ربنا العظيم جميل

 

بسم الله الرحمن الرحيم   أيحسب أن لم يره أحد؟   ألم نجعل له عينين؟  

صدق الله العظيم.

لطالما رأينا وجها جميلا يحمل قلبا قبيحا أو سمعنا صوتا حسنا لفتاة دميمة أو تذوقنا بطيخا حلوا كالعسل نبتت بجوار مستنقع من القاذورات أو شممنا نفحة فواحة أتتنا من مستقر العاهرات. ومَن مِن  البشر يحمل كل الأوصاف الخَلقية الجميلة ويتحلى بكل مكارم الأخلاق؟ الإنسان نفسه هو أجمل مخلوق يراه الإنسان بعينيه وهو مفطور على الضعف في كثير من مزاياه وخصائصه فضلا عن صفاته الحيوانية والنباتية. يكفيه ضعفا أنه يولد أضعف من كل الحيوانات. فكل حيوان يمشي ويقوم بكثير من أعماله ساعة الولادة ولكن البشر يأتي عاجزا عن المشي والغسل والطلب وحتى النظر. إنه بحاجة إلى من يعينه في مأكله ومأواه و ملبسه عقدا كاملا تقريبا.

 

نحن البشر نقيس الجمال بأنفسنا و بأشكالنا فنألف الحيوانات القريبة منا شكلا ونرضى بها صاحبا أو مركبا أو مورد أكل أو لعب. ونكره عادة الزواحف والحشرات والحيتان المفترسة كما نخاف بشكل واسع من الظلام ومن الزوابع والأصوات الرعدية القوية ومن جثث الموتى ومقابرهم ومن طيف الجن والغيلان والأحلام المرعبة. وتبعا لفطرتنا فإننا لا ندرك جمال الكثير من الموجودات الأخرى ويغيب عنا عالمهم المليء بالغرائب. عالم الطاقات الكهربائية والذرية وعالم الجن والشيطان وعالم الملائكة والملأ الأعلى والأرواح القدسية وهكذا عالم النفوس البشرية المنفصلة عن الأبدان وكثير من العوالم التي طالما شاهدنا آثارها ومررنا بملامحها دون أن ندركها أو نتعرف على الارتباط بها. لا زلنا نجهل الصحون الطائرة وشكل الإلكترونات وماهية الإشعاعات الذرية ومخزن الذاكرة الإنسانية والجزء الذي لا يتجزأ وغيرها.

 

ما من شك أن المرء لا يسعه إدراك جمال المجهول أو الموجود الذي يتعذر رؤيته. فكيف نعرف كيفيته من حيث الجمال والزينة؟ كيف نتعرف على جمال الخلق الماضي من أجدادنا الذين سبقونا قبل آلاف السنين؟ إذا قرأنا عن إنسان جميل الفعال، حميد الخصال وقد وصفه الذين رأوه جميلا في عيونهم فإننا نكتفي للحكم عليه بالإنسان الجميل دون أن نراه أو نشاهد صورته أو رسم وجهه. ذلك لأنه تمكن من إقناع من حوله بأنه جميل. فكيف بمن نقرأ عنه أنه لا يكتفي بمن هو في عينه جميل بل يحاول أن يزين كل شيء في نظر الناظر إلى ما حوله من الأشياء. فهو بنفسه جميل ألبته.

 

ولمعرفة جمال الخالق العظيم نعود إلى صنائعه و وحيه إلينا لنتعرف عليه من هذه الحيثية.

