الزمر: 13
{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}
الله تعالى هو خالق الكون وهو سيد الكون،
هو خالق الخلق وهو سيد الخلق أجمعين. الدين كله لله ولقد استخلفنا في
الأرض ليختبرنا ويختبر نفوسنا لمدة قصيرة ثم يسلب منا أمانته ويتوفانا
ويعيدنا إلى عبوديته الطبيعية لخالق ما في الوجود سبحانه وتعالى. إنه هو
عالم بكل شيء وهو أرحم الراحمين، فلا أحد يعلم أكثر منه سبحانه ولا أحد
يرحم أكثر منه سبحانه. إذن لا معنى لتوسط أحد بيننا وبين خالقنا العظيم
عز اسمه.
الشفاعة أو الوساطة التي يصرح بها القرآن
الكريم هي وساطة التنفيذ فحسب، وهي بيد الروح القدس و الملائكة وحدهم دون
غيرهم بعد الموت حتى قيام الساعة وتفريق المؤمنين من الفاسقين والاستقرار
في الموقع المناسب لكل نفس استقرارا أبديا لا مناص منه. أما في النشأة
الدنيوية التي نعيشها فإن مهمات الأمور بيدهم أيضا، إلا أن هناك وسطاء
بشريين يمارسون بعض الأعمال المؤثرة في الناس مثل الهداية التعليمية التي
يمارسها الأنبياء وعمارة المباني التي يمارسها المهندسون والعمال والخدم
وعمال المصارف وموظفو البلديات.
فإذا غاب المرسلون أو ماتوا عاد الأمر إلى
الناس العاديين أنفسهم فمن يعلم أنذر من لا يعلم، و من أدرك هول عذاب
الله خوّف الآخرين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ثم إن لله في خلقه
شأنا آخر يوم القسط الأكبر وقد ظننته وبينته في بدايات "المفاهيم
الصحيحة" تحت عنوان: الشهيد والشاهد في التنزيل وكذلك تساؤلات
حول الشهيد والشاهد.
وليس هناك دافع علمي لرد مسألة الشفاعة
المعروفة بين الناس فهي غير موجود في صلب الدين ولكن الجهل المتفشي الذي
حل محل العلم في أذهان العامة من الناس، يفرض علينا أن نتصدى لهذه البدعة
الدخيلة لنثبت خطأها، فلا يعول عليها العصاة المتمردون للنجاة من النار.
وبالطبع فإننا نقصد المسلمين من الناس، ذلك لأن المسيحيين قد انخرطوا في
ضلال شيطاني بعيد، لا يُرجى معه تحكيم الفكر والعقل. إنهم يكتفون بحب
المسيح وبالاعتراف بالذنب أمام الكاهن ويتوهمون إرضاء الله سبحانه. أما
المسلمون فإنهم يأتون ببعض العبادات ولكنهم يعولون على الشفاعة في كسب
الرضوان. إنهم يقيمون بعض القرابين لله تعالى وخاصة يوم عيد الأضحى فهم
إلى النجاة أقرب من غيرهم. أما الغير فهو يعول تماما على الخلق ويعتبرهم
أقرب إليه من الله تعالى.
والطامة الكبرى أن بعض المسلمين أيضا
يظنون أن اليد البشرية قاصرة للوصول إلى من هو أقرب إليهم من حبل الوريد
فعليهم التشبث بالذين هم عبيد مقربون إلى الله تعالى وقد سبق بشأنهم حكم
الجبار فهم ليسوا فقط أصحاب الجنة بل بيدهم مفاتيح الدخول فيها. ألا
ليتهم يبحثوا في كتاب الله عن أي موجود حي عند نزول الوحي وقد بشره الله
بالجنة بمن فيهم نبينا المصطفى. بل يأمره سبحانه أن يقول للناس {قل
ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلا
ما يُوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} الأحقاف: 9.
هو الآن ميت لا حول له ولا قوة ولا إرادة
كغيره من الناس، ولو كان شاذا عنهم لذكره الله في القرآن الكريم. إنه بشر
يصيبه التعب والعنت ويتألم من أن يمسه هو أو أهله السوء. فقد أدى ما عليه
من واجب ومن حقه أن يرتاح بعد الموت. حتى يتكامل لقاؤه مع ربه فيعود مع
بقية الناس إلى الأرض الجديدة منتظرا حكم الله فيه وفي أتباعه ومخالفيه.
الزمر: 30و31 {إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم
يوم القيامة عند ربكم تختصمون} لم يقل الله بأنك ميت غير بقية
الموتى بل أنت حي بعد موتك، ترى أمتك وتتوسط بينهم وبيني؛ معاذ الله.
هناك من يستشهد بالآية 169 من سورة آل
عمران {ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون} يريد المستشهد أن يُبرهن على
الحياة البرزخية بعد الموت، وهو حق وصحيح. فكل الناس أحياء عند ربهم بعد
الموت. أما الذين قُتلوا في سبيل الله منهم فهم يُرزقون الأمان وعدم
الخوف بعد الموت. آل عمران : 170 و 171 {فرحين
بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا
خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا
يُضيع أجر المحسنين}.
الحياة عند الله لا تعني الارتباط
بعالم الدنيا وممارسة الوساطة بين الناس وربهم. إنها نوع من الحياة
النفسية التي لا يمكنها الارتباط بالنفوس المحاطة بالبدن بتاتا. إنهم
يُريدون أن يُخبروا إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بما من الله عليهم من
نعمة السلام وبأن الله سوف لا يضيع أجرهم يوم القيامة ولكنهم غير قادرين
على ذلك لانقطاع الاتصال بأهل الدنيا. ولذلك فهم يستبشرون بالذين لم
يلحقوا بهم بأنهم ارتاحوا من عناء الدنيا ودخلوا نعيم السلام الإلهي
البهيج. يعيش المؤمنون في جنة الرضوان بعد الموت بانتظار عودتهم إلى
أبدانهم الأخروية والاستمتاع بجنات النعيم أيضا.
ولو لا أن يبقى الإنسان بحقيقته حيا بعد
الموت فمن الذي يبعثه الله يوم القيامة؟! لو أنه تعالى يخلق مخلوقا مثلي
فهو غيري ولو أنه نسخة مني ببدنه وبكودات جيناته. لكن الإنسان بحقيقته
غير ميت أبدا إلا أن يشاء الله غير ذلك. هو بحقيقته يخرج من البدن الذي
أوجده الله فيه ليبقى نفسا دون بدن حتى قيام الساعة. فهو نفس مجردة عن
المادة وهو أقرب إلى الله منه حينما كان محاطا بالمادة الدنيوية التي
تسمى بدن الإنسان.
أما في حياة النبي فهو أضعف من أن يغير
حال الناس أو أحوال نفسه بل عليه أن يبين لهم ضعفه أيضا. الأعراف: 188 {قل
لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب
لا استكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}
تعريف مختصر:
الشفاعة (والعلم عند الله) هي عبارة عن
الوساطة التنفيذية بين خالق الكون وخلقه بالضرورة. فعامة الخلق غير
قادرين على استلام النور أو الطاقة الربوبية وغير مؤهلين للتكيف معها،
أما الملائكة فهم إما مباشرة أو بواسطة الروح الأمين يتسلمون الأوامر
والأنوار الخالقية من الله فيبسطونها على الخلق أو ينقلونها إن كانت
أوامر تشريعية إلى أولي الأمر مثل الأنبياء لإيصاله إلى الخلائق، أو
يبعثون بها إلى النفوس المعنية بشرا أو جنا أو حيوانا أو غير ذات نفس.
هذا ما يُستفاد من كتاب الله ولعل الملائكة يمثلون أدوارا أخرى غير
معروفة لنا. والأنبياء شفعاء هداية وتعليم بين الله وخلقه. إنهم يتسلمون
الأوامر مباشرة من الله أو عن طريق الروح أو الملائكة ويبلغونها إيانا
فهم أيضا شفعاء.
