مقاعد المتقين

 

قال الله تعالى في نهاية سورة القمر {إن المتقين في جنات ونهر  في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. كنت قاصدا الكتابة عن موضوع آخر ولكني خطأ كتبت هذه الآية الكريمة في نهاية الموضوع السابق. ولعل الخير فيما وقع فكل آيات  الله عظيمة وحافلة بالمعاني والمسائل العميقة.

 

لو يروي كاتب قوي البيان قصة شاب مقتدر يكثر من الاستمتاع بالنعيم فيصف ما يظهر من جمال بشرة أبطال القصة ذكورا وإناثا بأسلوب منمق وجذاب ثم يلقي بثقله الأدبي على الحدائق البهيجة والقصور الفاخرة والمساند المريحة والمراكب الفاتنة والأضواء الباهرة والتحف الرائعة والمجوهرات الثمينة والديكور البهي والمعلقات الساحرة والفضيات والذهبيات وبقية وسائل التنعم والترفيه البديعة فيمعن في وصفها واحدة واحدة ويبالغ في رسم صورة خلابة لها في ذهن القارئ. ثم ينتقل إلى حركات المترفين داخل هذه القصور التي تفيض الحبرة والسرور ويمثل ما يستزيده اصحاب الجنائن من المتعة والنعماء، فسوف يخلق البهجة والفرح في خيال من يتلو هذه الرواية الجميلة.

 

هي ليست أكثر من بهجة كاذبة تخلقها الرواية البديعة في ذهن القارئ. ولو أن مجموعة من الذي أنعم الله عليهم بالنضارة والشباب والخير الدنيوي الفياض قاموا بتمثيل القصة وقامت فرقة بتصوير اللقطات اللطيفة ثم أرسلها على شاشة السينما الملونة فإن المشاهدين سوف يستمتعون أكثر من الذين قرءوا القصة ولكنها بهجة عابرة أيضا. والمصورون أنفسهم الذين ينظرون إلى المشاهد الحية سوف يستمتعون أكثر من مشاهدي السينما ولكنها متعة زائفة أيضا فالذي يستمتع هو الذي يقوم بالتنعم لا المصور ولا المشاهد. أما الممثلون فسوف يستمتعون كثيرا ولكنها عابرة أيضا فهم سوف يتركونها بعد أيام قلائل ويعودون إلى بيوتهم التي تقل روعة عن هذه القصور المستأجرة لتصوير الفلم السينمائي.

 

ولكن ما هو دور الذي يملك تلك القصور والذي استمتع فعلا فيما مضى  داخل هذه القصور الأثرية التي أشغل كاتب الرواية فترة لتخيل متع المالكين من واقع آثارهم وبقاياهم. إنهم كانوا فعلا متنعمين. لكنهم مضوا وماتوا. لقد مروا على أشد وأفزع المراحل الدنيوية وهو الموت، لقوه وتجرعوه فلم يكن نعماؤهم لحظة الفراق إلا حسرة عليهم وشوكة قاسية تمزق قلوبهم أسفا على ترك النعيم لغيرهم واستعدادهم للتواري عن الأنظار إما دفنا أو حرقا أو غير ذلك من الطقوس الذي يعتقد بها أهلهم. فهل كان موقف الذين ذكرناهم صادقا حقا أم موقفا خياليا كاذبا مع اختلاف الدرجات.

 

فما هو النعيم الحقيقي ومن سوف يحظى بها؟ هذا ما يوضحه الآيتان المذكورتان. إنه وعد ولكنه وعد مؤكد من الذي أوجد هذه المجموعة المهيبة من الكواكب والنجوم والمجرات بمن يعيش فيها ويسكن ممن يمكن رؤيتهم ومن يتعذر. ولذلك يبدؤها تعالى بكلمة إنّ إشعارا بأنها حاصلة لا محالة وعدا ممن خلق الأرض والسماوات العلا. ثم يذكر الذين يحظون بها وهم المتقون الذين يخافون الله ويستعدون للقاء به تعالى. فالخوف وحده غير مجد، ولا مناص من التهيؤ لليوم الموعود. إنهم في جنات ونهر. الذين كانوا ينظرون إلى الشاشة والذين صوروا المشاهد والذين لعبوا الأدوار وحتى الذين عاشوا القصة كلهم كانوا يتخيلون النعيم ولم يكونوا في النعيم. لكن المتقين في النشأة الآخرة سوف يخوضون داخل النعيم ليخلدوا فيها دون خوف أو حذر.

