حقيقة الشفاعة - القسم الثاني

 

ثالثا: شفاعة الوسطاء يوم الحساب

وهي آيات تتحدث عن انتظار الذين ظلموا أنفسهم ممن اختاروهم شفعاء بينهم وبين الله، سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا. لفظة الشفاعة المذكورة في هذه  الآيات تعني تماما ما يدعيه المفسرون وغيرهم ويعتقد به عامة المسلمين والمؤمنين الذين لا يعلمون إلا قليلا. إنهم يدعون أن هناك أناسا يتوسطون بين الله تعالى وبين خلقه لدرء العذاب عنهم، فيتقبل الله منهم وساطتهم ويكرمهم بالعفو والمغفرة لمن توسطوا لهم. هذه الآيات تذكر ذلك المعنى وتنفيها نفيا قاطعا أمام الله تعالى وتفند كل زعم بهذا الشأن. والتفنيد يكون بالإنكار تارة وبعدم الجدوى تارة أخرى، أو بأن الشفاعة غير واردة في يوم أراد الله تعالى له أن يكون يوم عدل وحساب ليجزي الصالحين بما يستحقون ويجازي الكافرين والظالمين بما يستحقون أيضا.

 

الآية الأولى:  الأنعام: 94 { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾ } في هذه الآية الكريمة المشابهة لآيتي سورة الروم (12و13) الآتي بيانهما، فإنه سبحانه يخاطب طالبي الشفاعة حين موتهم وانفصالهم عن الجسد وصعودهم ورجوعهم إلى ربهم فرادى دون أجساد، بخطاب تهكمي واضح: مانرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. اعتبر سبحانه زعم الشفاعة شركا كما اعتبر الشفيع المزعوم شريكا في المولوية مع الله تعالى والعلم عنده سبحانه. فحين يتيقن الإنسان بعد خروجه من البدن بأن الله موجود فعلا، ويرى ألا أحد مع الله جل وعلا، ولا شريك ينازعه في ملكه وسلطانه على الخلق أجمعين، ثم لا يرى أي أثر من آثار المولوية لغير الله تعالى على نفسه؛ آنذاك يصير مستعدا جدا لمعرفة الحقيقة. سوف يوجه الله تعالى إليه الحقيقة ليعلم بخيبته وخذلانه فيعيش في البرزخ حياة مليئة بالخوف والهلع حتى يُبعث. والعياذ بالله من ذلك.

 

الآية الثانية: سورة الأعراف {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴿53﴾} القرآن الكريم كتاب حق لا يقول غير الحق والصدق؛ وسوف نرى بعض ما قاله الله تعالى في محكم كتابه الكريم في حياتنا الدنيوية. ولكننا سوف نرى كامل تأويله يوم القيامة. يوم تتجلى الحقائق على شاشة الحياة الأخروية فنعلم أن الله حق وأن ما قاله حق ونرى كل شيء بأبصارنا. إن هدف هذا الكتاب هو هداية الناس إلى طريق الله تعالى بالمنهج الملائم للتكوين الفطري للناس وهو الإنذار بالنار الحريق والتبشير بجنات الحبور والنعيم. وبالطبع فلا يمكن أن يكون الحقائق الكونية هدفا لكتاب الله تعالى ولو أنها مذكورة طياته لإثبات اتصال الكتاب العظيم بمن يعرف السر في السماوات والأرض جل جلاله. هذا الهدف السامي سوف يتجلى بوضوح يوم  القيامة والعلم عنده سبحانه.

 

هناك وعلى معرض من النار، يقول الذين نسوا القرآن من قبل في توجهاتهم وهمومهم،  وهم الكفار والمنافقون والمسلمون والمؤمنون من أهل الديانات الأخرى الذين نسوا القرآن والتوراة والإنجيل وبقية كتب وصحف السماء، يقولون: جاءت رسل ربنا بالحق. لقد جاء نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد بالحق من عند العزيز الحكيم، فتركناه واتبعنا الأحبار والرهبان والمحدثين والرواة وبعض العلماء الدينيين الذين يدّعون الكثير ولا يثبتون إلا القليل. هكذا ينسى الناس كتبهم التي أنزلها الله تعالى لهم تكرما منه وفضلا مع الأسف ويتبعون الأقاويل المخلوطة التي لا يمكن أن تكون كلها صحيحة لأنها من عند غير الله تعالى. {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} الآية 82 من سورة النساء. وفي هذه  الآية دليل واضح على وجوب السعي لفهم القرآن.

 

وفي الآية موضوعِ بحثنا، أمرٌ ضمني بلزوم فهم القرآن لكل من ادعى الإسلام أو ورث الإسلام من سلفه، لينجو من عذاب الله وإلا فلا غفران بالاستحقاق. وأما تساؤل الخاسرين: (هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؟) فهو كلام مساوق للجملة التالية (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل). وكلاهما استفهام للإنكار التام بمعنى: ليس لنا شفعاء فيشفعوا لنا، ولا يمكن أن نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل.

 

والسؤال الذي يمكن أن يعرضه بعض الأخوة المفسرين هو: هل هناك من له شفعاء فيشفعون له؟ والجواب: إن الآخرين ليسوا بحاجة إلى شفعاء ليشفعوا لهم، لأنهم عملوا بالقرآن ولم ينسوه، فسيدخلون الجنة حسب وعد الله تعالى. إن الله سبحانه وفي أي مكان من القرآن لم يقيد جناته بالشفاعة أو بحب الأفراد أو بولاية أهل البيت أو الصحابة؛ بل قيدها بالعمل بالقرآن بعد تدبره والعمل بفرائض الله تعالى والانتهاء من منهياته وليس بشيء آخر. ولعل آخر يسأل: لماذا ذكر الله تعالى الشفاعة هنا وأن هؤلاء ليس لهم شفعاء فيشفعوا لهم؟ أليس ذلك لأن بعض الناس لهم شفعاء فيشفعوا لهم؟ فنجيب عليهم:

 

ألف) أن الله تعالى لم يقيد أحدا بالشفاعة في أية آية من آيات كتابه الكريم ولم يذكر أن هناك من يدخل الجنة بالشفاعة، بل ذكر سبحانه بأن الشفاعة غير متوفرة في ذلك اليوم.

بـ) أن هؤلاء كانوا يتشبثون بالشفاعة في حياتهم الدنيوية، فلزم أن يقول الله تعالى لهم من لطفه ألا شفاعة في يوم الحساب. ولذلك أعقب سبحانه بقوله الكريم {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}، فلو كان المقصود بأنهم لم ينتخبوا شفعاء مقبولين، لقال تعالى: (وضل عنهم من كانوا يفترون). فقوله سبحانه: { ما كانوا يفترون } إشعار واضح بأن أصل الشفاعة ادعاء باطل موهوم والعلم عند الله تعالى.

 

الآية الثالثة: سورة يونس : 18 {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾} يظن الكثيرون بأن العبادة لله محصورة في الوقوف في الصلاة التقليدية خمس مرات في اليوم ويلحقون بها الصلوات المستحبة وكذلك الصلوات التي تجب في المناسبات المعروفة. والله تعالى يقول في سورة المعارج: 22و23 {إلا المصلين   الذين هم على صلاتهم دائمون} وسوف أشرحها في تفسير التنزيل قريبا بإذن الله سبحانه. والخلاصة أن الصلاة الدائمة لا تقتصر على الصلوات المذكورة. إن كل توجه مقرون بالاسترحام والطلب المعنوي فهو صلاة وعبادة في الواقع. العبادة معناها الطاعة والخضوع والحب الشديد. ألا ترون العشاق يقولون عن حبيباتهم: أحبها حب العبادة! هذه الجملة صحيحة في اللغة العربية وهم بحبهم الشديد يعبدونهن فعلا. ولذلك فإن الذين يقفون أمام الأصنام بخضوع ويقدمون لهم القرابين أو ينذرون لهم وهم لا شيء ولا حياة لهم، فإن أولئك يعبدون الأصنام دون شك.

