الواجب عن تساؤلات الشاهد و الشهيد في القرآن

 

ملاحظة: يلزم قراءة "الشهيد والشاهد في التنزيل" قبل الخوض في هذا الموضوع

1-               لماذا يطبق الصحابة على النبي والناس على الصحابة؟ أليس في ذلك تمييزا للصحابة عن غيرهم من عباد الله؟

2-               ما هو دور الضالين ولماذا لم يتخذ الله مثلا من البشر للضالين أيضا؟

3-               هل يمكن أن يدخل أحد من الصحابة النار بعد أن نصروا رسول الله يوم ضعف الإسلام؟  وهلا توجد أية حصانة لهم من عذاب الله مع أن رسول الله كان يحبهم؟

4-               ما معنى قول الله عز وجل : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا؟

5-               من هو الشاهد الذي شهد على امرأة العزيز وكان من أهلها؟

6-               ما معنى شهادة سيدنا المسيح على أهل الكتاب كما فسره المفسرون الكرام في آية: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا

 

7-               وأخيرا ما الفرق بين الشاهد والشهيد في القرآن؟

 

س1  لماذا يطبق الصحابة على النبي والناس على الصحابة؟ أليس في ذلك تمييزا للصحابة عن غيرهم  من عباد الله؟

ج 1 لقد عاش الصحابة الوحي ورأوا ما لم يره غيرهم من آيات الله البينات كما استمتعوا بالأمان والنصر الإلهي الخاص بالرسل. إننا نحن اليوم نتمنى أن نرى الرسول فنفتح له قلوبنا ونسأله عما بدا لنا من غوامض المسائل ونستمع إلى تلاوته العذبة للقرآن، وأنى لنا ذلك. والعدل يوجب أن يتم استجواب كل إنسان بمقدار ما أوتي من تسهيلات. أو كما يقول الإداريون: الصلاحيات بقدر المسؤوليات. وهذا العدل الذي وعده الله سبحانه ليوم الحساب يستوجب عدم تطبيق مدى تجاوبنا نحن مع الإسلام مع ما استجاب له الرسول محمد وهو (العدل) نفسه الذي يستوجب تطبيق أعمال وقلوب الصحابة على محمد نفسه.

 

وليس في ذلك أي تمييز للصحابة إلا في أنهم سوف يحاسبون حسابا عسيرا. ذلك لأنهم سوف يطبقون على النبي نفسه وليس على صحابي مثلهم. إنهم عاشوا نزول القرآن وشاهدوا النبي وهو يستلم الوحي فهم ليسوا كبقية الناس، بل المتوقع أن يكونوا خيرا منهم. كان عليهم أن يكونوا نماذج صادقة للنبي نفسه، وهم في الغالب لم يكونوا كذلك، وخاصة بعد ما توفى النبي الأمين. إن بعض الصحابة قتل الصحابة أو قتل أهل بيت النبي نفسه وهم صحابة وقرابة للنبي.

 

وعلى هذا فإن الصحابة ليسوا خيرا ممن سبقهم ولا ممن أتى بعدهم. وما يعتقد به عامة المسلمين من فضل كبير للصحابي بمجرد أنه صحابي هو من باب الغلو فحسب. إن البشر –مع الأسف- يغلون في أمثالهم دائما، المسيحيون في المسيح وفي رهبانهم وأحبارهم، واليهود في أنبيائهم وملوكهم، والمسلمون في صحابة نبيهم وأهل بيته وفي النبي نفسه. سوف نشرح هذا الموضوع مفصلا إنشاء الله فيما بعد.

 

س2 ما هو دور الضالين ولماذا لم يتخذ الله مثلا من البشر للضالين أيضا؟

ج2 وما يدرينا أن لا يتخذ الله مثلا للضالين أيضا. إن أهل الكتاب الذين عاصروا النبي العربي وشاهدوا آيات الله كانوا شهداء أيضا. قال تعالى في سورة آل عمران: 98 و 99 {قل يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون. قل يا أهل الكتاب لِمَ تصدون عن سبيل الله، من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون}

 

كما يتخذ الله من المفترين عليه سبحانه شهداء أيضا {ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وظل عنهم ما كانوا يفترون} القصص : 75.

