف بأنها مسموحة بالنسبة لله تعالى وحده وبأن الطامة الكبرى هي عبادة غير الله تعالى، كائنا من كان وبأي نوع من أنواع العبادة. وخير مرجع للاستبيان هو كتاب الله تعالى نفسه:
1) قال سبحانه في سورة يس: وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿22﴾ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ ﴿23﴾ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿24﴾ اعتبر الله تعالى توسيط المرء أحدا بينه وبين ربه وهو المقصود من الشفاعة هنا، عبادة لغير الله. ولعل القارئ الكريم بعرف بأن مقطع "من دونه" يعني إشراك أحد مع الله في العبادة حسب تعبيرنا ولكن الله سبحانه يعبر عنه بـ من دونه، إذ لا يمكن عمليا إشراك أي شيء مع الله تعالى. ولكن الناس يشركون بألسنتهم أشخاصا مع الله فيكسبون الإثم وعذاب النار دون أن يكسبوا شيئا فعلا أو يستمتعوا بلذة في الدنيا. خسروا الدنيا والآخرة، أسفا.
والمصيبة الكبرى في مسألة الشفاعة التي جاء الأنبياء جميعا ليمنعوا منها هي أن الإنسان يميل إلى الشفيع أكثر من الله تعالى باعتبار أن المتمسك بالشفيع يعتقد بأنه ينفعه من دون الله سبحانه، مع أن القوة لله جميعا. ذلك لأن الشفيع يملك مقاما كبيرا وجاها عظيما لدى خالق السماوات والأرض، أرحم الراحمين. والله تعالى حسب مقولتهم لا يمكن أن يرد هذا الشفيع لما له من مقام عند ذي الجلال والإكرام. والآية الكريمة في رد هذه الشريحة الكبرى من المجتمع المؤمن إيمانا ناقصا بالله مع الأسف. فالذي يطلب الشفاعة فإنه يعبد غير الله وهو المقصود من جملة "أتخذ من دونه آلهة". والآلهة جمع الإله بمعنى المعبود.
2) قال سبحانه في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿172﴾ و قال بنفس المعنى تقريبا في الآية 114 من سورة النحل وكذلك الآية 17 من العنكبوت. فالشكر وهو الذي نقدمه كل لحظة لمن شئنا هو مظهر من مظاهر العبادة والمشكور معبود. ولا أظن بأن تقول لشخص: أنت مشكور، هو المقصود في هذه الآية وإنما المقصود أن تنظر إلى أية نعمة تنعمت بها لترى من الذي أولاك إياها حقا فتشكره شكرا قلبيا خالصا والله وحده هو المنعم وهو ذو الفضل العظيم. وبقية أنواع الشكر العادي فهو تكريم وتشجيع لمن يقوم بعمل حتى لا يستوي لديك المحسن مع المسيء. ألم يقل الله تعالى لرسوله بالنسبة لبعض المنافقين الذين تابوا بعد أن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا كما في التوبة: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿102﴾ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿103﴾ كما أن الله تعالى بنفسه شاكر فهل الله يعبد أحدا؟ كلا بالطبع ولكن هناك فرق بين الشكر للمنعم الحقيقي والشكر للذي قام بعمل جزئي طيب اختيارا. والشكر الثاني هو شكر جزاء ولكننا لا نجزي ربنا حينما نعبده عبادة شكر. يجب ألا يصل الشكر حد التفخيم والتعظيم فيتحقق الخضوع من الشاكر والخضوع الاختياري عبادةٌ بأي شكل صدر منك.
ووردت العبادة بمعنى الشكر في عدة آياتٍ أخر مثل: قريش 3، ثم 72 و 73 من النحل، 3) يقول سبحانه في سورة طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴿14﴾ ولم نر الصلاة مذكورا تحت مفهوم العبادة في القرآن الكريم بل هي ذكر فعلا. وإذا سمينا الصلاة عبادة فباعتبار أن الإتيان بها طاعة لله رب العالمين والطاعة عبادة. إن الصلاة التقليدية التي نقيمها خمس مرات كل يوم لهي تذكير لأنفسنا حتى لا ننسى الله تعالى ونستمر في صلاتنا له سبحانه طول اليوم. وسوف أشرح ذلك عند تفسير الآية 23 من سورة المعارج، كما سأبين معنى الصلاة (التقليدية) في بداية البقرة بإذن الله تعالى. وأما العبادة في جوهرها لا تعني الصلاة. هذه الآية الكريمة تأمر موسى بن عمران أن يعبد الله تعالى لأنه المعبود الذي لا معبود إلا هو ويقيم الصلاة لذكر الله تعالى. لم يقل: وأقم الصلاة لعبادتي. 4) وأما سورة الزمر فإنها توضح مسألة العبادة بكل دقة وتبعدها عن أية ساحة غير الله تعالى وتجعل المؤمنين جميعا بمن فيهم نبيهم في صف واحد يعملون بالقرآن ويخافون عذاب الله دون أي تمييز بينهم ويتبعون القول الصحيح بغض النظر عن مصدره. وهذه هي الآيات: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿11﴾ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ﴿12﴾ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿13﴾ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ﴿14﴾ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿15﴾ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ﴿16﴾ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ﴿17﴾ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴿18﴾ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ﴿19﴾
والآن دعنا ننظر نظرة تحليلية مختصرة لهذه الآيات الكريمة حتى يحين موعد بيانها مستقبلا بإذن الله تعالى. إن النبي مأمور بأن يخلص دينه ومعناه التزامه وتمسكه لله تعالى حين العبادة. هذه الجملة لا تعني غير الطاعة لله تعالى وبأن الطاعة لله وحده هي عبادة. ذلك لأن العبادة تعني الخضوع والخضوع عند الطاعة يعني عدمَ الالتزام والطاعةِ لغير الله تعالى. إذا عرفنا هذا المعنى سهُل علينا معرفة عبادة الطاغوت وهو الشيطان الرجيم. فعبادة الطاغوت تعني طاعته ولا تعني الوقوف وإتيان الركوع والسجود التقليدية له. ليس هناك أحد يقف ساجدا وراكعابالحركات المعروفة في الصلاة، للشيطان. غاية ما هنالك أنهم يطيعونه والشيطان اللعين نفسه سوف يقول لهم يوم القيامة كما في سورة الزمر: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿22﴾
فليست هناك عبادة تقليدية للشيطان بل هي طاعة واتّباع. واعتبر الله تعالى الطاعة عبادة في آيات الزمر أعلاه. ومجمل آيات الزمر يوضح مفهوما قرآنيا جديا وهو أن النبي بنفسه مأمور بالعمل وبالطاعة وبالعبادة مثل بقية الناس وبأنه لا يملك شيئا في يوم الحساب ولا يمكنه إنقاذ أحد من النار. كما تُنبِّأُنا الآيات بأننا مدعوون لأن نستمع إلى كل قول بأنفسنا ثم نتبع أحسنه. وهذا يستلزم أن يقوم كل فرد منا بالتفكير بنفسه دون تقليد لأحد. ذلك لأن التقليد في حد ذاته طاعة مظلمة لإنسان يمكن أن يكون صادقا أو كاذبا وعلى حق أو على باطل وعلى علم أم على جهل. والسر في هذه الدعوة هو أن الهدى لن يأتي من الرسول ولا من أحد من الناس بل هو خاص برب العالمين يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم ويترك من يشاء في ضلال مبين، أو يجعله عرضة للشياطين. والآية التالية من سورة يس تفيد نفس المعنى تقريبا: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن ّلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿60﴾ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾. و هكذا الآية 36 من النحل، و56 ثم 57 من الذاريات، إضافة إلى الآية 66 من الزمر.
ولا يُنكر المفسرون الكرام بأن الطاعة عبادة وفي هذا المقام نذكر ما قاله العلامة الطباطبائي عند تفسيره للآية 23 من سورة الإسراء في تفسير الميزان ما نصه: {و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجن و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربه فيما أمره به أو نهاه عنه والطاعة عبادة قال تعالى: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان": يس: 60، و قال: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه": الجاثية: 23، حتى أن الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقر بسذاجة فطرته بالصانع تعالى}.