وأما الشفاعة بمعنى الوساطة التشريفية أو
التكريمية التي نراها بين الخلائق أنفسهم فهي عبارة عن وساطة شخص بين ذي
قدرة فاعلية وبين ضعيف ينتظر وقوع الفعل عليه لرفع العقوبة أو لاستلام
المكرمة. هذه الوساطة تكون لسببين:
أولاهما) أن يكون الوسيط أقرب إلى الفاعل
سنا أو فضلا أو مالا أو علما أو مهنة وزمالة وما شابهها، كما يكون أقرب
إلى محط الفعل وموضعه في إحدى الصفات المذكورة. يقوم الوسيط بالتقرب إلى
الحاكم أو القاضي أو المالك أو الرئيس أو رب العمل لصالح قريبه فيرفع
العقوبة أو يحقق الجائزة إكراما لما يتمتع به من صفات لدى ذات النفوذ
والقوة. هذه الوساطة غير واردة بتاتا بين الخالق وأي من خلقه لأن كل
الخلق يتمتعون بنفس العلاقة مع الله وهي علاقة العبد بمولاه إن كان مؤمنا
أو علاقة العبد بربه بصورة عامة. كما أن المولى أو الرب هو أقرب موجود
إلى العبد باعتباره مالكا حقيقيا له. إن صلة العبد بالعبد أقل بكثير من
صلة المالك الحقيقي بالعبد، إذ أن كل عبد جزء من ممتلكات المعبود وليس
العبد جزءا من ممتلكات عبد آخر.
لو فرضنا وجود هذه الصلة بين الخلق أنفسهم
لوجب على الخلق أن يتقربوا إلى الواسطة كما يتقربون إلى الله لعلهم
يعينوهم بالوساطة بينهم وبين الله. هكذا ينفصم الوثاق بين الله وعبيده
ويشرك العبيد في عبادة الله بالتوجه إلى عبيده أيضا. والمفروض أن نقيم
وجوهنا عند كل مسجد إلى الله وحده لا إلى خلقه. يجب علينا أن نكتفي بالله
فهو حسبنا لأنه كامل القدرة، كامل الرحمة، كامل الربوبية.
وثانيهما) أن يكون الوسيط على علم أكثر من
صاحب الكلمة والسلطة بالنسبة لمن سيقع عليه الفعل، تبعا لطبيعة الخلق
المتصفين بالنقص في الرؤية والعلم والحكمة والاتزان. إن حاجة القضاء إلى
الشهود هي من هذا الباب والشهود وسطاء بين الحاكم والمحكوم لبيان القضية
والشهادة التي تزيد الحاكم علما بالأمر. هذا النوع من الوساطة مرفوض
تماما بالنسبة لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو أقرب إلى خلقه
من حبل الوريد، ولا يمكن لأحد أن يزيد الخالق علما بأحوال المخلوق. إن من
الملائكة من هم وسطاء شهادة وكتابة ولكنهم في النهاية يمثلون دورا
تنفيذيا للتسجيل ولإكمال الحجة على الناس فحسب.
إن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط بكل
شيء، عالم بما يمكن أن يخفى على ملائكته وشاهد عليهم وعلى الناس. والحكم
النهائي يوم القيامة لله وحده ليس فقط من باب الاستعلاء بل باعتباره
العالم الحقيقي بكل حيثيات القضايا وكل نفسيات الفاعلين والمحيط بكل
ملابساتها وجزئياتها وأركانها. فلا يمكن تصور مثل هذا التوسط بين الله
وعبيده المملوكين له وحده. إن تصور هذه الوساطة كفر بالله وتنقيص لشأنه
وحط من علمه وحكمته. معاذ الله.
إن الله تبارك وتعالى هو وحده العليم
الخبير وهو وحده أرحم الراحمين فلا معنى لتوسط أحد بينه وبين خلقه. أما
مسألة التكريم الذي ينادي به بعض العلماء الأفاضل فهو باطل بدليل عدم
وجود كرامة في مقابل كرامة الله نفسه. إن مرد الجميع هو إثبات فضل لبعض
الخلق في مقابل فضل الله على خلقه. إنهم –من دون قصد- يدعون إلى غير الله
وهي دعوة غير مشروعة. إن عليهم أن يدعوا إلى الله وحده وأن يطلبوا من
الناس الامتثال لأوامر الله وحده والالتجاء إليه وحده وطلب الرحمة منه
وحده. إذا كان فلان مخلوقا مؤمنا أو عبدا صالحا فهو غير مؤهل لأن يستجير
به المؤمنون أو يطلبوا شفاعته بينهم وبين ربهم الذي هو أرحم من هؤلاء
العبيد الصالحين إلى الناس.
خلق الله الخلق لنفسه وإكراما لذاته
المقدسة ولم يخلقهم لأجل أحد ولا إكراما لعبد مهما كان ذلك العبد صالحا
وطيبا فهو وبقية الخلق في درجة واحدة من العبودية. خلقنا جميعا من الأرض
وأخرجنا جميعا من أرحام الأمهات! (سوف أوضح هذا التعميم مستقبلا عند
الحديث عن الإنسان الأول بإذن الله تعالى) ثم يحشرنا إليه جميعا. كل
الأنبياء رأوا الطفولة والصبا ثم آتاهم الله العلم والحكمة بعد ما بلغوا
أشدهم ثم ماتوا. إن كل اصطفاء رباني تضاعف من تعرض الفرد للدقة في
الاختبار، وكل الناس يمرون على الاختبار حتى يستحقوا الجنة أو النار.
اللهم إلا الذين يموتون أطفالا فلله فيهم شأن آخر. لعلي أتحدث عنهم
مستقبلا في المفاهيم الصحيحة بموقعي الفكري إنشاء الله تعالى. هذه الأرض
هي المكان التي نعيش فيها، نحيا ونموت وقد وضعها الله للأنام جميعا، كما
خلق لنا ما في الأرض جميعا.
إن بعض الفضلاء يتوهمون أن اصطفاء الله
لأحد مكرمة تبلغ بصاحبه الفضيلة حتى في يوم الحساب والله قد اصطفى بني
إسرائيل علينا جميعا، فهل هم من أهل كرامة الله؟ إنهم يستشهدون أحيانا
بما أكرم الله به المسيح في ولادته أو أكرم به موسى بن عمران وذكره بذلك
بقوله تعالى: واصطنعتك لنفسي. كل هذه
المكرمات هي من ضروريات الحياة والاختبار في هذه الدنيا وسوف أتحدث عن كل
منها بالتفصيل بإذن الله حينما نمر عليها في تفسيري للقرآن. وباختصار أرد
عليهم جميعا بأن الله قد أكرم آدم أكثر من بقية الناس جميعا فألزم
الملائكة ليسجدوا لخلق آدم، فكأنه سبحانه يقول لهم: خلقتكم لأجل هذا
الموجود. ثم عصى آدم ربه في عدم الانصياع لأمر الله فطرده الله من مكرمته
الخاصة. وقال عنه أنه غوى و أنه لم يجد له عزما.
ولم يذكر الله لآدم أية رسالة أو نبوة وهو
ليس نبيا فعلا. إنه لما يستحق النبوة ولما يستحق أن يخصه الله بالوساطة
التشريعية بينه وبين خلقه من أولاد آدم ومن الجان. لقد خالف أمرا مولويا
صريحا بدون أن يكون لديه دافع غضب أو شهوة أو حاجة ملحة. لقد فعل ذلك
لمجرد حب الاستطلاع مع سبق الإصرار مطيعا بذلك عدوه الشيطان فاستحق
الغضب، إلا أن الرحيم الغفور عفا عنه فيما بعد وتاب عليه بعد أن اختبره
اختبارا آخر لأنه أرحم الراحمين. وهو أهل لأن يعفو عن كثير منا أخطاءنا
وظلمنا لأنفسنا. وقد حققت في موضوع الشفاعة بالتفصيل تحت العنوان التالي:
حقيقة الشفاعة
وقبل أن نقص حكاية الشفاعة، كان يجب علينا
أن:-
1)
نعرف معنى الشرك بدقة، لنعرف وجوه الشرك
ثم نُعرّف الآخرين بكل ذلك.
