الظلمات الثلاث عند خلق الإنسان

 

سورة الزمر:6 {خلقكم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج، يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث، ذلكم الله ربكم، له الملك وله الحمد، لا إله إلا هو، فأنًّى تُصرَفون }

تحتوي هذه الآية على مسائل كبيرة تختص بخلق الإنسان وبما يشترك فيه مع بقية الأنعام وما يتميز بها من النَّعَم. يجب الوقوف عند هذه الآية والتأمل العميق حتى يستعد الإنسان لإدراك ما أشملها الخالق العظيم ذو الجلال والإكرام من معارف تستحق التفكير الجادّ والغزير. ذرونا نبدأ بما يتراءى كالمبهمات فيها:

1.  كيف خلق حواء من نفس آدم وكيف انحدرنا جميعا من نفس واحدة؟

2.     ما هو ارتباط الأزواج الثمانية من الأنعام بخلق الإنسان؟

3.     ما هي الظلمات الثلاث التي مررنا بها؟

4.     ما معنى إنزال الأنعام وما هو الفرق بين الإنزال والخلق؟

5.  ما هي الأنعام الثمانية؟

 

أما مسألة خلق آدم من نفس واحدة وخلق حواء منها فسوف نذكرها عند الكشف عن غوامض خلق آدم أبي البشر. ولا يفوتنا القول بأننا نأخذ الحياة من آبائنا عن طريق الأمهات وليس من طريق آخر وهناك تشابه بيننا وبين أمنا حواء التي تنعمت بالنفس الإنسانية من زوجها آدم وسوف نشرحها مع مسألة خلق آدم، إن شاء الله.

 

ولا يخفى بأننا خُلقنا أطوارا ولسوف نشرحها أيضا حينما يوفقنا الله لكشف الغطاء عن تطور أبينا آدم. والأنعام الثمانية تطورت مع تطور أبينا آدم وخُلقت من الطين حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من التكامل في التكوين فباتت تتكاثر مثل تكاثرنا. وأما وجه ربطها بخلقنا احتمالا، فهو من باب التطور المشابه لتطورنا ولأنهم يتكاثرون ويمرون بالظلمات الثلاث مثلنا تماما. ناهيك أنهم مخلوقون من أجلنا لنأكل منها ونشرب ألبانها ونرحل على ظهورها ونستفيد من أصوافها وأوبارها وأشعارها. ونحن بأنفسنا مخلوقون لبعضنا البعض، فالأولاد خلقوا ليأنس بهم الآباء ثم يستقلوا عنهم والأزواج يأووا إلى بعضهم البعض حتى تفصلهم سنن الحياة ويرهقهم ضغوط الطبيعة، كما أن الآباء والأمهات أتوا لينجبوا ويأتوا بالأولاد ويوصلوا السبيل. والله العالم.

 

سنتحدث عن التطور والتكامل عند الحديث عن خلق الإنسان إن قدِّر لنا ذلك. وسنتعرف أكثر من اليوم على أسباب الخلق ولماذا أتينا ولماذا خُلق السماوات والأرض كلُّه أو الأرضون.

أما الظلمات الثلاث وهي بيت القصيد في هذا الحديث الذي يتمركز حول الظلمات ثم ينتقل لتطبيقها على ثلاث ظلمات في رحم الأمهات. فلو قدر لنا أن نعرف معنى الظلمات، هان علينا التطبيق هونا نسبيا. ولذلك فسوف نبدأ بذكر مقدمة ضرورية تعيننا على التعرف على مصطلح الظلمات في كتاب الله. لفظة الظلمات معروفة لمن يعرف معنى النور فهي عكس النور الذي نرى به في ظاهرها، ولذلك تمركز نقاش علماء التفسير حول المجالات المظلمة التي يمر بها الجنين فقالوا ما قالوا دون أن يبلغوا الهدف.

إنهم لم يوضحوا للناس معنى الخلق بعد الخلق وارتباطها بالمجالات المعتمة داخل بدن الأم. كما لم يوضحوا الفرق بينها وبين بقية المجالات والفجوات الداخلية ليميزوا بينها فكل ما تحت الجلد مظلم بالمعنى الذي قصدوه. لكنهم سعوا إلى اختيار ثلاث وحدات متناسقة ترتبط بالجنين وببعضها البعض، فشكرا لهم على سعيهم، تقبل الله منهم ذلك. لقد مات كثير من علماء التفسير وهم يظنون أنهم عرفوا مفاد الآية المعجزة، وليس لنا إلا أن نترحم لهم ونعذرهم فهي من المتشابهات التي يفسرها التطور العلمي، ولعل الأوان قد آن اليوم لبيانها والتطلع إلى أعماقها المليئة بالحقائق العلمية.