 

ثم إن رحمة الله تقتضي أن يأخذ النماذج السيئة من أشد الكفار فيطبق عليهم المجرمين. ذلك لأنه لا يحب الانتقام بل يحب الرحمة والإحسان وهو الرحمن الرحيم. ولولا عدله لأدخل الناس جميعا جناته الفسيحة. {فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا 68 ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا 69 ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا} سورة مريم.. فالله سوف ينتزع من كل مجموعة أشرسها وأشدها كفرا ثم يعلم أو يستخرج الذين هم أولى لتصليته بالنار. ومن لم ينطبق أعماله وأحواله على المجرمين المعاندين وكان صالحا يؤمن بالله الملك الحق ويفعل الخيرات ولا يؤذي عباد الله فلعله -مع فساد عقيدته وكثرة معاصيه- ينجو من العذاب بإذن الله. سوف نتحدث فيما بعد عن درجات الجنة وموقع مثل هؤلاء الغافلين في جنات النعيم بمشيئة الله تعالى.

 

س3 هل يمكن أن يدخل أحد من الصحابة النار بعد أن نصروا رسول الله يوم ضعف الإسلام؟ وهلا توجد أية حصانة لهم من عذاب الله مع أن رسول الله كان يحبهم؟

ج3 إن عدالة السماء تقتضي أن يعامل الناس جميعا بميزان القسط والعدل فلا يفرق بينهم لما أوتوا من حظوظ دنيوية. فأكرم الناس عند الله أتقاهم. لا فرق بين صحابي وتابعي ومن سبقهم أو لحق بهم إلا بالتقوى. ونحن حينما نصنف الصحابة من حيث السبق إلى الإسلام مثل علي وأبي بكر وياسر وأسرته مع الذين صاحبوا الرسول بعد الانتصار مثل معاوية وخالد، نرى أنفسنا مضطرين للتفريق بينهم. فالأولون قبلوا الحق من تلقاء نفسهم وتحملوا الأذى في سبيل الله والآخرون دخلوا الإسلام لينجوا من الانعزال عن السواد الأعظم. أولئك أفراد تقبلوا الإسلام بقلوبهم وهؤلاء دخلوا مع الذين دخلوا في دين الله أفواجا.

 

وكلهم دافع عن رسول الله، النبي القوي ذي العزم، تماما كما يفعل الجنود غير المسلمين دفاعا عن قوادهم الأقوياء والأشداء. كان النبي يمثل الزعيم الوطني للعرب فكما كان معاوية وخالد يدافعان عن شيخ الكفر أبي سفيان، أضحيا فيما بعد يدافعان عن سلطان المسلمين محمد بعد أن انخرطا في سلك المسلمين. إن من الظلم على السابقين أن ننزلهم إلى حضيض اللاحقين. أضف إلى ذلك أن الله تعالى كان يمحص قلوب المسلمين في ذروة الجهاد في سبيل الله في المدينة. دعنا ننظر إلى الآية 179 من سورة آل عمران: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا  فلكم أجر عظيم}.

 

المخاطبون هم صحابة النبي وهم إن آمنوا فلهم أجر عظيم. ويتبع ذلك بالطبع، أنهم إن لم يؤمنوا فلهم عذاب أليم. هذا يعني أن المخاطبين بالمؤمنين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم الذين يشكلون شعب محمد بن عبد الله والذين قبلوا  دعوته وصاحبوه، لم تؤمن قلوبهم بالضرورة. والله يمحصهم ليفرق بين الخبيث والطيب أي المؤمن باللسان دون القلب والمؤمن بهما معا فيعظم أجر المؤمن بالقلب. ونظرة إلى آخر سورة الفتح التي نزلت بعد الانصراف من الحديبية توضح المسألة، حيث يقول الله تعالى في وصف الصحابة: {…وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}. يعني أن منهم من آمن فعلا وعمل الصالحات ومنهم من آمن باللسان ولم يؤمن قلبه. و ما هزيمة المسلمين في غزوة أحد إلا دليلا قطعيا على انخراط الكثير منهم في دين الله طلبا للمغانم والمثوبات الدنيوية.

