ليلة القدر و الفجر و ليال عشر

 

ما أكتبه هنا ليست إلا مقاطع من كتاب كنت قاصدا تدوينه منذ بداية هجرتي إلى المملكة المتحدة عام 1993 باسم (المفاهيم الصحيحة) وقد بدأت فعلا بتأليف الصفحات الأولى منه آنذاك. هذا الاسم ليس بعيدا عن اسم الندوات التي كنت أديرها في الكويت عام 1979 باسم (تصحيح مفهوم المساواة)  وأنا أدرك خطورة ما أدونه ويمكنني التنبؤ بمن سيقوم ضدي من الذين تتعرض مصالحهم للخطر إذا ما سلطت الأضواء على المفاهيم المقلوبة التي فرضت على عباد الله ظلما وعتوا. لكنني أقول لهم جميعا بأنني لا أنوي أية مواجهة دنيوية ضد مصالح القوم، ولكنني أخاف الجبار العظيم يوم القسط الأكبر إذا ما استُجوبت أمام قضائه العادل.

 

لقد جربت تفسير ليلة القدر الوارد في القرآن من القرآن نفسه في إحدى المجالس الرمضانية في لندن ورأيت أن الحاضرين والحاضرات لم يطردوني من مجلسهم احتراما ولكن أكثرهم استاء مني بعيونه وقسمات وجهه. إنهم لم يقووا على مناظرتي باعتبار تفوقي العلمي عليهم في الشؤون القرآنية ولكنهم لم يرتاحوا قطعا أن يسمعوا ما لم يألفوه في ما مضى من عمرهم. كانت الشيعة والسنة متفقين ضدي ولو أنهم احترموني واحترموا ما أنطوي عليه من معلومات.

 

وكنت أتوقع ذلك كما أتوقع الأكثر حينما أكتب في هذا الموقع الإلكتروني، ولا ألوم أحدا. والذين يعرفونني منذ صباي والمنشأ الذي تربيت فيه سيظنون في الجنون أو أنني مضروب بالسحر. لكنني أطلب من العلي القدير أن يفتح عليهم أبواب العلم ويهديهم إلى حقائق التنزيل كما أدعوه سبحانه  ألا ينساني في المزيد من الإكرام والمزيد من معرفة كتابه ولا يفوتني ليلة لا أقول فيها مرة على الأقل: رب زدني علما. ثم إنني أحاول جهد الإمكان أن أعيش على جناة يدي ولذلك أصرف جل وقتي في طلب الرزق. أرى لزاما علي أن أطلب من الجميع أن يفكروا فيما أكتبه ولا يحكموا علي اعتباطا، فيخسروا حقائق كتاب الله ويندموا يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

قال عز من قائل في سورة القدر: {إنا أنزلناه في ليلة القدر 1  وما أدراك ما ليلة القدر 2 ليلة القدر خير من ألف شهر 3 تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر 4} نظرة دقيقة إلى الآية الثانية من هذه السورة الكريمة والتي تبدأ بـ ما أدراك، والبحث في كتاب الله والموارد التي فخمها هذا التفخيم العجيب وكلها تخص ما لا يمكننا إدراكه ومعرفته بالكامل مثل سقر و كذلك يوم الدين والقارعة الكونية ونجمة الطارق والسِّجِّين والعلِّـيُّون ونار الحطمة، سيهدينا أهمية ليلة القدر وبأنها ليست من الليالي التي يمكن لكل من تعلم بعض العلم أن يدلي فيها دلوه. ويقول تعالى في سورة الدخان: فيها يُفرق كل أمر حكيم.

 

الحكومات القوية تضع لمستقبلها الخطط الخمسية والعشرية وأحيانا العشرينية وتضع لذلك منهجا تنفيذيا كاملا للوصول إلى الأهداف المرسومة في نهاية السنوات الخمس أو العشر أو العشرين. هكذا يبرمج الإنسان لمسائله الكبرى وأموره الحكيمة. إذا كان الإنسان قادرا على النظر إلى ما بعد عشرين عاما ووضع الخطط لها فحري بالخالق العظيم أن يبرمج لما هو أكثر من ذلك ويذكرها لنا بتفخيم مثل تفخيم ليلة القدر. مما لا شك فيه أن الله تعالى لمّا يتحدث عن المسائل العادية عند حديثه عن ليلة القدر. إنه هو الذي خلق الأنظمة الشمسية ووضع لكل منها قانونا تسير عليه إلى نهاية عمرها التي تربو أحيانا عن عشرة بلايين سنة. يقول تعالى في سورة فصلت:12 {…وأوحى في كل سماء أمرها}.