 

أضف إليهم الذين يتبركون بقبور الأولياء والطيبين من الأنبياء وأئمة المسلمين والمؤمنين وأولادهم وأزواجهم، فهم يقفون أمام قبر إنسان مات فعلا ويطلبون منهم قضاء الحوائج. هؤلاء يعبدون المقبورين دون أي شك ولكنهم لا يشعرون بذلك في الغالب. إنهم لا يفكرون بأن هؤلاء ميتون، فلو كان لهم حول أو قوة لدفعوا الموت عن أنفسهم، قبل أن يدفعوا عن محبيهم البلايا والرزايا. والغريب أن المصلين يبكون عليهم، فالذي تبكي عليهم لموته أو مظلوميته عاجز عن مساعدتك بالطبع. إنه كان حيا وعجز عن حفظ نفسه وأهله، فكيف يساعدك وهو ميت؟ هذا العمل هو عبادة فعلا دون أن يشعر به العابدون مع شديد الأسف. و أنا أعرف بعض هؤلاء العابدين لغير الله بأنهم في الغالب أناس يؤمنون بالله ويحبونه ويحملون قلوبا طيبة ولا يقصدون عبادة غير الله تعالى، ولكنهم يأتون بها عن جهل ودون قصد.

 

والمؤسف حقا أن المعممين من رجال الدين لا يمنعونهم، بل يشاركونهم أحيانا في عبادتهم. من المحزن جدا أن أرى فيلسوفا مسلما يقف بخضوع أمام قبر فتاة ماتت في الخامسة من عمرها قبل أكثر من اثني عشر قرنا، وهو يبكي ويطلب منها التوسط بينه وبين ربه الغفور الرحيم، أرحم الراحمين، رب السماوات الذي يسمعه وهو قادر على مساعدته. إنه سبحانه فوق ذلك يأمره ويعلّمه بأن يخضع له ويعبده ويدعوه بما يشاء فهو حي لا يموت. كيف ينسى هذا الفيلسوف المسلم المعروف بالعلم ربَّه ويتشبث بقبر طفلة ميتة لا حول لها ولا قوة، كما لا حول لأجدادها وآبائها و لا قوة أيضا؟ ثم كيف يتجرأ الإنسان الذي يعلم، أن يتخذ الموتى وسطاء بينه وبين الحي القيوم الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ اللهم اهد أهلي وقومي فإنهم لا يعقلون، واهدني معهم وعرفنا على شياطيننا لنلعنهم ولا نستمع لدعواتهم المضللة.

 

ولقد اعتبر الله سبحانه اتخاذ الشفعاء عبادة لهم وشركا صريحا به تعالى. ذلك بأن العبادة هي الخضوع وهؤلاء يخضعون لأولئك. اتخاذ الشفعاء يعني إشراك أحد مع الله تعالى في الولاية على خلقه، وأكبر من ذلك اعتبار هذا الوسيط أقرب إليهم وأرحم من الله تعالى أرحمِ الراحمين! أرجو من هؤلاء أن يفكروا قليلا فلعلهم يستنتجوا التالي:-

 

1.  عاش النبي مع صحابته فترة قصيرة، ثم تركهم ميتا لا حراك فيه وحيل بينهم وبينه سمعا وبصرا وإحساسا كما حيل بين النبي ونفسه حينما توفاه الله تعالى ليفقد كل مظاهر الإرادة إلى الأبد. لقد علم العقلاء أن النبي عليه السلام لم يكن بذلك القرب الذي تراءى لهم، فقد تركهم جسدا بلا حياة. ولكن الله تعالى كان ولازال وسيبقى فعلا أقرب إلى أفراد خلقه من حبل الوريد، فسبحان الله العظيم جل جلاله.

2.  كان النبي في حياته عاجزا عن التحدث إلى الموتى بنص القرآن، فكيف يمكننا نحن التحدث إلى الموتى وهم مقبورون؟ وزعم بعض  الأخوة أن الملائكة ينقلون الكلام إلى الموتى من الأنبياء وأبناء الأنبياء. هذا زعم غير مشفوع بالبرهان وهو افتراء على الله تعالى. لو كان هناك ملائكة ينقلون الكلام إلى الموتى وأراد الله تعالى أن يبلغنا بهم لَذََكر في كتابه المنزل. والنقل عن النبي غير مجد لأنه عليه السلام بنفسه لا يمكن أن يعلم ذلك. وعلى كل حال فالرواية تحتمل الصدق والكذب، ونسبة عملٍ إلى الملائكة تبقى اتهاما غير مبرهن ولا يجوز التشبث به والحكم على أساسه أو نقله إلى العامة تحت العناوين الصادقة. سوف يُعتبر ذلك افتراء حتى يثبت العكس.

3.  النائمون في القبور أجسام بلا نفوس، وأما النفوس فقد انتقلت وأعيدت إلى الله تعالى، وبما أن كل موجود غيرَ الله محتاجٌ إلى المكان، فنحن لا نعلم مكان استيداع تلك النفوس إطلاقا. كلما نعرف أنها متوفاة والمتوفى يفقد الإرادة بنص القرآن. فلا الأجسام ولا الأنفس تنفعنا أو تضرنا، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة.

4.  أن تشبث بعض الذين يعلمون قليلا والمضافة أسماؤهم إلى العلم حسبما يدعوهم العامة من الناس، بالتفسيرات العلمية للشرك الذي يقوم به الجهلاء تجاه هذه  القبور، هو تشبث ضعيف بحبل أضعف منه. ذلك لأنهم لا يسعون لفهم كتاب الله، ثم القيام بدعوة مريديهم لاتباعه، بل يسعون لتصحيح أخطاء السلف على حساب حقائق القرآن العظيم. لقد وضح الله تعالى كيفية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى، ثم أمر نبيه بإبلاغ الناس بأن الله تعالى قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه ولم يأمره سبحانه بأن يتوسط بينه وبينهم. إن من واجبنا أن نعرف القرآن ونسعى لفهمه ثم نتبعه وليس صحيحا السعي لتبرير ما فعله غيرنا. إن ذلك سبيل الهلاك واستجابة لدعوة الشيطان الرجيم لعنه الله.

5.  لا يكفي لإثبات خطأ من يدعونا إلى عبادة الله وحده وترك الخضوع للقبور بأن نتهمه بالوهابية، كما لا يكفي لإثبات وجوب الأكل والشرب لسد الجوع والعطش بأن الوهابيون يأكلون ويشربون لسد الجوع والعطش فيحرم الأكل والشرب حتى لا نقلد الوهابيين! إن كل من يقوم بعمل صحيح فعلى الآخرين اتباعه بحكم العقل، كائنا من كان ذلك الشخص. فمثلا إذا رأى شيعي طبيبا وهابيا يعالج السرطان ببراعة، وجب عليه مراجعة الطبيب الوهابي وتلقي العلاج لديه تلافيا للهلاك. اللهم إلا إذا شك في نية الطبيب المخالف. ومن الخير للمسلمين ألا يتهموا أنفسهم ولا يتنصلوا ممن هم مسلمون مثلهم ولا يكفّروا من ألقى إليهم السلام بأمر الله العظيم. وهذه الدعوة موجهة للطرفين بإذن الله تعالى.

6.  حينما نفكر في اتخاذ شفيع إلى ملك أو قاض أو مسؤول كبير في الدولة، فإننا لا نذهب إلى بقرة أو نملة أو فيروس لنطلب منه الشفاعة، كما لا نذهب إلى إنسان بعيد عمن نحتاج إليه. إننا نسعى للتعرف على إنسان من حاشيته أو قرابته أو كبار موظفيه الذين يحتاج إليهم الشخص الكبير، فنلتمس منه الشفاعة عله يؤثر في قلب الوجيه ويجعله يبتهج بهذه الوساطة. هكذا يمكن أن يتقبل المرادُ الوساطةَ ويقضي مرامنا. وبالطبع فإن الكبير سوف يسجل تلك الوساطة في الجانب المدين من حساب الشفيع حتى يستفيد منه عند الضرورة والحاجة! ولكن لا يوجد شيء مثل الله تعالى كما ليس لله تعالى حاجة في أي ممن خلق ليتوسط بيننا وبينه جل جلاله. فإذا قدمنا إنسانا مثلنا للتوسط بيننا وبين الله تعالى، فكأننا نقول لذي العرش العظيم: قريبك هذا قدمته بين يدي حاجتي إليك فتقبل مني! والعياذ بالله. هذا شرك إذ لا أحد قريب من الله العزيز العليم، بل الله قريب من خلقه فحسب. إن الملائكة مقربون إلى الله وليسوا قريبين منه سبحانه. إنه سبحانه ومن فضله يقرب الملائكة ويقرب المحسنين إليه تكرما منه. ولو نستقرأ القرآن فإننا لا نجد فيه أية إشارة إلى قرب أحد من خلقه منه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

7.  حينما تُوسطُ أحدا بينك وبين العليم الخبير، إنما تخبر الله سبحانه بأن هذا العبد الوسيط يمن عليك بأنه مولاك وسيدك. هذا شرك أيضا فالمولوية خاصة بالله تعالى ولو خاطبت أحدا غيره بالمولى فيجب أن تقصد المحبة والصداقة أو الرئاسة المؤقتة وليست الولاية التي هي خاصة الله تعالى لا شريك له في ذلك. ومن الخير أن يتوقى المؤمنون من إطلاق لفظ المولى على أحد غير الله تعالى لعدم توهم الولاية.