ولنبدأ بصنائعه:

          البشر جميل بحق وكذلك الكثير من مشاهد الطبيعة المحيطة بنا. هندسة الكون بديع يجذب من يخوض في غماره حتى يتخذه مهنة له. هاهم عشاق النجوم ومحترفو النظر إلى الكواكب لا يهدءون في البحث عن سيارات جديدة في الفضاء البعيد. إن شغلهم الشاغل وحديثهم في الليل والنهار هو الكشف عن الكواكب وتحليل الأضواء والإشعاعات المنبثقة منها. وهكذا الذين يبحثون في أعماق البحار أو في أعالي الجبال أو في عوالم الطيور والأسماك والحيوانات الأخرى. ومن صنائعه القرآن البديع والبليغ فلننظر إليه محللين جانبا من جوانب الزينة فيه. قوة البلاغة هي أسهل ما نلاحظه في القرآن ونسمع عنه. دعنا نلمسه بأنفسنا.

 

لنقارن بين مقاطع مما قاله البشر مع ما قاله الله في كتابه. هذا إمرؤ القيس ملك شعراء الجاهلية وهو في معلقته المعروفة:

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي       بناظرة من وحش وجرة مطفل

يصف عشيقته بأنها تحمل وجها جميلا تخفيه تارة وتبديه أخرى وهي تخاف من أن تسلب عينُها التي تجاري عين غزال حديث الولادة من غزلان وادي وجرة، عقولَ الناظرين إليها. هذا كل ما قاله الشاعر في شعره البديع.

 

ثم نقرأ عن شاعر جاهلي آخر يؤمن بالله ويتفنن في النصائح والحكم، ألا وهو زهير بن أبي سلمى:

تداركتما عبسا وذبيان بعدما        تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

 

يخاطب ساعيا الصلح من قبيلة غيظ بن مرة: أنقذتما قبيلتيى عبس وذبيان الذين باتا يقاتلان بعضهما البعض بنية القضاء على الخصم وإفنائه وهما يفنيان بعضهما كأنهما دقا بينهما عطر المرأة المعروفة بالشؤم "منشم"، كناية عن الموت والفناء. وليس في خلفيات الشعر الباهر أي معنى آخر.

 

ثم نمعن النظر فيما قاله شيخ قبيلة عربي أيام الجاهلية وهو يوصي ابنه الذي سوف يخلفه حينما ظن اقتراب الأجل:

          "يا بني: إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش. وإني موصيك بما إن حفظته، بلغت في قومك ما بلغته. فاحفظ عني: ألِن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم، يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، وأسرع النهضة في الصريخ فإن لك أجلا لا يعدوك "

حكم عميقة نضدت كعقد اللؤلؤ في جمل بليغة وواضحة المعنى ولكنها لا تخفي في خلفياتها غير ما نفهمه في الظاهر.

 

ثم ننتقل إلى عصرنا الحديث لنقرأ مقطعا أدبيا جميلا لكاتب لا أعرفه ولعله فردينان توتل مؤلف المنجد في الأدب والعلوم:

"جمعت الطبيعة عبقريتها فكانت الجمال. وكان أحسنه وأشرفه، ما حل في الهيكل الآدمي وجاور العقل الشريف والنفس اللطيفة والحياة الشاعرة. فالجمال البشري سيد الجمال كله. لا المثّال البارع استطاع أن يجعله على الدمى الحسان ولا للنيرات الزهر في ليالي الصحراء ما لها من لمحة وبهاء، ولا لبديع الزهر و غريبه في شباب الربيع ماله من بشاشة وطيب. وليس الجمال بلمحة العيون ولا ببريق الثغور ولا هيف القدود ولا إسالة الخدود ولا لؤلؤ الثنايا ولا عقيق الشفاه، ولكن شعاع علوي يبسطه الجميل البديع على بعض الهياكل البشرية يكسوها روعة ويجعلها سحرا وفتنة للناس".

 

قطعة فنية ساحرة في تعريف الجمال والجمال البشري، وقد أبدع قائله في انتخاب الكلمات فخرجت جملا متعاقبة متماسكة كأنها سبيكة ذهب، وليس في منظور الشاعر غير ما يبدو لمن يتلوه، من معنى واضح مبين.