2)
لماذا خلق الله الإنسان، ولماذا أنشأ
النشأة الأولى؟
3)
هل هناك لدى الله العزيز الحكيم أكرم وأعز
من نفسه جل جلاله، وهل يُعقل غير ذلك؟
4)
ما معنى يوم الحساب، وكيف يقضي الله تعالى
بين الجنة وبين الناس وبين الملإ الأعلى من الملائكة والأرواح القدسية
وحملة العرش؟
5)
هل هناك سيد للخلق وسيد للبشر أو مولى
للمؤمنين غير الله تعالى؟ وأين هذا الذي يشارك الله في سيادته على عبيده،
وأين موقعه من الحياة إن وجد؟
6)
هل هناك أحد أقرب إلينا من الله تعالى
نفسه؟
7)
هل الله تعالى بحاجة إلى مزيد من العلم
عنا وعن أحوالنا وأعمالنا؟
8)
لماذا يرفع الله الأنساب بين الناس بعد
الموت، فلا أب ولا
ابن
ولا زوج ولا زوجة ولا رئيس ولا مرؤوس ولا رسول ولا من أرسل إليهم ولا فرق
بين الأولين والآخرين الذين سوف يجتمعون جميعا تحت سقف واحد ليستمعوا إلى
قضاء الله تعالى وليس لأحد منهم أن يتحدث بشيء إلا همسا؟
9)
أليس المسلمون هم آخر الذين يتسلمون
رسالات السماء، ولكن الله تعالى أخبر في كتابه المنزل بأن ثلة من الأولين
الذين سبقوا المسلمين هم المقربون في مقابل قليل من الآخرين سيكونون من
المقربين؟! فكيف يفضل المسلمون أنفسهم على من سبقهم خلافا لمفاهيم
القرآن؟
10)
أليس الله تعالى هو أرحم الراحمين وليس
هناك أي شخص من البشر يمكن أن يرحم البشر أكثر من رب البشر نفسه؟
11)
وأخيرا، لو فرضنا أن الله سبحانه أدخلنا
جنات النعيم إكراما لبعض البشر، فهل سوف نتهنأ بالجنات التي وعد الله
عباده ليحررهم من العبودية لغيره سبحانه ويريحهم من الحاجة لغير الذات
القدسية ومن الشعور بالتكرم من إخوانهم الإنسيين!؟
وإني أعطي الحق لمن لا يعلم عن العالم
الآخر شيئا أن يستهزئ مني إذ وعدت أن أكتب عن الشفاعة قبل أن أكتب عن
الحيثيات المذكورة أعلاه على الأقل. إنه لحق، ولكني أحرر هنا اعتذاري منه
بأن أعد بالحديث المفصل عن كل المسائل الأحد عشر مستقبلا بمشيئة الرحمن
وحده. والسبب في هذا السبق الخاطئ لموضوع
شائك مثل الشفاعة، هو تهافت المسلمين على نيل الشفاعة من رسول الله أو
منه ومن صحابته أو منه ومن ابن عمه وأحفاده وابنته أكثر من سعيهم لإرضاء
الجبار العظيم خالق الكون جل جلاله.
ولعل من أهم الأسباب التي تحول دون أن
تخشع قلوب المسلمين لذكر الله تعالى وحده هو إضافة الألقاب الخاصة بسيد
الكون الجبار إلى بشر خلقوا من ماء مهين ثم ماتوا أو يموتون ليرتموا
بأبدانهم في أحضان الديدان والعقارب الأرضية قبل أن يردوا جهنم غدا.
فصاحب الجلالة وصاحب الفخامة وصاحب العظمة وصاحب السمو وصاحب المهابة
وغير ذلك كلها ألقاب مضللة للناس ولا تخدم إلا مصالح الشيطان الرجيم عدو
الله وعدو البشر.
أضف إلى ذلك ما خلعه البعض من ألقاب غير
صحيحة أو مضللة على علماء الدين مثل شيخ الإسلام وحجة الإسلام وآية الله
وآية الله العظمى وظل الله والمقدس وصاحب القداسة أو المولى وما شابه ذلك
من ألقاب تستوجب المحاسبة والوقوف للاستجواب ولعل العقاب يوم القسط
الأكبر بل القسط الكبير أو المطلق إذ لا قسط قبله إلا قليلا.
فلو أن إخواننا أقنعوا أسماعهم على
الاكتفاء والاقتناع بألقاب معقولة مثل: خادم الحرم، خادم الناس، خادم
الشريعة، المحقق، العلامة، كريم القوم، الإمام، رئيس العشيرة، ثقة الناس،
ساعي الخير، الحسيب، النسيب، السيد، الأخ وما شابه ذلك لكان خيرا لهم
وأقل ضررا أمام الديان العظيم وأقل تعرضا للإيقاف يوم الحساب الأكبر بعد
أن تصغي الملائكة الكرام نداء ربهم: وقفوهم
إنهم مسؤولون ما لكم لا تناصرون. هنالك، سوف يتمنى كل هؤلاء
أن تسوى بهم الأرض وسيقول جميعهم: ليتني كنت
ترابا. والعياذ بالله من خزي يومئذ.
إن الألقاب والأوصاف الخاطئة تخلق الشعور
الخاطئ لدى السامعين بأن المعنيين يملكون وزنا ذاتيا لا يمكن مساومته كما
نرى اليوم ونسمع: "الذات الملوكية، الذات الأميرية والسلطانية، مولانا،
حضرة الفقيه الأجل، بعد لثم أنامل مولانا، جُعلت فداك، أرواحنا وأرواح
العالمين لتراب مقدمه الفداء، النيل من المراجع الكرام يستوجب القتل،
التفوه بشطر كلمة ضد المراجع العظام يستوجب الكفر والعياذ بالله"، وما
شابه ذلك من أحكام وتبعات خاطئة مضللة وخادعة.
هذا التفخيم الكبير للذين هم معترفون
بأنهم دون مستوى رسول الله وصحابته وأقاربه، يسبب القدسية لمقام صاحب
الرسالة وصحابته وأهل بيته في عيون وأبصار المسلمين والمؤمنين. حينما
يجلس مختال فخور مثل معاوية بن أبي سفيان على المنبر ويدعي أنه جالس مكان
الذي يتشفع الناس به أمام الله، فإنه يضيع الناس ويضللهم. إنه يفعل ذلك
بغية جلب الاحترام المفرط لنفسه بأن يضع من يدعي أنه قد أخلفه موضع
المشاركة مع الحي القيوم. والعياذ بالله. وهكذا بقية من تحدثنا عنهم. على
أنه في الواقع لم يكن خليفة لرسول الله حتى في الحكم بل كان خليفة لعثمان
بن عفان في شطر من حكمه ثم خلف الحسن بن علي في حكم غير الشام.
وقد ازدادت الطين بلة حينما انتشرت الفنون
الخطية والرسمية بين المسلمين إذ أراد التجار بالطبع أن يستغلوا هذه
الأخطاء لبيع سلعهم فيا لله وللتجار. لقد رسموا وكتبوا اسم الله تعالى
مثلا بجانب اسم الرسول وكأنهما ندان. الله – محمد. ثم أضافوا فيما بعد
أسماء الصحابة أو القرابة كل حسب معتقد زبائنه. إنك تدخل المسجد ناظرا
زخرفة الجدران لتظن بأن هناك شخصا كبيرا اسمه الله وأشخاص أخر أصغر منه
قليلا وأسماؤهم: محمد، أبو بكر، عمر، عثمان وعلي أو محمد، علي، فاطمة،
حسن والحسين.ثم انعكس ذلك على الرسوم الزيتية المنزلية وعلى أواني الزينة
وعلى علاقات الصدور والمفاتيح وعلى السجادات والخواتم وغير ذلك.
أما بعد، فإن مسألة الشفاعة ليست مسألة
علمية إطلاقا، بل هي وليدة الفهم الخاطئ لمسائل أخرى، فهي دعي لا أب لها
ولا أم أيضا. بهذه الصراحة أبدأ التحقيق حول الشفاعة ومن الله وحده
أستلهم الصواب والهداية لي ولكل من يقرأها جميعا. كما أدعوه سبحانه
الغفران لي ولهم ولمن مضى من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا جميعا،
آمين.
وعلينا أن نعرف بأن المواضيع الأحد عشر
التي ذكرتها في البداية أكبر من أن تسعها هذا المختصر. وسوف أشرحها
مستقبلا بالتفصيل بمشيئة الله تعالى ولكني سوف أتطرق لبعضها باختصار
كوسيلة للتعرف على الشفاعة المعروفة بين الناس. ولنبدأ بدراسة الشفاعة
لغويا.
شفع يعني جاء من بعد ليتوسط بين الفاعل
والمفعول. فإذا قلنا أن الله تعالى أضاء أهل الأرض بالشمس فإننا نعني بأن
الشمس شفيع بين العزيز الكريم الذي أراد النور لأرضه وبين الذين ينتفعون
من ضيائها في الأرض. وإن قلت أن موسى الكليم نقل رسالة السميع العليم إلى
فرعون وقومه فأنت تعني أن موسى شفيع بين الجبار العظيم وبين مدعي الجبروت
فرعون ليحذره من مغبة مساومته لله تعالى في عظمته. وهكذا إن قلنا أن
القادر المتعالي أرسل ملائكته لتوجيه الحجارة المسومة إلى قوم لوط فكأننا
قلنا إن الملائكة شفعاء بين الله وبين قوم لوط في تدميرهم وإهلاكهم
وحرمانهم من الحياة الدنيا.