 

الآية الرابعة: الشعراء: 99-102 {وَمَا أَضَلَّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴿100﴾ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴿101﴾ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿102﴾}هذه الآيات مشابهة للآية السابعة كما سيأتي، حيث يعترف المجرمون بأن لا شفيع لهم، فيا ليتهم يعودوا إلى الدنيا ليكونوا من المؤمنين. ثم إن هذه الآيات تأتي بعد دعاء إبراهيم 87-89 {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾} ولم يقل: إلا من أتى الله بشفيع مقبول! فالشفاعة التي يتحسر عليها المجرمون هي عين الشفاعة وليست شخصية الشفعاء كما يتزعمه البعض.

 

الآية الخامسة:  الروم {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴿12﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴿13﴾} المجرم هو الشخص الذي يكثر من فعل الموبقات ويظلم نفسه والآخرين، سواء كان من أتباع الديانات أو من الذين لا يؤمنون بالله أو من الذين يؤمنون به ولا يوحدونه أو يعبدون غيره. كل الذين يقدمون القرابين للتماثيل والأصنام أو للأشخاص الذين يتبركون بحبهم أو للقبور التي يتبركون بها باعتبار من دفن فيها من الموتى؛ فإن كلهم يتوقعون من الذين يتقربون إليهم الشفاعة عند الله تعالى يوم القيامة وفي يومهم هذا. لو كان معاصي هؤلاء قليلة وكانوا من التوابين، فلعل الله أن يغفر لهم، وأما لو كانوا من المجرمين فهم المحرومون من مغفرة رب العالمين. سوف ييأسوا يوم القيامة من الشركاء الذين اتخذوهم شفعاء إلى الله تعالى.

 

ولا أدري من الذي سوف يستفيد من الشفاعة؟ إنهم ظنوا بأن أولئك الذين يتقربون إليهم، فهم شركاء في الولاية عليهم. إنهم يعتقدون بأن الله تعالى هو مولى الناس، ولكن الشفعاء يشاركون الله تعالى في الولاية على الخلق. وقد وضح سبحانه في آخر سورة محمد بأن الله هو مولى الذين آمنوا (بمن فيهم النبي نفسه) وبأن الكافرين لا مولى لهم. ذلك بأن المولى هو القريب الذي يمكنه مساعدة وليه وليس البعيد الذي لا يسمع صراخ المستغيث به إن كان ميتا، كما أنه لا يملك القوة على مساعدته مساعدة جدية إن كان حيا. ولو ساعده مما أباح الله له فإنه إما أن يتوقع ممن ساعده نفعا مباشرا أو ينتظر الموهبة من رب الذي استفاد من المساعدة. لكن الله تعالى لا يتوقع أية منفعة شخصية من أي محتاج. والكل محتاج إلى  الله جل جلاله.

 

فالمولى هو الله وحده، والذين من دونه لا يمكن لهم أن يكونوا موالي لأحد إلا في حدود الصداقة والمحبة التي تنتج التعاون والتماسك والتنازل لبعضهم البعض. فالرسول يمكن أن يكون وليا لأحد وليس هو مولى لأحد. إنه ولي يعطي ويأخذ ويفيد الغير ويستفيد منهم والله غني عن العالمين. ولم يذكر القرآن بأن الناس أولياء (جمع المولى) لبعضهم البعض إطلاقا، بل إنهم أولياء (جمع الولي) لبعضهم البعض. وأما ما ذكره سبحانه من ولاية الشياطين ومن ولاية غير الله تعالى فهو اتخاذهم أولياء وليسوا فعلا أولياء (جمعا للمولى طبعا). وحتى الذين اتخذوا الطيبين أولياء بهذا المعنى فهو لهم بئس المولى وبئس العشير. ذلك لأن ضرهم أقرب من نفعهم باعتبار حاجتهم. والحديث في الآية 12 من سورة الحج هو عن المنافقين من الصحابة الذين دخلوا الإسلام طمعا فالرسول لهم بئس المولى وبئس العشير. إنهم اتخذوا رسول الله مولى لهم ولم يتخذوا الله مولى لهم ولم يصب عامة المفسرين مراميهم في تفسير تلك الآية مع الأسف. سوف أشرحها بإذن الله وتوفيقه في مكانه.

 

والولي كلمة يشترك في مصاديقها الله سبحانه وخلقه ولكن باختلاف في المفهوم. فالولي في أصل معناه هو الذي يلي المنوي إنسانا أو غير إنسان. والذي يلي يعني الذي يقرب مع إحساس الطرفين بذلك القرب. إن هناك الكثير مما يقربن إلينا دون أن نشعر، مثل الشياطين ومختلف الطاقات الموجهة إلينا فهن لسن أولياءنا. والله قريب من كل الموجودات باعتبار الإحاطة فإذا شعروا كان وليا لهم أيضا. وإن ولاية الناس لبعضهم البعض فهو باعتبار القرب والتبادل الفيزيائي. فصديقك ولي لك لأنه يستفيد منك وتستفيد منه وتستمتعان بحديث بعضكما وبمساعدة بعضكما البعض. والنبي ولي لصحابته أيضا باعتبار قربه الفيزيائي منهم ومبادلته المصالح معهم. وأما ولاية الله فهو قريب ينفع الناس دون أن ينتفع منهم ويمد الكل بالنور والطاقة دون أن يبادلهم شيئا. ولذلك علينا بأن نواجه مكارم الله تعالى بالشكر والعبادة والخضوع حتى يصدق ولايته علينا ولولاه لما كان وليا لنا بل كان منعما مانحا دون أن نشعر بولايته وقربه. إن الولاية مسألة متبادلة، فإما أن تبادل وليك نفس الشعور كما هو مع الناس أو تبادله بما يستحقه من خضوع وشكر كما هو مع الله تعالى. ولذلك فإن الله ولي الذين آمنوا وليس وليا للذين كفروا بهذا المعنى.

 

ولكن المولى فهو ظرف للولاية باعتبار أن المرء يستنجد بولايته ويستفيد منه ويستمتع بتوجه المولى إليه. فالمولى الحقيقي هو الله الذي يمكن له أن يجير ويساعد دون توقع التعويض من عبده وأي مولى غيره فهو اتخاذ وليس حقيقة. ولذلك لم يقل الله تعالى بأن الرسول مولى لأحد بل قال تعالى بأن  الله مولى الذين آمنوا بحق جميعا في الدنيا والآخرة لأنهم آمنوا به وعرفوه وعبدوه؛ كما أنه سبحانه مولى الجميع بحق يوم القيامة. لكنه تعالى ليس مولى لمن لا يؤمن به، وغير  المؤمنين الصادقين لا يؤمنون به وحده في الدنيا فهو ليس مولى لهم ولكنهم سيؤمنون به في الآخرة فهو مولى لهم هناك بحق ولكن دون جدوى. إنه سبحانه في الدنيا يتولى أمر من آمن به في حدود ما يشاؤه تبعا لمصالحه جل وعلا، ولكنه لا يمكن أن يتولى مثوبة من آمن به في الآخرة دون أن يسبق إيمانه به تعالى في الدنيا لمانع العدالة.

 

وفي يوم القيامة سيقول المطلوب منه الشفاعة لمن ارتجى منه ذلك: إنك أشركتني بالقرب منك ولم يكن أحد قريبا منك غير الله تعالى، فلو قبلت طلبك لكنت مشركا مثلك إذ أشركت نفسي بالله بادعاء القرب من عبيده. لذلك فأنا أكفر بشركك فاذهب إلى ربك ليحكم لك بما تستحقه ولا تتوقع مني شيئا. {ومن أضل ممن يدعو من دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون    وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين.  الأحقاف: 5 و 6 }. كما أن الذي طلب الشفاعة سوف ييأس من المطلوب منه الشفاعة ويكفر به كما يتضح من آيتي سورة الروم المذكورتين.  والخلاصة أن الله تعالى يعتبر اتخاذ الشفعاء شركا به لأنهم يزعمون أن هؤلاء مواليهم وسادتهم وهو غير صحيح. إن الذي يملكنا هو الله وحده ولا يشاركه في مالكيته أحد من خلقه، فلا مجال لطلب الشفاعة من أحد من الخلق. ولو طلبنا ذلك فسوف نغدو خائبين أمام الله تعالى الذي يرفض الوساطة كليا كما أن الذين زعمناهم شفعاء فسوف يرفضوننا لنكفر بهم والعياذ بالله من الجهل المخيب!