ولو نعود إلى الآيات 11 – 19 المذكورة أعلاه من سورة الزمر لنرى الآيات تشجع الناس أن يتفكروا في ما يسمعونه وذلك بعد أن يأمر الرسول نفسه بأن يصحر للناس بأنه عليه السلام هو أول المسلمين. فلا ولاية له على الناس ولا سيادة ولا مولوية بل هو واحد منهم وهو بنفسه أول من يسلم وجهه للذي أرسله وأرسل معه القرآن الكريم. بالطبع أن الصحابي المسلم ما كان يشعر بالحاجة إلى أن يفكر في صحة قول رسول الله بعد أن علم بأنه مرسل من الله تعالى وبأن القرآن هو أمر الله تعالى وقوله والرسول مجرد ناقل أمين. لكن الأمر بالتفكير هنا يساعد كل إنسان أن يعرف مغزى كتاب الله تعالى ثم يقارن بينه وبين غيره من المقولات. والقرآن برمته يدعو ويجر الناس باتجاه التفكر وعدم التقليد والتبعية المطلقة كالأغنام. والسر في امتياز هذه الدعوة عن الدعوات السابقة للذين هادوا والذين قالوا إنا نصارى من حيث تشديد الأمر بالتفكير هو أن الرسول كان آخر القطار الرسالي والله تعالى كان يرى في عبيده المتطورين القدرة على التفكر والتمييز بين الحق والباطل. لكن الذين ابتعوا معاوية من أهل الشام ومن أتى بعده من بني أمية وبني العباس أعادوا الناس إلى كسلهم وخمولهم الماضي ضد القيام الشجاع بالتفكير واختيار الطريق الصحيح.
ويمكن أن نستنتج من نفس الآيات الكريمة مسألة أخرى وهي أن الله تعالى الذي خلق الإنسان وعلَّّمه البيان، فإنه يرى من شأن الإنسان أن يطمح في التفكر واستعمال المواهب الربانية الكبرى للبشر. إنه في ذروة تطوره أهل لأن يتفكر ويشعر بالاستغناء عن كل إنسان حتى الأنبياء. هناك سوف يعلم من هو الله تعالى. ودون ذلك فإنه ينظر إلى الله تعالى من منظار الآخرين. والله تعالى يحب أن يرى عبيده متصلين به ومرتبطين بخالقهم وربهم ويكره أن يراهم متمسكين بأذيال الآخرين ولو كان الآخرون أُناساً طيبين. بالطبع أن هناك أسبابا كثيرة لذلك ولكني وفي هذا المقام أكتفي بذكر حقيقة واحدة مشهودة لنا جميعا. فليس في الأرض عاقل متحضر لا يسعى لتربية أبنائه وبناته على كسب العلوم والمعارف بالرغم من أنه يراهم أكثر منه تطورا وتجليا في المجتمع إن تعلموا. إن كل أب يرى بأم عينه التطور العلمي والتقني المطرد في الحياة. إن الأب المخلص يتطلع إلى ألا يتأخر إبنه وابنته عن ركب الحضارة فلا يسقط أو تسقط في مهاوي الركود والجمود والجهل. فكيف بربنا الذي هو أكثر قربا إلينا من أبوينا لأننا نفقد أبوينا إلى الأبد بعد أن يموتوا ولكننا لا نفقد الله تعالى أبدا. ثم إن أبوينا قد ساهما في ظهورنا إلى الحياة لكنهما كانا غائبين حينما قدر ربنا هذه الأرض وأرزاق أهلها وسلامتهم وأمنهم قبل بلايين السنين. فالله تعالى بالطبع يريد لعبيده الذين خلقهم ورزقهم وآواهم بيده وعلى عينه، أن يتطوروا ويتعلموا ويتقدموا إلى الأمام. ذلك شأن الجبار العظيم فعلا وحقيقةً.
توضيح ودفع إشكال: ولا ضير أن نفهم بأن طاعة الرسول ليس خضوعا عباديا له عليه السلام بل هو طاعة لله تعالى ولذلك أمرنا سبحانه بأن نطيعه كما أنه هو عليه السلام مأمور بأن يطيع الرسول أيضا. إنه من أول المطيعين لنفسه التي استلَمَتِ الوحي من رب العالمين ومن أول العاملين به ولذلك كان أسوة للصحابة الكرام رضي الله عنهم. إن طاعته أهم من طاعة أولي الأمر الذين اخترناهم ليديروا شؤوننا الدنيوية ولنا أن نعزلهم متى ما شئنا. والسبب في ذلك أنه لا يمثل نفسه ومتبتغياته الشخصية ولا يمثل استحساناته وأهواءه حينما يأمرنا ويدعونا لطاعته. وأكبر دليل على ذلك سعيه لهداية أهله وعشيرته الأقربين بنفس النمط الذي دعا به غيرهم.إنه لم يعِدهم ولم يبشرهم بصورة شخصية ولم يقل للعباس بن عبد المطلب أكثر ما قاله لأبي بكر، إلا أن العباس رفض ولكن أبا بكر استجاب فهنيئا له. وكان يتألم الرسول من رفض عشيرته إياه وما بيده حيلة. كان بإمكانه أن يُشكِّل معهم حزبا سياسيا باسم الدفاع عن وطنهم ثم يطيعونه في دعوته إلى الله تعالى و إلى ر فض الأصنام.
لكنه لم يفعل ذلك لعدم الجواز بل كان عليه أن يقول لهم كما يقول لغيرهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. فالتدرج في تبليغ وتكميل الرسالة لا يعني أن يبدأ بالخطأ طمعا في جلب المزيد من الأنصار. وقد اتبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلم يرض بما نصحه به المغيرة بن شعبة كما يذكره المؤرخون، في إبقاء معاوية على ولايته للشام حتى يسيطر على الأمور وهو يعني أنه يمكن أن يعزله إن شاء ولكن بعد أن يستتب له الأمر. ولا ننس أن معاوية أقرب إلى علي نَسَبِيا من أبي بكر وعمر ومن الكثير من القرشيين من صحابة علي. إن الأنبياء و حينما يدعون الناس لطاعتهم إنما يدعونهم للخضوع والطاعة لله في الواقع. قال نوح كما في سورة نوح: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿2﴾ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴿3﴾ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿4﴾ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا ﴿5﴾ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاّ فِرَارًا ﴿6﴾ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴿7﴾.
فلو نلاحظ أنه عليه السلام كان يدعو قومه لطاعته ويُعيز كل النتائج لله تعالى كما يرادف طاعته بعبادة الله تعالى والخوف منه سبحانه وليس لنفسه أو من نفسه. ذلك لأنه يدعو إلى الخضوع لله تعالى ونعرف بأنه لم يدعهم إلى الصلاة التي لم تكن معروفة أيام نوح. فالدعوة إلى العبادة هي دعوة للطاعة الخاضعة لله والخوف منه سبحانه، وهم هكذا يطيعون أخاهم نوحاً في دعوته لغيره وليس خضوعا له. وعلى هذا الأساس ما كان لهم أن يطلبوا أجرا لأنفسهم لأنهم لم يفعلوا شيئا للناس عدا الدعوة إلى الله تعالى وحده فلا أجر لهم من غير الله تعالى الذي أرسلهم وأمرهم بما دعوا به قومهم. وقد وضح الله تعالى ذلك في سورة الشعراء ونوضحها كما يلي:
فقال تعالى فيها وهو يبين موقفهم يوم الجزاء: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿92﴾ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴿93﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿94﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿95﴾ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿96﴾ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴿97﴾ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿98﴾ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾. هذه الآيات الكريمة جاءت بعد دعاء إبراهيم ولعلها من قول إبراهيم. وكان قوم إبراهيم يعبدون الأصنام وقد اعتبر الله تعالى طاعتهم لعلمائهم الذين يدعونهم لعبادة الأصنام عبادة لأولئك العلماء.والدليل على ما أقول هو أنهم محشورون معهم في جهنم مع جنود إبليس الذين اشتركوا في إقناعهم نفسيا بالخضوع للعلماء. فليس من المعقول أن يحشر الله تعالى الأصنام الصامتة التي لا تملك نفسا يوم القيامة. إنه سبحانه سوف يدمر كل المواد الأرضية كما وعد فلا وجود للأصنام كما لا ذنب للأصنام. إنما يحشر علماءهم وأحبارهم الذين أغووهم وأضلوهم بمساعدة الشياطين. والشياطين هم المقصودون بالمجرمين في الآية الأخيرة. وقولهم لعلمائهم يوم القيامة بأنهم سووهم برب العالمين هو باعتبار أنهم أطاعوهم طاعة خاضعة دون جدل. والطاعة الخاضعة لا تكون إلا لله تعالى باعتباره ربا ومدبرا حكيما للعالمين كما أنه سبحانه مالكٌ للعالمين.
