و إبراهيم الذي وفى

 

قبل أن نخوض في موضوع إبراهيم الذي وفى وحتى يسهل علينا معرفة الحالة، يحلو لنا أن نفهم معنى آيتين أخريين تصفان حالة الإنسان الفاسد حين الوفاة وهما: الآية 50 من سورة الأنفال {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ، يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} والآية 27 من سورة محمد {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}. كلنا يعلم بأن الإنسان يموت وتموت معه وجهه وقفاه وكل بدنه فما معنى ضرب الملائكة وجوه وأدبار الكافرين حين الوفاة؟ وهناك آية أخرى ينسب الله العمل لنفسه وهي في سورة النساء: 47 {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت  وكان أمر الله مفعولا}. وطمس بالمعنى المتعدي يعني أهلك ومحا.

فالإنسان حينما ينفصل عن الجسد ويتجرد عن المادة يمثل موجودا أشبه بشحنة كهربائية أو عمود طاقوي يحمل كل الصفات التي كان يحملها حينما كان في بدنه ولكنه غير قادر على التمتع بهذه الصفات لعدم وجود بدن مادي يمتثل أمام إرادته. هذا الإنسان غير المادي والذي وجه نفسه وذاته وجهة عاش معها طوال عمره، سوف يفقد الإرادة أيضا وليس البدن فحسب. ومع فقدان الإرادة فإن الملائكة سوف توجهه الوجهة الصحيحة التي يريدها الله له وهو في طريقه إلى الخالق العظيم. فلو كان مؤمنا يحمل نفسا مطمئنة متوجهة إلى الله فهو سيبقى في نفس الوجهة التي وجه نفسه فيها ولكن الملائكة سوف تصحح هذه الوجهة لتأخذ المسار الصحيح. أما ولو كان فاسقا فإن الملائكة سوف تصرفه عن وجهته الباطلة التي وجه نفسه فيها.

وليس هذا العمل هينا على النفس فالتعامل ليس مثل تعامل الإنسان مع بدنه. حيث أنك تنقلب ببدنك رأسا على عقب بكل سهولة ولكن نفسك ليس كذلك. لو ننظر إلى موسى بن عمران ومواجهاته مع فرعون وسعيه لتوجيه نفسه الشريرة نحو الحق والعدل وإباء فرعون على تغيير مسيرته، فلعلنا نشعر المشقة التي تواجه فرعون حينما يموت وتقوم الملائكة بتوجيهه قهرا نحو الجهة التي سعى موسى إليها عشرات السنين فلم يفلح. سيعلم الإنسان لحظة الموت أنه كان مخطئا ولكن دون جدوى فالإرادة الشخصية معدومة ويقع الإنسان بكل وجوده تحت تصرف ملائكة الرحمن. لقد صبروا طويلا مع هذا العبد الآبق وجاء دورهم لتوجيه الضربة القوية القاضية لهذا الشخص الفاسد وإرغامه على ترك كل ما فكر فيه في لحظة واحدة.

هكذا ينقلب المرء على عقبيه فيمحى وجهته وإرادته الشخصية بصعقة محرقة من الملائكة الموكلين به لتبلغ نهاية آماله ومنوياته وأهدافه الشخصية فتضربها بالصاعقة المميتة والمهلكة. سوف يؤمن بالله بكل وجوده ويتمنى لو يُتاح له الفرصة لعبادة ربه والسجود له والخضوع أمام عظمته. لقد رأى موسى صعقة مشابهة حينما طلب من الله أن يُريه نفسه فقال بكل قلبه: تبت إليك وأنا أول المسلمين. هي الضربة التصحيحية وليس الضربة الانقلابية. لعل هذه هي صورة التعامل مع النفوس المجردة. والعلم عند الله. 