فأقول تكرارا: لا بأس بالاستهلال ببيان مختصر عن معنى النور والظلام في القرآن قبل توضيح معنى الظلمات ثم تطبيقها على حقائق الأجنة في الأرحام. إذا رأيت أن المقطع القادم من البحث غير مجد لك أو ممل أو غير مفهوم فاتركه وانتقل إلى أصل البحث. هذا المقطع مسور بهذه العلامة في بدايته ونهايته لسهولة التعرف عليه: << >>

<<لقد سمعنا الكثير عن الطاقة وأنها قوة طبيعية تنشأ من تحرك الأجسام، وخلق قوة يمكن أن تُستخدم للدفع والجذب أو الحرارة. هي في الواقع ليست كذلك، بل هي نتيجة تبدل القوة إلى قوة أخرى أكثر ملائمة لبلوغ هدف معين. فلو ننظر إلى الحيوان وهو يستخدم عضلاته ويُحرق مخزوناته الطاقوية لتحريك الناعورة التي تخلق بدورها طاقة تستخدمها لإخراج الماء من أسفل البئر وصبها في المجاري المخصصة. فالطاقة التي تنتجها الناعورة هي نفس الطاقة التي منحها إياها الثور أو الحمار من عضلاته ووقود هذه الطاقة الأصيلة هو خلاصة العلف الذي ابتلعه الحيوان وخزن آثارها طيات خلاياه الدموية التي غذت عضلاته لتحريك الناعورة. وقد فقدت هذه المجموعة من المتحركات مقدارا من الطاقة الأصلية في تحريك نفسها.

وبما أن العلم في حد ذاته غير قادر على فهم مصدر الطاقة، فإن العلماء يفترضون مقدارا من الطاقة موجودة في الكون وهي تتبدل دون أن تنفد. أما العقل يقول بغير ذلك فمقدار الطاقة التي تمتحنا الناعورة أقل من المقدار الذي صرفها الثور أو الحمار. هناك عمل تم وانتهى وهناك نتيجة لا توازي العمل فهناك عمل مفقود أخذ معه مقدارا من الطاقة وأبادها دون رجعة. لكن ما نراه من آثار عدم تناقص الطاقة فهو لأن الله يفيض الطاقة باستمرار وبشكل الرحمة العامة التي تنشر في الفضاء بمقدار حاجة المخلوقات. كل موجود بمقدار حاجته ينال من هذه الرحمة ليسد بها نقصه أتوماتيكيا، دون تدخل المتوسطين أو الشفعاء، وهكذا نشعر بأن الطاقة ما نفدت.الطاقة تعرف باسم النور في القرآن والعلم عند الله وحده. >>

والنور يظهر بأشكال مختلفة: منها الطاقة الضوئية فهي نوع من أنواع النور. أما الظلام فهو فقدان النور أو عدم النور بكل أو ببعض أشكاله. إذن كل شيء مظلم قبل أن يستلم النور. هو في  الواقع معدوم قبل أن يأتي نور الوجود بادئ ذي بدء. ولذلك فالظلام الأولي ليس شيئا إيجابيا يحتاج إلى خلق خالق وعلى هذا الأساس يقول الله في بداية سورة الأنعام: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} ولم يقل: أنشأ أو خلق  الظلمات والنور. فهو خلق النور في الأرض مثلا ليغطي على الظلام الأولي ولكنه يسلخ هذا الغشاء النوري الذي تتحسه عيون البشر بشكل الضوء يوميا من نصف الكرة الأرضية ليرينا بعض الظلام الأولي الذي كانت الأرض عليه قبل استلام النور.