 

ثم نعود إلى مقتبل العصر الإسلامي لنقرأ عن علي بن أبي طالب جملة صغيرة في دعاء له أملاها على صاحبه كميل بن زياد:

          "اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء .. .. وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء".

تحتوي الجملة على معنى علمي عميق جدا  حول سعة الرحمة الإلهية وشمولية الطاقة الربانية. شمولية الطاقة غير واضحة للقارئين قبل خمسة عشر قرنا وحتى القرن الماضي. بيد أن سعة الرحمة الإلهية الشاملة كانت غامضة على الغالبية العظمى من التالين للدعاء العربي الفصيح. من هو الذي يعرف معنى شمول الرحمة الإلهية للشيطان وللمجرمين من بني آدم. إن أكثر الذين يقرؤون الدعاء في القرن الفعلي لا يفقهون معناها ومغزاها. هذا الكلام بديع جدا وبسيط في اختيار الكلمات ولكنه غير واضح المعنى للعامة.

 

نرتفع قليلا لنقرأ عن رسول الله محمد ما رواه  عنه علي بن أبي طالب شاهدا على كلامه الذي قال فيه (الخطبة 154 من نهج البلاغة) :

"واعلم أن لكل ظاهر باطنا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه. وقد قال الرسول الصادق صلى الله عليه وآله: "إن الله يحب العبد ويبغض عمله ويحب العمل ويبغض بدنه"".

كلام سهل بسيط وقد شرحه الشارحون بأن الله يحب عبيده المؤمنين ويبغض بعض أعمالهم الفاسدة ويحب بعض أعمال الفاسقين الطيبة في حين أنه تعالى يمقتهم لأنهم مسرفون فاسقون. لقد استأنسوا بهذا الشرح وظنوا أنهم أدركوا مغزى كلام المصطفى ولكننا حينما نرى استشهاد الإمام علي بهذا الكلام لا نرى وجها معقولا للاستشهاد إن كان شرح الشارحين صحيحا.

هذا الكلام في حين بساطته يحمل معنى علميا عميقا لا يدرك بالنظرة الأولى بل يحتاج إلى تفكير طويل ودعني أشرحه لكم كما أعرف والعلم عند الله.

كل المخلوقات (ملائكة وبشرا وجنا وشياطين وغيرهم) نواقص غير كاملين إذ أن الكمال لله وحده ولا يصدر من الناقص إلا العمل الناقص. لكنهم جميعا محسنين أو مسيئين، مسيرين أو مخيرين، مؤمنين أو فاسقين، إنهم جميعا عبيد لله فالله يحبهم لأنهم من صنعه تعالى. ظاهرهم عباد وباطنهم صنع الله تعالى. وكل ما يصدر منهم ناقص لا يتقبله الوجود الكامل فالله تعالى (الكامل بلا عيب) يبغض ما يصدر منهم لأنه ناقص. وكل عمل من حيث أنه عمل لا يتحقق بدون إرادة الله تعالى فالعمل كائنا ما كان من صنع الله تعالى وهو بحبه ولكنه يبغض بدن العمل أي ظاهر العمل المشوب بإرادة المخلوق. دعنا نشرح البدن ليظهر لكم  المعنى جليا.

البدن هو الموجود الخارجي المتصف بالأبعاد (مثل الطول والعرض والارتفاع) والممكن رؤيته بالعين البشرية ولو بمساعدة الآلة. وبما أنه قابل للتمدد طولا أو عرضا أو ارتفاعا فإنه متجه نحو الأعلى فيقال لمن أحرز التقدم في أحد أبعاده بدينا. كما أنه قابل للانكماش فيصير هزيلا. فالبدن هو الإضافة التي تحصل للمخلوق وهو في طور ابتعاده عن خالقه. هو شائبة غير مستحبة عند الله ولكنه من ضرورات هذه النشأة. ولكن البدن في النشأة الآخرة هو نفس متطور وليس بدنا متطورا.