 

ولننظر ثانية إلى المترفين في الدنيا ونفترض بأنهم يريدون أن يشركوا الآخرين في نعيمهم، فهل يتأتى لهم ذلك؟ كلا فالمترف يعيش على ما يتمناه الفقير ويشبع على ما يجوع عليه البائس. إنه مهما كان كبيرا ومهما ملك فليس له أن يشرك الآخرين في نعمائه. لا يسعه ذلك إلا بأن يأخذ من نصيبه ليوزعها على الناس ولو فعل ذلك لكان سهمه أكثر قليلا من سهم أفقر الناس في الدنيا كما يزداد نصيب أفقر الناس قليلا عما هو عليه الآن. ذلك لأن النعمة في الدنيا كافية لأهلها حتى لا يجوعوا ولا يظمئوا ولا يعروا ولا يتشردوا فحسب.

 

نحن نشترى المأكولات بالكيلو والمشروبات بالقناني والفواكه بالصناديق أو بالحبات كما هو الحال لدينا نحن الذين نعيش في بريطانيا مثلا. حتى مياه الشرب نشتريها بالقناني التي أكبرها ستة ليترات. نشتري أو نستأجر البيوت بغرف كافية لعدد أولادنا إن كنا قادرين أو غرفة لكل شخصين أو غرفة للأبناء وأخرى للبنات. لكن أهل الجنة الموعودة لا يشترون شيئا فهو ملك لهم. الفواكه في حدائقهم وجناتهم وفي متناول أيديهم وما يشربونه تقدم لهم بالأنهار لا بالقناني. أنهار من لين وأنهار من عسل وأنهار من خمر لذة للشاربين. ولا بد من التنويه أن أنهار المياه عادة تختلف عن أنهار العسل واللبن، كما هو الحال عليه في دنيايا هذه. لو ندخل المصانع الكبيرة لعصر وتعليب البرتقال الطازج أو لتعقيم وتعبئة قناني الحليب أو لاستخلاص العسل وتصفيته و صبه في محافظه الزجاجية فسوف نشاهد هذه السوائل الثمينة تتدفق من المعاصر لتملأ مجرى على شكل جداول المياه أو الأنهار الصغيرة قبل أن تسير نحو التفريغ في المكاييل الصغيرة. نحن هنا نشتريها بالمكاييل الصغيرة ولكن أهل الجنة يأخذون ما يشاءون منها مباشرة من المجرى النهري المليء بالعصير الطيب. هذا دليل على الوفرة دون حساب في جنات النعيم، فهنيئا لمن أدخله الله فيها.

 

وهل هذا هو كل ما يقدم لهم. كلا ففي هذه الدنيا يتملكهم إنسان مثلهم يحتاج إليهم وإلى أموالهم وفتياتهم وفتيانهم ليقضي بها حاجته. وهو (الملك) بنفسه كان محكوما بملك قبل أن يحكم. وكل الملوك يستعملون الذين يحكمونهم لمصالحهم دون استثناء. حتى أبناؤهم ونساؤهم في متناول حاجتهم. كل الملوك يعيشون في خوف مستمر حتى أنهم يضطرون للاستغناء عن أقرب الناس إليهم أحيانا للتخلص من شبح الخوف. يقتلون أولادهم وأزواجهم إذا خافوا على ملكهم. فهم في خوف مستمر. وإذا كان ملوكنا يعيشون في اضطراب مستمر فكيف بنا نحن الناس المحكومين؟

 