ولعل سائلا يسأل: لماذا يستعين الله
بهؤلاء ليكونوا شفعاء بينه وبين عبيده؟ فنجيبه بأن العبيد ضعفاء أمام نور
الله المباشر، فيرسل الحكيم العليم بعض رسله أو صنائعه ليتوسطوا بينه
سبحانه وبين عبيده الضعفاء. هذا لا يعني أن الله استعان بأحد بل هو رحيم
على عبيده. الكل عبيد ومخلوقون له جل جلاله وهو يستعمل بعضهم ضد بعض متى
ما شاء وأراد. فالملائكة شفعاء بين الله وبين كافة عبيده حتى الأنبياء
الذين يستلمون الرسالات السماوية عن طريقهم. ثم إن المقصود من كل ما
ذكرنا هو إنارة الأرض وهداية البشر وتعذيب الجاحدين عن طريق الوسائط
المناسبة والملائمة.
هذه الوسائط تقوم بعملها بأمر الله تعالى
وإذنه دون أن تضيف إلى الأمر المولوي همومها وهممها ومآربها الشخصية إن
وجدت. ولذلك يمكن أن ننسب كل ما ذكر من أعمال الملائكة إلى الله تعالى
نفسه. لا أحد غير البشر والجن يملك الإرادة إطلاقا. إنها جميعا تعكس
أوامر الله العامة أو الخاصة أو الطبيعية. وما يقوم به الرسل الإنسيون من
هداية وإنذار وتبشير، إنما هي منطلقة من إرادة شخصية موجهة توجيها إلهيا
كاملا. ثم إن إرادتهم محفوفة بالأرصاد الملائكية التي لا تسمح للرسول أن
يخطئ في رسالته قطعيا. فالأنبياء أيضا شفعاء بهذا المعنى. شفعاء ووسطاء
بين الخالق وخلقه لتبليغ رسالة السماء تحت رقابة الملائكة المقربين الذين
لا يمكن أن يخطئوا أبدا.
ليس في القرآن الكريم أي دور غير هذا
لرسله الكرام في رسالاتهم، عليهم جميعا سلام الله تعالى. ونحن بدورنا
نؤمن بهم ونصلي عليهم ونحبهم ونكرمهم ونقتدي بهداهم ونتأسى بهم في عبادة
الله تعالى ونصلي كما صلى رسولنا المبعوث إلينا.
ما هو يوم الحساب:
إذا فتح ثري دكانا لأربعة أشخاص مثلا،
فإنه سوف يمنحهم ما يكفي لحياتهم المعيشية ويهيئ لهم ما يتناسب مع إدارة
الدكان، ويهتم بتوفير الأمان والسلامة لهم لحد ما، ريثما يعملوا ويحققوا
الأرباح أو تنتهي جهودهم التجارية بالخسارة مثلا. ثم إن الثري سوف يأتي
على كل حال في آخر السنة ليحاسبهم حسابا دقيقا. سوف يسعى أن يحاسبهم
بنفسه ليطمئن على صحة عملهم ثم يثيبهم أفرادا أو يعاقبهم، بمقدار ما
بذلوه من جهد مخلص أو ما تورطوا فيه من إهمال. سوف لا يفوض هذا الأمر إلى
أحد إلا إذا عجز عن أن يأتي بها بنفسه. كل ذلك بسبب:
أولا: أن المال ماله ومن حقه وحده أن
يحاسب عماله على ما عملوه.
ثانيا: من حق العمال ألا يتولى محاسبتَهم
غير المالك نفسه فهو أكرم عليهم من غيره، وأكثر احتمالا لأن يغفر لهم
خطاياهم ويتجاوز عن بعض إهمالهم وقصورهم.
ثالثا: لو كان المالك قادرا على إنجاز
المحاسبة والمثوبة والمعاقبة بنفسه فما هو عذره في عدم تتويج المحاسبة
بيديه.
رابعا: لو أراد أن يكرمهم بالمكافأة
فلماذا لا يكرمهم لأجل نفسه الذي أعطاهم وأكرم عليهم طيلة فترة التجارة؟
ولماذا يكرمهم لأجل شخص آخر؟ ولماذا يُدخل الآخرين في ما هو مختص به
وبموظفيه وعماله؟
خامسا: سوف يحتاج المالك إلى معرفة حقيقة
جهد عماله، فيمكن له الاستنجاد بالشهود والجواسيس للتأكد. ولكنه لو كان
عالما بكل شيء فإنه لن يستنجد بأحد أبدا.
نعرف من هذا المثال البسيط أن يوم الحساب
هو اليوم الذي يستعرض فيه المالك الغني سبحانه وتعالى أعمال عبيده ليقضي
بينهم فيكافئ المحسن ويجازي المسيء. فهل يعقل أن يفوض هذا الأمر الهام
لأحد منهم؟ ذلك يعني أن يسلم ناظرُ المدرسة أوراقَ امتحانات التلاميذ
لأحد التلاميذ. فهل هذا صحيح؟
ويقول سبحانه لرسوله في يونس
{
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا
يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴿108﴾
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾}
ويقول له في الزمر {
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾ ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
﴿31﴾}
ويقول سبحانه في الزمر أيضا
{وَأَشْرَقَتِ
الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ
﴿69﴾ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿70﴾}
فالحساب على الله وحده وهو الذي
يفصل بين رسله وخلقه بنفسه وهو جدير بذلك جل جلاله. والإرادة معدومة
تماما لغير الله تعالى حتى أن النبيين يؤتى بهم قسرا ولا يأتون بمحض
إرادتهم لعدم تملكهم لها!
وفي الواقع أن يوم الحساب هو اليوم الذي
يقضي فيه الديان العظيم بين جميع خلقه بما فيهم الملائكة
المقربون. اقرأ في الزمر:
{وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ
بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴿75﴾}
بقي أن نعرف بأن الله يؤجل
الحكم دائما إلى يوم القيامة إذ لا قضاء قبلها. ولذلك فكل الأحاديث التي
تتحدث عن أحوال الناس
أو الصحابة أو أهل البيت أو الرسول نفسه
في يوم القيامة وعن منازلهم في جنات النعيم، فإن كلها كذب وافتراء على
رسول الله عليه السلام. إنه عليه السلام ليس قاضيَ يوم الحساب ولا قضاء
قبل يوم الحساب.
نحن في أبسط المحاكم الدنيوية نرى أن
القاضي لا يجوز له أن يعطي رأيه في قضية قبل الاستماع الكامل لجميع أطراف
النزاع. فلو أفتى حاكم بشيء قبل ذلك وجب عليه التنحي عن القضاء في تلك
القضية لعدم توفر النزاهة الكافية واللازمة لديه في قضية معلومة بعينها.
إن القاضي محكوم بأن ينظر إلى كل أطراف النزاع بعين واحدة مستعلما
الحقيقة، فإذا دخل القاعة وهو مقتنع بأن أحد الأطراف على حق أو محكوم فلا
معنى للقضاء حينئذ.
والله
تعالى مع علمه بكل شيء وسرعة حسابه (سنشرح معنى سريع الحساب مستقبلا بإذن
الله تعالى في التفسير)، فإنه سبحانه لم يحكم بين عبيده في كتابه الوحيد
الموجود بيننا وهو القرآن العظيم. كلما يدعيه المعنيون بهذه الأحكام، فهي
منسوبة إلى رسول الله وهو ليس حاكما يوم القيامة بنص القرآن: {يوم
لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله – الانفطار:19} هناك
الكثير من أحكام الجنة والنار والتفاضل بين الأنبياء والصحابة وأهل بيت
الرسول بين يدي المسلمين، وكلها منسوبة إلى رسول الله الذي قال له ربه جل
وعلا في سورة الأحقاف:
{قُلْ
مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ
إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ
مُّبِينٌ ﴿9﴾}
تعقيب سريع:
فبكل سهولة أقول: إن كل ما يُنسب إلى
رسولنا الصادق الأمين من أخبار التفاضل بينه وبين الأنبياء أو بين صحابته
وقرابته وباقي الناس أو ما يُنسب إليه عليه السلام من أخبار يوم الحساب
ونتائج المحكمة التي ما أقيمت بعد، كلها كذب وافتراء على رسول الله وسوف
أذكر للناس مستقبلا مصدر هذه الروايات الملفقة بإذن الله تعالى. إن هؤلاء
الكذابين يريدون أن يدنسوا ساحة رسولنا الحبيب عليه السلام ويقولوا بأنه
خان ربه وأفتى برأيه ومال إلى صحابته وقرابته وهو لم يكن كذلك.