 

أما حب رسول الله الذي لا يعلم خفيات القلوب فهو كحب نبي الله نوح لزوجته وللمعروف بابنه. هذا الحب لا يفيد المرء شيئا يوم القيامة. هذه عقيدة بشرية ساذجة تداولها اليهود والمسيحيون ومن بعدهم المسلمون. ويغلو الشيعة من المسلمين أكثر من غيرهم من المسلمين في الحب المتبادل بين أولياء الله وشيعتهم كما يغلو المسيحيون أكثر من اليهود في الاكتفاء بحب المسيح لدخول الجنة.

 

ما رأيت في أغوار كتاب الله أية إشارة إلى اعتبار حب النبي أو أحد من أهل بيته لأحد أو حب الآخرين لهم أساسا للمغفرة والرضوان. لو كان ذلك صحيحا لما تعب الحسن والحسين سبطا رسول الله وحبيباه بعده ولعاشا حياة هنيئة رغيدة بعد أن ضمنا الجنة والرضوان لهما إثر حب الرسول العظيم لهما وحبهما الكبير لجدهما. والحسين لم يقف حتى أهريقت دمه في سبيل الله دفاعا عن دين محمد وطلبا للمغفرة والرضوان من الله العظيم. وقد قالت أخته العظيمة زينب بعد وفاته وهي تنثر دمه إلى السماء: أللهم تقبل منا هذا القربان. كل هذا إلى جانب سعي الحسن والحسين لاستجلاب رضوان الله عن طريق العبادات والدعاء إلى الله وخدمة الناس وبذل كل جهد لتعليمهم وتثقيفهم ثقافة قرآنية. كلا، ليس حب النبي وأهل بيته لأحد أو حب الناس لهم ماحيا للسيئات يوم القيامة. سوف يخيب الذين اتبعوا هذه الظنون يوم الحساب والله نسأل لنا ولهم مزيدا من الغفران وللأحياء مزيدا من الهداية. نعم، إن بغض النبي والمؤمنين من صحابته وأهل بيته بغض للحق والعدل وموجب للهلاك والخذلان يوم الحساب، والله وحده العليم الخبير.

 

س4  ما معنى قول الله عز وجل : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا؟

ج4 يهتم الشعوب المتقدمة بشهادة المستهلكين لقبول الخدمة أو السلعة المعروضة عليهم. ذلك لأن المستهلك العادي عادة ما لا يلين أمام إغراء أصحاب المتاجر وذوي الصناعات بل يهتم بتعريف أو شهادة المستهلكين العاديين من بني وطنه. إنه واحد منهم ومشترك معهم في خير الوطن وشره. هذا الاهتمام بالشهادة من أبناء الأمة على الأمة وعلى نفسها يتجلّى في كتاب الله لمحاسبة القلوب والنفوس. سوف نقرأ معا هاتين المجموعتين من الآيات الكريمة ممعنين فيهما قبل أن نتعرف على معنى الآية المطلوبة في هذا السؤال. إنهما تعنيان بالأشهاد الذين يقومون في يوم القيامة بالشهادة على الناس. وقد اضطرب المفسرون رحمهم الله وإيانا في تفسير آيتي الأشهاد كثيرا ولكني أحاول أن أشرحهما بإذن الله وأوضحهما للقارئين بلطف الله وكرمه.

 

اقرأ الآيات 12 – 16 من سورة هود ثم اقرأ الآيتين 17 و18 ونذكرهما هنا مع بيان جهة الضمائر والعلم عند الله وحده:

- أفمن                  : المؤمنون من اليهود

- كان على بينة من ربه   : رب المؤمنين من اليهود

- ويتلوه                 : يتلو القرآن

- شاهد                 : هو عبد الله بن سلام، العالم اليهودي الذي آمن بنبوة محمد   وصاحَبَه  

- منه                   : من بني إسرائيل

- ومن قبله              : من قبل القرآن

- كتاب موسى إماما ورحمة  : هؤلاء اليهود الذين آمنوا كان لهم كتاب موسى كتاب توجيه ورحمة فكانوا يؤمنون بالتوراة قبل القرآن

- أولئك                 : المؤمنون من اليهود

 

- يؤمنون به             : بالقرآن

 