وهكذا العمل فهو لا يتحقق دون إرادة الله التكوينية التي تتنزل مصاحبا لإرادة المخلوق حتى يصير العمل عملا وبدونها لا عمل ولا تغيير في الطبيعة أبدا. لكن المخلوق يضيف إليه إنجازه فيشيب صبغته الأصلية المنسوبة إلى الله تعالى بصبغة العمل المخلوقي وبهذا الاعتبار يسمى الإضافة بدنا ويبغضه الله لأنه في الواقع ينقص من العمل ولا يضيف إليه شيئا. تماما مثل قطعة الماسة التي هي من صنع الطبيعة ولكن الإنسان يكيفها لزينته بأن يقطع جوانبها لتتخذ الشكل الذي يتلذذ منه عيناه. فالماسة المعالجة أو المعمولة أكثر ثمنا لدينا نحن البشر لكنها في الواقع منقوص منها. هذه الشائبة التي يضيفها المخلوق (ملكا أو شيطانا أو جنا أو بشرا) هو ضرورة الحياة ولكنه منقوص منه في عين الله تعالى فيبغضه الخالق.

فالله يحب كل العبيد بأنهم من خلقه بمن فيهم الشياطين وسفاكي الدماء والعصاة ويحب كل الأعمال لأنها برمتها صادرة منه تعالى إذ بدونه لا يتحقق العمل. حتى قتل الأنبياء والفساد في الأرض وكل القبائح فهي من حيث حصولها منسوبة إلى إرادة الله تعالى لما فيها من مصالح تقتضيها إدارة الكون والحياة من اختبار للناس وإحياء للدين وتهيئة المخلوق لكرم الله تعالى يوم الحساب وغير ذلك فهي محبوبة عند الله جل وعلا. لكن صدورها من العبيد غير مطلوبة وتحمل طياتها العذاب الأليم لهم أحيانا.

 المخلوق في ظاهره عبد وفي باطنه قسط من نور الله الذي يقوم به ويحيا ببركته والعمل في ظاهره إنجاز تقتضيه مصلحة الله وفي باطنه إرادة تكوينية لله تعالى. وعمل العبد ولو كان عبادة فهو إضافة النقص للعمل المطلق فهو في ظاهره عمل ناقص وفي باطنه نقص في الذي أتى به وكلاهما مبغوضتان عند الله تعالى كما أن النقص الذي أضافه العبد للعمل مشين يكمن وراءه عبد ناقص.

فالعبد بظاهره جميل في نظر الله تعالى وبباطنه جميل أيضا لأنه من صنعه تعالى وكذلك العمل باعتباره جزءا من السياسة التكوينية لله تعالى ولكن نفس العبد بما يضيفه هو على نفسه خبيث ظاهرا لإضافة عمل العبد نفسه عليه وخبيث باطنا لأن الذي أضاف إليه الخبائث أتى بها باعتبار خبثه لا باعتبار طيبه، كما أن العمل كذلك أيضا. وهذا وجه استدلال الإمام بقولة النبي العظيم صلوات الله عليهما.

 

أعترف بأن هذا القدر المقتضب من الشرح الموجز لا يكفي لفهم العامة من الناس ولكني في هذا المقام أستنكف من الإطناب فلو سألتم الشرح امتثلت للطاعة وشرحتها لكم والبركة في المتعلمين أن يفسروه لمن دونهم.

أنظر إلى جمال كلمات النبي محمد والدقة الفائقة التي أبداها أفصح العرب في إخراج الجملة سهلة يسيرة يرضي السامع مهما كان شأنه على أنها تكمن معنى فلسفيا عميقا يصعب الوصول إليه لولا تلميذه الألمعي علي بن أبي طالب الذي استشهد بها ليعرِّفنا مغزى كلام صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله. ثم لاحظ مدى البون الشاسع بينه وبين كلام إمام البلاغة علي بن أبي طالب نفسه.