 

الآية السادسة : غافر: 15-20 { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴿15﴾ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿19﴾ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾ } هذه الآيات الكريمة توضح دور الرسل الكرام وعدم حاجة الله تعالى إلى وساطة أحد لشدة علمه وبأن النفوس تُجزى بما كسبت تثبيتا للعدالة ودفعا للظلم، وأن الله تعالى يقضي بالحق وبأن غير الله لا يقضي بشيء، ولعل ذلك تبعا لضعف الغير وعدم علمه وعدم انطوائه على منطق الحق والعدل. وتقضي أيضا بأن الظالم لا يملك صديقا حميما ولا شفيعا تُقبل شفاعته. هذه الآيات العزيزة تنفي تقسيم الجنة والنار على يد غير الله تعالى، فالقضاء هو قضاء الله وحده وبأن غيره لا يمثل دورا في الحساب.

 

وقوله سبحانه: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع} لا يعني أن هناك شفيع يُطاع بالنسبة لغير الظالمين. إن غير الظالمين يدخلون الجنة ولا يحتاجون إلى شفيع، ولكن الذي يعوزه الشفاعة هو الظالم الذي ظلم نفسه بالآثام والمعاصي وبعدم إتيان الواجبات وعدم مساعدة الفقراء واليتامى كما أمر الله تعالى أو الامتناع من الجهاد عند الحاجة. فهو الذي يتشبث بالشفاعة وليس له شفيع يُطاع. إن قول القائلين بأن الشفاعة تحل محل النقص في أعمال بعض الأشخاص الذين لم تتكامل نفوسهم حد الصلاح ولم تتضاءل حد  الفساد مردود باكتفاء القاضي العليم برحمته وعلمه فلا رحمة أكبر من رحمته ولا علم في مقابل علمه جل جلاله. فالظالمون هنا هم الذين يبحثون عن شفيع يُطاع وسوف يخيب ظنهم ولا يرون إلا الله تعالى وحده الذي سوف يقضي بالعدالة والحق بين العاقلين المكلفين من الخلق جميعا.

 

والله تعالى هو عادل وهو رحيم وهو قاض عالم ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فلا يعوزه توسط الشفعاء وليس من شيمته أن يجمع المؤمنين والفاسقين في مكان واحد. إنه تعالى أقام الحياة الدنيا ليفرق بها بين الخبيث والطيب ويميزهم فيركم الخبثاء في نار جهنم ويثيب المحسنين بجنات النعيم خالدين فيها أبدا، ذلك هو الفوز العظيم.

 

الآية السابعة : المدثر: 38-49 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴿38﴾ إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ﴿39﴾ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ ﴿40﴾ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴿42﴾ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ﴿43﴾ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴿44﴾ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴿45﴾ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿46﴾ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴿47﴾ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴿48﴾ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾} يبين الله تعالى في هذه المجموعة الكريمة من الآيات الواضحة بأن كل نفس رهينة بما كسبت ولا يذكر سبحانه شيئا عن الحب والتولي للبشر إطلاقا. إنه سبحانه يعيز فك الرهن بمكاسب النفس وليس بشيء آخر. والنفس هي الموجود التي تمثل الفرد الإنساني بحقيقته بعيدا عن مادته التي تشكل بدنه وحواسه الظاهرة المعروفة. والنفس تكسب ما يقدم لها من أعمال لتظهر عليها سلبا أو إيجابا. وسنعرف كيفية تأثر النفس بالأعمال مستقبلا بإذنه سبحانه، إذ ليس ههنا وفي هذا المختصر مجال لبحث مكاسب النفس. ولعلي أوضحها بدقة في تفسير سورة البقرة بإذن الله تعالى فهي أنسب مكان لها.

 

وباختصار فإن الحب أو البغض الموجِّه (بكسر الجيم) يؤثر في النفس. فلو أن الشخص توجه تحت دافع حبه لله ولبعض خلقه فقد أشرك بالله تعالى كائنا من كان ذلك المخلوق المحبوب، فظهر آثار ذلك الشرك على صبغة نفسه. إنه توجه تحت إرادة الله وخلقه معا. وأما لو أنه وجَّهَ نفسه تحت دافع الحب لله ولرسوله باعتبار الرسالة كان صحيحا، إذ لا فرق بين الله ورسوله حينذاك. ولكن ذلك لا يؤثر في محاسبته إطلاقا. إنه أكرم رسول الله باعتبار الرسالة واتبعه وأطاعه عليه السلام بنفس الاعتبار. إنه في الواقع أطاع الله تعالى وعبَده وحده. إن كل من يفعل ذلك، فهو لا ينتظر أي شيء من شخص الرسول لأنه ما فرّق بين الرسول وربه سبحانه. إنه أطاع الرسول ليطيع الله تعالى والرسول واسطةٌ ودليل له إلى الله تعالى فحسب. مثل هذه الشفاعة تنتهي بموت أي منهما، إما الرسول أو المطيع للرسول. وهو معنى قوله تعالى: وما أنت عليهم بوكيل.

 

نحن اليوم نطيع الله تعالى ونقتدي بإمامة الرسول في الصلاة لله تعالى مثلا. هذا لا يسمى طاعة للرسول الذي لو كان حيا وحاضرا بيننا لأطعناه من كل قلوبنا. إننا اليوم نصلي كما صلى رسول الله تعالى لأنه أمر المسلمين بأمر الله ليصلوا كما صلى، فكان أمره أمرا من الله تعالى، وطاعته طاعة لله تعالى. إن طاعة الله تعالى واجبة إلى الأبد أو لحين يغير المالك سبحانه أمره. ولذلك لا يجوز التدخل في طريقة الصلاة، بل يجب إتيانها كما أراد الله تعالى وعلّمها رسوله  الأمين إنشاء الله تعالى. فصلاتنا اليوم ليست تلبية لرسول الله كما أننا نحج كما حج رسول الله الذي حج كما حج إبراهيم ولكننا نقول: لبيك اللهم لبيك. لا يجوز لنا أن نقول: لبيك رسول الله لبيك ولو أنه أذن فينا بالحج كما فعله أبوه إبراهيم. إن محمدا عليه السلام مسلوب الإرادة ، وقد توفاه الله تعالى واستلم نفسه، فلا قدرة له ولا طاعة للضعيف بالطبع. أرجو أن أكون قد وضحت المسألة حتى لا يفسرها من لا تعجبه كما اشتهى واستطاب.

 

وسيقول أصحاب الجحيم أنهم كانوا عصاة من قبل فرأوا اليقين اليوم. واليقين يعني الأمر الملموس والحاصل فعلا نتيجة لما ذكره الله تعالى من أعمالهم، فلا دور للشفاعة ههنا. ولذلك قال سبحانه: فما تنفعهم شفاعة الشافعين  فما لهم عن التذكرة معرضين. ولو كانت الشفاعة ذات جدوى في ذلك اليوم لقال سبحانه: فما لهم عن طلب الشفاعة معرضين (مثلا). أما أصحاب اليمين فقد دخلوا الجنة جميعا، لأنهم أصحاب الأعمال الإيجابية الذين يعبر عنهم القرآن بأصحاب اليمين. اليمين يعني القوة والطاقة والإيجاب في مقابل اللا قوة واللا طاقة والسلب؛ وليس في مقابل الضعف بمعنى قلة القوة، والعلم عند الله سبحانه. وعلى هذا فإن آية {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} لا تعني أن هناك من تنفعه شفاعة الشافعين بل تعني بأن الشفاعة لا تنفع في ذلك اليوم مهما طاب مصدرها. إن الجزاء هو تماما بمقدار المكاسب النفسية دون زيادة أو نقصان. ولو أن الله أكرم أهل  الجنة بأكثر من حقهم، فذلك لا يعني أنه سيكرم الذين لا يستحقون الجنة بأكثر من حقهم أو أنه سيكرم أهل الجنة بتحرير بعض من يستحق النار لأجلهم. ولو شاء الله تعالى أن يساعد أحدا من الذين يستحقون النار بدفع النار عنه فلأنه سبحانه هو أرحم الراحمين، ولأنه سبحانه وحده جدير بأن يُكرم  وليس الرسول أو بقية الرسل جميعا.