لم يكن صحابة الرسل خاضعين للرسل بل كانوا خاضعين لله فقط ويشاركهم في ذلك رسلُهم. إنهم كانوا يجادلون أنبياءهم في غير الرسالة ويطلبون منهم الدليل على ما يقولون تماما كما أمرهم الله تعالى في سورة الزمر، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى. ولم يمنع الله سبحانه من ذلك.إنه تعالى ذكر المرأة الصحابية التي جادلت رسول الله في سورة المجادلة بخير وتقبل مناجاتها لربها أثناء المجادلة مع الرسول ولم يمنعها من تلك المجادلة. فليس هناك بحضور الرسول طاعة خاضعة دون جدل لغير الله تعالى. وطاعةُ الرسول في اتباع القرآن هو طاعة لله دون ريب والرسول نفسه يتقدم على قومه في الإتيان بنفس الطاعة بكل خضوع. فطاعة الرسول ليست عبادة ولكن طاعة العلماء كانت عبادة للعلماء. وهناك فرق آخر وهو أن أولئك العلماء وكل من يُعرف اليوم بعلماء ورجال الدين في كل الأديان والمذاهب، فإنهم لا يحملون رسالة من الله تعالى وطاعتُهم ليست طاعة لله بل هو خضوع وإذعان لهم وهو محرم قطعا. إن من واجب من علم أمرا مرتبطا بحقائق الألوهية أن يُعلِّم غيره وليس التعليم أمرا مولويا بل هو دعوة للمعرفة فحسب. وليس واجبا أبدا أن يتبع الناس فتاوى علمائهم بل يأثمون في ذلك ويظنون أن أعمالهم مقبولة ويخطئون في تحميل علمائهم المسؤولية.
وقد بين الله تعالى نوع الطاعة التي نقدمها للأنبياء في نفس سورة الشعراء عند ذكر قصة نوح من قومه هكذا: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴿105﴾ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ ﴿106﴾ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴿107﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿108﴾ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿109﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴿110﴾. فنوح ليس سيدا ولا مولى للناس بل هو أخ لهم. ونوح يأمرهم بالتقوى من الله تعالى وبطاعته دون أن يسأل أجرا. إن أجره على الله لا عليهم. وجملة إن أجري إلا على الله، تدل دلالة واضحة بأن دعوتَه لقومه إلى عبادة الله تعالى، لا يُمثِّل أية خدمة يستحق عليها أجرا من قومه. إنه يخدم ربَّه لاقومَه. والغريب أن الإخوة المعروفين بالعلماء يطلبون المال والأجر من الناس بحجة أنهم يمثلون الرسل وطاعتُهم واجبة كطاعة الرسل ولذلك لا نرى أحدا يخاطب العلماء بالأخوة أو الصحبة بل يخاطبونهم بالمولى والسيد ويُقبِّلون أيديهم ويخضعون أمامهم ويعتبرون طاعتهم واجبة كطاعة الله تعالى. معاذ الله من ذلك.
وأتذكر أن الخطيب المرحوم محمد تقي الفلسفي المعروف في إيران قد تحدث في بدايات النهضة الوطنية للإمام الخميني في خطبة معروفة ومسجلة لدى الإيرانيين على الأشرطة. قال الفلسفي فيها وهو يدعو الناس لتقديم الطاعة للمرجعين المعروفين آنذاك وهما الخميني و شريعتمداري، قال بملء فمه: ليس هذا هو المجتهد الذي يأمركم بل هو رب المجتهد!!! لم يدَّع نوحٌ النبيُّ هذا الادعاء وإلا كان يقول اتقوني وخافوني. قال نوح: اتقوا الله وأطيعوني، ويقصد بالدعوة لطاعته أن يطيعوه في التقوى والخوف من الله تعالى. وأتبع قوله لهم بأنه لم يقم بأية خدمة لهم ولم تكن النصيحة إلا بيانا لرسالته من ربه الذي سوف يتولى أجره بنفسه سبحانه وتعالى دونهم. إنه موظف عند الله تعالى وليس عند الناس، ولكنه يوظف قرابته وأُخُوَّته مع قومه ليهديهم إلى طاعة الله تعالى والخضوع للذات الربوبية جل جلاله بأمر الله تعالى نفسه. ويؤكد نوح ذلك في الآيات التالية من نفس سورة الشعراء: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ ﴿111﴾ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿112﴾ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴿113﴾ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿114﴾ إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿115﴾. فنوح لا يعرف شيئا عن أحوال قومه ولا يهمه ذلك. إنه يتبع الرسالة التي يحملها من ربه وربهم بأنه مجرد نذير لا غير.
وبعبارة أوضح فإن الأنبياء حينما يدعون عشيرتهم وقومهم فإنهم لا يقومون بعمل قومي أو عشائري بل يدعونهم باعتبارهم عبيدا مملوكين لربهم الذي أرسلهم لدعوة أولئك القوم. حتى الخُلُق الجميل الذي تمثل به الرسل كما هو عليه رسولنا محمد فهو من الله تعالى وليس من الأنبياء. قال سبحانه في سورة آل عمران: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴿159﴾ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴿160﴾.
ونختم الرد على هذا الإشكال بآية من سورة النساء: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴿69﴾.وقد تخبط المفسرون خبطا عجيبا في تفسير هذه الآية وظن بعضهم أنه ربطها بما قبلها وهو لم يفلح بالطبع وظن آخرون بأن الآية في شأن ثوبان أو شخص آخر كان يحب رسول الله وظن أكثرهم أن الذين يطيعون الله ورسوله هم مع أربعة فرق هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون. والواقع أنهم واحد لا فرق بينهم فقد ذكر الله تعالى إبراهيم نبيا وذكره صديقا وذكره صالحا وذكرالذين آمنوا بالله ورسله بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم كما في الآية التالية من سورة الحديد: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿19﴾.وذكر في أكثر من آية بأن رسولنا شهيد على صحابته. وقد سعوا كثيرا ليعرفوا السر في ذكر الرفيق بلفظ المفرد وهم جمع واستشهد الطباطبائي بقوله تعالى في سورة الحج، ونخرجكم طفلا. وفي النهاية لم يعرفوا بالضبط مَن هو رفيق مَن؟ !
والله تعالى أبى أن يترك آية دون أن يبينها ويشرحها ولكن الإخوة لا يمعنون في الآية بل يسعون لتطبيقها مع الأحاديث المضللة التي أهدتها إليهم بنو أمية وبنو العباس الذين أنفقوا على صناعة تلك الأحاديث واختراعها ونسبتها إلى الحبيب محمد عليه وآله الصلاة والسلام. فهو يقول في آية النساء بأنهم مع الذين أنعم الله عليهم. والنعمة هي الهداية فهي رفيق لهم وحَسُنت رفيقا لهم. وجملة "حسن أولئك رفيقا" تعني ما أحسن ما كسبوه من رفيق يصاحبهم ويمنع عنهم الضلال. إنها تشابه قول القائل: وخير صديق في الزمان كتاب. والأنواع الأربعة لا تمثل فِرَقاً بل هي درجات يمكن أن تنطبق كلها على فرد واحد مثل الرسل بأنفسهم. فهم جميعا أنبياء وصديقون وشهداء وصالحون. و سنعرف ذلك في التفسير بإذن الله تعالى. إنهم جميعا يطيعون الله ورسوله لأن الرسل مثل بقية الناس يطيعون الرسالة فهم يطيعون أنفسهم كرسل أيضا. هذا هو هدى الله تعالى وآيات سورة النساء من 54 إلى الآية 70 ومن ضمنها تلك الآية تتحدث عن وجوب طاعة الله ورسوله والتمييز بين تلك الطاعة الواجبة والطاعات الأخرى التي يفرضها الإنسان على نفسه بحكم الاجتماع أو تفرضها الدولة عليهم بأنها وكيلة عنهم أو يفرضها الأعراف والعادات العامة.
