الإثم الأكبر

          لقد أحيط الإثم الأكبر كما أحيط الآثم الأكبر في ملف الغزو العراقي  للكويت  بالنسيان وللشعب (كما تبتغيه الحكومة) أن يتذكر الثاني من أغسطس  ليكيل اللعان على الغازي، ويصب أضعاف اللوم وأحيانا اللعن على الذين بقوا  في الكويت أحياء لم يقتلهم الغادر صدام، فكما تراه السلطة أنهم لو لم  يكونوا متعاونين مع الغزاة لفروا مع الذين فروا أو قتلوا مع من قتلوا  ليضخموا سجل شهداء معركة التحرير، تلك المعركة التي خاضتها حكومة الكويت  وخرجت منها ظافرة منتصرة لتعيد الكراسي القديمة إلى أصحابها الذين  (يستاهلون). هكذا تصاغ تهم التعاون مع الغزاة ضد أبطال الصمود. أولئك  الذين ندين لهم بكياننا وبوطننا وبكل ما استرجعناه من عزة وكرامة. هم  الذين استغاثوا بالعلي القدير بقلوب مؤمنة راضية بما قدره الله لها  فاستحقوا النصر ..وما النصر إلا من عند الله.

 

          الهاربون، الذين صنعوا صدام وصنعوا الغزو، الذين نسجوا صورته  البشعة على السجاد المؤطر وعلقوها على حيطان مكاتبهم بكل فخر واعتزاز ببطل  القادسية الذي علمهم كيف يعذبوا إخوانهم ليبقوا وكيف يخدعوا الناس ليأمنوا  مكر الناس. هؤلاء هم الذين تثق بهم السلطة في الكويت لحفظ الأمن حتى بعد  التحرير. قبل أيام داهمت زبانية أمن الدولة منزل اثنين من البدون الذين شهد  لهما الصامدون بوقوفهما ضد السلطة البعثية وفرارهما من ملاحقة الأمن العراقي  الساعي لإلحاقهم بالجيش الشعبي حتى منّ الله عليهما وعلينا بانتهاء المحنة،  لكن أمن الدولة أبت إلا أن تطالبهما بالخروج من الكويت تحت ضغط السجن  والتعذيب. ولما عرض موضوعهما على أحد كبار متخذي القرارات العليا في  الكويت أشفعه بالتأييد الأعمى لكل من في أمن الدولة ولكل ما يأتون به. هكذا  يصدون الشعب ونواب الشعب من الاقتراب من صفحات كبار الآثمين في ملف الإثم  الأكبر. هذا ما حصل بعد فوز الشعب على السلطة في مسابقة البرلمان، وهذه بداية  المآسي ما بعد البرلمانية. إن حكومتنا تتقي الزوبعة بأكواخ القش حينما تعلن  الثقة العمياء في شرار أمن الدولة، تلاميذ صدام حسين وأتباع موسولوني. بمن  احتميتم وأمنتم؟ يسهل على هذا الذي لا يخاف الله أن يشريكم ويأتمر ضدكم إذا  خاف على نفسه أو أطمع في أمان أكبر مما آتيتموه.

 

          ليس من حق الشعب الكويتي أن يطمع في نظرة فاحصة دقيقة إلى الأخطاء  الكبيرة التي ألقت بالكويت بين فكي التنين الهائج ثم لم تتخلص منها إلا بعد  أن انكسرت ضلوعها وتهشمت أطرافها ويا ويحي على أسرانا الذين لا زالوا  يصارعون الموت في أجواف حيتان الرافدين. نحن بحاجة إلى كشافات تشع على  الذين وثقوا في صدام متجاهلين بعناد نصح الناصحين حتى نتمكن من دراسة  الأسباب الحقيقية بجدية ونتحصن ضدها. أما إذا تركنا الأمر للسلطة حتى تراجع  وتصحح أخطاءها فقد تركناه لها من قبل فكبت في قراراتها المهزولة حتى انكبت  على وجهها وانكبت معها كويتنا الحبيبة. وما يدرينا أنها لا تكبو مرة أخرى  ونحن نراهم عادوا على ما تعودوا فهل نأمل الغيث من يوم لا سحاب فيه؟

 