يمكننا أن نستشهد بقولة محمدية أخرى مروية عنه في كتب الشيعة ضمن خطبة لا يمكن أن نصفها بالصحة ولكنها تحتوي على مقاطع لا يروق لأحد فهمها غير النبي العظيم أو من في علمه:

"فاذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطش يوم القيامة"

هذا المقطع وارد ضمن خطبة في استقبال شهر رمضان. إنني أعتقد بأن الخطبة موضوعة ولا سيما مؤخرتها التي تتنافى مع مقام النبوة وتلائم المقرئين الذين يرمون إبكاء الناس إيفاء للمطلوب منهم. لكن ظني يرشدني إلى أن الذي وضعها جمع طياتها بعض ما قاله رسول الله في هذا الشأن.

 

إن يوم القيامة الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين يتميز بعدم وجود الغذاء للناس الذين اجتمعوا مؤمنين وكافرين في صف واحد بانتظار حكم الله فيهم وهو يوم طويل بطبيعته. يجني الإنسان الطاقة اللازمة للبقاء من مصدر آخر غير مصدر المعدة فالجوع في ذلك ليس إلا حالة تعترض المرء تبعا لعادته على الأكل في الدنيا. ذلك لأن النفس التي تحشر تحمل جميع الصفات التي انطوت عليها في عالم الاختبار الذي نمضيه نحن اليوم ثم تحل على بدن جديد يحمل صورته الأصلية التي تميزه في جيناته الدنيوية. هذه الجينات تنشئ بدنا يضاهي البدن الدنيوي مع فارق عدم التحلل والبقاء على نمط واحد إلى الأبد. مثل هذا البدن يبلغ صاحبه الجوع مطالبا منه الغذاء تبعا للعادة ومحركا مجموعة الأعصاب والحوامض التي تصرخ بالجوع صادقا أو كاذبا.

فكلام النبي محمد بظاهره بسيط وكل من يقرأه يفهم منه شيئا ولكنه في مغزاه كلام عميق المعنى. بعكس كلام الإمام الذي هو غير مفهوم لعامة الناس ولو أنه جميل وبديع. ولذلك فكلام الرسول عادة ما تكون أكثر جمالا وبهاء من كلام الإمام ومن كلمات البلغاء والفصحاء.

 

والآن ننتقل إلى كلام الله تعالى لنعرف الفرق بينه وبين كلام خلقه. يقول سبحانه وتعالى في سورة البلد: 7-8 {أيحسب أن لم يره أحد؟    ألم نجعل له عينين؟} لو ندقق النظر في الكلمات فقد اختار سبحانه أبسطها التي يعرفها كل من يعرف العربية ولو قليلا. يتساءل الله تعالى عن حالة الشخص الذي ادعى أنه صرف مالا كثيرا في الكفارات منذ دخوله الإسلام: أيحسب ألم يره أحد؟ فكأنه سبحانه يكذّبه فهو لم يصرف مالا كثيرا في الإسلام. ولكن كيف يظن الشخص بأن لم يره أحد؟ لعل هذه لسان حال كثير من الناس وكثير من المؤمنين بأن يظنوا بأن الله لا يملك عينين مثل البشر ليرى بهما فكيف يرى الله عبده وهو يأثم في الخفاء؟

ثم يرد عليه بتساؤل منه سبحانه وتعالى: ألم نجعل له عينين؟ بهذه الكلمات الأربعة يرد الله على توهمه الأحمق بأن الذي أعطاه قوة البصر هو الله سبحانه. فكيف يمكن أن يعطي النظر لأحد ولكنه بنفسه لا يراه؟ الذي يعرف كيف يصنع العينين ليستعين بهما الإنسان في رؤيته فهو بالتأكيد قادر على أن يرى كل شيء دون الحاجة إلى عينين ماديتين. ثم إنه تعالى يتحدث عن جعله للعينين لا خلقه لهما. فالعينان مصنوعتان بواسطة الجينات التي تحمل كودات وأوامر أودعها الله تعالى لخلق العينين فيما يخلقانه من أجزاء البدن. وذلك تصغيرا لشأن العينين التين لا يستحقان أن ينسبا إلى الله تعالى تشريفا لعدم أهميتهما الكبيرة بالنسبه لخلق الإنسان نفسه العظيمة الكبيرة.

