ابراهيم خائف لا مرتاب

 

قال الله تعالى في سورة البقرة: 260 {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم}

قبل أن أخوض في أعماق ا لآية الكريمة فإني أحيي العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان رحمه الله تحية إكبار وإجلال لما فكر في معنى الآية العظيمة وما فهم منها فهو كثير جدا كما أحيي المرحوم الفخر الرازي وكل من حذا حذوهما في الوقوف أمام هذه الآية الناطقة بالمعاني الجمة تحية تقدير وعرفان بجميلهم الذي لا يمكن تجاهلها. وكما وعدت فإني مهتم بالآيات التي لم يتكامل معناها أو الذي لم أقف على معنى كامل لها في تفاسيرنا القيمة. لا أريد غير نقلها إلى عامة الناس بمعناها الواضح ليبنوا على أساس هذه الآيات الكريمة بنيانهم العقائدي ويعرفوا ما أراده الله منهم قبل أن يلقوه تعالى فاقدي الحيلة مقطوعي الإرادة ومسلوبي الخيار.

وكان مما حفزني على اختيار هذه الآية هو أني رأيت أحد الملمين بالقرآن والمهتمين بتفسير العلامة الطباطبائي يستشهد بهذه الآية لإثبات عدم توفر اليقين في قلب شيخ الموقنين إبراهيم عليه السلام. ومن الحق أن نقول: لو كان إبراهيم غير موقن فلا تبحث عنه لدى غيره. حاش لله ، ماعلمنا على إبراهيم إلا الثبات وتمكن اليقين من قلبه وعقله وكل أدوات التشجيع الباطني لديه. إبراهيم؟ وما أدراك ما إبراهيم؟ المؤمن الذي قدم أكبر تضحية ممكنة إرضاء لله تعالى بمجرد الرؤية في المنام وهو أضعف أساليب الأمر وأقل تأثيرا في الموحى إليه من الوحي عن طريق الروح القدس أو الوحي المباشر من الله أو التكليم المشرف منه سبحانه. 

وحتى ينكشف المشهد القرآني بين الجبار العظيم وعبده المخلص إبراهيم علينا بأن نتعرف على بعض مشاهد الحياة المستقبلية في العالم الأخروي أو في النشأة الثانية. فالإنسان بجسمه يموت في هذا العالم تحت تأثير العوامل الطبيعية التي أودعها الله في نظام الحياة أو تحت تأثير العوامل المفاجئة وغياب الأمر بالحفظ للملائكة المختصين. وحين الموت يقدم الملك الموكل بالإنسان والمتطلع إلى حصول الانقطاع بين أعضاء الإنسان ليأخذ بالنفس مجردا عن البدن وينقلها إلى مرتبة القرب من الله تعالى باعتبارها متخلصة من المادة ومن كل حواجز العلم والرؤية أو موانع الإدراك الكامل. هناك تستأنس النفس البشرية بخالقها وتعلم الكثير من الحقائق التي ما كان مهتما بها في حياتها الدنيوية. سواء في ذلك المؤمن والمنافق، إلا أن المؤمن لا يستوحش من اضطراب الظواهر الطبيعية التي يشعر بها وهو يتهيأ للنشأة الكبرى بتلقين من الملائكة ولكن غير المؤمنين لا تفارقهم الوحشة والاضطراب لعلمهم بما خانوه من عهد الله في اختبار النشأة الأولى.

وبعد الدمار الكوني العظيم، يوم الفزع الأكبر وإعادة تكوين السماوات وما يتبعها من أرض فإن أهل هذا الكوكب سوف يُعادون إلى الأرض بعد إعادة تكوينها وإعطائها القابلية للبقاء الأبدي بأمر الله تعالى. {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}. فالأنفس تُعاد إلى باطن الأرض، داخل الثرى لتتلبس بلباس البدن الأخروي بباطن الأرض الجديدة التي يرثها عباد الله الصالحون. والفرق بينها وبين الحبة التي تبدأ الحياة تحت التراب هو أن الحبة تتحرك لتعطي الحياة للموجود الجديد، كما أن النطفة تتحرك لتكون مع البويضة جنينا جديدا يكتسب الحياة من الأبوين في هذا العالم. لكن النفس في العالم الأخروي موجود قبل البدن فيلتحم النفس بالبدن النباتي الجديد تحت التراب، ولذلك يمكنها أن تبقى إلى الأبد. كلما انعدم من بدنه الجديد عضو أو قشرة أو خلية أعيد خلقها بسرعة، دون أن يخسر الإنسان خلية منها.