 

وأما مسألة الشفاعة المضافة في الآية الكريمة (شفاعة الشافعين) والتي يمكن أن يستدل بها بوجود الشفاعة فعلا. فإن الشفاعة في الواقع غير منكرة تماما لوجود الشفاعة التكوينية بيد الملائكة المقربين. ولكن الملائكة ليسوا شافعين لأحد، بل إنهم شفعاء الله إلى الناس. فالآية الكريمة تنفي جدوى شفاعة الشافعين ولا تنفي الشفاعة مطلقا. وشفاعة الشافعين هي الشفاعة المزعومة التي ينتظرها المجرمون الذين سيخيبون قطعا دون ريب. والله تعالى بما قدمه من مقدمات في الآيات السابقة، فهو سبحانه في صدد إثبات عدم جدوى شفاعة الشافعين يوم يكون المرء رهينا بأعماله. والعلم عند الله تعالى.

 

عودة إجمالية إلى الآيات السبعة

إذا نظر المرء وفكر طويلا في أعماق هذه الآيات  السبعة التي يستند إليها بعض المفسرين الكرام لإثبات الشفاعة المزعومة باعتبار أن بعضها تنفي الشفاعة عن الظالمين، فيظن الذين يتشبثون بكل حشيش لإثبات صحة الأحاديث التي أملاها عليهم أصحاب الأهواء، أنها لا تنفي الشفاعة عن المؤمنين. إذن هناك شفاعة خاصة بالمؤمنين وقد حرم الله غير المؤمنين منها. بالطبع فإن هذا الأمر حين ثبوته تنقيص من شأن كتاب الله الذي شاء الله تعالى له أن يكون موضحا للإيجابيات ولا مكتفيا بذكر السلبيات. ولكن المرء يحتار لهذا الخضوع الأحمق لغير الله تعالى.

 

أخي الكريم وأختي الكريمة: إن كنتم مؤمنين صالحين مستحقين للجنة فادخلوا الجنة واكتفوا بما يمنه عليكم ربكم الكريم الرحيم وعيشوا إلى الأبد تحت رحمته الواسعة التي لا ذل فيها ولا خضوع لمخلوق. إن كل منن الله تعالى مقبولة ومطلوبة لقلب العاقل، وأما منن الناس باعثة للاشمئزاز والأسى لكل ذي لب. إنكم بعد فترة قصيرة سوف تشعرون بأن الفرق بينكم وبين أبيكم إبراهيم ليس بذلك القدر الكبير، فلو كنتم قد دخلتم الجنة بشفاعته أو بشفاعة أولاده، فسوف تشعرون بالذل و الخضوع لهم إلى الأبد. سوف يلازمكم الشعور القاتل بأنكم لم تكونوا مستحقين لتلك النعمة الكبرى وإنما أدخلوكم فيها إكراما لذلك الإنسان الذي هو في النهاية عبد مثلكم.

 

إن ذلك مؤلم حقا، كما أنه مبعث للكبرياء في قلب من يتشفع لكم وهو مما يكرهه لكم ربكم. إن المقصود من كل هذه العمليات المعقدة الطويلة الأمد أن يعيد الله تعالى كل الخلق إلى منطق الحق والصواب وإلى جادة العدل والصدق، وأن يميز بين من يستحق إكرام الكريم العظيم ومن لا يستحق. ليس المقصود تثبيت الذل والخضوع لغير الله تعالى البتة. إن الله تعالى يريد إن يثبت للعالمين كرمه وفضله وإحسانه التي يؤتيها من يشاء من عباده. وإنه جل أن يشاء غير الحق والعدل والصواب. ذلك لن يتحصل إلا إذا سلب الله الاختيار والإرادة والقدرة من كل مخلوق غيره سبحانه الذي هو بحق عادل وكريم وغني ومالك يهب من يشاء ويمنع ممن يشاء. لا أحد يستحق هذا الإكرام غير وجهه سبحانه.

 

إن كل شفاعة من نبي أو إنسان طيب أو جن أو ملك على أي إنسان أو جن لهو مجاراة لفضل الله تعالى وكرمه. كان رسول الله وهو قدوة لنا يكره أن يسأل أحدا شيئا وعلّم أصحابه ذلك حتى كانوا ينزلون من مركبهم لأخذ شيء من الأرض ويأبون أن يطلبوا ذلك من إخوانهم غير الراكبين. يُقال بأن الإمام جعفر الصادق قال: إني أكره السؤال بأين الطريق. فكيف تحبون أن تسألوا البشر أن يتشفعوا لكم عند ربكم. إنكم لا تستحقون صداقة الرسول وأبنائه البررة الكارهين للخضوع لغير الله تعالى، وسوف يكفرون بكم وبأفعالكم فافتحوا عيونكم وتبصروا يرحمكم الله وإياي. اطمئنوا بأن القرآن أحق من علمائكم الذين لا يعلمون إلا قليلا وقد قرر بأنه يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فلا تتمسكوا بالأوتار العنكبوتية تاركين حبل الله تعالى وراء ظهوركم.

 

هذه الآيات السبعة جامعة مانعة تقطع كل السبل. ولعل الإخوة المفسرين لم يسلطوا الضوء عليها كلها جملة واحدة ليعرفوا ذلك. إنها تمنع:

  1. أن يكون هناك شفعاء فيشفعوا لأحد في دخول الجنة دون أن يستحق هو ذلك فيدخل من دونهم النار ليجازوا بأكثر مما يستحقون! وكلهم في الواقع ظالمون. الآيات 54-59 من سورة الأعراف توضح ذلك. إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿54﴾ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿55﴾ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿56﴾ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿57﴾ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴿58﴾ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿59﴾.
  2. أن يكون هناك شفعاء يستوون مع الله تعالى في السلطة القضائية ولكنهم يرفضون العدالة ويحكمون بالخير لمريديهم دون استحقاق. هناك يميل الشفعاء من البشر إلى مريديهم دون وجه حق وخلافا لإرادة السماء، ولو كان الله يريد إدخالهم الجنة لأدخلهم دون الحاجة إلى شفعاء. الآيات 83-104 من سورة الشعراء يوضح لكم ذلك. رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿83﴾ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴿84﴾ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿85﴾ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿86﴾ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿90﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿91﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿92﴾ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴿93﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿94﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿95﴾ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿96﴾ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿97﴾ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿98﴾ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴿100﴾ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴿101﴾ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿102﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿103﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿104﴾
  3. أن يكون التمتع بالشفاعة ممكنة يوم قضاء الديان. الحساب دقيق للكل وهو على الكافرين غير يسير في دار الحق والصدق والعدل، أمام الملك الحق جل جلاله. جميع النفسيات تُحشر كما أعدها أصحابها في الدنيا، وكل الكيفيات النفسية تبرز على شكل إيجابيات وسلبيات لا يتأتى لأحد تغييرها بعد الموت إلى الأبد. سوف يُضاف كرم الجبار للذين آمنوا به وحده ولم تشمئز قلوبهم حينما يُذكر الله وحده أمامهم ولم ينجذبوا لغير الله إطلاقا. فحب الله والولاء لله وحده هو الذي يُجدي يوم القيامة. اقرأوا سورة المدثر بالكامل وفكروا فيها أو انتظروا تفسيرا قريبا بإذن الله تعالى.
  4. أن يخفى على الله شيء يوم الحساب فيحتاج سبحانه إلى الاستماع إلى شهادات وشفاعات البشر ليوضحوا له ما خفي عليه من أحوال المتهمين. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. كلا، بل سوف يجزي الله كل نفس ما كسبت، فادعوه وحده مخلصين له الدين. اقرأ من سورة غافر:  فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿14﴾ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴿15﴾ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿19﴾ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾
  5. أن يكون هناك مشاركة مع الله في مالكيته لعبيده كما يتظننه الذين يطلبون ممن اتخذوا شركاء في مالكية الله لهم أن يشفعوا لهم عند الشريك الأكبر الله تعالى! والعياذ بالله من هذا الشرك ومن هذا الجهل وهذا الضلال. كلا، سيعرفون ويرون الحق واضحا جليا يوم يقفون مع أولئك الشركاء خاضعين أمام محكمةٍ لا يقضي فيها أحد غير الله تعالى وحده. سوف يظهر لهم ما خفي عنهم مما وراء الطبيعة، وقد كانوا قادرين على التعرف على ذلك لو قرأوا كتاب الله تعالى وفكروا في خلق السماوات والأرض ولكنهم لم يفعلوا. اقرأ سورة الروم 6-16. {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴿7﴾ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴿8﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿9﴾ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ﴿10﴾ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿11﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴿12﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴿13﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴿14﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴿15﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿16﴾}
  6. أن يروا أحدا من الذين أشركوهم في المالكية حينما يُحشرون أمام الله بعد الموت وحتى يُحشروا من جديد للقضاء الفاصل يوم الحساب. سوف يخيب الذين ظنوا بأنهم سوف يرون شخصا آخر غير الله ليعلموا بأنهم كانوا خاطئين. لقدخسر الذين ظنوا بأنهم يرون علي بن أبي طالب مثلا كما يدعيه أحد الشعراء الذين لا يتبعهم إلا الغاوون. لقد اتهموا الإمام الصالح ظلما بأنه صلوات الله عليه قال: يا حار همدان من يمت يرني. والعياذ بالله. سورة الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93﴾ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾
  7. أن يتضرر الناس أو ينتفعوا من أي شخص غير الله تعالى، الملكِ الحق العدلِ الذي لا يصدر منه غير اللطف والكرم  والخير الكثير ولكن عدالته سبحانه تمنعه من أن يشمل خيره ونعمته الذين كفروا به وعصوه واتبعوا الشيطان وهم يمرون فترة اختبارهم في حياتهم الدنيا. اقرأ الآيات 7-19 من سورة يونس إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴿7﴾ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿8﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿9﴾ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿11﴾