 

هكذا يخطط الله لمستقبل المجموعات الطبيعية التي أوجدها. لكن هذه المجموعات تسير سيرا طبيعيا وفق نظام الطبيعة وليس من يقوى على التدخل في سيرها غير الله نفسه. لكن الكرة الأرضية وفي المقطع الحيوي منها حيث نشأ الإنسان وأُعطي الإرادة والقدرة على التدخل في سير الطبيعة فإن المسألة تختلف والحاجة إلى المزيد من التدخل الرباني واردة بشدة. لذلك فإنه تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون .سورة السجدة:5.

 

الذين يعملون في المجالات الإدارية يدركون أن المدير يصدر الأوامر والتعميمات ثم تعود المعلومات التنفيذية إليه طوال فترة سريان الأمر أو التعميم ليطمئن على صحة التنفيذ ويتعرف على المشاكل التي نشأت خلالها لمعالجتها وإصدار الأوامر المؤقتة بشأنها.  وكذلك الحال مع مدير الكون فإنه يصدر القوانين الإدارية لملائكته الذين ينفذونها ويعرجون إليه بالمسائل التنفيذية طوال فترة سريان الأمر. أما مدة السريان فإن الآية السابقة تقرر أنها ألف سنة من سنواتنا نحن أهل هذا الكوكب. فخطة الله في أرضه خطة ألفية يعيد الله النظر في أرضه بعد مضي السنوات الألف ثم يصدر أمرا عاما جديدا للألفية القادمة.

 

ويتم إبلاغ الأمر الإلهي العظيم خلال ليلة واحدة تعطل فيها كل الحروب والمشاكسات ويعم الكرة سلام كامل حتى مطلع الفجر حيث يتم استلام أمر الله تعالى بواسطة الروح القدس احتمالا حيث يعممها على الملائكة المنفذين والمسؤولين عن هذا الكوكب وعمن يعيش على هذا الكوكب من البشر. ثم هم بدورهم ينقلون الأوامر إلى ملائكة الأفراد المسؤولين عن كل فرد حيث يتعلمون منهم كيفية التعامل مع النظام الجديد. ولعل السر في تأخير الإبلاغ إلى الليل هو أن الناس بطبيعتهم نائمون ليلا والسكون أكثر من النهار حيث الناس في تحرك طبيعي وتكون الملائكة أكثر فراغا في الليل. ثم إن الحروب هي أكبر عائق في سبيل تعميم الخطة الجديدة ولذلك فإن الله يقدر السلام في تلك الليلة حتى تتمكن الملائكة من استيعاب الأمر الرباني والبدء بتنفيذه وفق الخطة المرسومة لهم.

 

ولنلق نظرة إلى التاريخ البشري وإلى الحوادث الكبرى في الأرض لنرى وقع ليالي القدر على الأرض وآثار أوامر الله الألفية في هذا العالم.

 

حوالي 5100 سنة قبل الهجرة (4500 سنة ق م) بنى المصريون بناء على ما يعتقده علماء التاريخ، القوارب الأولية التي تطورت بسرعة لتستخدم في التجارة الساحلية. وإني شخصيا أحتمل أن تعليمات النبي الأول نوح عليه السلام هي التي وضعت أساس بناء السفن ولعله كان في نفس الزمان. كما أحتمل أن أول ليلة قدر كانت في عهد إمام الأنبياء نوح عليه السلام.

 

حوالي 4100 سنة قبل الهجرة (3500 ق م ) قام السومريون باختراع أول كتابة ليبدأوا به التاريخ كما قاموا بتأسيس حضارة بشرية في وادي مابين النهرين تبعهم مباشرة حضارة ثانية في ثلاثة وديان أُخر، هُنَّ: النيل بمصر ثم نهر السند مكان باكستان الفعلي ثم النهر الأصفر (هوانگ هو) بالصين. وذلك مع عدم وجود المواصلات بينهم. فوجود إرادة وراء قانون الطبيعة مؤكد في تلك الحوادث المتشابهة وهي تأسيس حضارات بشرية في أربعة وديان نهرية في زوايا العالم في أوقات متزامنة. ولعل السومريون قاموا بتأليف الأعداد الحسابية وبصناعة العربات ذوات الدواليب في نفس الزمن.  