وبعد التكوينات الأولية يقترب موعد الخروج من الأرض. هذا الخروج موحش ومرعب تماما مثل خروج الطفل من رحم الأم. وبما أن الإنسان في طوره النفسي كامل الشعور فإن الخوف أكبر بكثير مما كان عليه الطفل الذي لم تتكامل نفسه ولم يحز نصيبا من الإدراك إلا قليلا. تصور بأنك دفنت حيا بالخطأ في هذا الدنيا وأنت مغمى عليك ،ثم استيقظت وأردت الخروج من التراب الملقاة فوقك. ولنفرض أنك بقيت سليما حتى تخرج من تحت التراب، لكن مقدار الخوف الذي يطرأ عليك في تلك الحالة أكبر من كل خوف شاهدته في حياتك الدنيوية بكاملها. فتصور مهابة المشهد المهول.

كان إبراهيم على علم بكل هذه التطورات المستقبلية، فهو يفكر في كلام الله الذي كان يتسلمه في صحفه الموحاة إليه ويتعمق فيها ولم ير حلا لعقدة الخوف التي ألمت بقلبه فخاطب ربه سبحانه:

- رب          :    استغاثة بالله تعالى وتأكيدا بأنه وحده ربه دون غيره. ذلك ليستمطر رحمة الله فيساعده وينجيه من الفزع الملم به.

- أرني        :    يريد من الله مشهدا دنيويا يؤكد له المستقبل المظلم حتى يتبدد الخوف من قلبه.

- كيف         :   يسأل عن كيفية الإحياء وليس عن أصل الإحياء. إنه يعرف تماما قدرة الله على الإحياء ويعرف مراتب الإحياء من جديد، ولكنه مستوحش من مرحلة واحدة منها وهي مرحلة الخروج من الأرض وقد استعاد بدنه وأصبح إنسانا جديدا كما كان قبل أن يفارق الحياة الدنيا.

- تحيي         :    خطاب إنسان كامل اليقين على قدرة ربه في الإحياء فهو الذي يشرف على الإحياء مباشرة وليس بتفاعل الطبيعة وحدها. يخاطب ربه خطاب مفرد، لتتكامل الاستغاثة وهو مستيقن تمام اليقين فلا يقول: كيف يمكن أن تحيى الموتى. بل يقول كيف تحيي الموتى. لاحظ الفرق بين الألف المقصورة والياء رجاء، وقد تفطن العلامة الطباطبائي مشكورا لهذه النكتة.

- الموتى         :   الذين تركوا القرب من الله حين البرزح وأعيدوا إلى الأرض محاطين بنبتة ميتة تمهيدا لإحيائهم من جديد بحلة جديدة لم يألفوها من قبل. فالبذرة التي نقتحمها ميتة تكتسب الحياة بأمر الله ونتفاعل معها بباطن  الأرض على ما يبدو وتتكون الجينة الأولى بداخلها وبعد المعالجات الأولية تشقق الأرض عنا ونخرج من الأرض خروجا نباتيا حتى نتخلص من الحاجة إلى الأبوين في حياتنا الجديدة فنكون أحرارا فرادى. سوف نتحدث في المستقبل عن خصائص الحياة الأبدية بإسهاب بإذن الله تعالى.

- قال             :    الله تعالى.

- أو لم تؤمن      : ذلك لأن المؤمنين لا يخافون بعد الموت وأنت مؤمن دون شك يا إبراهيم، فمم الخوف. وقد ذكر الله أمان المؤمنين في الآخرة في موارد كثيرة من القرآن الكريم.

- قال              :     إبراهيم

- بلى              :     حقا ما تقوله يا رب. فأنا مؤمن لا أخاف كما وعدتني.

- ولكن ليطمئن قلبي: فرق إبراهيم بين نفسه وقلبه. فنفسه هي التي تكتسي اليقين الكامل ولا يخاف أبدا ولكن القلب الموجود داخل الصدر، جهاز دنيوي يخرج أحيانا من سيطرة النفس مهما كان النفس مطمئنا وثابتا. فعوامل الخوف موجود داخل النفس وتشع في كل البدن فيبدأ القلب بالاضطراب. ذلك أن الحالة التي سوف نواجهها مبهمة لدى القلب، وحتى النفس لا تعرفها. فلو عرفت النفس كيفية الخروج أرسلت الإشارة الواضحة إلى القلب وصورت له المشهد فيستقر القلب دون اضطراب. فالاضطراب من كيفية الخروج لا غير، ويمكن القضاء عليه بمعرفة أو رؤية تلك الكيفية حتى يتوقف الاضطراب. وجدير بالذكر أن القلب يمكن أن يعني النفس أيضا ولكنه هنا يعني القلب العضوي على ما يبدو لأن إبراهيم فرق بينهما.

- قال               :     الله تعالى.

- فخذ              :    تعبير يستعمله العرب لإعطاء المثال دائما، وليس أمرا في حد ذاته. ولا دليل على قيام إبراهيم بأي عمل. سوى أنه اطمأن إلى سهولة الخروج بهذا التمثيل الجميل من الله تعالى.