هذا أقوى استدلال يمكن أن يقام لدفع إشكال عدم رؤية الله تعالى عبيده لعدم وجود عينين له سبحانه. فالجملتان جميلتان لبساطة كلماتهما وعظيمتان في المعنى لأنهما يدفعان إشكالا علميا على رؤية الله تعالى واستيعابهما سهل بسيط لا يحتاج الإنسان لفهمه سوى التخلي عما علق بذهنه من تفسيرات تكاد تكون خاطئة ثم تسليط الضوء عليها قليلا. وهكذا نعرف بأن الذي خلق الشم فهو يعرف الشم والذي خلق اليد فهو قادر على تحريك كل شيء لصالحه والذي خلق السمع قادر أن يسمع بنفسه والذي خلق العضلات فهو قوي بنفسه والذي يرد على السؤال بسؤال فهو قوي الحجة والذي يبدع في خلق الكلمات والجمل الرنانة البهية فهو جميل في صفاته وأفعاله كما هو جميل في ذاته أيضا. والفرق بين كلمات  الله ونبيه محمد هو موسيقى اللفظ ودقة المعاني وسهولة الوصول إلى المقصود التي تبرز جليا في القرآن المبين والعظيم. أضف إلى ذلك سعة المعلومات القرآنية التي لا يمكن للبشر أن يحيط بها.

 

ولو نمعن النظر في كتابه الكريم لنراه سبحانه يتحدث عن الزينة كثيرا. فتحدث عن خلق السماوات والأراضي وأنه زينها للناظرين:

الحجر: 16 {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}

الصافات: 6  {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}

فصلت: 12 {وزينا السماء الدنيا بمصابيح}

ق: 6 و 7 {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج  والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج}

فالنجوم والكواكب ليست مصابيح ولكننا نراها مصابيح بفضل ربنا في نعمة الأوزون كما أنها ليست جميلة في أعيننا بشكلها الحقيقي ولكنه تعالى زينها في عيوننا ولعلها بالأوزون أيضا. كما زين لنا المراكب و ما على الأرض والمال والبنين وزين صورنا.

النحل: 8 {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}

الكهف: 7 {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}

الكهف: 46  {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}

غافر: 64  {وصوركم فأحسن صوركم}

التين: 4  {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}

كما أمرنا بالتزيين عند دخول المساجد وبأن ندعو الله بأسمائه الحسنى الجميلة ولا نلحد في أسمائه:

الأعراف:31  {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}

الأعراف: 18  {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يُلحدون في أسمائه، سيُجزون ما كانوا يعملون}. سوف أوضح (بمشيئة الله) فيما بعد أسمائه الحسنى الواردة في كتابه لعل الناس يتركوا الأسماء التي اتخذوها باعتبار أفعاله والله بريء منها. إنه تعالى يأتي ببعض الأفعال لإجراء العدالة ولا يجوز تسميته سبحانه بتلك الأفعال.

هذا ما أردت تحريره باختصار عن جمال الله في صنائعه ولعلي أكتب في المستقبل ما أعرفه عن جمال ذات الله سبحانه وتقدس.

تسبيح جمال الله تعالى:

ربنا العظيم جميل لأنه لم يتأثر بأحد والناس يتأثرون بالطبيعة والعمر والمرض والموت.

وهو جميل حميد لأنه هو الذي وهب رحمته لخلقه ونحن بذواتنا معطيون من غيرنا.