 

حوالي 2900 سنة قبل الهجرة (2300 ق م) أسس سرجون الأول الأكّدي أول امبراطورية في العالم باحتلاله أور و نيپور. وأسس الصينيون بعد عقود قليلة حضارتهم المعروفة. وفي نفس الزمان ولأول مرة اخترع المصريون الورق من ورق البردي. وقبله بقرنين اخترع المصريون الزجاج احتمالا كما أسس العراقيون أول مكتبة محتملة كما بدأت تجارة المسافات البرية الطويلة. ولعل إمام الناس جميعا إبراهيم الخليل عليه السلام كان قد ظهر في نفس القرن من الزمان. وإبراهيم هو أبو أنبياء بني إسرائيل وأبو أجداد مريم (أم المسيح) وأبو العرب.

 

حوالي 1900 سنة قبل الهجرة (1300 ق م) ولد النبي الكبير موسى بن عمران كليم الله وقام بعد عدة عقود بدعوته المشهورة وأنزل الله عليه التوراة المقدسة. والتوراة كتاب تشريعي كامل ظل بقوته حتى بعد ظهور النبي العظيم عيسى بن مريم روح الله وكلمته. ويُعتقد أن الحثيون القدماء تعلموا صناعة الحديد والحديد الصلب عدة عقود قبله في آسيا الصغرى (مكان تركيا الفعلية). وكما يبدو أن إقدام العبدين الصالحين داود وابنه سليمان على صناعة القدور والأحواض الكبيرة لإذابة الحديد كانت بعد حوالي 400 سنة من قيام الحثيين باستخراج وتصنيع الحديد. ولقد قام النبيان الملِكان باستخدام الموجودات غير الإنسية مثل الجن والشياطين لتذليل الصعوبات أمامهما.

 

حوالي 1000 سنة قبل الهجرة (322-384 ق م) ظهر المعلم الأول أرسطو في اليونان وهو أكبر أستاذ للفلسفة اليونانية والذي وضع علم المنطق وأسس فلسفة المشائين المعروفة. و حينما وضع فلسفة الطبيعيات قرر أرسطو أربعة أنواع من العلل لكل تغيير في الموجودات الطبيعية. (العلة المادية ثم العلة الفاعلية ثم الصوَرية ثم الغائية) وهو الذي قال بأن الحركة نوع من التغيير كما أنه وضع فلسفة ما وراء الطبيعة أو الفلسفة الأولى حسب تعبيره. هذه الفلسفة تهتم بدراسة الذات الإلهية المقدسة باعتباره الذات دائمة الحياة الذي لا يطرأ عليه أي تغيير. وأما اسم ما وراء الطبيعة فقد خلع على هذه الفلسفة قرونا بعد وفاة أرسطو. وظهر مع أرسطو مجموعة كبيرة من علماء اليونان وفيهم أستاذه أفلاطون.

 

وأرسطو هو معلم ألكساندر المقدوني الكبير الذي أسس مكتبة الإسكندرية وغير الكثير من معالم الكرة الأرضية.

 

على مشارف الهجرة المحمدية نزل القرآن الكريم مبشرا بخاتمة الأديان السماوية وبخاتم النبيين. إنه أعظم حدث في العصر المتوسط والقرآن هو الكتاب الذي ساد المكتبة العربية بسرعة كما ساد المكتبات الدولية بعد فترة غير طويلة. وهو الكتاب الذي تُرجم إلى كثير من اللغات ونهض المئات بل الآلاف من كبار العلماء لتفسيره وبيان آياته ولازالت آياته وسوره تتجلى يوما بعد يوم.