- ومن يكفر به من الأحزاب

فالنار موعده             : لعل المقصود من الأحزاب في

                   من القبائل الذيــن يتحدون أمام رسل الله فيكذبونه ويحاربونه معا أو يؤمنون به معا. يقول تعالى في سورة ص :{جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب 11 كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد 12 وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب 13 إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب 14}

 

- فلا تك في مرية منه : فلا تكن في شك من القرآن

 

- إنه الحق من ربك    : إن القرآن هو الكلام الحق المنزل من الله ربك

 

- ولكن أكثر الناس لا

يؤمنون               : الذين استكبروا وقالوا لولا أنزل كنز على محمد

 

- ومن أظلم ممن افترى على

الله كذبا، أولئك يعرضون

على ربهم، ويقول الأشهاد: الأشهاد هم الملائكة الموكلون بالناس في الدنيا وهم الذين يعرضون الكفار المفترين على الله في الدنيا، يعرضونهم على الله نفسه يوم القيامة.

 

- هؤلاء الذين كذبوا على

ربهم                : صيغة العرض على الله وهو مقولة الملائكة الأشهاد

 

- ألا لعنة الله على الظالمين : حقيقة الظالمين المحرومين من رحمة الله         يوم القيامة.

 

 

وهناك مجموعة أخرى من الآيات{8-12} في سورة الأحقاف وهي تحكي نفس القضية بأسلوب آخر دون ذكر الأشهاد ونحن نشرح الآية 10 منها:

 

- قل أرأيتم          : الخطاب لليهود على ما أظن

 

- إن كان من عند الله : إن كان القرآن الذي يجدونه لدى النبي محمد منزلا من الله حقا

 

- وكفرتم به            : وكفرتم أيها اليهود بالقرآن

 

- وشهد شاهد من بني

إسرائيل على مثله فآمن

واستكبرتم          : وشهد عبد الله بن سلام وهو من بني إسرائيل على مثل ما سمعتموه. كانت الآيات تتلى على الناس فيؤمنون أو يكفرون، ولم يكن القرآن في دفتين كما هو الحال في زماننا. ولذلك فعبد الله بن سلام كان قد استمع إلى بعض القرآن فآمن وشهد بأنه كلام الله ولكن بني قومه استمعوا إلى مقاطع أخرى من القرآن بمثل ما استمع عبد الله فلم يؤمنوا واستكبروا.

- إن الله لا يهدي القوم

الظالمين           : جزاء الظالمين هو الحرمان من هداية الله الخاصة.

 

 

 

أما المجموعة الثانية فهي في سورة غافر، الآية {51-52}

 

- إنا لننصر رسلنا والذين

آمنوا               : المرسلون من البشر وصحابتهم الذين آمنوا بهم

 

- في الحياة الدنيا ويوم يقوم

الأشهاد       : يمنحهم الله النصر في الدنيا وفي يوم الحساب، لكنه عبر عن يوم الحساب بيوم يقوم الأشهاد. فالأشهاد هم المدعون العموميون الذين يملكون الكلمة في يوم القيامة و بناء على أقوالهم يحاسب الناس ويحاكموا، ولذلك فهم ليسوا بشرا وليسوا أنبياء وليسوا من الجن بالطبع. أغلب الظن أنهم هم الملائكة الذين يكتبون أعمال الأفراد من الخلائق فهم مع كل واحد منهم. يقول الله في سورة ق: 21 {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}. والأشهاد باعتقادي هو جمع أمثال ذلك الشهيد المذكور في سورة ق، وهو مع كل إنسان. هو موجود غير حيواني ولعله غير مادي أيضا بل هو موجود طاقوي ينفذ في كل شيء دون أن يمتزج أو يتركب معه فهو صالح لتسجيل كل حركات المنوه عنهم دون أن يتأثر بهم وبما وبمن أثر فيهم. 

 

نستنتج مما مضى أن هناك أشهادا في يوم القيامة ولهم أكبر دور في الشهادة على الناس، شهادة كاملة وكافية للحكم على أعمال الناس ومنوياتهم. ولكن الله الكريم لم يكتف بذلك بل سوف يشفع أحكامه بشهادة الأنبياء على أنفسهم وما شاهدوه من أصحابهم ومن عاشوا بينه بالإضافة إلى النماذج التي ذكرناها في البحث الماضي. ودعنا نغور أكثر من ذلك في الموضوع فنستجلي الأهداف المرجوة من هذه الأنواع الثلاثة من الشهادات.