وهو جل وعلا جميل عزيز لأنه فوق المكان وفوق الزمان وفوق كل إرادة وفوق رغبات من دونه.

وهو سبحانه جميل كريم لأنه يعطي ولا يعطى ويمنح ولا يُمنح ويُعيل ولا يُعال ويُحيي ولا يُحيى ويُميت ولا يُموّت.

وهو عز اسمه جميل لأن كل ما يفعله جميل وحق فهو لا يعمل غير الحق ولكن غيره يعمل حقا أوسخيفا ويتكلم حقا أو باطلا ويعمل القبيح أو الجميل ويحيى حياة طيبة أو متعبة.

وهو تقدس وتعالى جميل لأن كل جميلٍ جميلٌ إذا انتسب إليه وكل قبيح قبيحٌ لابتعاده عنه.

وهو تكبر وتنزه جميل في ذاته الغنية وفيما يصدر عنه باختياره الكامل وغلبته الواضحة أما خلقه فهم فقراء حتى في ذواتهم وفي أفعالهم.

وجمال كل شيء بمقدار الطاقة أو النور الذي ينطوي عليه فبدن الإنسان الحي جميل مادام ممنوحا طاقة الحياة ثم ينكمش البدن ويذبل وينهار بعد الوفاة كما أنه جميل في شبابه لوجود مزيد من الطاقة الحيوية في كيانه ويتقلص جمالا في الكبر لتناقص الطاقة واختصار تنامي الجينات المكونه لبدنه لكن الخالق العظيم يملك الطاقة التي لا تنفد وهو النور الذي به يستنير الكون برمته ويكسب القوة والحياة فهو بذاته المقدسة جميل فوق التصور وقد كان جميلا دائما وسيبقى جميلا أبدا. أزلي الجمال وأبدي الجمال دون منافس أو مؤثر، سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون.

وجمال الخلق يتجلى عند الحلم وينكمش عند ما يفقدون السيطرة على أعصابهم ولكنه سبحانه حليم لا يسعى للقضاء على خصمه بل يمهله زمانا طويلا ويسعى لهدايته وتوجيهه الوجهة الصحيحة دائما وهو سبحانه بانتظار العبد لأن يتوجه إليه ويستجيب لنداء المحبة والود منه جل وتنزه. فكم هو جميل وكم هو باقي الجمال دائم الجمال كامل الجمال سبحانه ولا إله غيره.

والجمال الإنساني محدود بما يصدر عن الإنسان فيجب على الشخص إن شاء أن يحافظ على ما يبدو منه من مظاهر جمالية لئلا يشوبه قبح مكنوناته. فالإنسان السليم جميل لسلامته ويسعى لإخفاء أمراضه لكي لا يشمئز منه الناظرون إليه والإنسان القوي يبدو جميلا بقوته فيسعى لعدم التعرض لما يفوق طاقته حتى لا يشوب جمالَ قوته قبحُ الضعف وهكذا لكنه سبحانه وتعالى قوي على كل شيء قادر على كل شيء ولا يتصف بأية شائبة من شوائب الضعف والهوان. سبحان القوي العزيز، بديع السماوات والأرض، سبحانه وتعالى عما يصفه الجاهلون والمشركون.

ولو أنك سمعت أن شيخا في كامل عقله حضر الحرب العالمية الأولى وهو يعيش في أقاصي الأرض فإنك تتمنى أن تصل إليه بكل شوق وحماس وتجلس مصغيا إلى ما ينقله لك من قصص الغابرين. ورب السماوات والأرض حضر كل حدث وشهد كل مشهد في هذه الأرض وفي كل أرض منذ نشأتها إلى يومنا هذا وسيبقى سبحانه شاهدا لكل ما سيحدث. إنه سبحانه يشهد دقائق الأمور ويطلع على خفيات القلوب وأسرار صانعي الأحداث. وهو ليس بخيلا لينقل إلينا ما يفيدنا ويطلعنا على ما يزيدنا عبرة وحكمة.