 

و هكذا فإن هذه الآيات مانعة لكل معاني وفوائد الشفاعة بين الله وعبيده يوم القضاء الحق كما أنها جامعة لكل المعاني الإيجابية التي تنفع الناس وتنجيهم من عذاب الخزي يوم القيامة. ولمعرفة ذلك أدعو القارئ الكريم أن يعود مرة أخرى إلى كل الآيات التي ذكرتها للقراءة بقصد التعرف على كيفية القضاء والحساب يوم القيامة. أتمنى لكل الإخوة والأخوات مزيدا من الصدق والخلوص لله تعالى حتى يفتح الله عليهم أبواب العلم ويريهم معنى القضاء المحتوم المقبل دون شك ويوفقهم وإياي لفهم الحقائق التي أخفتها عنا أياد غير أمينة على مر القرون الماضية، أو أهملها أناس لم يعطوا القرآن حقه من التبصر والإمعان. والله يوفق الجميع لكل خير ويزيدنا علما.

 

رابعا: نفي حق الناس في طلب الشفاعة إلى الله تعالى

وتأكيدا لما ذكرناه في الفصل السابق فسوف نقرأ معا في هذا الفصل آيات تنفي حق التشفع للناس كاملة، فليس لأحد الحق بأن يوسط شفيعا بينه وبين الله تعالى. ذلك لأن نسبة الإنسان إلى الله تعالى هي نسبة العبودية الأبدية إلى مالكه وخالقه، وليس بين مخلوق ومخلوق نسبة مشابهة ليطلب المحتاج وساطة محتاج آخر بينه وبين ربه الغني المتعال. إن كل إنسان وكل جني وكل ملَك لوحده عبد لله تعالى، وليس هناك ملَك عبدا لملَك آخر ولا إنسان عبدا لإنسان أو لملَك ولا جني عبدا لجن أو لإنس أو ملَك وهكذا دواليك. وبما أن النسبة شخصية متساوية بين الخلق جميعا فلا معنى لاتخاذ أي مخلوق مخلوقا آخر للتوسط بينه وبين خالقه العظيم الذي لا يمكن أن يغفل عنه ولا عن غيره. ووجه التساوي هو أنهم جميعا مخلوقون لله تعالى وحده وليسوا مخلوقين لبعضهم البعض وما نراه من وساطة الإيجاد أو الهداية فإن القائمين بها هم أنفسهم مخلوقون لله أيضا.

 

إن الأدوار التي يمثلونها ضئيلة جدا بالنسبة للخلق الذي انفرد الله تعالى بها، على أنهم في لعب أدوارهم غير قائمين على أنفسهم بل متكئون على رب العالمين عز اسمه فيفعلون ما يفعلون بأمره وإذنه سبحانه. وأما المنطق الهرمي الذي يؤمن به بعض المسيحيين من أن الله تعالى خلق المسيح فقام هو بخلق السماوات والأرض نيابة عن الله تعالى فهو منطق وهن زائف لا دليل عليه وهو مرفوض من قبل المسلمين عامة. لو كان الأمر كذلك، لزم أن يكون للمسيح دور في إمساك السماوات والأرض أو إمساك الناس. ولو أمسك الناس فإنه إما أن يمسكهم بطاقته الشخصية أو بطاقة الله تعالى فلو أمسكهم بطاقة الله لكان ملَكا وليس بشرا فليس له دور تلقائي ليستحق العبادة. ولو أمسكهم بطاقته الشخصية لانجذب الناس نحو مصدرين من الطاقة فسوف يموتوا جميعا وينهاروا. ولو انفرد بإمساكهم دون الله تعالى فقد الله هيمنته وانهاروا أيضا، لأن المسيح عاش في الأرض فكان لزاما أن ينهمر الوجود البشري وينهار أو أن يسيروا جميعا في صف واحد أمام المسيح دون الالتفات يمنة ويسرة وفوقا وتحتا. ثم إن المسيح قد قُتل على حد زعمهم فكيف كان ممسكا بحياة الناس وهو أضعف من أن يقاوم إرادة عبد من عبيده. وكيف كان فكان محتوما أن يموت الناس جميعا معه لفقدانهم الطاقة أو أن يتحول الناس جميعا إلى آلهة. والعياذ بالله من سخافتهم وحمقهم!!

 

ولو لم يكن الناس متساوين في نسبتهم إلى الله تعالى لكان الاختبار ظلما لعدم تكافؤ الفرص. كيف يمكن أن يخلق الله إنسانين في دار واحدة وزمان واحد ليختبرهما معا معطيا لأحد منهما ارتباطا أوثق بربه من الآخر؟ هذا ظلم وقبيح على ذي الجلال والإكرام. سوف يفقد الله تعالى حجته البالغة حينما يقف أبو جهل يوم القيامة ليقول لربه: لقد أعطيتني إنسانية أقل من محمد فكيف اختبرتني معه؟ ذلك لأن الإنسانية هو خيط الخلافة لله تعالى الذي وهب أبانا آدم من روحه ليصير إنسانا قادرا على ممارسة الإرادة في الأرض ثم أورثنا جميعا ذلك. فنحن بالفعل مع أنبيائنا بشر بالقدر الذي ورثناه من شخص واحد. لقد كان آباء الرسول الذين أورثوه الإنسانية أناسا عاديين وكان بعضهم مشركين بالله تعالى وهو ظاهر من أسمائهم وعلاقات من بقي منهم مع بقية المشركين حين ظهور الدعوة. إن هناك جدلا بين الشيعة والسنة حول إسلام أبي طالب وتخليه عن الشرك، وليس هناك أي دليل على أن عبدالله أو عبد المطلب كانا موحدين غير بقية أفراد الأسرة. بالطبع فيما عدا محمد نفسه الذي فكر في ربه قبل الدعوة واستحق هداية الله تعالى كما تراءى لأبيه إبراهيم.

 

ولو ننظر إلى إنسان ونقارن بينه وبين البقرة مثلا فإننا نجزم بأن البقرة لا يمكن أن يفكر مهما تطورت وتقدمت ولكن الناس جميعا يفكرون فهم فعلا متساوون في النسبة إلى الله. وأما الشدة والضعف فليس لنقص في الارتباط بل لنقص في التربية والسعي للوصول إلى الحقيقة. فلو كان الارتباط مختلفا لجزمنا أن ارتباط المسلمين مع الله أكثر من ارتباط أسر المشركين والحال أننا نرى في كل يوم مشركا من سلالة المشركين يعود إلى الله ليصير أكثر تمسكا بربه من المسلمين. ذلك لأن العلاقة بين أفرادنا جميعا وبين الله واحدة ونحن الذي نتمسك بها أو نتهاون في التمتع بها كاملة.

 

وعودة إلى رسول الله فقد كان أقل علما من بعض الناس القادرين على القراءة والكتابة، فلو كانت علاقته بالله أكبر منهم لكان لزاما أن يتفوق عليهم في كل شيء تبعا لشدة علم المبدأ والمصدر. ولذلك فإن الله تعالى يرفض أي توسيط بين الخلق ونفسه لعدم إمكانية ذلك علميا. ومعنى النفي أننا في الدنيا وباعتبار الاختيار لغرض الاختبار فيمكننا أن ندعي التوسيط كما يمكننا أن نرفض الله أو ندعي الألوهية والعياذ بالله، ولكننا في الآخرة ممنوعون تماما من التفوه بالباطل.