والظلام الذي نراه في الليل ليس ظلاما كاملا. فهو ليس ظلاما أوليا بل مضاف إليه بعض الأنوار أو الطاقات الشمسية التي لا تناسب عيوننا فلا نراها ولكننا نلمس آثارها. فلو ندخل كل ليلة في الظلام الأولي لقتلنا البرد المساوق للظلام البدائي. ولذلك فهذا الظلام الثانوي مخلوق وليس بمعنى عدم النور المطلق. وهذا الظلام يسمى بالليل في القرآن ويخلقه الله كما في الآية 33 من سورة الأنبياء: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون}. ولا بأس بأن نفهم بأن الليل هو نوع من الظلمات تحقق بإضافة الطاقة الشمسية إلى الظلمات الأولية لتحولها إلى نور ونهار ثم سلخ الله غشاء الضوء المؤثر في عيون البشر منه ليحوله إلى ظلام دامس في عيوننا. كما يقول تعالى في الآية 37 من سورة يس {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون}. والنهار هنا بمعنى الضياء التي تتحسسها عيوننا، ولذلك يقول فإذا هم مظلمون. يعني به الظلام حسب إحساس البشر وليس الظلام الكامل الحقيقي.

وهناك في الوجود ظلمات صناعية أخرى، فإذا جاء النور أو الضياء لتضيء  مكانا معينا، فإن المكان سوف يشع نورا مادام الضياء في تشعشع. فإذا عزلنا منطقة داخل المكان المستنير وغطيناها بغشاء غير شفاف فإن المكان الفرعي سوف يفقد النور ويصبح مظلما. هذا الظلام ليس طبيعيا أو أصليا بل هو صناعي حاصل عن طريق حجب النور أو حجب الضياء. هذا الحجب المتعمد يسمى ظلاما أو ظلمات أيضا. هذه الظلمات الصناعية ليست مرتبطة بأصل حالة الظلام في الفضاء، بل هي ظلمات عارضة زمانا ومكانا، تزول بزوال الحجاب أو المانع. هذه الظلمات يعتريها العدد فيمكن أن نقول ظلماتين أو ظلمات ثلاث. ذلك لأنا لو أدخلنا خمس كرات جوفاء ذات غلاف سميك عازل داخل ذلك المكان المستنير فإن أجواف الكرات الخمس عبارة عن خمس ظلمات. فلا بد لنا من إضافة العدد على الظلمات بهذا المعنى.

لو عرفت هذا، أمكنك توسيع نطاق البحث ليشمل الطاقة بمعناها العام أو النور حسب تعبير القرآن الكريم دون الحاجة لتصور الطاقة الضوئية أو الضوء. كما أن العازل يمكن أن يكون جسما شفافا ولكنه يقوم بعزل نسبي للطاقة في جوفه، ولذلك فهو يمثل الظلام بصورة نسبية. إذن كل غشاء يسبب الظلمات ضد كل نوع من أنواع النور أو الطاقة. سواء في ذلك الطاقة الضوئية أو الكهربائية أو الأشعة السينية أو ما فوق البنفسجية أو غير ذلك. فلو أن شخصا دخل قفصا زجاجيا محكما فنحن نراه لكننا لا نسمعه. ذلك لأن الأمواج الصوتية لا يمكنها اختراق الحاجز الزجاجي ولكن الأشعة  الضوئية تخترقه.

وهذا معنى أوسع للظلمات فهي لا تختص بعدم الضوء ولا بعزل الضوء ولو جزئيا ولا بعزل الطاقات الأخرى كاملة بل تتحقق الظلمات بمجرد إضافة عازل نسبي يحول دون تبادل الإشعاعات مع الخارج بصورة كاملة وبحرية تامة.

ونظرة استطلاعية أخرى إلى الآية 40 من سورة ا لنور: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}. فالموج غشاء والسحاب غشاء وكل ما دون الموجين والسحاب ظلمات. أنظر كيف سمى الله الفجوات الحاصلة تحت الأغشية ظلمات. فكل غشاء تمنع اختراق الطاقة نسبيا فتقلص من الطاقة المتواجدة تحتها، تسبب الظلمات. والسحاب أو الموج لا يحجب نور الشمس كاملة فيسبب الظلام الدامس. أما عدم إمكانية رؤية اليد فهو في قاع البحر و/أو تحت الحجب الثلاث بمجموعها لا بأفرادها على ما يبدو. ولعل المقصود انتزاع الطاقات التي تساعده على الرؤية تحت قسوة الأمواج والمياه لقوله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور، والله العالم.