 

أما اللعن الذي حصل لأصحاب السبت من اليهود فهو حالة من حالات النفس يوم الوفاة حيث تحولت نفوس بعض أولئك النفر إلى نفوس القردة كما تحولت نفوس آخرين إلى نفوس الخنازير حين وفاتهم. وأما جملة وعبد الطاغوت فهو برأيي معطوف على من لعنه الله. يعني من لعن الله ومن عبد الطاغوت. ولعلهم هم الذين يتحاكمون إلى الطاغوت من المنافقين. والخطاب للنبي ليقول للمؤمنين: هل أنبئكم بشر من الفاسقين الذين ذكروا في الآية  السابقة جزاء عند الله. وعند الله يعني بعد الموت حيث ينتقل الإنسان إلى الله وذلك بخروجه من عالم المادة إلى عالم المجردات. والعلم عند الله.

 

وأما إبراهيم الذي وفى:

يمضي الإنسان عمره وهو في طريقه إلى الله، فيتابع الفطرة التي فطره الله عليها ولا يحول عن ربه أو ينحرف عن جادة الحق والصدق ويتبع أهواءه. أما الذي ينحو السبيل المستقيم الموجه من قبل فطرته فهو يسلم أمره إلى الله ولا يحيد عنه قيد أنملة حتى تحضره  الوفاة. وأما الذي يتبع أهواءه ويخضع لوساوس الشيطان فهو ينحرف عن جادة الفطرة التي رسمها له الخالق الرحيم ويُولي الحق دبره ليستقبل الباطل.

 وما هي الوفاة؟ إنها تمثل تسليم الإنسان وإخضاعه لربه بعد أن تُسلَب منه الإرادة بالكامل. كل الناس بأنبيائهم ورسلهم يتعرضون لتصحيح الوجهة باتجاه الله تعالى ولكن كل منهم بمقدار. أما إبراهيم فقد سلم نفسه وأمره إلى الله كاملة حينما أقدم على قتل ابنه إرضاء للجبار،/ حتى أنه لم يطلب من الله إمهاله أو يرجوه سبحانه إعفاءه من هذه التضحية التي تفوق التصور في صعوبتها.

حينما حضر إبراهيم الوفاة فإن الملائكة لم يروا فيه أي انحراف ليصححوه فكان هو في الاتجاه الصحيح وكانت إرادته خاضعة لأمر الله تماما فلم يكن هناك معنى لسلب هذه الإرادة. لم يكن إبراهيم موجودا خلف هذه  القوة بل كان الله حاضرا قبل أن يموت إبراهيم. فإبراهيم هو الذي وفى بنفسه ولكن بقية الناس تتوفاهم الملائكة. والله العالم.

ولعل هذه الآية أكبر شهادة في حق إبراهيم من ربه ولم يذكره لأحد من أوليائه غيره. ولا أدري ما هو الأمر بالنسبة لحبيبنا المصطفى فقد توقف الوحي بعد وفاته ولا نعلم حاله ولكن الله سوف يُعلمنا يوم القيامة عن فضله وعن موقعه بين النبيين. نحن بالتأكيد لا نعلم الفضل الكسبي للطيبين. والفضل الاكتسابي هو الذي يخول الإنسان لدخول الجنة. وأما فضل الله الممنوح لهم فهو لا يخولهم دخول الجنة بل يزيد من دقة محاسبتهم لأن الله عادل ينظر إلى كل الخلق بمنظار واحد. ولعل إبراهيم هو سيد الأنبياء في كوكبنا يوم القيامة والعلم عند الله. وسلام على المرسلين جميعا لا نفرق بين أحد منهم ونحن لله مسلمون ولخاتم أنبيائه مطيعون.

 

كتبت هذا الموضوع الشائك بكل اختصار ووضوح إنشاء الله وأرجو من الله أن يُلهم من يقرأ هذا الشرح المقتضب المعرفة والدراية ومع كل ذلك فلو رأى أحد صعوبة في فهمه وأعلمني فلعلي أتوسع في شرحه إياه. وإني كما قلت بانتظار من يصحح أخطائي فالله وحده لا يُخطئ ولا ينسى. نحن إليه تائبون عابدون ولفضله راغبون ولرحمته تائقون وهو وحده المستعان وعليه التُكلان.

 

وسوف يكون موضوعنا القادم "ليلة القدر" بإذن الله تعالى.

 

أحمد المُهري

 29 نوفمبر 2001