هذا كتابه الكريم مليء بالقصص الجميلة والفتانة. قصص الطيبين من الناس ومن حضر زمانهم من الملوك والحكام والأثرياء وكل ذوي الشأن. قصص صادقة حقيقية، بلسان عربي واضح خال من المبالغات والتكهنات والظنون. يذكر الله سبحانه قصة يوسف مارا على قلوب صانعيها فيبلغنا ما كان يجول في أفكارهم وهم يصيغون التاريخ الغابر منذ آلاف السنين. لقد اختار سبحانه من أخبارهم ما يزيدنا عظة واعتبارا وعلما بحقائق الإنسان ودقائق الفتن. ثم إنه من فضله تجاهل ما لا ينفعنا من عابر الأحداث التي لا يضرنا العلم بها ولا ينفع. هذه القصة الفاتنة مكتوبة في القرآن بشكل مطول كما يبدو ولكنها مليئة بالحقائق التي لا يمكن إدراكها دون تفكر.

لقد جربت قراءتها والتفكر فيها مليا وكنت في كل مرة أعثر على جديد لم أكن لألتفت إليه من قبل. لعلي أكون قادرا على تفكيك أجزاء القصة وتحليلها في كتاب كبير دون أن أضيف إليها شيئا مما ورد في كتب التاريخ الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، ودون أن أمزجها بمنسوجات الخيال. لقد سئمت من مطالعة ما كتبه غير الخالق سبحانه من أخبار الماضين. فبعكس القرآن، كلما مررت على ما كتبوه شاهدت أو شعرت بكذبة جديدة مختلقة لم أكن ملتفتا إليها من قبل. إن ما أضافوه إلى كتاب الله ليس إلا عين الخطأ وليس إلا تأليف الخيال أو وحي الشيطان. وفي الواقع فإن عمر الإنسان لا يكفي لكشف كنوز الكتاب الكريم ولعله سبحانه، لذلك اكتفى بكتاب واحد جمع فيه ما يكفينا ولم يضف إليه شيئا. فيالجمال القرآن، كتاب الله العزيز الحكيم وحسبنا ما فيه.

وهكذا فلو نتبع الليالي بالأيام ويمنحنا الله عمر السماوات والأرض فإننا غير قادرين على أن نحصي مظاهر جمال الله سبحانه وتعالى. فهنيئا لمن يفكر في الله ولمن يعبد الله وحده ويؤمن بما يراه فعلا من شمول القدرة وشمول الرحمة وكمال إدارة الله تعالى لخلقه العظيم. هنيئا لمن يتفكر في خلق السماوات والأرض ويمعن النظر في خلق الإنسان والحيوان والنبات ويفحص مظاهر الحياة ليتعرف عليها فيصل بنفسه إلى النتيجة الحتمية وهو:

ربنا العظيم جميل بذاته وجميل بصفاته وجميل بما يخفيه وما يعلنه وجميل بحلمه وعلمه وأناته وجميل بغضبه الذي لا يحلله على أحد إلا بعد أن يعطيه الفرصة الكاملة للعودة عن غيه وضلاله وجميل بجناته الفسيحة الجميلة الواسعة وجميل بناره المحرق والمهين والتي خصصها للمجرمين ليشفى بها قلوب الذين آمنوا بالحق واعتصموا بالحق واستعاذوا بالله من شياطين الجن والإنس. إنه جميل بخلق النشأة الأولى التي نعيش فيها وجميل بما وعدنا من خلق النشأة الآخرة وخلق الجنة والنار لبسط العدالة التي طالما تاق إليها المظلومون في الأرض وفي كل الكواكب المسكونة الأخرى. وختاما:

ربنا العظيم جميل

 

وسيكون موضوعنا القادم: (وإبراهيم الذي وفى) بإذن الله تعالى.

 

أحمد المُهري

12 مارس عام 2002