إن الذين يطيعون الله والرسول وهم كل المؤمنين سواء كانوا بأنفسهم رسلا أو دون ذلك فهم جميعا ينالون الهدى من الله تعالى ولا فرق بأن يكونوا نبيين أو لا يكونوا. ولو كان هناك فرق كما يظن بعض المفسرين مثل العلامة الطباطبائي الذي يفرق بين الذي يطيع والذي يطاع من البشر باعتبار كلمة "مع" فيجب أن نعتقد بأن رسولنا وهو مؤمن مخاطب بالآية فهو دون مستوى الأنبياء الذين سبقوه لأنه معهم. وهو مأمور بأن يطيعهم لقوله تعالى في سورة الأنعام: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ﴿89﴾ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿90﴾.إن مشكلة الإخوة المفسرين أنهم دائما ينظرون إلى الأنبياء نظرتهم إلى الملوك والزعماء الذين يفرضون على الناس العبودية والخضوع لهم بضرب السياط. أتمنى أن يأتي يوم يعرف الناس فيه بأن محمد بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ونوح كلهم إخوان لهم وليسوا سادة ولا زعماء عليهم ولم يفرضوا طاعتهم على أحد بالسياط. إن الله تعالى فرض طاعتهم على عباده باعتبار الرسالات التي يحملونها من ربهم وهم وصحابتهم سواء في اتباع الرسالة. فمحمد بن عبد الله القرشي بنفسه يطيع محمداً رسولَ الله.
ولم يفرق الله تعالى بين الرسل والذين آمنوا بالرسل سواء في الدنيا أو في يوم الحساب . قال تعالى في سورة غافر: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴿51﴾ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴿52﴾ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ﴿53﴾ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ ﴿54﴾ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ﴿55﴾.فهو سبحانه ينصر الرسل كما ينصر الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم القيامة حيث تقوم الملائكة الأشهاد بعرض أعمال الناس شاهدين عليهم. فليس للرسل في يوم القيامة إلا أن ينتظروا شهادة الأشهاد فيهم كما هو حال بقية المؤمنين. ولو أن الله تعالى ساعدهم في يوم القيامة فإنه يساعد المؤمنين أيضا هناك دون فرق. هذا من حيث التعامل وأما من حيث المقدمات التربوية فإن الله تعالى يبين لنا في الآيتين 53 و54 بأنه آتى موسى الهدى كما أورث بني إسرائيل الكتاب هدى لهم. حقا أن ذلك ذكرى لأولي الألباب الذين لا ينتظرون من ربهم غير العدالة والتعامل مع كل خلقه بدرجة واحدة على اختلاف مراتبهم الدنيوية التي لا تأثير لها أبدا أمام محكمته يوم القيامة، سبحانه وتعالى. وفي النهاية فإنه سبحانه يأمر محمدا كما يأمرنا نحن بأن يستغفر لذنبه كما نستغفر لذنوبنا وأن يسبح بحمد ربه كما نسبح بحمد ربنا. وسوف نعرف معنى العشي والإبكار في التفسير بإذن الله تعالى.
لزوم إذن المعبود لعبادته: العبادة تعبير عن خضوع إنسان أو فرد من الجن لرب العالمين جل جلاله. فهناك شخصان على الأقل في الصورة وهما العابد والمعبود. والعبادة ليست مثل المديح والوصف وما شابه ذلك حيث لا يحتاج الوصف إلى موافقة الموصوف. إن كل فرد يسمح ويأذن لنفسه بفهم أي شيء آخر والتحدث حوله. ليس للواصف أي طمع أو حاجة في الموصوف عادة بل هو راغب في التعرف على الموصوف أو تعريفه لشخص ثالث. ولكن العبادة تعني خضوعا مستتبعا الرد والتجاوب من المعبود. إن الخضوع بكل أشكاله عمل يقوم به العابد متحملا المشقة والعاقل لا يشق على نفسه بدون طمع أو خوف يطمع في تحاشي تبعاته إذا ما رضي عليه المعبود. هذه هي طبيعة العبادة. فالعبادة تقترن بالطمع والخوف ويستتبع المكافأةَ إن إيجابا بنعمةٍ أو سلبا ودفعا لضرر. وكلاهما أمران خاضعان لرغبة المعبود، فلا معنى للعبادة من جانب واحد بدون إذن أو موافقة المعبود. حتى الذين يحبون حبا غراميا بدافع الجنس أو الحياة المشتركة فإن عدم إذن المحبوب يمنع المحب عرفا من إظهار غرامه. ليس من الصواب أن يحب الإنسان إنسانا آخر لا يبادله الحب أو لا يرضى أن يحبه الشخص الأول. وجدير بنا أن نعرف بما اشتهر على لسان محبي الغرام قولهم: أحبها أو أحبه حب عبادة أو أعبدها أو أعبده وما على غرار هذه الجمل.
وحينما تتعلق المسألة بالساحة الربوبية العظيمة فإن دق ذلك الباب بدون أمر العزيز المتعالي مستحيل فعلا ولو تأتى فهو لعب حقيقي بالنار. و القيام بدق باب كل موجود غير الجبار المتكبر يستتبع المزيد من الدعاوى ضد الإنسان في محكمة العدل الكبرى يوم الحساب أمام الديان. قال تعالى في سورة فاطر: إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴿14﴾ وقال في يونس: فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴿29﴾ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴿30﴾ و في سورة النحل وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿86﴾ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴿87﴾
حتى الذين لا يتمسكون إلاّ بالطيبين مثل النبيين فإنهم سوف يتبرءون منهم يوم القيامة. يقول الجبار في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴿17﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ﴿18﴾ فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴿19﴾. وبالطبع فإن هذه الآيات في رد الشفاعة ولكن انتظار الشفاعة في حد معناها عبادةٌ كما سنعرف الكثير عن الشفاعة في التفسير بإذن العزيز العليم. وسوف يرد الملائكة الكرام عبادة بعض الجاهلين إياهم محتجين بأنهم لم يطلبوا منهم العبادة. هذا المعنى موضح في سورة سبأ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْملائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴿40﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴿41﴾ وهكذا نرى الملائكة يتذرعون بأن الله تعالى وليهم من دونهم وهو بمعنى أنهم لم يهتموا بأي موجود ولم يتوددوا لأحد غير الله تعالى وأنهم عبيد تحت ولاية مولاهم وليس لهم أن يختاروا شيئا. ثم يأتوا بدليل آخر وهو أن هؤلاء اتبعوا الجن والمقصود هم الشياطين من الجن طبعا، واعتبروا ظاهر عبادتهم للملائكة طاعة للجن واعتبروا الطاعة عبادة فنسبوا عبادتهم إلى الجن في واقع الأمر. والملائكة على حق لأن العبادة ذات شقين، عابد ومعبود ولن تتحقق العبادة إلا بتحقق المسألتين. وقد دعاهم الجن لتلك العبادة فاستجابوا للجن ولم يدعهم الملائكة لتلك العبادة، والعلم عند الله تعالى.
ولذلك فإن الرحمن عز اسمه قد أذن لنا في العبادة بقوله الكريم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ وذلك في سورة الذاريات. وهذا إذن عام للجن والإنس بالعبادة بل هو أمر لهم أيضا. وأما مَن دون الله، فإنهم لا يمكنهم أن يأذنوا لأحد بعبادتهم والتوسل بهم وطلب البركات منهم كما يفعله الكثيرون. ولذلك فإنهم سوف يكفرون بعبادة إخوانهم البشر لهم ويستعيذون بالله منهم. سوف يأتي الرسول العربي في يوم القيامة ويشكو من الناس بنص القرآن في سورة الفرقان: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴿30﴾. ومن المدهش أن نرى المسيحيين مثلا يعتقدون بأن المسيح مقتول ولم يفكروا بأن إنسانا لم يقدر أن يدفع الموت والعذاب عن نفسه كيف يمكنه أن يساعد الآخرين. إنهم يتشبثون به طالبين منه العفو والغفران وراجين منه المعالجة وقضاء بقية الحوائج. وهكذا المسلمون يتمسكون بقبور الناس المعروفين بالتقوى مثل أئمة المذاهب وبعض كبار الصوفية شيعة وسنة ويطلبون منهم التوسط إلى الله أحيانا أو يطلبون منهم قضاء حوائجهم مباشرة ولا ينتبهوا إلى أنهم قد ماتوا ولم يقدروا على مكافحة الموت. وإذا ما قدمت لهم النصح بترك عبادة غير الله تعالى ردوا عليك بأن ما يفعلونه ليس عبادة. وبعض يقول بأننا نطلب من هؤلاء الموتى العاجزين عن السمع بنص القرآن، أن يدعوا لنا. إنما ذلك الشيطان يخدعهم بأن يقولوا هذا القول الساذج دفاعا جاهلا عما يفعلونه أمام القبور القديمة.