- أربعة             :   هذا العدد يألفه الإنسان للاطمئنان، فالجهات الأربعة والجدران الأربعة والحراس الأربعة وإذا دخلت المرأة في الطهر الرابع (طهر الطلاق ويتلوه ثلاثة قروء) دون أن يصطلحا يحصل الاطمئنان بالتنافر بين الزوجين فينعقد الطلاق ويستعمل العرب ألفاظا مثل ربع بالمكان أي سكنه باطمئنان والرباعة تعني الحالة الحسنة المطمئنة. وعلماء التجارب المعاصرون يقومون بتجربة خيالية في ذهنهم يتلوها ثلاث تجارب مخبرية للاطمئنان على الحقيقة.

- من الطير          : فالطير القادر على الفرار من كل جانب باعث أكبر لليقين على ادعاء الاستئناس إن صح المثال أو التجربة.

- فصرهن إليك       : أي فعلمهن على نفسك ليستأنسوا بك. تماما كما يفعله مدجنوا الطيور. والذي قال بأن صار لغة في قطع فنرد عليه بأن "صار" لا يعني القطع مع "إلى"، إلا إذا رفعنا كلمة "إليك" لنضعها بعد "فخذ" (كما اقترح أحد علماء العربية منتقدا)، وهو غير صحيح مع عدم وجود البرهان في الجملة. وبالتالي فما ضرورة قول "فخذ إليك" إن كان الأمر بالذبح والقطع ؟

- ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا: الجزء من أربعة طيور هو من طير إلى ثلاثة طيور. وأقرب احتمال هو طير واحد باعتبار قلة العدد. ويحتمل أن يكون مكان استغاثة إبراهيم في حينه بين أربعة جبال فيتناسب جعل كل طير على رأس جبل من الجبال الأربع. ولم يشر الله إلى الذبح وما شابه ذلك صراحة، ولا أدري كيف خمن عامة المفسرين الذبح والتقطيع دون وجود أي دليل في الآية. سوى عدم فهمهم لأصل الإشكال. ولو استفسر أحد عن سبب عدم ذكر الله كلمة "واحدا" بدل "جزءا" فأقول له: بأن العدد غير مقصود في هذه التجربة لكنه اكتفى بأربعة فيمكن للمجرب أن يأخذ مائة طير. ثم إن جعل الطير ليس معناه أن يأخذه بيده ويصعد إلى كل جبل ليضعه عليه، حيث أن جعل الطير على الجبل ممكن بتطيير الطير ولا يحتاج إلى تحمل مشقة الصعود والنزول.

- ثم ادعهن يأتينك سعيا  : يعني اطلبهم كما يطلب مطاير الحمام طيوره في الهواء فيسرعون إليه عائدين. ذلك لأنهم ألفوه واستأنسوا به فلا يهابونه، مع أنه إنسان يمكن أن يقتلهم ويأكلهم. وقد استعمل الله نفس الكلمة الثلاثية في قوله تعالى في سورة الروم: 25 {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون}. كما يستعمل نفس الكلمة في أماكن أخرى من القرآن مشيرا إلى الخروج من الأرض بدعوة من الله تعالى.

- واعلم أن الله عزيز حكيم: وثق أن الله قوي لا يغالبه شيء ولكنه حكيم يبلغ إرادته بحكمة ودراية وليس بالشدة وقوة الدفع.

وخلاصة الكلام أن الإنسان الذي استمتع بالقرب من الله وهو بين الحياة الدنيا والآخرة فإنه يسرع إليه خارجا من الأرض بعد أن تتكامل معالجته خَلقيا تحت التراب، دون خوف أو مهابة من الخروج استجابة لدعوة ربه جل وعلا. وهكذا زال الخوف من قلب إبراهيم واطمأن إلى عدم حدوث أمر مرعب بعد تفهم دعوة الله إليه بالخروج من الأرض. ولا أظن بأنه قام بعمل التجربة فكل إنسان يعرف نتيجة هذه التجربة دون أن يأتي بها بنفسه، كما لم تُشر الآية إلى أي شيء من هذا القبيل. وهكذا أخرج الله تعالى إبراهيم من ظلمات الخوف والجهل إلى نور العلم والسلام كما أشار إليه في الآية 257 أي قبل ثلاث آيات في نفس سورة البقرة، والعلم عند الله سبحانه.

وسوف نشرح مستقبلا قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها وقصة يونس صاحب الحوت ونسعى لكشف ملابساتهما بإذن الله تعالى. أما موضوعنا التالي مباشرة فسيكون "الظلمات الثلاث في خلق الإنسان" بإذنه تعالى.