 

حوالي سنة 1000 هجرية (1500 ميلادية) بدأ العالم بالتزايد السكاني بصورة دراماتيكية. فحينما كان الناس لا يتجاوزون 450 مليون آنذاك فقد بلغوا 1500 مليون في العام 1900. تزامن مع هذا التزايد: اختراع الطباعة، بداية العلوم التجريبية على يد گاليليو ، اكتشاف التلسكوب والمايكروسكوب، ظهور أول نظرية بشرية حول النشوء والارتقاء على يد صدر الدين الشيرازي تحت عنوان الحركة الجوهرية، اكتشاف أمريكا وإحياؤها بالهجرات وكذلك إبحار الأوروبيين إلى الهند وأفريقيا واستعمارها، الخروج على الكنيسة الكاثوليكية وظهور البروتستانت إضافة إلى الكثير من الحوادث الأخرى المدونة في الموسوعات العلمية المعروفة.

 

و الآن دعنا نعد إلى سورة القدر ساعين لفهم أدق. الضمير في إنا أنزلناه لا يمكن أن يرجع لغير القرآن. ذلك لأن الله تعالى يشير إلى شيء مفرد معلوم لدى المستمع وبأنه منزل من الله. وهذا لا ينطبق على غير القرآن. إن القرآن كتاب فرد أنزله الله إلى عبيده في ليلة مباركة ليعطي الناس نظاما جديدا وتشريعا متكاملا يصلح للعمل به طيلة فترة الحياة الدنيوية دون الحاجة إلى الأنبياء والرسل. إنزال القرآن في ليلة القدر جزء من السياسة الربوبية في تسيير الكرة الأرضية من حيث الساكنين فيها من البشر والجن وهو تابع للأمور الحكيمة التي يفصلها الله تعالى في ليلة القدر. إنه بملائكته يطور فهم الناس ويوجههم الوجهة المناسبة لاستقبال الألفية القادمة فيحتاج الناس إلى تشريع يتناسب مع التطور الفكري لديهم ليتعرفوا على واجباتهم وعلى ما هو محرم عليهم خلال النهضة المرتقبة للناس.

 

وأما الآية الثانية فإنها تخبرنا بأن ليلة القدر خير من ألف شهر. وقد ذكر المفسرون قصصا تناسب المقام منها أن رسول الله عليه السلام علَِم بشخص من بني إسرائيل جاهد في سبيل الله ألف عام فتأثر من تقلص الأعمار في قومه وعدم إمكانية تحصيل هذا الثواب لهم فوهب الله له ليلة يعبدون ربهم فيها ويكون بمثابة الأشهر الألفية للمجاهد الإسرائيلي! وقصصا أخرى مشابهة. ولقد انتبهوا إلى حقيقة أن هناك حوالي 83 ليلة قدر في ألف شهر فيكون نتيجة ذلك أن أول ليلة قدر تكون خيرا من ألف شهر بها ليلة قدر تكون خيرا من ألف شهر بها ... وهلم جرا. وهذا تسلسل غير منطقي ومرفوض. ولذلك قالوا بأن المقصود ألف شهر ليست بها ليلة قدر! وكيف يتحقق ذلك، ثم كيف نستخلص هذا المعنى من هذه الآية الكريمة أو من أية آية أخرى في الكتاب المجيد؟ لا أدري. كلما أدري أنهم تصوروا 83 سنة خالية من شهر رمضان ليتحاشوا تسلسل ليلة القدر غير المنطقي!

 

ولم يقل سبحانه بأن العبادة في ليلة القدر خير من العبادة في ألف شهر كما ادعى المفسرون الكرام، بل قال بأن ليلة القدر نفسها خير من ألف شهر. لكنهم رحمهم الله غرقوا في بحر لجي من الظلام ولم يعرفوا كيف يخرجوا منه. ذلك لأنهم اهتموا بالأحاديث والروايات التي لا يمكن لها أن تفسر كلام الله تعالى وهو الكلام المبين في حد ذاته. لكن تفسيري هو أن ليلة القدر الذي يفرق الله فيها كل أمر حكيم، هي ليلة كل ألف سنة وبها ألف شهر رمضان فيكون ليلة القدر الوحيدة فيها خيرا من الأشهر الرمضانية الألف التي تليها، حتى تقترب موعد ليلة قدر أخرى. ولا يوجد أية ليلة قدر في الأشهر الألفية التالية. كما أن الله سبحانه لم يقل بأن ليلة القدر ستكون حتما في شهر رمضان. لكن ليلة القدر التي نزلت فيها القرآن كانت في شهر رمضان دون أدنى شك. ذلك لأنه الله جل وعلا ذكر نزول القرآن في شهر رمضان كما ذكره في ليلة القدر أيضا، فعلمنا بأن ليلة القدر التي نزلت فيها القرآن كانت في شهر رمضان والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