الفرق بين التسبيح والعبادة والذكر : التسبيح ومعناه التنزيه في اللغة وفي اصطلاح القرآن يعني تنزيه رب العالمين مما لا يتناسب مع شأنه. ويتجلى هذا التنزيه في طاعة الخلق لله تعالى وإذعانهم بقدرته وهيمنته عليهم. وكل ما في الوجود الممكن يسبح لله تعالى ويخضع له دون نزاع. ليس في الوجود قدرة غير قدرة الله تعالى فلا منازع له حتى لا يُطاع. هذه الطاعة المطلقة وعدم النقاش والجدال مع الله تعالى تعني تنزيه الذات القدسية مما لا يليق بشأنه العزيز. إنَّ كلَّ ذوات الشعور تشعر بالحاجة المستمرة إلى إمدادات ربها وتستلم الأمر بطريقتها الخاصة وتطيع. وأما التي لا تشعر أو قليلة المشاعر فهي تتجاوب مع الإشعاعات الطاقية التي يبثها الجبار العظيم ملك السموات والأرض لما يشاء حتى يكيفها بالطريقة التي يريدها سبحانه.
وأما العبادة فهي تسبيح نفوس البشر والجن وتنزيههم لربهم العزيز بخضوعٍ وذُلٍّ أمام سيد الكائنات جل جلاله. ونقصد بالنفوس مراكز الإرادة في النفس وليس ماهيات النفوس. إن كل الماهيات خاضعة لله بطبيعتها ومُسبِّحةٌ له سبحانه. ولكن الذكر فهو يعني انتباه النفس لوجود الخالق جل جلاله ومراقبتِه إياها حتى تتجنب الخوض في المعاصي فتبقى نظيفة طاهرة أو يتذكر الله تعالى بعد المعاصي فيعينها الذكر على التطهر وإبعاد الدَّرَن عنها لتتزكى. وقد قال تعالى في سورة الأعلى : قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾.وقال سبحانه في سورة الأنعام مخاطبا نبيه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68﴾.وذكرُ الله تعالى هو دائما وسيلة تزكية النفس وسيبقى هكذا حتى في الدار الآخرة. ولكن الفرق بأن الله تعالى سوف يكلم المؤمنين هناك ليزكيهم ولكننا في الدنيا نتلو أو يُتلى علينا ا لقرآن فنتزكى، وسنعرف السبب في التفسير بإذن الله تعالى. وباختصار فإن الطهارة وتنظيف الأوساخ مطلب كل إنسان عاقل. إنه يطهر ملابسه وبدنه بالماء وبالمطهرات الأخرى لعله يتمتع بالحياة ويتنعم بها. ولكن النفس ليس موجودا فيزيائيا لنغسلها بالماء. إنها موجود طاقوي لا تتأثر بالمواد الغاسلة المعروفة. فحق تطهيرها أن تتم بذكر الله تعالى.
ولمزيد من العلم دعنا ننظر إلى الموارد التي ذكر الله تعالى فيها مسألة تزكية النفس في الدنيا وفي الآخرة لنميز الفرق بين التزكيتين. قال سبحانه في سورة البقرة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴿151﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿152﴾. فالرسول يتلو على صحابته القرآن ويشرحه لهم فيزكي به نفوسهم. ويؤكد الله تعالى في الآية التالية بأنه سبحانه يذكرنا حينما نذكره وهو السر في التطهير. فلا يمكن أن يذكر الله تعالى موجودا زنخا بل يذكر النفوس النظيفة التي تطهرت بذكر الله تعالى وبالاستماع إلى آياته والتفقه فيها. فعملية التزكية في الواقع تمت على مرحلتين: الأولى بدأها رسول الله عليه السلام بهداية إخوانه البشر إلى المولى جل شأنه عن طريق تعليمهم الكتاب والحكمة. فإذا ما تعلموا ذلك فذكروا الله تعالى فإنه سبحانه يذكرهم في المقابل. ومعنى ذكر الله تعالى لمن يذكره فيزيائيا هو أن يسمح الله تعالى لنوره الكريم الموجود مع الناس فعلاً بأن ينشط في قلب المؤمن فيتطهر القلب تحت تأثير الطاقة بصورة طبيعية.
و قد دعا أبونا إبراهيم ربه ليبعث فينا رسولا يزكينا بتعليمنا الكتاب والحكمة كما وضح سبحانه في سورة البقرة أيضا: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿129﴾.ثم استجاب ربنا المتعالي دعاء أبينا كما يبدو فقال سبحانه في سورة آل عمران: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴿164﴾. كما قال سبحانه في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴿2﴾. فنعلم من الآيات المذكورة أن للإنسان دورا في تزكية نفوس البشر في الدنيا. وهي تعني تطهيرها وتصفيتها لتستعد لقبول الحق وتتعرف على خالقها ومبدعها العظيم سبحانه وتعالى.
لكن الأمر مختلف تماما في الآخرة، حيث ليس لأحد أي دور في تزكية النفوس هناك. والآيات التالية تدل على حصول نوع من التزكية في نفوس الناس يوم القيامة ولكن ليس بإمرار ذكر الله تعالى في القلب سواء بالتلاوة وهو أضعف التزكيات أو بالتعمق في آيات الله تعالى وطلب المزيد من المعرفة بالذات القدسية كما مر في ما مضى من الآيات الكريمة. قال سبحانه في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿174﴾. وقال في سورة آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾.فالتزكية في يوم القيامة لا تتم إلا بأن يكلم الله تعالى العبد وينظر إليه. وسوف نشرح ذلك بإذن الله تعالى في التفسير وبكل تفصيل.
والقرآن الكريم يقر بأن هناك بعض المؤمنين بالله لا يتورعون عن الشرك بربهم فيهددهم باحتمال نزول العذاب الدنيوي عليهم قبل عذاب الخزي في الآخرة. سوف يتعرض هؤلاء لرؤية بعض آيات ربهم في حياتهم الدنيا ولكنهم قلما يعتبروا بها أو يفكروا في اللقاء مع الله تعالى. هناك نماذج لهؤلاء البشر في حضرة الرسل الكرام وهم يرون تضحيات الرسل في سبيل هدايتهم وعدم طلبهم أجرا منهم وبذلهم السعي والحرص لعلهم يؤمنوا ولكنهم يمرون على آيات الله تعالى دون أن يؤمنوا بها بل يمارسون الإعراض والتجاهل نحو علامات الألوهية. قال سبحانه في سورة يوسف: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿104﴾ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴿105﴾ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴿106﴾ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴿107﴾. فلا يمكن للذِّكر أن يؤثر في قلب أحد قبل أن يستعد لذلك الذكر ويتقبل آيات ربه ويشفي إيمانه من الأسقام والأمراض القلبية والنفسية.