          ثم ماذا نجني من بلبلة ملف الغزو قبل أن نتفق على مبدأ للعقاب  الرادع؟ هل ينقصنا معرفة الأخطاء حتى نستكثر علما بها أم هل يروي ظمأنا  اللوم والعتاب أو الانتقام فنواجه ردة الفعل  ونمتع عدونا بانشغالنا  بأنفسنا؟ إن نريد إلا اتقاء المكائد و المصايد صونا للكويت ولأهل الكويت.  فلنبدأ بدراسة القوانين الضرورية لدرء  المكاره والشجون عن أهلنا ونتخلص من  الذين يثيرون الناس اليوم ويقلقونهم باسم الأمن والذين يؤذون أصحاب الحوائج  في مختلف الوزارات والدوائر الحكومية والذين يطردون سواعد الأمة ليغطوا على  أخطائهم وأخطاء أسيادهم بالخبث والشراسة. لنخوض مواطن الجهل والسذاجة في  مجتمعنا الطيب بنشر العلم والوعي وبتشجيع الناس لممارسة حقوقهم  الديمقراطية تمهيدا لتشكيل المجتمع الديمقراطي الذي لا يتكل على الحكومة  والنواب بل يراقبهم ويصحح أخطاءهم. إذا كان علي بن أبي طالب يقول: وأما حقي  عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب. هذا يعني في عمق ما يعني  أن الأمة هي التي تختار الرئيس وتستمر في إرادتها باستمرار البيعة وتراقب  السلطة بالنظر إلى كل قراراتها وأعمالها فتعرف مواطن الخطأ لتقوم ببذل  النصح لها مباشرة -عن طريق النواب مثلا- وغير مباشرة -عن طريق الإعلام مثلا-،  وهو ما يمكن أن تعنيه النصيحة في المشهد والمغيب. فكيف بحكومتنا نحن التي  تجهل أحكام الله وتجهل كثيرا من الأسس العلمية لإدارة البلاد. ألا وان السلطة  عندنا أحوج ما تكون إلى المراقبة الشعبية المستمرة والتي لا تتأتى بغير  تشكيل المجتمع الديمقراطي.

 

          نوابنا الكرماء: لا يشغلنكم النظر إلى المراسيم الأميرية التي غزلتها  الأصابع الديكتاتورية طوال فترة إخفاء البرلمان عن النظر إلى ما يتطلع إليه  الذين انتخبوكم أو الذين حرمتهم السلطة -ظلما- من المشاركة في التصويت لكم.  ابدءوا بتشريع الضروريات قبل أن تفتحوا الملفات القديمة. أنتم تمثلون الشعب  الكويتي فلا تستخدمكم السلطة لتشريع تخلفاتها الدستورية كما فرضت عليكم  بادئ ذي بدء قبول المنبوذين في حكومتها. إذا غفرت لكم الأمة هذه الزلة أو  أعذرتكم فإنها تتوقع منكم المزيد من المكاسب الديمقراطية والمزيد من  الحريات والمزيد من إعادة الحقوق المهدورة. هذا الشعب غير راض عن حكومته ولذلك  لم يصوت للنواب الحكوميين بل انتخبكم أنتم الذين أقمتم المحاضرات والخطب  المعارضة للسلطة. بادروا بالتشريعات الديمقراطية التي تضمن للكويت بقاءها  وللشعب الكويتي حقوقه قبل أن تتمكن السلطة من فك اتحادكم الخير الذي  أقمتموه رغبة في تحقيق أماني أمتكم الكريمة. اهتموا بزحزحة مراصد الخوف  التي أقاموها باسم الأمن قبل أن يستولي الفساد والظلم على أبنائنا وبناتنا  فيحق علينا القول ليدمرنا الجبار العظيم ويرسل إلينا عاصفة عاد وثمود.

 

          إخواني النواب: إن الحكومة لا تحتضن الدستور إلا تكريما لمادة واحدة  فيه وهي مادة الإمارة وبقية المواد ليست إلا عراقيل تحد من السلطة المطلقة  التي يتوق لها المسيطرون. تتمنى السلطة أن تعيد كتابة الدستور الكويتي  وتقرمطه في سطر واحد هو الاعتراف النيابي بحق السلطة في تشريع ما تشاء وتنفيذ  ما تهوى فحسب. ألا ترونها تداعب الحركة البرلمانية بالسماح بها فترة قصيرة  ثم تصدها سنوات، ثم تسمح بها مرة أخرى لتشرع مظالمها الديكتاتورية ثم تصدها  بعد حين وهكذا دواليك. اليوم أيقنت السلطة أنها قادرة على تنفيذ رغباتها رغم  إرادة الشعب حينما أدخلت المنبوذين في الحقيبة الوزارية وسوف تسعى جادة  لبلوغ مآربها كما كانت تفعل من قبل ثم من يدري متى تعيد إقفال البرلمان مرة  أخرى. كل ما نظنه انعكاس لما علمتنا الدولة  بتصرفاتها المعروفة بيننا.  نحن لا نكيل التهم عليها بل نستبق الحوادث بما عرفناه عنها.