 

وأما تفسير للشهر بأنه شهر رمضان فهو من باب أن القرآن الكريم لم يذكر غير شهر رمضان بالإسم كما أنه يشير إلى شهر رمضان بالشهر بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. ثم إن مدار البحث في هذه السورة هو ليلة القدر التي كانت جزءا من شهر رمضان عام نزول القرآن. وشهر رمضان يشترك مع ليلة القدر في استضافته لكتاب الله الكريم.

 

تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر: التنزل هو الانتقال من الأعلى إلى الأسفل. فإما أن يكون العلو علوا فيزيائيا أو علوا مرتبيا. وكلاهما ينطبقان هنا. إن هناك ملائكة يعيشون في أعالي النظام الشمسي وباعتقادي أنهم يعيشون فوق المنطقة التي تستقر فيها المذنبات. إن هذه المنطقة تبتعد عن الشمس بحوالي سنة ضوئية ونصف السنة. ولعلهم هم الذين يسميهم الله تعالى "الملأ الأعلى" الذين يطلعون على الكثير من الحوادث الأرضية المستقبلية وقد منع الله عنهم الشياطين بعد نزول القرآن لألا يستمعوا إلى أسرار الأرض فيستعملوها لتصعيد وساوسهم في قلوب الناس، استعدادا لأرض تخلو من الأنبياء بعد نبينا عليه السلام. إنهم ينزلون في ليلة القدر إلى الأرض ليرتبطوا بالملائكة الموجودين مع كل إنسان وعددهم تسعة من الملائكة مع كل شخص كما سنعلم مستقبلا بإذن الله تعالى.

 

إنهم هم الذين يُعَلِّمون الملائكة البشريين واجباتهم لتغيير نظام المجتمع البشري لمواجهة الألفية المقبلة برئاسة الروح القدس وهو الملك المقرب جبرائيل. إنهم يسيرون مع الليل القدري الطويل الذي ينتهي بعد 24 ساعة، لأنهم يسيرون مع الليل في منطقة ما ليصلوا إلى الليلة الثانية في نفس المنطقة بعد حوالي 24 ساعة. فعدد الذين ينزلون منهم –كما يبدو- أقل من مجموع الملائكة الموجودين مع البشر حول القشرة الأرضية. ولا يخفى أن سرعة سير الملائكة العلويين أكثر بكثير من سرعة النور!

 

وجدير بالذكر أن نتعرف من هذه الحقيقة على حقيقة أخرى وهي أن جبرائيل لا يمكن أن يكون فريدا في الكون. إن في مجرتنا لوحدها ما يربو عن مائتي بليون نجم فلو كان واحد بالمائة من هذه النجوم مشتركة معنا في الحياة فإن على جبرائيل أن يزور كلا منها مرة في كل ألف سنة ويصرف يوما كاملا في الأرض المسكونة. ولا يوجد أكثر من 365000 يوم في كل ألف سنة وهي أقل بكثير من مائتي مليون وهو 1% من نجوم مجرة درب اللبانة. وهناك في الكون ما يقرب من مائة بليون مجرة. ولذلك فإن الروح القدس هو مسؤول عن نظامنا الشمسي فحسب، ولله أرواح قدسية كثيرة لإدارة الأنظمة الشمسية الأخرى. تبارك الله رب العالمين.

 

وسنشرح السورة بالكامل قريبا في برنامج التفسير في نفس هذا الموقع بإذن الله تعالى. والذي يؤيد كلامنا هو ما ذكره الله سبحانه في بداية سورة الفجر: {والفجر  وليال عشر  والشفع والوتر  والليل إذا يسر   هل في ذلك قسم لذي حجر} وقد أبلي المفسرون فيها بلاء دون أن يصلوا إلى ما يطمئن المتتبع ويا ليتهم يعودوا إلى القرآن نفسه لمعرفة المعنى الدقيق تاركين أحاديثهم المريبة وراء ظهورهم. كنت أتمنى أن الذين يفسرون القرآن كانوا يتركون الغلو في رسول الله ويفكرون بأنه هو مفسر القرآن وقد أخذ كل علمه من هذا الكتاب العظيم وليس من غيره. ويمكن لكل شخص أن يقوم بنفس العمل في غياب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