دوافع المقاضاة:
من الواضح أن أمما يتتالون في مختلف
البقاع والأزمان داخل أرضنا بمن فيهم الجن والشياطين وهم مختارون قادرون
على إتيان الكثير مما يخالف تشريع السماء. إنهم فعلا لا يسيرون وفقا لما
يريده الله لهم تشريعا. إن مصالح الأمم تقتضي اعتلاء بعضهم عرش الحكم
واصطفاء بعضهم لاقتناء العلم والكمال كما تقتضي أحيانا إرسال رسل منهم
بينهم لإبلاغ رسالة الخالق سبحانه وتعالى. لقد قضى الله تعالى أن يجتمع
هؤلاء معا ليعيشوا خِوان كرم الملك الغني الكريم خالق السماوات والأرض
بعد أن عاشوا سفرة الاختبار في الدنيا. وقد فعلَ من فَعل أعماله وربّى
نفسه على الخلوص لربه أو التظاهر بذلك وإخفاء الخبث أو إظهار الخبث ومرض
الباطن. إن العلماء وذوو الفضائل لا يفرقون بين المخلص والمنافق تبعا
لجهلهم بما في الضمائر، فكيف بعامة الناس؟ والله يريد إظهار الحق والعدل
وليأخذ كل فرد مكانه اللائق به، إنْ في الجنة أو في النار، وهو مقتنع
بأنه ما ظُلم وهو يستقبل حياته الأبدية التي وعد الله تعالى أن يقدر لها
البقاء الأبدي. إن المقاضاة الصارمة والصحيحة ممن يعلم الخفيات ضرورية
لبلوغ هدف الديان العظيم في إقامة النشأتين. هذا ما سيقوم به سبحانه
وتعالى يوم القيامة.
الذين يُقدَّمون للمحاكمة النهائية
العادلة:
هم باختصار، كل من عاش في الأرض وكان
جديرا بأن يكتسب الخير والإحسان أو يقتني الشر والطغيان وهم كل الذين
بلغوا الرشد من البشر والجن. لا فرق بين نبي وعالم وشخص عادي. الكل
يتوقعون العدالة ويحبون الحياة الناعمة في الأبدية. ولذلك فإنهم جميعا
سوف يدخلوا قفص الاتهام حتى يحكم الله بينهم. سوف تبقى الملائكة في كراسي
الشهود والمستمعين حتى تنتهي القضاء بين الجن والإنس. ثم يقوم الخلاق
العليم العدل بالقضاء بين الملائكة أنفسهم، ليطمئنوا أنهم ما ظُلموا أبدا
والحمد لله رب العالمين.
الأماكن المعدة لحياة البشر والجن بعد
الحساب:
هي
الجنة بدرجاتها الكثيرة التي تفوق درجات الدنيا بنص القرآن والنار
بدرجاتها الكبيرة أيضا. سورة الإسراء
{انظُرْ
كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ
دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
﴿21﴾}.
سيكون هناك بعض الناس الذين يُحجزون على مشارف السور الذي يقام حول جهنم
للفصل بين المحسنين والمسيئين. نحن لا نعرف مصير أصحاب الأعراف، هل
سيبقون عليها إلى الأبد أم سوف ينقلهم ربهم إلى أحد المكانين المعروفين؟
الذين لا يستحقون الجنة ولا النار ولا
الأعراف:
لعل
هناك فعلا من لا يستحق الجنة لأنه تكاسل في معرفة الحقيقة أو تكاسل في
اتباع تشريعات السماء أو لا يستحق النار لأنه لم يكن مجرما ولا معاندا
عالما بالحق ومتبعا للباطل ولما يمكن التوازن الدقيق بين أعماله بسبب ما
اتسم به من تذبذب في حياته الدنيوية، ولكنه ليس بالغا حد الحبس على
الأعراف. إنه بحاجة إلى قليل من التكرم والتوجه والعطف ليدخل الجنة ولو
للعمل فيها عاملا أو حِرَفيا أو صانعا أو مهندسا مثلا. فهل هناك أكرم
وجها وأكثر رحمة وعطفا على عبيده من ربهم الذي خلقهم بيده جل جلاله
وكبُرت رحمته؟ كلا وألف كلا، بل إنه الرحمان نفسه ووجه الله نفسه الذي
عودنا على رحمته ونحن في غمرات الشهوات الدنيوية. إنه هو الذي سوف يمنح
المذبذب منا رحمته وكرامته ليخلصه من شر النار الحريق. بل إنه بالتأكيد
سوف يسعى لأن ينجي عبيده من عذاب غضبه. العذاب الذي وعد به المجرمين من
أجل العدالة
وحتى لا يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء عند ربهم. ليس هناك أحد أكرم
ولا أرحم علينا من الله نفسه. إن النبي الكريم لا يعرفنا يوم القيامة.
إنه يعرف صحابته وأهل بيته الذين عاشوا معه وسوف لا يعرف أولاده الذين
أتوا بعده أيضا. وأنا في حيرة من مسامحة الذين يحدثون الناس بشفاعة النبي
أو أهل بيته أو صحابته. ألا ليتهم يحققوا في كتاب الله تعالى فلعل الله
أن يهديهم.
آيات الشفاعة في القرآن الكريم:
سوف نمر في هذا المقطع على كل الآيات التي
ذكر فيها الشفاعة في الكتاب العزيز باحثين عن المعنى المشهور بين الناس.
وقد استمسك الكثيرون من قليلي العلم بأي تركيب من مادة شفع
ليثبت وجود الشفاعة في حكم الله تعالى يوم القيامة. وقام بعض الفضلاء مع
الأسف بذكرها باعتبارها تعني معنى الشفاعة المشهورة في الجملة
حسب تعبيرهم. ولعدم الالتباس فإن المقصود من الشفاعة هو كل وساطة معنوية
بين مالك الكون وخلقه والتي يمكن أن تؤثر في حكم الله تعالى سواء في يوم
الحساب الأكبر أو في دارنا هذه التي نعيشها ونحن نتوقع الرحمة فيها دائما
وأبدا. فنقصد بهذا كل الذين يتباركون بالنبي وأهل بيته وصحابته ويتوقعون
منهم الشفاء وقضاء الحوائج إما مباشرة كما يعنيه عامة الذين يدعون بحقهم
أو كما يدعيه بعض الذين يعلمون قليلا من أن هؤلاء يدعون الله تعالى لقضاء
حاجة الخلق والله يسمع لهم أكثر مما يسمع لنا، معاذ الله.
وحتى يسهل علينا فهم الموضوع سنقوم بتبويب
الآيات إلىخمسة مجموعات:
أولا: شفاعة الأنبياء في
الدنيا بمعنى الهداية والتعليم و شفاعة الناس الوسطاء في المسائل
الدنيوية.
ثانيا: شفاعة الملائكة في
إدارة الكون
ثالثا: شفاعة الوسطاء يوم
الحساب
رابعا: نفي حق الناس في
طلب الشفاعة إلى الله تعالى
خامسا: آيات تنفي الشفاعة
المعروفة والمنتظَرة يوم القيامة نفيا قاطعا
أولا: شفاعة الأنبياء في الدنيا بمعنى
الهداية والتعليم و شفاعة الناس الوسطاء في المسائل الدنيوية.
الآية
الوحيدة من مادة شفع: النساء:
{مَّن
يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً
يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن
يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً
يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
مُّقِيتًا ﴿85﴾}
هذه الآية ليست ضمن
مجال بحثنا ولا أظن أن يستشهد بها أحد لإثبات الشفاعة المنتظرة يوم
القيامة ولكني آليت أن أذكر كلما ورد بمعنى الشفاعة فذكرتها ولا أناقشها
لعدم الضرورة.