 

لو نلقي نظرة إلى القضاء النزيه والعادل في دنيانا هذه فنرى أن القاضي المنصف والنزيه يسعى لمعرفة التهمة مستعينا بثلاثة مباني:

1.  البينات التي تدل على حصول القضية بالشكل المرفوع أمامه من شهادة الشهود والأمارات والدلائل الموضِحة وأقوال أطراف القضية.

2.  حالة المتهمين حين القيام بالعمل ومستوى قدراتهم وضغوط المجتمع والطبيعة عليهم مثل المغريات والجوع.

3.  الحالات المشابهة لمن سبقهم وكذلك الأحكام المشابهة الصادرة ممن سبقه من القضاة.

 

بهذه المباني الثلاث يحصر القاضي أطراف القضية ويتعرف تماما على درجة تورط المتهم ومدى خبثه أو ضعفه الذي أسلكه في هذه الجريمة. وهكذا أمام الديان العظيم في محكمة القسط المطلق فإن الأشهاد يقومون بالدور الأول وأما المبنى الثالث فهو يتحقق باتخاذ النماذج المناسبة للمتهمين من أصحاب الرسل. أما الدور الثاني فيقوم به الله وحده الذي يملك معايير النفوس والذوات. أما شهادة الرسل والصالحين والعلماء فهي لإثبات صحة التشريع وقابليته للتنفيذ حيث أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ورسله الذين هم منا ومنبثقون من مجتمعاتنا هم شواهد حية على مرونة التشريعات كما أن شهادتهم دليل واضح على مدى تقبلهم كبشر لهذه التشريعات.

ولا ريب أن التهم التي يوجهها الأشهاد في يوم الحساب تحكي عن مدى التزام عباد الله بتشريعاته و درجات قلوبهم وأفكارهم. على أن شهادة الرسل من البشر ليست لمسألة المحاسبة الأخروية فحسب بل هي تفيد الدعوة إلى الله وتمنح الاطمئنان النفسي لمن حولهم ولمن يسمع عنهم فيما بعد.

 

وقد أعقب الله تعالى شهادة الرسول بالتبشير والإنذار، فهو يعمل بما أمره الله ليكون شاهدا على مرونة التشريع ويعقب رسالته العملية القيام برسالته البلاغية بصورة التبشير والإنذار. بهذا النسق يتميز الرسول البشري عن الرسول الملائكي فالملك يبلغ ولكنه لا يعمل بالرسالة حيث أنه غير مؤهل للعمل بها ولكن الرسول البشري يعمل ثم يبلغ.

 

س5  من هو الشاهد الذي شهد على امرأة العزيز وكان من أهلها؟

ج 5 دعت امرأة العزيز مملوكها الجميل الفاتن يوسف عليه السلام إلى نفسها في غرفتها الخاصة التي تستريح فيها مع زوجها بدليل أن زوجها قد أوى إلى نفس الغرفة حينما عاد من عمله. ولوكان الزوجان يحملان الساعات الحديثة أو تلفونات النقال لكان من المستبعد حصول تلك المفاجأة غير المريحة. كان الزوج –كما يبدو- عائدا إلى منزله من عمله وقاصدا قرينته الحسناء لتُذهب عنه تعب العمل كعادة الناس. لم يكن العزيز المصري المترف ليأخذ معه ضيفه أو قريبه إلى غرفة نومه الشخصي ليخلو بزوجته، فلو كان معه غيره لهداهم إلى أماكن الضيوف في قصره الفاخر. ولم يكن أهل زوجته خدما أو حرسا مرافقين بالطبع.