أهم تجليات العبادة: وتظهر العبادة بأشكال كثيرة أهمها حسب رأيي هي الطاعة والشكر والحب الخالص. وبما أن الطاعة وكذلك الشكر والحب ليست على وتيرة واحدة بل متدرجة ونسبية فإن العبادة أيضا تنطوي على درجات من الخلوص الذي يستتبع تفاوت الدرجات عند الله تعالى. ولذلك فإن العبادة لن تتحقق بلا معرفة إذ أن الجاهل عرضة لوساوس الشيطان وتغريرِ أصحاب المصالح ولا يمكن له إلا أن يقلد والتقليد غير مطلوب قرآنيا. نعم، على المرء أن يسأل الذين يعلمون ثم يفكر بنفسه فيتبع أحسن الأقوال والآراء التي سمعها. فلا يمكن للشريعة الإسلامية أن تصل غايتها في مجتمع لا ينطوي على العلم والمعرفة. لأن المقصود من التشريع هو كسب جنات النعيم ولا جنة َبلا عبادة. وهذا المعنى مشروح بتفصيل في سورة البقرة وسوف أوضحها بإذن الله تعالى كما شرحتها لتلاميذ الجلسات اللندنية حفظهم الله تعالى وإياي وفتح علينا وعلى الناس أبواب العلم والعرفان. كما قال في سورة فاطر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴿27﴾ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴿28﴾.فالعلم هو وسيلة التقوى والتقوى هي مقدمة العبادة والخضوع الحقيقي لسيد الكائنات جل جلاله.
وبما أن العبادة عمل والعمل نافد للطاقة ومتبوع بالمشقة كما أنه نابع من أصحاب العلم فإن الإتيان بها كما تنبغي تستتبع الجزاء بالطبع. وقد قال تعالى في سورة يس: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿55﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ ﴿56﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ ﴿57﴾ سَلامٌ قَوْلاً مِِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴿58﴾ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿59﴾ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن ّلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿60﴾ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿61﴾ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴿62﴾. وأبناء آدم هم كل البشر بمن فيهم آدم نفسه وليس الخطاب بالتأكيد خاصا بالمسلمين ولا بأصحاب الديانتين اليهودية والمسيحية الذين يُصَلُّون. لكن الذين سبقونا ما كانوا ليعرفوا الصلاة إلا قليلا، كما أن غير أصحاب الديانات الثلاث الذين يكملون عدد أولا د آدم فإنهم أيضا لا يعرفون الصلاة التي تمثل شعارا خاصا ببعض الناس. حتى المسلمين لم يكونوا مأمورين بالصلاة التقليدية المعروفة في بدايات الدعوة ولكنهم كانوا مطلوبين لعبادة الله تعالى والذي يقابل العبادة هو عبادة الشيطان التي لا تمثل غير الطاعة للخبيث المرجوم لعنه الله تعالى. وإن كثيرا من الفاسقين يقدمون القرابين شكرا للشياطين فهم بهذا يعبدونهم أيضا.والعبادة في الواقع تستتبع حالة نفسية خاضعة لله تعالى نسميها الصبغة الإلهية، وهي التي تخولنا دخول الجنة في النهاية وعدمها دخول النار وليس نفس العمل ، كما سنعلم.
والعبادة هي غير الصلاة والزكاة. قال تعالى في سورة الأنبياء: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿73﴾. ولعل قائلا يقول بأن المقطع الأخير من الآية الكريمة لا يدل على أمر خارج عن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بل هو بيان لأحوالهم وما قبله بيان لما أُمروا به باعتبار الإمامة. والجواب أن إقامة الصلاة تستتبع صلاة الذي يقيم الصلاة أيضا. فالذي يؤم الناس في الصلاة فإنه هو يصلي أيضا وقد أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة لأنهم كانوا عابدين لا لأنهم كانوا مصلين. وقد أوحى الله تعالى إليهم كيفية إقامة الصلاة وتعني صلاة الجماعة احتمالا ولا فرق بين صلا ة المرء بمفرده أو بالجماعة إلا أن الناس يقفون خلفه ليصلوا مثله في الجماعة. فكونهم عابدين لله قد تحقق قبل أن يُعلِّمهم الله تعالى فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ولو نتعمق قليلا في الآية لنرى بأنهم كانوا عابدين لله وحده باعتبار قوله تعالى : وكانوا لنا عابدين، فقد قدم المفعول وهو الله تعالى على الفعل وهو العبادة. ولكنه سبحانه ذكر ثلاثة مسائل مرتبطة بالناس واعتبرها طاعة له سبحانه. ألا وهي فعل الخيرات والخير يصل إلى غير الله بالطبع، و إقام الصلاة وهي عمل يشترك الفاعل فيه مع الناس ولو أنهم يشتركون معا في الصلاة لله تعالى، وختمها بإيتاء الزكاة وهي عمل مرتبط بالناس ومفيد لهم أيضا. وأما العبادة فهي دون ما ذكر وهي خاصة بإظهار العبودية أمام الله تعالى ولا فائدة للناس في عبادتك لربك. والسر في ذكرها صفة للأنبياء هو أن العبادة لن تتأتى صحيحة دون علم في الواقع والأنبياء هم علماء الأمة الذين اختارهم الله تعالى لاستلام الوحي وإبلاغه لعبيده عامة. فعامة الصلاة بماهيتها لا تعني العبادة في الواقع ولكن الطاعة التي تقارن الصلاة والشكر والخضوع التي يأتي بها المرء حين الصلاة تمثل العبادة دون الحركات الخاصة بالصلاة.
مظاهر الإشراك بالله وإشكالياتها: إن كلما يقوم به الناس من التشبيه بين الذات القدسية جل جلاله وعبيده بأي شكل كان فهو شرك عبادي أو شرك كامل والعياذ بالله تعالى. و بما أننا في صدد معرفة العبادة وتمييزها عن الدعاء وما شابهها، فلا يسعنا هنا أن نبين الشرك الكامل بل نكتفي بذكر الشرك الناقص. والإشراك ليس فقط بأن يقول شخص فلان شريك مع الله سبحانه في هذا الأمر أو مفوض من قبل الله تعالى للقيام بعمل إلهي وقليل ما هم، ولكن بأن ينسب أعمال الله وصفاته الكريمة إلى الناس أو أن يطلب من الناس والأصنام بعض ما يطلبه من الله أو يعتقد بأن الله تعالى لا يكفيه بل هو بحاجة إلى وسيط يتوسط بينه وبين ربه أو يقوم ببعض الحركات الدالة على أي نوع من أنواع الخضوع الذي يقدمه العبيد لمولاهم بالنسبة لغير الله تعالى وما شابه ذلك. والقرآن الكريم يتصدى لكل أنواع الإشراك ويردها ويفندها ويثبت عدم صحتها وعدم جدواها، وسوف نمر عليها تباعا بإذن الله تعالى خلال رحلة التفسير ونوضحها لبعضنا البعض بتوفيق منه سبحانه.
ومن أوضح الآيات التي يبين فيها الجليل سبحانه عدم إمكانية الإشراك بذكر مَثَلٍ هي الآية التالية التي جاءت في سورة الأنعام: وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴿136﴾ هذه الآية الكريمة أربكت إخواني المفسرين المعروفين قليلا وسوف أوضحها هنا دفعا للالتباس الذي حصل فعلا حتى يحين موعد تفسيرها بإذن الرحمن سبحانه.
وقبل أن أوضح ذلك أحب أن أنصح نفسي وإخواني وأخواتي بأن يقتصر تفسيرنا على فهم آيات الله تعالى ثم نقوم بكل إخلاص بتكييف عقائدنا وحوائجنا وأهدافنا بموجبها، ذلك عين الإنصاف. وأما أن نؤمن برأي بشري ونسعى لفرض عقائدنا وأهدافنا على كتاب الله فهو عين الظلم.
إن الله تعالى يريد أن يُبيِّن لنا بأن الالتزام أو الدين لو لم يكن خالصا لله تعالى فسوف يواجه المتناقضات، ويتمثل سبحانه بما قاله المشركون في مكة. وحتى نفهم معنى الآية دعني أفصل بين قولهم وقول علام الغيوب سبحانه: قالوا: هذا لله وهذا لشركائنا. وقال الله تعالى من عنده كنتيجة حتمية لمقولتهم وليس بيانا لحالهم: فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ثم قال تعالى في تعقيب النتيجة المحتومة التي وضحها هو بنفسه سبحانه: ساء ما يحكمون. المثل بسيط جدا وغير معقد، ويفيد معرفة أن الله تعالى ملاذ لا يمكن أن يستفيد منكم؛ ولكن كل من دونه فهو متأثر شخصيا بدعائكم وطلبكم منه.فالخضوع لغير الله تعالى غير مستقيم في ميزان العدالة ويعتبر حكما جائرا وظلما قبيحا. ولكن الإخوة لم يفصلوا بين القولين فضاعوا في خضم الأخبار الملفقة التي رواها بعض المشبوهين في تفسير الآيات كعادتهم. وهذا الكلام موجود ويقال دائما حتى يومنا هذا. إنها دعوى خاطئة يقوم بها الناس دون أن يشعروا، والله تعالى يريد بيانها درءا لما وقعوا ويقعون فيه من الأغلاط. لو كان القول الثاني من أقوال المشركين لوضحه سبحانه هكذا: فما كان لشركائنا فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائنا، مجاراة لقولهم: هذا لشركائنا. أولو كان بيان حال لقال سبحانه: فما كان لله يقدّمونه لشركائهم وما كان لشركائهم لا يقدَّمونه لله. بل قال سبحانه: لا يصل، وهو النتيجة الحتمية.