 

نتخلص من هذه المقدمة أن كل غشاء يسبب الظلمات تحتها و الظلمات ليست بالضرورة ضد الضياء بل ضد أية طاقة ولو نسبيا. إذا عرفنا هذا انتقلنا إلى أصل الآية للتعرف على الظلمات فيها.

 

لقد انكشف في هذا العصر أن الإنسان يبدأ حيوانا أو دويبة منوية في منتهى الصغر. إن الرجل بحاله ودون الارتباط بالأنثى يُكثِّر هذه الحيوانات بداخله، فهو عادة ما يحمل أكثر من مائتي مليون منها في جوفه. ومع كل ارتباط جنسي تتدفق عدة ملايين من الحيوانات المنوية ذوات 23 كروموزوم مفرد إلى رحم المرأة وتتوجه باتجاه البويضة. إن واحدا من هذه الحيوانات المليونية سوف يستولي على البويضة و يفقسها ليتحد معها. وأما طريقة الاتحاد باختصار فإن كلا من الحيوان المنوي والبويضة يحتويان على ما يقرب من مائة ألف وحدة وراثية (جين) موزعة على 23 كروموزوما متشابها في الشكل إلا واحدة من هذه الكروموزومات فهي مختصة بالجنس وتختلف عن شبيهتها لدى الأنثى. حينما يدخل الحيوان المنوي البويضة فإن البويضة الملقحة تقوم ببعض العمليات الكيماوية التي تقوي قشرتها لتمنع دخول أي حيوان منوي آخر ثم تبدأ توحيد هذه الجينات من خلال الكروموزومات وتكوين نواة خلوية جديدة مؤلفة من 23 زوج من الكروموزومات الجديدة التي تحتوي على خليط من صفات الأب و الأم ثم تبدأ الخلية المتطورة بتكثير نفسها مرورا على مراحل الانقسام  الفتيلي.

مع هذا التكاثر تتكون قبل كل شيء غشاءان تتلوهما غشاء ثالث ليصير مجموعها ثلاث أغشية على شكل أكياس وتسمى (Primary Germ Layers). ويكون تكوينها في حدود اليوم السادس عشر.  بعد ذلك تبدأ الخلايا بالتكاثر داخل هذه الأغشية بصورة منفصلة. هذه الأغشية وتسمى علميا:

          1) طبقة الجرم الداخلية    Endoderm

          2) الطبقة الخارجية من الجرم  Ectoderm

          3) الطبقة الوسطى من الجرم   Mesoderm

 

فالجلد والأعصاب والأوردة والأجهزة المختلفة (القلب، الجهاز الهضمي، الكبد وغيره) والمخ والعظام كلها تتشكل داخل هذه الأغشية الثلاث بداية ثم تأخذ مكانها في هيكل البدن بعد اكتمال أوليات الخلق داخل هذه الأغشية الثلاث. {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث}. هذه الأغشية الثلاث مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات. لذلك فلعل مسألة مشاركة الأنعام الثمانية المحللة أكلها لنا نحن المسلمين معنا في التكيف الخلقي لم تكن مقصودة في هذه الآية. لعل هناك سبب آخر لذكر الأنعام الثمانية هنا، وقد حاولت أن أعرفه لكني أعترف بالعجز وأدعو الله أن يوفقني مستقبلا لكشف هذا السر الغامض علي. مررت على احتمالات عديدة غير مستدلة فأحترز من ذكرها قبل البت النهائي. ذلك، عدا ما شرحته ببساطة في بداية هذا البحث، والله الموفق.

هذا ما بدا لي في تفسير هذا المقطع من الآية الكريمة والعلم عند الله وحده. أرجو من الأخوة والأخوات الأكارم الاحتفاظ بهذا الموضوع في ذاكرتهم فلسوف نعود إليه عدة مرات في المستقبل لتفسير عدد من الآيات القرآنية التي ترتبط بتطور وتكييف الخلق بمشيئة الله تعالى.

 

ويمكنكم الاطلاع على تنامي الجنين في الأكياس الثلاثة بالصور بزيارة هذا الموقع التعليمي:

http://www.med.unc.edu/embryo_images/unit-welcome/welcome_htms/akgs.htm

بالطبع فإني لا أنصح الذين يجهلون الثقافة الفسيولوجية بزيارة الموقع المذكور.

سيكون موضوعنا القادم بإذنه تعالى: "عهد الناس لربهم قبل أن يصورهم الله سبحانه".