 

كان العزيز داخل قصره الآمن وقد مضى إلى غرفة نومه دون حذر، ولكنه فوجئ بزوجته العارية وهي في آخر مقطع من محاولاتها لتعرية مملوكها يوسف الذي كان في حالة فرار منها. لم يكن الوزير المصري الذكي، وزير فرعون بحاجة إلى من يُريه الشواهد الدالة على تورط زوجته في قضية إغراء واستهواء يوسف. إنه هو الذي رأى الدفاع اليائس والأحمق لزوجته المذنبة وهو أقرب أهل المرأة الذي شهد الدليل الواضح على شقوق قميص يوسف من الخلف. وقد قال في نفسه إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو كاذب وإن كان الشق في دبر القميص فكذبت وهو الصادق وذلك قبل أن يحكم على زوجته بالذنب.

 

يستخدم الله هذا التعبير الجميل دفاعا عن عبده الصالح الذي أخلصه لنفسه: وشهد شاهد من أهلها. أي أن الشاهد على الذنب لم يكن أجنبيا ولا مستقلا بل كان منحازا لها. دعنا نتصور وجود إنسان غير أطراف القضية الثلاث هناك كان وقد رأى الفضيحة الكبرى فما كان مصيره والعزيز مغرم بزوجته وغير ملتزم بأحكام الله وهو وزير فرعون مصر، الملك المتكبر بطبيعته. كان مصير الشاهد القتل مع يوسف وذلك تغطية للفضيحة كما يفعل غيرهم من الطغاة. لكن الزوجان كانا يحبان يوسف ويثقان به وكان الزوج مطمئنا بنزاهة يوسف وكبرياء شخصه التي تمنعه من ذكر الفضيحة للآخرين. أليس هو الذي عاش ما يقرب من العقد في السجن الظالم ولكنه أبى أن يتفوه بالقصة المريبة التي كانت تؤذيه بل اكتفى بالإشارة إليها بقوله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن. كان يوسف مضطرا لفتح الملف ومظلوما على يد العزيز وزوجته ولكنه كان يحترم الإكرام الذي لاقاه منهما طوال إقامته بين يديهما.

 

فالشاهد هو العزيز نفسه وليس شخصا آخر وكيفية شهادته هو مقولته المذكورة في القرآن : إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين. ولا ألوم المفسرين رحمهم الله جميعا فقد فعلوا ما قووا عليه لكن أغلال بعض المفسرين القدامى جدا الذين استنجدوا بالتوراة المزورة لتفسير قصة يوسف قد أثقلت أعناقهم فأبعدهم عن حقيقة القصة ولو كانوا مكتفين بالقرآن وحده ومفكرين في الآية بدقة لكانوا أدركوا معناها قبلي. التعرف على المذنب كان فكريا وليس بشهادة البصر، والله العالم بحقائق الأمور.

 

س 6 ما معنى شهادة سيدنا المسيح على أهل الكتاب كما فسره المفسرون الكرام في آية: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا} سورة النيساء:159 ؟

ج6 ابتعد المفسرون رحمهم الله عن مغزى هذه الآية الكريمة ولكن دون شطط طبعا. كما أنهم توهموا معنى آخر للآية التي سبقتها، وهي: {بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما}فيما عدا بعضهم مثل العلامة الطباطبائي في الميزان حيث استدرك أن الله أوضح مسألة رفع المسيح في آية 55 من سورة آل عمران: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ..} ومعناه أن الرفع تم بعد الوفاة، لكنه رحمه الله وقع تحت تأثير الآية التالية وتخاذل المفسرين في بذل الدقة الكافية لفهم معناها، فتراجع العلامة عما وصل إليه بنفسه واختار الخطأ الشائع مع الأسف. والواقع أن الرفع إلى الله معناه الرفع من حضيض المادة إلى سماء المجردات حيث يتقرب الموجود أكثر فأكثر إلى الله. كما هو عليه الملائكة المقربون. لا، بل أقرب من الملائكة إذ أن الملائكة سوف يموتون أيضا في النهاية ويرتفعون إلى الله أكثر مما هم عليه اليوم، كما سوف نوضح فيما بعد بمشيئة الله تعالى. ولازم ذلك أن يودع الإنسان هذا العالم إلى الأبد حتى ينال الحظ الأسمى. فالمسيح عليه السلام قد توفي بصورة طبيعية يوم ادعاء الرومان بأنهم صلبوه. وقد شك أنصاره في المصلوب ولكن احتجابه عن عيونهم جعلهم يتأكدون من موته تحت تأثير القازوق كما اشتهر. والعلم عند الله.