بيان ذلك: سورة الأنعام الحاوي للآية الكريمة تعالج مسألة زعم الأنداد لله تعالى. والمقصود من الأنداد ليس هو الاعتقاد بوجود خالق آخر للسماوات والأرض بل يعني الذين يمكن أن يشابهوا الله تعالى في صفاته أو أعماله. والآية في الحقيقة بصدد نفي إمكان الندية مع الله تعالى بصورة عامة ولكنها تتمثل في التشبيه مع الله تعالى في المصداقين التاليين: أولا : النذر لله تعالى مضافا إلى غير الله. ومعنى النذر هو التعهد ومفاده هو أن يلتزم الشخص القيام بنوع من الطاعة أو الشكر للذي ينذر له لقاء قيام المنذور له بقضاء حاجةٍ للشخص الذي قام بالنذر. فالذي يقوم بمنح الناذر هو الله تعالى الذي لا يستفيد أبدا منه وكل من أشركته به فهو مستفيد كما سيأتي. ثانيا: تقديم القربان لله تعالى مضافا إلى أي موجود غيرَ الله تعالى. والقربان يعني القيام بنوع من الطاعة والشكر للذي يقدم القربان إرضاء للطرف الآخر (وهو هنا الله تعالى وغير الله)، لقاء نعمة أنعمها عليه الذين تم التقرب إليهم. ويمكن أن يكون القربان شيئا ماديا أيضا كأن يقدم شاة يذبحها أو بدنة ينحرها أو كساء يقدمها. والآية تؤكد أن هذا النوع من العمل ظالم وغير صحيح بسبب الآتي متحدثا عن جانب النفع المشترك أو المتقابل فقط: 1. كلما تقدمه من نذر أو قربان فهو مملوك ومخلوق لله تعالى وما تقوم به هو بتخويل من المالك سبحانه. وبما أن المثال متعلق بالأنعام فإن الخالق سبحانه خولك أن تستفيد منه لأكلك مثلا. فأجاز لك أن تقتله للتلذذ بلحمه بشخصك أو تقديم ذلك للآخرين بإذنه سبحانه وإكراما لوجهه شريطة أن تذكر اسم الله عليها حين الذبح إيذانا بالقتل بأمر الله تعالى. فهو سبحانه لم يخولك أن تقدمه نذرا لغير الله تعالى. فأنت تتصرف في ملك غيرك بدون إذن منه، لكن الذي أشركته بالله تعالى فهو لا يملك شيئا مما تقدمه فهذا ظلم. 2. الذين أشركتهم مع الله تعالى في النذر والقربان فهم إما بشر يأكل مثلك من تلك النعمة ولكن الله تعالى لا يأكل منها فأنت ظالم في عملك. والظلم معناه ألا تساوي بين الأطراف. فكيف تعتبرهم مثل الله في تقديم النذر والقربان إليهم حين أنهم يتمتعون بنذرك أو قربانك دون الله تعالى. 3. وإما أنهم جن مثل الشياطين فهم يستمتعون فرحين بأنك أطعتهم ولكن الله تعالى لا يمكن أن يحصل له أية متعة أبدا. فهذا حكم سيئ وظالم أيضا. 4. وإما أنهم أصنام أو قبور فلا يمكن للأصنام أن يطلب منك قربانا أو نذرا لأن النذر والقربان لا يتحققان دون أن يقوم الطرف المقابل بقبول النذر أو الأمر به. لكنك قمت بالنذر والقربان فعلا، فأنت بذلك تطيع الشخص الذي أمرك سواء قدمت الذبيحة مثلا للذي أمرك بنفسه ليأكل أو قدمته لشخص آخر إكراما له فاستمتع هو بعملك. فالله تعالى لا يأكل ولا يستمتع وكان عملك ظالما أيضا. بالطبع أن لا دخل للأصنام والقبور بالمنافع وليست هي التي تقبل العبادة بل يتقبلها الذي يأمر بها.
ولقد سماهم الله تعالى شركاء للذين نذروا أو تقربوا لأنهم مثلهم في العبودية والتمتع كائنا من كانوا والله تعالى ليس كمثله شيء وليس عبدا وليس مملوكا. مثال هذه الآية من هذه الحيثية مثال الآية التالية من سورة النجم: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ﴿21﴾ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴿22﴾. أو ما في سورة الزخرف: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ﴿15﴾ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ﴿16﴾ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ﴿17﴾ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ﴿18﴾. وليكن واضحا بأن الله تعالى لا يفرق بين المرأة والرجل ولكن الذين ضربوا المثل لله تعالى فإنهم هم الذين يفرقون بينهما. وأهم إشكال في عملهم هذا هو أنهم ينسبون الجنسية للملائكة، فلو قالوا بأنهم رجال لردهم الله تعالى ورفض كلامهم أيضا.
وحينما ينسب المرء صفة أو عملا إلهيا لغير الله تعالى فيُظهر لغير الله تعالى الخضوع والطاعة والحب أو يتوسل به فإن عمله مشابه لمن ينذر لله وللناس. هذا الشخص لو نذر للناس فقط لكان كافرا بالله لأنه في حقيقته عَبْدٌ وليس للعبد أن يتعهد لغير مالكه إلا بإذن المالك. فتعهُّدُه للناس دليل على تجاهله عبوديته لرب العالمين. و أما إذا نذر لله ولمن يحبه من الصالحين أو من غير الصالحين، بحجج أخرى كما يأتي، لكان مشركا بصورة مشينة.