 

إن كلما نملكه حقا هو أن نتشفع بالله نفسه إلى نفسه كما فعل علي بن أبي طالب في دعائه المعروف: اللهم إني أستشفع بك إلى نفسك أو قوله مخاطبا ربه: أسألك برحمتك.. وبقوتك ..وبنور وجهك... لا يوسط الإمام أحدا بينه وبين الله لأن التوسيط محرم تشريعا وممنوع تكوينا. والآيات هي:

 الآية الأولى: الأنعام{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾} هذه الآية  الكريمة تعلّم رسول الله أن ينذر بالقرآن كل من يخاف من الحشر وهو يشمل الذين يؤمنون بالحشر مثله ومثل بعض صحابته أو الذين يشكون في الحشر حيث يتساوى لديهم الحشر وعدم الحشر وبما أن طرفي الشك متساويان أو بالتعبير الحديث: إن احتمال الحشر أمام الله هو 50% فهم يخافون بالطبع أيضا. ثم يوضح الله تعالى الحشر الذي ادعاه ليعلم الخائفون مدى جدية الحشر (ولو بنحو الاحتمال) فيقول سبحانه: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} والجملة حالية برأيي. وقد ساوى الله تعالى بين الولاية لغير الله والشفاعة في هذه الآية. إنهما كما ذكرت سابقا تمثلان معنى واحدا فلا يمكن التوسيط بين العبد وربه إلا بمولى آخر وقد عرفنا أن لا مولى للمؤمنين غير الله تعالى كما قال عز وجل في سورة محمد: 11{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} وكون الله وليا مساوق لكونه سبحانه مولى. والنفي هنا نفي مطلق دون تقييد للشفاعة في قضاء الله يوم الحساب مع الاستدلال لعدم وجودها بنفي ولاية غير الله تعالى. هذا النفي المطلق لا تنفي الآيات التي تقيد الشفاعة بمن رضي الله له، إذ أن هذه الآية تنفي أي تدخل من أي موجود في قضاء الله تعالى وتلك الآيات تثبت وساطة الملائكة بين الله وخلقه لتنفيذ الأوامر الملكوتية وليس للتوسط العاطفي بينه سبحانه وبين الذين ظلموا أنفسهم.

 

الآية الثانية: الأنعام { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴿70﴾ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿71﴾ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿72﴾ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿73﴾} الآية 70 مشابهة للآية السابقة من حيث النفي المطلق للشفاعة إلا أنها تضيف إليها الفدية. ومن الواضحة أن الملكية لغير الله تعالى معدومة تماما يوم القيامة. يترك الإنسان كل ما تملّكه في الدنيا وراء ظهره ليدخل في التملك المؤقت لمن يخلفه. ولكنه سبحانه يساوي بين الشفاعة والولاية لغير الله بالتفادي بالفدية. ولعل ذلك لكونها جميعا مرفوضة وغير ممكنة. فلا العدل ممكن ولا يملك أحد شيئا ليعدل به ولا الولاية ممكنة ولا يملك شخص ولاية ليستند إليها الظالم لنفسه ولا الشفاعة ممكنة ولا يملك أحد الشفاعة بين الله وخلقه ليتمسك بها الذين أسرفوا على أنفسهم، فلم يبق لديهم إلا الخيبة والخذلان وهما مروّعان. وأما الآيات التالية فإنها توضح عدم جدوى التشفع بغير الله، لأنهم لا يضرون ولا ينفعون. ثم تعلّم الآياتُ الناسَ أن يتوجهوا إلى ربهم فيطيعوه ويخافوه لأنه هو الذي سوف يُحشرون إليه سبحانه لا غيره. وتوضح الآية الأخيرة حق الله تعالى المالك لكل الخلق في أن يمنع من التدخل في شؤونه الربوبية جل جلاله.

 

وجدير بالقول بأن الذين يتشبثون بغير الله تعالى يرون أنهم لا يضرونهم ولا ينفعونهم ولا سيما مسلمو عصرنا هذا الذين يلتمسون الشفاعة من الرسول أو من الأئمة والصحابة وبعض أهل البيت، وقد رأوا وعلموا أنهم جميعا قد ماتوا  وفقدوا اختيارهم وقوتهم. وقد أمر الله تعالى نبيه المختار أن يأمر صحابته في حياته الشريفة: {قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا} الجن: 21. فكيف به بعد أن يفقد الإرادة والحياة ويموت كما يموت غيره. الزمر: 30 و31 {إنك ميت وإنهم ميتون   ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}! وحسبنا هاتان الآيتان لإثبات عجز النبي عن الوساطة. إنه عليه السلام خصم في المحكمة الكبرى بنص القرآن الكريم، فكيف يتوسط الخصم لدى القاضي؟! معاذ الله من الجهل والضلال.

 

الآية الثالثة: سورة سبأ { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾} الآية 22 تستنكر دعوة غير الله تعالى باعتبار أنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إذ المالك الوحيد هو الله جل جلاله، وأما مالكية الناس فهي بالتمليك المؤقت بغية الاختبار وليست مالكية حقيقية باقية. وبما أنهم لا يملكون بحق شيئا من السماوات ولا من الأرض فما لهم فيهما أية مشاركة مع المالك الفرد العزيز سبحانه وتعالى كما لا يحتاج الله تعالى إليهم ليظهروه ويسندوه. ذلك بأن الشريك هو الذي يسند شريكه ولا يمكن تصور هذه النسبة بين الله تعالى وأي شخص آخر، فتوجيه الدعاء إلى غير الله تعالىخطأ وإثم وقول زور.

 

وأما الآية التالية فهي لاستثناء الشفاعة التي يقوم بها الملائكة لا غيرهم لحصره سبحانه بكلمة (عنده) أي عند الله وهو نوع تعبير خاص بالمقربين إلى الله تعالى وهم الملائكة المكرمون. ويعبر الله تعالى عن الموتى بأنهم عند الله باعتبار تجردهم عن المادة فيكونوا أقرب إلى الله من يوم تلبسهم بالمادة. ويوضح سبحانه شدة وقع الأمر على قلوب الملائكة حينما يصدر مباشرة من الله العلي الكبير فيتوجه إليهم باعتبار أنه كتلة طاقوية نفاذة وكبيرة، والعلم عند الله تعالى. ومما يؤيد زعمي بأنهم هم الملائكة وليسوا الرسل الإنسيين مثلا هو جوابهم بعد أن ينتهي فزع استلام الحزمة الطاقوية الكبرى بأنه القول الحق والله هو العلي الكبير. وذلك بعكس رسولنا مثلا الذي كان في شك منه حين استلامه من الروح القدس مع قلة تأثيره الإشعاعي بعد توسط الأمين جبريل. ويؤكد الله تعالى له كثيرا ألا يكون في شك فهو كلام الله تعالى سعيا منه سبحانه لإخراج الريب من قلب رسوله. ولعل السر في بيان كيفية نزول الأمر من العلي الكبير إلى الملَك المقرب هو التذكير بانعدام الخيار تماما قبالة رب العزة وهو الحق فعلا. هذه الآية تجاري بعض الشيء قوله تعالى في القصص: 68 {وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يُشركون}. فالكل أذلاء أمام الله تعالى ولنعلم أن شفاعة الملائكة ليست شفاعة اختيارية تفيدنا حتى نتقرب إليهم جلبا لشفاعتهم. إن شفاعتهم ووساطتهم مجرد وظيفة لمن يعمل تحت سلطة مولاه وهو منقاد تماما لأمره العزيز. وهذه الآية وما بعدها إلى الآية 70 تؤكد انفراد رب العالمين في حكم يوم القيامة وبأنه يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، إشارة إلى عدم حاجته سبحانه لأية مساعدة في قضائه.