 

أما الآية التي نبحث عنها فهي تتحدث عن حقيقة علمية يرد بها الله على إشكال كبير في مقتل السيد المسيح، إذ لو صح مقتله فهو ليس رسولا. لأن الرسل معصومون في حياتهم من التعرض للقتل. هناك أنبياء قتلوا ولكن ليس هناك رسول يقتل، لأن قتله يعني عدم بلوغه الحجة الكافية والفرصة المعقولة حتى يهتدي من يمكن أن يهتدي. وبما أن الآية توضح حقيقية علمية فلا يمكن أن يأتي بلفظ الماضي. وهي في معرض الحديث عن صحابة المسيح لا أهل الكتاب الذين أتوا بعده وهم الذين تعرضوا لشهادته الشخصية كما هو الحال بالنسبة لصحابة نبينا المصطفى. والله يقول في نبينا: {...ويكون الرسول عليكم شهيدا} سورة النساء: 40. ولم يقل: ويكون محمد عليكم شهيدا، لأن الموضوع عام يشمل كل الرسل. فطبيعة الرسول أن يكون شهيدا على أصحابه. لعل هذا الموجز لا يكفي لإثبات المطلوب فسوف أشرح الموضوع مستقبلا إنشاء الله تعالى.

 

س7 وأخيرا ما الفرق بين الشاهد والشهيد في القرآن؟

ج7 الشاهد والشهيد في اللغة بمعنى واحد إلا أن الشهيد صيغة مبالغة تفيد شدة الشهادة ويجمعان  بالشهود والشاهدين والأشهاد والشهداء والشهد، ويعتبر البعض بعضها جمعَ جمع لا جمعا أوليا. وقد جاء الشهيد في القرآن بمعناه اللغوي وهو من يأتي بالشهادة بعلم كما جاء بمعنى آخر وهو النموذج الذي يُستشهد به على إيمان من يشابهه في الصفات الأخرى. أما لفظ الشاهد فلم يأت إلا بالمعنى اللغوي وهو الشهادة الفعلية وجاء في سبعة موارد فقط. اثنان منها في شأن عبد الله بن سلام وشهادته بنبوة النبي وصحة دعواه وواحد منها بشأن العزيز وشهادته الباطنية ثم إصداره حكمه على يوسف وامرأته في العلن واثنان آخران منها بشأن نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وبأنه الشاهد المقر بصحة دعواه والمبشر والنذير وواحدة بشأن النبي أيضا وبأنه شاهد على أصحابه والمورد الأخير بشأن أصحاب الأخدود لعنهم الله في سورة البروج حيث يقول جل وعلا: وشاهد ومشهود. والشاهد هنا بمعنى الشهادة العينية لأصحاب الأخدود على إحراقهم للمؤمنين الصالحين. يهدد الله هذا الشاهد الذي يعصي الله بعلم ورؤية بصرية كاملة أو ما يسمى اليوم بسبق الإصرار، يهدده باليوم المشهود وهو يوم القيامة. والله وحده العالم بخفايا الكتاب.

 

ولعل وجه تسمية القيامة بالمشهود هو أن الأعمال تتجلى للعيان فكأن كاميرا ديجيتال سينمائية دقيقة وخفية قد صورت كل حركات الناس اليدوية والقلبية وأصواتهم ونواياهم لتُعرض على شاشة الأفق يوم الجزاء فيراها القريب والبعيد. هنالك، سوف يكون كل شيء مشهودا بحقيقته لا بما يريده صاحبه.

 

وإطلاق لفظ الشهيد على الله هو بأن كل الكون بجميع من فيه وهم بكل حالاتهم، كل ذلك حاضر أمام الله وهو تعالى شاهد للظواهر والخفيات شهادة شديدة ودقيقة. والعلم عند مولانا العزيز سبحانه.

 

سوف نتحدث في البرنامج القادم عن البحرين في (مرج البحرين يلتقيان) وأهميتهما في استقرار الكرة الأرضية كما نعين مكانهما في الخريطة بمشيئة الله تعالى.

 

                                                                   أحمد المُهري

                                                                   24/1/2001