 

          إذا كانت السلطة معتمدة على المال والسلاح فأنتم تعتمدون على  القاعدة الشعبية الغنية وعلى حماية خالق الشعب الكريم الذي يحب خلقه، فلا  يخيفنكم تقلب الظالمين ولا يغرنكم مآدبهم الدسمة أن تبتعدوا عن الذين  أوصلوكم إلى بيت الشعب. ذلكم هو الشعب نفسه. حتى الذين دخلوا الوزارة منكم  فهم نواب قبل أن يكونوا وزراء. إذا احتمت السلطة بكم لتنفيذ مآربها فلأنكم  نواب الشعب الكويتي ولأنكم موضع ثقة الأمة وحامل أمانتها. فالله الله فيما  وعدتمونا، لا تخلفوا وعدكم ولا تشتروا به ثمنا قليلا. إن أحضان الأمة أحمى من  الحضرة السامية وأحلى من الوعود المعسولة. استمروا في الالتقاء بجموع الشعب  لتقفوا على مطالبهم وتطلعاتهم فتتخذوها منهجا لمسؤولياتكم النيابية. وأخيرا  اغفروا لكبار الآثمين إثمهم إذا أذعنوا للمراقبة الشعبية وأقروا بحق الأمة في  تقرير مصيرها ولا تحاولوا كسر السياج المحيطة بهمزات الغزو فالمسببون هم  أصحاب السلطة ولا سبيل إليهم. انهم يضحّون ببعض موظفيهم إذا أصررتم فاتركوا  ما لا تقووا عليه للقاضي الديان جل جلاله.

 

          وختاما أرى لزاما أن أوضح لبعض الاخوة الذين يظنون فيّ التشاؤم  بأنني لست كذلك، بل أرى أن الهوّة فوقنا إلى الديمقراطية لا زالت  سحيقة،  وتعبئتها لبلوغ المستوى الدولي تحتاج إلى سرعة غير مألوفة في التحركات  الاجتماعية والسياسية. أنظر إلى الدستور الأمريكي الذي عمر القرون أو الفرنسي  الذي خلف الأعقاب والأتباع أو البرلمان الإنجليزي الذي يدنو من الألفية، وانظر  إلى الكويت. متى يمكننا أن نلتئم بهم ونهبط على مدرجاتهم فلا نصفر عند  وجوههم خجلا إذا تسمينا بالديمقراطيين ولا نحرم من التشبث بحضارتهم ومن  مماشاتهم جنبا إلى جنب. تاريخ الديمقراطية في الكويت غير مشجع حيث لم تبدأ  بعد بالتحرك الصعودي بل تسير في خط أفقي تتعثر تارة وتقوم أخرى. كلّما  أهدف -وأنا مستعد لكل التضحيات في سبيله- هو أن يتوجه الشعب الكويتي نحو  الأعلى وبالسرعة المعقولة ليتقدم تدريجيا ولكن بخطوات واسعة وكبيرة. أنا لا  أبتغي لوطني العزيز أن يطفر نحو الديمقراطية ففي ذلك أخطار يتعذّر احتسابها  ولعل تجنبها يغدو مستحيلا. لقد رأيت هذه القفزات ولمستها لدى بعض الشعوب  في مشاهداتي السياسية والاجتماعية وأبصرت معها تراجع تلك الشعوب إلى  الوراء. إنني أعوذ بالله من أن تزداد حدة الراديكالية في بلدي فيصاب  الطبقة الشابة بلهفة التغيير ليقوموا بقذف المجتمع الكويتي باتجاه المجهول  وبسرعة الصواريخ التي تدمر نفسها قبل أن تدمر غيرها وكلاهما تدمير لا تعمير.  هذه النظرة البعيدة وتلك الوضعية البائسة تشغلان قلمي حتى يتوسم بالحرارة  و يقمصني رداء المتشائمين.

 

          دعوتي للتحول الديمقراطي لا تعني التحول الثوري، وانتقادي لجهاز  الحكم ليس بغرض الدحر والقلب، بل أعني وأقصد التوجيه الصحيح والموصل  للمسيرة السياسية والاجتماعية و إبعاد اليأس من صدور أبناء وبنات الديرة ثم  غرس اليقين والطمأنينة في أجوافهم فلا يتخلّوا عن مطامحهم المعقولة ويثبتوا  عليها واثقين بالصعود الى مرتقاها على أجنحة الديمقراطية. والسلام على من علم  وعمل.

                                                         أحمد المُهري

                                                          2/11/1992

نشرت في مجلة منبر الحرية الصادرة بلندن في عدد نوفمبر من عام 1992.