ثانيا: شفاعة الملائكة في إدارة الكون
كلنا نعلم بأن الملائكة المقربين هم
الوسطاء الحقيقيون بين الله تعالى وعبيده بل وكل المخلوقات المادية
لتنفيذ أوامر الله تعالى. ولمزيد من الفهم فإني أوضح للقارئ الكريم أن
السبب في ذلك هو العظمة الفائقة لله رب العالمين، وشدة القوة الطاقية
لنوره الذي به يمسك السماوات والأرض أو الأرضين حسب تعبيرنا، ومن فيهما
ومن بينهما. وسوف أشرح عند تفسيري لسورة النور بإذن الله تعالى، ما أعرفه
عن كيفية ربط النور العظيم بكل ذرات الوجود الممكن لتبقى وتدوم ولا تزول
قبل أن يشاء الله جل جلاله غير ذلك. وهكذا فإن الأوامر الربانية تأتي إلى
الخلق على شكل طاقة قوية تفجر الموجود المادي لو أنها مسته مباشرة. وسوف
نتعرف على ذلك مستقبلا حين تفسير سورتي الحشر والنجم بمشيئة الله تعالى.
والملائكة هم الموجودات الذين خلقهم ربهم سبحانه ليكونوا شفعاء بين
الخالق وخلقه. إنهم أو بعضهم مثل الأرواح القدسية قادرون على استلام
الوحي المباشر من الله تعالى والتخفيف من توهجه وإيصاله إلى المكان
المطلوب والله العالم. ففي هذه المجموعة نذكر الآيات التي تبين وساطة
الملائكة وهي أصل معنى الشفاعة حسب رأيي والله سبحانه العالم.
الآية
الأولى: آية الكرسي؛ سورة البقرة: 255
{اللّهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ
إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
﴿255﴾}
تتحدث هذه الآية الكبرى عن
إثبات الألوهية واستحقاق العبادة للأحد الحي القائم على ملكه بكل قوة
ودون توان وهوان وغفلة. إن كل ما في السماوات والأرض ملك له، فكيف يغفل
عنها وكيف يمكن له أن يغفل عنها مع أنه سبحانه عالم بضعفها وعدم قدرتها
على التماسك من دون الاستمداد من الطاقة العلوية الربانية. وفي ملكه
الكثير من الوسائط، فالملائكة في الأولوية الأولى يحفظون القبة السماوية
والكرات السائرة في الأفلاك، من كل ما يمكن أن ينحرف عن جادة الفلك
المتحرك دون توقف. كما أنهم يحفظون الأحياء بأمر الله تعالى ومن ضمنها
البشر، ليساعدوهم على أداء ما قدره الله سبحانه من اختبار في ما قضى الله
تعالى لهم من أمان واطمئنان. {له معقبات من بين
يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ...} الزمر: 11. ونحن نرى
وجدانا أن البشر ليس محفوظا دائما، بل يتعرض أحيانا للحوادث كما يُصان
أحيانا أخرى. فهل الملَك المأمور بحفظه يحفظه أو يتركه حسب مزاجه أم حسب
ما يستحقه الشخص؟ كلا، بل حسبما يريده الله تعالى ضمن سياسته الإدارية
لتسيير عجلة الحياة الإنسانية. لولا ذلك لفقد الله تعالى هيمنته وهذا لن
يحصل أبدا.
وقد وضح الله تعالى ذلك بصورة أخرى في
سورة النجم: 26 {وكم من ملك في السماوات لا
تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}. وحتى
لا يرتبك القارئ، فإني أوضح لهم أن السماوات تعني الأنظمة الشمسية ولا
تعني القبة السماوية. فالشمس تدير النظام الشمسي وتحفظ الكرة الأرضية
المسكونة في كل نظام بما تبعث من الطاقة وفق إرادة الحكيم الخبير التي
تنفذها ملائكته المقربون بأمره وإذنه سبحانه. وهؤلاء الملائكة يديرون
الأشخاص بأفرادهم أيضا. إنهم شفعاء ووسطاء عمليون عينهم الله تعالى
لتنفيذ أوامره في خلقه. ليس للملَك إرادة إطلاقا. إنه ينفذ الأمر الرباني
دون أي تدخل شخصي وإرادي منه. وأما الأنبياء وأهل بيتهم وصحابتهم فليس
لهم أي دور في هذا المضمار.
فآية الكرسي تشير إلى إدارة الكون وكيفية
توسيط الملائكة لمشيئة رب العالمين جل وعلا لا غير. وينتهي آية الله
العظمى بقوله الكريم: يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء؛ وسع كرسيه السماوات والأرض،
ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم. ففي المقطع الأخير يخبرنا
سبحانه بأنه على علم ودراية كاملة شاملة لما بين يدي الملائكة وما خلفهم
وأنهم لا يحيطون بعلم الله تعالى إلا بالقدر الذي يشاء الله تعالى أن
يعلمهم بالضرورة. ولنا شواهد أخرى على ذلك في كتابه الكريم وسوف أذكرها
بمشيئة الله تعالى إن بقيت حيا لحين تفسير سورة البقرة. ويوضح لنا سبحانه
نفس الموضوع في سورة مريم: 64 {و ما نتنزل إلا
بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا.}
هذه الآية المكرمة تتحدث بلسان الروح القدس مسألة نزول الملائكة الموكلين
بإدارة أمور المجتمعات البشرية مرة كل ألف سنة. ولقد بينته في نفس كتاب
المفاهيم الصحيحة تحت عنوان (ليلة القدر والفجر وليال عشر).
وختام آية الله العظمى تنبيه بأن عرش الله
تعالى تسع كل الكون وأنه جل وعلا قادر على حفظ كل الكون بما فيه ومن فيه
دون ضعف أو عجز؛ سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. وباختصار فإنها تصف
الإدارة المهيمنة للكون الكبير وتصف وساطة الملائكة لتنفيذ مقاصد السماء
جل جلاله، وليس بها أية إشارة إلى حوادث يوم القيامة ووساطة العبيد
الإنسيين والجنيين في شيء.
الآية
الثانية: سورة الأنبياء: 26-28
{وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ
﴿26﴾
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
﴿27﴾ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ
لِمَنِ ارْتَضَى
وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
﴿28﴾}.
هذه الآيات الكريمة تفند
مزاعم بعض الوثنيين والمسيحيين في عبادتهم للملائكة. يعبدونهم سعيا
لإرضائهم واتخاذهم شفعاء يتساهلون معهم، باعتبار أنهم هم الذين ينفذون
أوامر الله تعالى فعلا. فلا ينكر الله تعالى شفاعة الملائكة أو وساطتهم
بين الخالق الكريم وبين غير الملائكة من الخلق، ولكنه سبحانه يوضح لنا
بأن الملائكة عمال موظفون يعملون عملهم بأمر ربهم، دون أي تدخل شخصي من
أي منهم لأحد. إن الله تعالى يراقبهم وهم خائفون مرعوبون منه سبحانه فلا
جدوى لكم في التقرب إليهم. فقيام الملائكة بالتنفيذ يتم وفق نظام مبرمج و
دقيق، ولكنهم حين العمل لا يغفلون عن هيمنة الله تعالى الكاملة ووجوب
انتظار رضاه سبحانه قبل البدء بالإنجاز المبرمج. لذلك، فالتشبث بهم غير
مجد إطلاقا، إلا أنه شرك بالله تعالى مع الأسف.
الآية
الثالثة: يونس: 3
{إِنَّ
رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن
شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾}
تتناول هذه الآية كما يبدو
قصة ليلة القدر، حيث تتنزل الملائكة العلويون
للانضمام إلى الملائكة السفليين المسؤولين عن تسيير الأفراد من البشر.
يقوم العلويون بتدريب السفليين على كيفية تنفيذ الأوامر الإدارية الجديدة
الصادرة عن الله سبحانه والخاصة بالسنوات الألفية المقبلة، والعلم عنده
سبحانه. وقد شرحت ليلة القدر في نفس الموقع الفكري. إن تدبير الأمر غير
منوط بيوم الحساب والميزان ويوم القيام لرب العالمين. إنه يوضح كيفية
إدارة أمور الناس في الدنيا. إن توسط الملائكة ضروري لتيسير التمتع
بخيرات رب العالمين ونوره وتسهيلاته الطاقية سبحانه وتعالى.