إن الله تعالى ليس محتاجا إلى رزق أو منزل أو ما دون ذلك فلا يصل نتائج النذر والقربان إليه ولكن غير الله كائنا من كان فهو محتاج ويمكنه أن يستفيد من نتائج النذر والقربان. هذا هو الحكم السيئ إضافة إلى أن المنذور والمتقرب به في حد ذاته مملوك لله تعالى الذي خلقه ولم يفوض أحدا بالمحافظة عليه بل يحفظه هو بنفسه، فما معنى قيام أحد بالتصرف فيه خارج الحدود التي أباحها الله تعالى في كتبه المنزلة من عنده وهو المالك سبحانه. وما ينطبق على هذا المثال في الخارج كثيرة بين كل الملل السماوية اليوم مع الأسف ودعني أنقل بعض النماذج لدى المسلمين مع علمي بأنها سوف تؤلم إخواني وأخواتي فأنا أعتذر منهم بأني مضطر لوضع النقاط على الحروف معذرة إلى ربي. وكل الأمثال التالية تدل على قيام العبد بالندية مع الله تعالى دون أن يحقق العدالة والقسط. فكلها تمثل حكم السوء. 1.وضح الله تعالى في مكانين في القرآن الكريم بأنه سبحانه هو الذي يفتي فلو ادعى أحد بأنه يفتي فهو يمكن أن يفتي بما ينطبق مع الحقيقة أو يخالفها لمحدودية علمه ولكن الله تعالى لا يمكن أن يفتي إلا بالحقيقة لكمال علمه. ففرض فتوى المفتين من البشر على الناس قسمةٌ ضيزى؟ بل ما يسمونه بالفتاوى فهي في واقع الأمر آراء غير ملزمة لأحد شرعا إلا إذا صدر من برلمان انتخبته الأمَّة فسيكون حينئذ ملزما لهم بأنهم هم الذين ألزموا أنفسهم بمن انتخبوه لبرلمانهم. 2. الأضرحة التي أقيمت هنا وهناك للأنبياء والأئمة والعلماء والصالحين والملوك والمحبوبين وغيرهم فهي تُجاري الحرم المكي وهناك من يطوف حولها كما يطوف الحجاج حول القدس والكعبة لكنها كلها يمكن أن تفيد أصحابها. إنهم لو كانوا أحياء لكان ممكنا لهم أن يعيشوا فيها كما أن أصدقاءهم وأولادهم وأحفادهم قد يستفيدوا من أضرحتهم، في حين أن الله تعالى لا يمكن أن يعيش في القدس والكعبة. هذه قسمة غير متكافئة. 3.تقديم القرابين والنذور إلى أصحاب القبور أعلاه أو المنتسبين للشجرة النبوية أو المعممين والمعروفين بالعلم أو المؤمنين والمؤمنات الطيبين والطيبات الذين يتمتعون بالتقوى وعدم التدخل في شؤون غيرهم؛ كل ذلك يمكن أن تفيد الذين نُذِر من أجلهم ولكنها لو تُنذر إلى الله تعالى فإنه لا يصل إلى فمه شيء منها لعدم تمتعه سبحانه بالأكل والشرب مثل البشر وعدم وجود أجزاء له سبحانه. فكيف يتساوى النذر لله والنذر لغير الله؟ ومن الطريف أن بعض الإخوة يتداركون المسألة بأن يوضحوا مقصود الناذرين بأنهم ينذرون لله تعالى وحده ويقدمون ثوابها لصاحب القبر الميت أو الشخص الحي. في حين أن الله تعالى يقرر بأن لكل نفس ما كسبت ولم يقل ما كسبت أو أهدي لها. فليس هناك من ثواب ينتقل من شخص إلى شخص آخر كما تصوروا. لكن المسألة تنطوي على منافع ممكنة للمنذور لهم خلاف الله تعالى الذي لا يمكن أن ينتفع شخصيا من أي نذر، كما لا يمكن له أن يترك عبيده كاملة بل يستمر في الإحسان إليهم ومساعدتهم في ما يشاء وكذلك هدايتهم ودفع البلاء عنهم أو قضاء حوائجهم أحيانا. فتعامل الناس مع القضية تعامل غير منطقي وظالم. 4.طلب البركات والتوفيقات وأية مساعدة معنوية أخرى من الله ومن الناس؛ فإن الناس لو كان لهم أن يباركوا أو يوفقوا فإنهم سوف يتنعمون بما كسب صاحبهم من التوفيقات والبركات أيضا. ولكن الله تعالى لا يمكنه في أي حال أن يتنعم بالتوفيقات والبركات التي يقدرها للناس. فهل هذا من العدل؟ 5.لو تأتت الشفاعة لأحد من الناس فإنه سوف يدخل الجنة مع المشفع له وسوف يستمتع باحترام وثقة المشفع له وهما كلاهما سوف يستمتعان من نعيم الجنة في حين أن الله تعالى وهو المالك لا يمكن له أن يستمتع شخصيا من الجنة أو يستمتع بمديح الذين يدخلون الجنات. هذا أيضا تقسيم جائر لو كان صحيحا.
والخلاصة أن العبادة تعني الخضوع لمن بيده ملكوت كل شيء خوفا وطمعا كما كان عليه أنبياؤه الكرام. والله تعالى يبين حالهم في سورة الأنبياء: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴿90﴾ ويقول سبحانه في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿15﴾ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿16﴾ فالذين هم بأنفسهم يدعون الله خوفا وطمعا لا يمكنهم أن يساعدوا أحدا. لكن الذين يخضعون لهم طالبين منهم المساعدة فهم يعبدونهم عبادة غير صحيحة وغير عادلة بأنهم يطيعونهم أو يشكرونهم أو يحبونهم كما يفعلون ذلك بالنسبة لله تعالى، فهي تستتبع و تستعقب العذاب مع الأسف. والله تعالى يوضح لنا ذلك في كتابه الكريم في أماكن كثيرة وسوف أشرحها جميعا بإذن الله تعالى حينما نصل إليها.
وفي نفس المضمار، يقول تعالى في الذين يدعون غير الله تعالى في سورة الإسراء: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴿56﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴿57﴾ ويعني باختصار أن الذين تدعونهم من دون الله ليس فقط لا يملكون مساعدتكم أو تحويل تقدير الله تعالى عنكم بل إنهم بأنفسهم يدعون الله ويتشبثون بالأعمال الصالحة وسيلة إلى ربهم ويرجون رحمته ويخافون عذابه فأيهم أقرب إليكم هل هؤلاء أم الله تعالى الذي يدعوه الذين تطلبون منهم المساعدة. هذه حقيقة فعلا فإن الله تعالى هو مراد كل الأنبياء والمؤمنين وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. وقد دعانا الله تعالى إلى نفسه ليغفر لنا ويفتح علينا أبواب الرزق ولم يبخل علينا بالنصح وببيان الحقائق فما لنا إلا الطاعة أو انتظار العذاب.
ويتبين لنا من مجموع البحث أن تنزيه رب العالمين لدى العابدين يتعدى مفهوم الطاعة والخضوع الطبيعي التابع للفقر المدقع أمام العلي القدير والخاص بكل الموجودات عدا النفوس البشرية والجنية بوجوداتها وليس بماهياتها التي لا تخرج عن حيز الفقر العام. هذه الموجودات المختارة تنزه رب العالمين بإظهار فقرها بطلب المساعدة والمزيد من الرحمة وطلب النجاة من العذاب ومن نتائج الأعمال الخاطئة. إنها تعبد الله تعالى خوفا وطمعا ولو لا ذلك لكانوا من الكافرين. إن الصفوة التي أراد الله تعالى أن تكون قدوة للبشر على الأقل، فإنهم يدعون ربهم خوفا وطمعا ولا يكتفون بأن ينظروا إلى أن الله تعالى أهل للعبادة فيعبدوه أو يعبدوه عبادة الأحرار. ليس المطلوب أن تشعر بأية حرية أمام الذي أخضع كل الوجود لنظامه الصارم القاطع. وما يُنسب إلى الصالحين مما يخالف ذلك فهو افتراء عليهم وهم جميعا يدعون الله تعالى خائفين ذاعرين وطامعين راجين. إنهم يستعينون الله تعالى حتى في العبادة إذ يرون أنهم لا يملكون شيئا فأين هم من الشعور بالحرية وأين هم من الاكتفاء بإظهار الأدب؟ الكل ذليل والكل طامع والكل خائف إلا الذين لا يعلمون. فلعل الذين نسبوا تلك الفرية إلى مؤمن صالح وهو الإمام علي، قد انتبهوا لهذه الحقيقة فأرادوا تلافيها بكذبة جديدة وهو أن عليا لا يعبد كما يعبد الآخرون فهو يعبد عبادة الأحرار، والعياذ بالله تعالى,
وفي الختام أود أن أعترف بأن الموضوع ليس بالبساطة التي يتراءى للمرء قبل الخوض في عبابه فهو أعمق بكثير من أن تناله القراءة السطحية وقد حاولت جهد الإمكان أن أبسطه ليكون في متناول فهم أكبر عدد ممكن من القراء الأمجاد. لكني أؤكد بأنه يحمل القليل في بيان العبادة الحقيقية وإنما الكاميرا موجهة للعبادة الزائفة التي ابتلي بها المسلمون بعد انقطاع الوحي كما ابتلي بها من سبقهم من أهل الكتاب بشقيه بعدما قفلت على وجوههم أبواب الرسالات. ولذلك ختمت الموضوع بتذكير القراء المحترمين بباب المغفرة التي تركها الكريم الرحيم مفتوحة أمام عبيده الضعفاء من بني البشر.وسوف يتولى التفسير شرح المزيد خلال التنزه في جنائن الكتاب العظيم.وهناك في المفاهيم الصحيحة موضوع آخر سوف يبدي عن غطائه قريبا وهو الصلاة الحقيقية التي يريد الله تعالى لنا أن نعيش معها دائما فنتفيأ بظلالها في كل حين. انتهى المفهوم.
|