 

الآية الرابعة: الزمر { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ﴿43﴾ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿44﴾ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿45﴾} ينسب الله تعالى الوفاة إلى نفسه ولو أنها تتم بواسطة الملائكة الكرام. ذلك لأن الملائكة شفعاء بين الله وعباده للتنفيذ، فعملهم هو عمل الله تعالى. مثلهم مثل يد الإنسان، فلو كتبت بيديك فإنك تقول كتبته ولا يلزم أن تقول كتبته يدي أو كتبته بيدي. ذلك لأن اليد طوع أمرك. والملائكة هم طوع أمر الله بصدق أكثر بكثير من طوع اليد لصاحبها الإنسان. وقد بدأ الله تعالى ذكر الشفاعة بذكر الذين هم شفعاء في التكوين ليثبت للناس أن الشفاعة في القضاء غير واردة إطلاقا حتى تحتاج إلى تنفيذ. ذلك لأن الشفاعة في القضاء ويُقصد به الالتفاف على إرادة العدالة الإلهية طبعا فهي تعني إشراك الخلق مع الله في السيادة. ولذلك ذكرها هنا حسب ادعاء المشركين بصيغة السؤال بقصد الإنكار، واستدل على عدم جدواها بأن الشفعاء إما أنهم لا يملكون شيئا إن كانوا من الملائكة والأنبياء وغيرهم أو أنهم لا يعقلون إن كانوا أصناما وتماثيل.

 

ثم يختم سبحانه الموضوع بالقول بأن الشفاعة التي نشاهدها لدى الملائكة فهي مملوكة لله تعالى. وإنما تأتي بها الملائكة بأمر الله تعالى باعتبارهم وسائط ووسائل لامتثال المشيئة لا غير. المُلك جميعا لله تعالى والعودة إليه وحده فلا داعي للتقرب إلى أحد أو إلى شيء طلبا للوساطة. ويضيف الله تعالى استنتاجات خطيرة تتبع التشفع بغير الله الذي يؤدي إلى تعلق قلب المرء بغير ربه الكريم. فالأصنام مرئية أمام عيونهم والرسول إنسان مثلهم يستأنسون به والقبر ملموس ومحسوس بأيديهم وبأعينهم. كل ذلك أسهل للارتباط من مالك السماوات والأرضين الذي لا تناله العيون والأيدي إطلاقا. ذلك من أوثق فرص الشيطان اللعين الذي يزين للناس تمسكهم بغير الله تعالى قائلا لهم: إن أيديكم لا تصل إلى ملك الكون العظيم، فتشبثوا بمن هو صغير مثلكم واتخذوه سُلّما إلى  الجبار العظيم؛ فذلك أكثر سهولة وأصدق لمشاعركم وأحاسيسكم وأعز إلى قلوبكم ونفوسكم الضعيفة. وهم مع الأسف لا يعلمون أن ذلك شرك بالله العظيم وسوف يجرهم شيئا فشيئا للتمايل إلى غير الله تعالى بحيث يظن المرء أنه عاجز عن الوصول إلى خالقه العزيز دون وساطة. وهكذا سوف تشمئز نفسه من الانفراد بذكر الله تعالى ويستبشر بذكر الشركاء الذين يتظنن بأنهم يكفونه ويغنونه عن الله الحق العدل الذي لا يمكن أن يقضي بغير القسط. هذه الحالة دليل على عدم قناعة المرء بالآخرة كما يجب. إن مثل هذا الإنسان باق في تصوراته الدنيوية البائسة وغير مطمئن ولا منتظر لذلك المنقلب الخطير في حياة النفس الإنسانية.

 

الآية الخامسة: الزخرف { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾} لقد توهم بعض المفسرين ومنهم الأستاذ العلامة الطباطبائي رضي الله تعالى عنهم أجمعين بأن هذه الآية تدل على وجود الشفاعة باعتبار الاستثناء. حينئذ وبموجب أقوالهم فسيكون معنى الآية: إن الذين يشهدون بالحق وهم يعلمون من الذين يدعون من دون الله، يملكون الشفاعة! لو صح ذلك لكان مناقضا للآية التي تقول بأن الشفاعة جميعا لله (الزمر:44). أضف إلى ذلك أن قولهم هذا دليل على إثبات الملكية لغير الله تعالى في يوم القيامة. والحق أن الملك كله لله دائما ولكنه ولغرض الاختبار خولنا سبحانه أن نملك بعض الشيء في حياتنا الدنيا لتزول الملكية منا تماما حين الموت فيعود إلى الله ليقسمه بين من يرثوننا اختبارا لهم أيضا ولحين. ولإثبات تمام ملكه في يوم الحساب يقول سبحانه في سورة الحمد: {مالك يوم  الدين}. وأما الاستثناء فهي غير متصلة تعني بأن لا جدوى إلا بأن يشهد الناس بالحق ويذعنوا له؛ وهم لم يشهدوا به مع أنهم يعلمون الحق بدليل أنك لو سألتهم عمن خلقهم فسيقولون الله. فلو كان الله خلقهم فهو أقرب إليهم حتى من آبائهم وأمهاتهم فضلا عن الوسائط الأخرى، باعتبار أنهم صنائع الله تعالى، فإلى أين يأفكهم الشيطان ويخدعهم؟ وقد بدأ الله تعالى الحديث عن مالكيته وعلمه بالساعة ورجوع الناس إليه سبحانه وتعالى بالضرورة لا إلى غيره.

 

ولو فرضنا الاستثناء متصلة كما توهمها العلامة فسوف يكون العلماء الذين يشهدون بالحق من فئة الذين يدعون من دون الله تعالى أو من فئة الذين يدعونهم من يدعون من دون الله تعالى وكلاهما مضادان مع الشاهدين بالحق. فالاستثناء غير متصلة دون شك والذين يشهدون بالحق ليسوا من الذين يدعون من دون الله تعالى. الذين يدعون من دون الله هم فاسقون مشركون أو جاحدون والذين يشهدون بالحق عن علم فهم مؤمنون موحدون.

 

والعجيب أنهم لم يفكروا في سورة الزخرف كلها وأنها تتحدث عن نفي القرابة مع الله وكذلك نفي أن يكون أحد أقرب إلى الناس من الله نفسه. وقد استشهد الله تعالى في بداية السورة ونهايتها أن المشركين يشهدون بأن الله خلقهم ولكنهم يتقربون إلى غيره. وقال سبحانه في نفس السورة        {الأَخِلاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ ﴿67﴾ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿68﴾ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿69﴾ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴿70﴾} وكل السورة تشجع الناس على عدم التمسك بغير الله تعالى، وأن الأنبياء مبلغون للرسالة فحسب، وليس لهم دور آخر، وأن المرجو هو الله نفسه وأن المعبود هو الله وحده جل جلاله. والسورة بكاملها تنفي الشفاعة ولا تثبتها ولو جزئيا حسب ادعاء الأستاذ. ليس لأحد إلا التسليم لله ليفوز بالجنة.

 

وتصريح عيسى بن مريم في هذه السورة بأن الله ربي وربكم فاعبدوه، أو أمر الله سبحانه محمدا أن يستمسك هو والمؤمنون بالقرآن بأنه ذكر له ولهم، وأن قوم  فرعون كانوا يضحكون من آيات الله وليس من موسى، وأن القرآن هو الحق وليس الرسول بل الرسول رسول مبين وغير ذلك. كل هذه المحتويات تدل على أن السورة نازلة لإثبات أن كل شيء عائد إلى الله تعالى وأن ليست هناك وساطة ولا شفاعة يمكن التشبث بها بين الله وعبيده. وحتى وساطة الملائكة فهي ليست وساطة مفيدة لأحد ولا يمكن التعويل عليها ولا التمسك بها ولا يُجدي التقرب إلى الملائكة الذين هم شفعاء ووسطاء حقيقيون. إنهم مأمورو التنفيذ لا غير. وسوف أشرح ذلك عند تفسيري للسورة بحول الله وقوته ومشيئته إن أبقاني حيا بكامل عقلي وقدراتي إلى ذلك اليوم وهو تعالى المرجو لذلك.

 

وأضاف العلامة أن الملك لله ولكنه يخول عبيده بالتمليك. وهو يوضح عند تفسيره للآية أن الشفعاء هم الملائكة والأنبياء والأولياء. والملائكة ليست لهم القدرة على التملك إطلاقا لأنهم غير مختارين إطلاقا فلا تمليك يصدق عليهم. الأنبياء: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴿26﴾ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴿27﴾} فهم لا يأتون بأمر من عندهم لعدم وجود الخيار لديهم وعدم تمكنهم بأن يسبقوا الله بالقول مطلقا. ولكن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يقول بغير ما يقوله الله باعتبار الاختيار. ونسي الإخوة جميعا بأن الخيار كله مسلوب يوم القيامة إلا من الله تعالى. وللعلامة قول خاطئ آخر وهو أن الشفاعة داخلة في الأسباب المتوسطة وسوف أوضحها في نهاية البحث بإذن الله تعالى.

 

تم القسم الثاني من الشفاعة ويليه القسم الثالث إنشاء الله تعالى.