إنهم موجودات طاهرة نقية مقدسة لطيفة غير
ملبسة بالمادة. إنهم يتحركون بسرعة غير موصوفة وغير محدودة بالقواعد
الفيزيائية. وسرعتهم تفوق بالتأكيد سرعة النور تفوقا كبيرا. إن الطاقة
التي نلمسها هي نوع من الطاقة المخففة التي نتحملها وليست هي الطاقة
الأصلية الصادرة مباشرة من الخلاق العليم لحفظ الكون. ولهذا السبب فإن
سرعة النور محدودة إلى حد كبير بالحدود المادية التي تُكوّن ذرات النور
والتي تدخل ضمن مجال الفيزياء. وللعلم فإني أعتبر الذبذبات مادية أيضا
ولكننا عاجزون عن تقصي أبعادها الدقيقة. وأما الملائكة فإنهم غير ماديين
وغير ملبسين بالأبعاد الثلاثة وهم أرق وألطف بكثير من الجن ومن الضوء.
سوف نشرح ذلك بإذنه سبحانه مستقبلا.
الآية
الرابعة: السجدة: 4و5
{اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا
شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ﴿4﴾ يُدَبِّرُ
الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
﴿5﴾}
هاتان الآيتان توضحان ليلة القدر بشكل أوسع نسبيا من
بقية الآيات العظيمة. إنهما تربطان إدارة الأرض بملائكة السماء ولا
تنسيان دور الملائكة الموكلين بالأفراد. هذه الإدارة جزء لا تتجزأ من
إدارة الرحمن للكون الكبير، وكلها بمجموعها تابعة لملك الرحمن جل جلاله.
والولي هو الله تعالى نفسه الذي يتولى أمر المؤمنين دون الكافرين. وأما
الشفيع إشارة إلى الوسائط الملائكية الذين ينفذون أوامره التكوينية وبما
أن الآيتين في مقام بيان ليلة القدر وهي الليلة التي يقدر الله سبحانه
فيها نظاما اجتماعيا جديدا على رأس كل ألفية كما وضحت في المفاهيم
الصحيحة (ليلة القدر والفجر وليال عشر)، فإن الشفاعة هنا هي تنفيذ
الأوامر الإلهية لتغيير المجتمعات نحو التقدم وتوجيهها نحو فهم أكثر وعلم
أكبر وكذلك توجيهها لكسب مناسب للألفية المقبلة والعلم عند الله تعالى.
الآية الخامسة: سورة طه: 108 –
112:
{
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت
الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاّ
هَمْسًا ﴿108﴾ يَوْمَئِذٍ
لا
تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
إِلاّ
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ﴿109﴾ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا
﴿110﴾ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ
وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ﴿111﴾ وَمَن
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا
هَضْمًا ﴿112﴾
}.
الآية الثانية في هذه
المجموعة هي من الآيات التي يستند إليها بعض الاخوة المفسرين الكرام
لإثبات الشفاعة، وأنها لمن أذن بشأنه الرحمن ورضي له قولا وأن الظالمين
محرومون منها. ولكنهم يختلفون في مرجع ضمائر الجمع في الآية التالية
فيقولون: إما أن تشير إلى الشفعاء فتعني أن الله تعالى عليم بهم ولا
يمكنهم التغرير به سبحانه، أو أن تكون راجعة إلى المجرمين. فالله يجزيهم
بما فعلوا دون أن يستطيعوا نقض حكمه سبحانه، وفي ذلك خيبة آمالهم. وخلاصة
قول الأخوة أنهم يحبون إثبات وساطة من يهوون من الأنبياء والأئمة
والصحابة بين الله تعالى وعبيده. إنهم يفسرون كيفية التوسط المؤثر عن
طريق الاسترحام والاستعطاف. لقد خفي عليهم جميعا أن الله تعالى هو أرحم
الراحمين بعبيده. إن الشفعاء الذين يدعونهم ليسوا بأرحم بمن ظلم من الله
تعالى نفسه. هؤلاء الشفعاء قد ماتوا قبل أكثر من ألف سنة وهم لا يعرفوننا
إطلاقا. إنهم يعرفون الذين عاشوا معهم من أزواجهم وأولادهم وأصحابهم.
ولقد استمر الشيطان الرجيم في إغواء الذين تغرروا به وأعدهم لمسألة عدم
التعارف بيننا وبينهم. إنه ألقى إليهم بأن أولاد النبي وكذلك الذين
يلبسون ملابس مشابهة لملابس الرسول والذين هم علماء بملابسهم الملكوتية
البهية فإنهم يتوسطون بيننا وبين النبي مثلا ليتوسط النبي بصورة غير
مباشرة بيننا وبين الله تعالى أرحم الراحمين. ألا بعدا لهم كما بعدت
ثمود! وسوف أوضح في نهاية البحث دلائلهم الوهنة وأثبت سذاجتها. رحمهم
الله تعالى وإيانا وهدى الأحياء جميعا إلى طريقه سبحانه وتعالى.
وأما الآية الكريمة فإنها تنفي الشفاعة
يوم القيامة والاستثناء ليس من عدم التنفع بالشفاعة كما تراءى لهم. لو
كانت كذلك لزم تبعا لقاعدة اللطف أن يوضح الله تعالى قبله أوبعده أوفي أي
مكان آخر من القرآن، بأن الشفاعة وسيلة من وسائل الغفران. إنه سبحانه لم
يفعل ذلك بل ذكر في أكثر من مكان ألا ملجأ لأحد يوم الحساب. الشورى: 47 {استجيبوا
لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، مالكم من ملجأ يومئذ وما
لكم من نكير}. فالله تعالى ينفي نفيا مطلقا وجود أي ملجأ غير الله
تعالى يوم القيامة لكل الناس. الخطاب كما يبدو لصحابة الرسول ومن مثلهم
من البشر عامة وليس لبعض الظالمين كما يزعم البعض.
فالله سبحانه ينفي الشفاعة المزعومة التي
ينتظرها الذين ظلموا أنفسهم؛ ينتظرونها من الذين يوالونهم ويحبونهم،
ولكنه سبحانه لا يمكن أن ينفي وجود الشفاعة مطلقا. هناك شفاعة أو وساطة
الملائكة بين الله وخلقه لتنفيذ الأوامر ولكنها تشترك مع الشفاعة
المزعومة في اللفظ فقط وليس في المدلول. إن الملائكة يتوسطون بين الله
وبقية خلقه من غير الملائكة حتى في يوم الحساب. إنهم هم الذين يسوقون
المجرمين والمؤمنين وهم الذين يفرزون الناس جميعا في زمر وجماعات متناسقة
ومتناسبة باعتبار أعمالهم وما أثّرت الأعمال في نفوسهم، وهم الذين
يناقشون الناس والجن على النار وعلى أبواب الجنة بأمر الله تعالى. إنهم
هم الذين أذن لهم الرحمن أن ينفذوا أوامر الله تعالى ورضي لهم قولاً.
لم يقل الله تعالى في أي مكان في القرآن
أنه رضي للمسلمين بل قال رضي عنهم. إنه سبحانه أفصح بأنه رضي لنا الإسلام
ولم يرض لنا الكفر وبأنه سبحانه رضي للملائكة أن يفعلوا بنا ما يشاء الله
تعالى. ما هو معنى أن يرضى الله للمؤمنين الصالحين القول؟ أو أن يرضى
للذين يستحقون الشفاعة القول؟ أو أن يرضى للناس الذين ينتظر المنتظرون
منهم الشفاعةَ القول؟ أي قول هذا؟ إنه القول الصواب لمن لا يمكن أن يقول
غير الصواب؛ ولكن البشر قادرون على أن يقولوا الصواب وغير الصواب. وقد
قال تعالى في سورة النبأ:38 {يوم يقوم الروح
والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا}. وكما
يبدو بأن الله وفي يوم القسط الأكبر يشترط القول الصواب حتى على الملائكة
والروح وقد شرحت ذلك في تفسير سورة النبأ في نفس الموقع الفكري هذا.
ولذلك فإن جملة: "يعلم
ما بين أيديهم وما خلفهم" التي يقولها الله تعالى حين ذكر الرسل
الإنسيين فإنها مختصة بهم في الدنيا وليس في الآخرة، ومن يتتبع القرآن
سيفهم ذلك. أما في الآخرة فلا رسول من الإنس أو الجن إطلاقا إذ لا هداية
هناك ولا إرادة هناك عدا إرادة الله وحده جل وعلا. هؤلاء الرسل هم هداة
الجن والإنس فليس لهم أي دور يوم لا هداية ولا عمل. لكن الملائكة هم رسل
التكوين وليسوا رسل الهداية فقط. ولعل المقصود من هذه الجملة الكريمة هو
إثبات الهيمنة السلطانية من الملك العلام على كل رسله وليس لإثبات علم
الله تعالى بكل ما يفعله المريدون. فلو قال تعالى بأنه يعلم كل ما يفعله
المريدون من قبل أن ينووا ذلك لأصبح الاختيار جبرا بالفعل، وهو ممنوع.