حتى المؤمنين في هذه الدنيا يرجون رحمة الله لكنهم غير متأكدين من نيلها. حتى الرسل الكرام كانوا في خوف ورجاء. ألم يقل الله لنبينا: {قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} الأحقاف:9.  لكن أهل الجنة وهم المؤمنون اليوم طبعا- في أمان مستمر آنذاك.  وبحالة حقيقية صادقة غير كاذبة. التعبير القرآني دقيق جدا حيث يقول تعالى: في مقعد صدق يعني أن المتقين خائضون داخل حالة الصدق الحقيقية من النعيم المتمثل في الجنات والأنهر. مقعد الصدق يعنى حالة الصدق. تماما كما تقول مقام الصدق أي حالة الصدق أيضا. ولعل الله اختار كلمة مقعد ليعرف أسلوب التنعم في الجنة لأن أهل الجنة يتنعمون عادة بالجلوس على الأرائك. متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان. أو متكئين عليها متقابلين. ولا ننسى أن أهل الجنة لا ينامون. إن النوم نوع من الموت كما أن أهل النار لا ينامون أيضا فالدار الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون.

 

يحكمهم مليك مقتدر يملك كل ما يريد أن يهب ولا يحتاج إلى شيء مما يملك ولا إلى المتقين أنفسهم فهو في غنى مطلق. هذا أروع ما يُقدم لأهل الجنة. أمان الله وسلامه وحبه ورضوانه لمن هم أهل لها بالطبع ويستحقونها في منطق الغني المتعالي. تصوير هذا الموقف يهب صاحبه النشوة والانطلاق نحو رضوان الله تعالى، الملك الحق المبين، مليك الكون العظيم.

 

يعتقد الذين لا يدركون معنى الآخرة من المسيحيين بأن المسيح سوف يحكمهم وهو إنسان يريد أن يتمتع في الآخرة ويكاد بعض المسلمين يقول أن محمدا أو أهل بيته وصحابته سوف يحكمونهم وهم كلهم بشر يدخلون الجنة للاستمتاع فهم يريدون أن يأخذوا والله يقول سوف يحكمكم المليك الذي لا يحتاج أن يأخذ ويعطي فحسب. ليس للأنبياء أي دور في الآخرة غير الشهادة والحكم في النهاية لله وحده. إنه مقتدر لا يحتاج إلى من يساعده. ولقد وضحت هذه الشهادة تحت عنوان "الشهيد و الشاهد في التنزيل". سوف نتحدث عن هذا الموضوع مستقبلا حين شرح الشفاعة بمشيئة الله تعالى.

 

وباختصار فإن معنى الكلمات كالآتي:

 

- إن       : حرف تأكيد يفيد الوقوع بشدة دون أدنى شك.

- المتقين   : الذين يخافون الله ويستعدون لكسب رضاه لا الذين يخافون فحسب.

- في       : للدوام والأبدية.

- جنات   : مكيال الغنى في الجنة للمأكولات.

- و       : للمعية دون انفصال.

- نهر     : اسم جنس لبيان مكيال التملك في الجنة للمشروبات.

- في      : للاقتران واللزوم غير المنقطع.

- مقعد    : حالة أو وضعية أهل الجنة مع التنويه بغلبة الجلوس للتهنؤ احتمالا.

- صدق   : حقيقي في مقابل الصناعي والزائف.

- عند     : أقرب الحالات إلى الله. فهو لا مكان له وكل إنسان يمكنه أن يخلق بجهده مرتبة مقربة منه كما هو حال الملائكة. أرجو الانتباه لذكر هذه الأداة "عند" قبل اسم الله تعالى فهو تقريبا بهذا المعنى دائما.

- مليك    : الملك الوحيد الذي لا ينافسه موجود أبدا.

- مقتدر   : القادر على أن يهب ما يشاء ويعطي دون حساب فأهل الجنة لا يشعرون بأي حاجة للتقشف.

 

وهكذا فإن كل كلمة أو أداة فبي القرآن مقصودة ويجب التفكر فيها وكشف موقعها من البيان. والعلم عند الله تعالى.  وسوف يكون موضوعنا القادم محاولة فهم الآية 260 من سورة البقرة {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم}.