فالفجر هو اللحظة التي ينتهي فيها الملائكة العلويون من تعليم الملائكة الموكلين بالبشر في المنطقة التي يظهر فيها الفجر ليسيروا في الظلام نحو منطقة أخرى في الأرض. وأما الليالي العشر فهي عمر الحياة البشرية في الكرة الأرضية منذ بداية النهضة إلى نهاية التكاثر البشري. إن الناس قد بدأوا بالتكاثر منذ أيام نوح عليه السلام. ولعله هو أول الأنبياء إذ لا ذكر في القرآن لنبوة آدم كما يدعيه السلف الصالح. إن في القرآن ما يدل على عدم تأهل الإنسان الأول لاستلام عهد الله بقوله تعالى في سورة طه: 88 {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}. والخلاصة فإن الفجر الذي يقسم الله به هو بداية الحياة الجديدة للناس وهو إيذان بنقلة نوعية في الحضارة البشرية.

 

وأما الليالي العشر فهي تمثل عشرة ليالي قدرية في عشرة آلاف سنة. وقد أصبح اليوم أكثر من واضح أن الذخائر النفطية والترابية وجملة المقومات الطبيعية للحياة بدأت بالفناء ولن تبق أكثر من عدة آلاف من السنين. وبما أن عصر الرسالة المحمدية هي الوسط في هذه الليالي القدرية لقوله تعالى في سورة البقرة: 143 {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وقد شرحتها في الشاهد والشهيد في التنزيل وهو من مواضيع هذا الكتاب. وسوف أشرحه بالتفصيل بإذنه تعالى مستقبلا في تفسير التنزيل. لقد كان ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن الليلة السادسة وليلة القدر التي قدر الله فيها تغيير نظام الفكر البشري ليتحول نحو التجربة هو الليلة السابعة وهناك خمسمائة عام أخر لتحل ليلة القدر الثامنة. لو كان استنتاجي صحيحا فإن عمر الحياة في الكرة  الأرضية ستنتهي بعد 3500 عام. آنذاك سيبدأ أفول الأرض وسوف يتحول البشرية إلى فناء النوع الإنساني ويتوقف مسيرة التقدم لديهم ليبدأوا بالانقراض بإذن الله تعالى.

 

والشفع هم الملائكة العلويون حينما يرتبطون بالملائكة البشريين فيتحولون إلى ملائكة ثنائيين لينقلوا إليهم المعلومات والأوامر الجديدة والوتر هو الروح القدس الذي ينزل معهم فريدا ليدير شؤونهم في تلك الليلة كما قال تعالى في سورة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}.

 

وأما الليل إذا يسري فقد بات واضحا الآن بمشيئة الله تعالى وهو أن الملائكة تسير في ليلة كاملة حول الكرة الأرضية لترتبط بزملائها من الملائكة الملازمين للبشر. فالليل بهذا المعنى هو 24 ساعة كاملة لا يرى فيها الملائكة العلويون نهار الأرض حتى ينتهوا من مهمتهم. هذه الليلة الطويلة التي تتم فيها إبلاغ الخطة الألفية للملائكة تستحق بأن يقسم بها ربنا سبحانه وتعالى. هي ليلة عمل مكثفة تتوقف فيها كل الحروب والمشاكسات بأمر الله تعالى وتحصل مرة واحدة كل ألف عام. وهذه المسألة التي أصبحت الآن سهلة على الفهم، كانت معقدة وعاصية على فهم الذين سبقونا من مفسرينا الكرام رحمهم الله تعالى جميعا، فهي مسألة تحتاج إلى إعمال الفكر طويلا ومن أجله قال تعالى متسائلا: هل في ذلك قسم لذي حجر؟ والحِجر يُطلق على العقل. والعلم عند الله تعالى. وقد وفقني الله تعالى على إيجاد تفسير متكامل يعم كل الآيات الواردة بشأن ليلة القدر وسوف أشرح بقية آيات القدر في أماكنها عند التفسير بإرادته تعالى. والحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له.

             وسيكون موضوعنا القادم "حقيقة الشفاعة" بإذن الله تعالى.