ذلك لأن علم الله تعالى لا يغاير إرادته
أبدا، فكل ما علم سوف يُحصل على الرغم من إرادة كل من هو غير الله
سبحانه. فالمقصود من "يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم" هو سبق علم الله تعالى بما يريد أن يفعله الشخص بالإضافة
إلى علمه سبحانه بما فعل العبد فعلا. هذا صحيح بالنسبة للملائكة بصورة
عامة وبالنسبة للرسل الإنسيين في رسالتهم فقط. إنهم غير مختارين لإبلاغ
ما شاءوا بإرادتهم الإنسانية، بل هم وحين تبليغ رسالة السماء، مسيرون
تسييرا كاملا مثل الملائكة. ولكنهم عليهم السلام مختارون في أعمالهم
الأخرى وخاصة الشخصية منها. ذلك ليفعلوا الخيرات ويتناهوا عن السيئات
بمحض إرادتهم دون سوق أو إجبار من الأعلى. هكذا سوف يستحقون الجزاء يوم
القيامة، ولولا ذلك لتعذر دخولهم جنات النعيم إن كانوا محسنين. ألم ترَ
أن الله تعالى لم يقل في أي مكان في كتابه المنزل بأن الملائكة يستغفرون
الله تعالى أو بأنه سبحانه يغفر لهم، بل قال سبحانه ذلك بشأن الإنس والجن
وبشأن أنبيائهم ورسلهم في غير مورد طي الكتاب السماوي العظيم. ذلك لأن
الغفران خاص بمن سبق له العصيان، فلا يمكن أن تعصي الملائكة إطلاقا، وإلا
اختل نظام الكون.
فالمقصود من هذه الآية أن الشفاعة
الاختيارية وطلب التوسط من البشر بين الله وخلقه مرفوض وغير نافع وأن
الشفاعة بين الخالق وخلقه سوف تنحصر يوم القيامة على الملائكة الذين أذن
لهم الرحمن بذلك. وأذن له أو رضي له الله تعالى مساوق لأمر الله تعالى،
فالملَك يفعل كل ما أمر به الله تعالى ولا يفعل كل ما لم يأمر به الله
تعالى. إنه يعتبر الإذن وجوبا لعدم وجود إرادة تشريعية من الله لملائكته.
لو كان كذلك لكانت الملائكة مؤهلين للتنعم بجنات الفردوس تبعا لطبيعة
التشريع وهو مغاير لطبيعة الملائكة تماما. أما الإنسان وفي هذه الدنيا
فقط، فإن الله سبحانه وتعالى قد شرّع له فعل الخير وأمره بذلك أمرا
إرشاديا لا جبر فيه، ليعمل الصالحات بمحض اختياره فيستحق الغفران والنعيم
أو يعصي فيدخل النار. هذه النوع من الأوامر خاصة بالبشر والجن دون غيرهم
ممن نعرفهم من خلق الله تعالى.
و أظن ظنا كبيرا بأنه سبحانه تثبيتا لهذه
الغاية، أعقب الآية الكريمة بقوله الكريم {وعنت
الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما} والوجوه تعني العقلاء
المختارين الذين يحمل كل منهم وجها لنفسه، حيث تقوم النفس بتوجيه الوجه
حيثما تريد في الدنيا ولكنها تعجز عن ذلك بعد الممات تبعا لفقدان
الإرادة. وليس للملائكة وجوه، بل إن كل الذين هم غير الجن والإنس ممن
نعرفهم من الخلق يمثلون وجه الله تعالى وحده. وليس في القرآن أي ذكر
لوجوه الملائكة مثلا ولا لوجوه الحيوانات. فالحيوانات لا تملك وجها بهذا
المعنى؛ إنما هي موجهة إلهيا. إنها لا تملك وجوهها المادية الفيزيائية
التي نراها، فلا يذكرها الله تعالى لعدم توهم الخطأ والعلم عند الله
سبحانه.
أما أصحاب الوجوه فقد ذلوا جميعا أمام
الله تعالى يوم الحساب {وكل أتوه داخرين}.
فالذين استحقوا الحكم برضوان الله تعالى فسوف ترضى وجوههم وتنضر لتنظر
إلى ربها، وأما الذين سخط الله عليهم فسوف تكلح وجوههم وتقطب لتلفحها
النار والعياذ بالله من خزي يومئذ.
الآية
السادسة والأخيرة في هذه المجموعة: سورة النجم
{وَكَم
مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاّ
مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى
﴿26﴾}
الإمعان في هذه السورة العظيمة يوصلنا إلى أهمية
الاعتقاد بالهيمنة الملكوتية الكاملة لله تعالى في جميع خلقه. وبأن الناس
محاسبون بأفرادهم وما حملوه من أوزار دون أن يؤثر أحد في أحد شيئا، وهو
معنى العدالة الحقيقية. وبما أن الله يملك كل شيء فإنه سبحانه يؤكد لنا
هيمنته الكاملة على كل الموجودات بما فيهم الملائكة الذين هم في منتهى
القوة والقدرة ولكنهم مسيرون تسييرا كاملا تحت الإشراف الكامل لله تعالى
وحده. وأرجو أن يوفقني الله تعالى لتفسير السورة العظيمة وإظهار ما
تحتويه من أسرار ملكوتية مبهرة قريبا.
وفي هذه الآية الكريمة يوضح الحكيم العزيز
هيمنته الكاملة على ملائكته بأن توسطهم وشفاعتهم لإيصال الطاقة والأمر
والحياة إلى بقية الخلق ليست شفاعة إرادية باختيارهم. بل إنها شفاعة
وسطية محكومة بالسيطرة الكاملة المحيطة من قبل رب العالمين جل جلاله. إن
الملائكة الكرام يمثلون إرادة الله تعالى ولذلك أمرنا بألا نفرق بينهم
وبين الله تعالى. كما أننا لا نفرق بين الله تعالى وبين رسله حين تبليغ
الرسالة حيث أنهم في تلك الحالة محاطون أيضا بالطاقة التسييرية دون أن
تكون لهم الخيرة. وقد نسب الله الشفاعة كلها إليه سبحانه كما في سورة
الزمر:44 {قل لله الشفاعة جميعا له ملك
السماوات والأرض ثم إليه ترجعون}. فلا شفاعة إلا شفاعة الملائكة
وهم يفعلون كما يريد الله تعالى تماما دون أي تدخل منهم أو نقص أو زيادة
في عملهم إضافة إلى شفاعة الرسل في تبليغ الرسالة السماوية إلى الإنس.
وأعقب سبحانه الآية 26 المذكورة بآية أخرى
تصب اللوم على الذين يظنون الجنسية في الملائكة الكرام. إن الجنسية خاصة
بالنبات ومن بعدها الحيوان والجن في حياتهم الدنيا فقط بغية التكاثر
والتطور لا غير. فالملائكة عباد فحسب وليسوا ذكرانا ولا إناثا. إن الأنثى
مثل الذكر عاجزة عن القيام بأي تطوير لنفسها بل هي محتاجة إلى الذكر ولو
أنها فعلا متطورة أكثر من الموجود الذكر. ولو أن أنثى أنجبت ولدا فهي
بمساعدة الروح القدس وليس بمفردها. إن الروح القدس هو الذي تولى التغيير
الجيني لديها لتحصل على كروموزوم
Y
الذَكَري. هذا
الضعف المادي الغريب لا يؤهل الشخص لتنفيذ أوامر الله تعالى في الكون،
فيجب أن يكون المنفذ لإرادة الرحمن منزها من الجنسية تماما. والملائكة
كذلك وهم منزهون من المادة تماما أيضا. فالملائكة على أنهم مطهرون من
الجنسية ومن المادية وقادرون على تنفيذ أوامر الله تعالى المولوية،
ولكنهم مسلوبو الاختيار سلبا كاملا. فلا يقومون بتحقيق أي عمل إلا بعد
إذن الله ورضاه سبحانه. ولمزيد من الدقة فإنه سبحانه يحيط بهم ويراقبهم.
ذلك لنعلم ألا مجال للظلم والخطأ في حسابات الرحمن سبحانه وتعالى.
تم القسم الأول ويليه القسم الثاني من
الشفاعة بإذن الله تعالى.