أسرانا منّا

            هل يسعدنا تحرير  أرض الكويت وأجوائها وأغلال البعث تكبل أبناء  الكويت وبناتها في العراق ؟ هل نهنأ بالطيبات والذين استقاموا وثبتوا بإباء وعزم جياع عطشى حول الفرات؟ أمن العدل يا من استعجلتم بتبديل أرائك القصور وتذهيب ستائرها أن ترفلوا وترقصوا وأعزاؤنا الذين حرروا الوطن يربطون الليل بظلام السجون في النهار ويقضون الشتاء بملابس الصيف؟ رأينا قسوة الحكم الصدامي ولمسناها، وهكذا فنحن لا نجهل معاناة بني جلدتنا تحت رحمة الذين  مسخوا وحوشا لا يشعرون. أما حكومتنا فقد عملت الكثير لإنقاذهم، صبغت ذيول الباصات وأطراف الطائرات وزوايا الإعلانات وو... واستنكرت الأعادي وتحدثت عنهم كثيرا في إذاعات الكويت وتلفزيوناتها وجرائدها ومجلاتها ووو. لكن الرأي العام العالمي لم يهتز لصالحنا وصدام احتفظ بهم بين الحياة والموت  إلى اليوم.

 

          كنا ولازلنا نجهل لغة بقية الأمم، ثم كنا ولازلنا نجهل لغة السؤال من رب العالمين. نحن نتحدث إلى أنفسنا فنستسيغها لغيرنا دون أن ننتبه لدوافع  القبول عندنا؛ تلك الدوافع التي لا تتجاوز منطقة مصالحنا وهمومنا الشخصية.  نظن بأن الله هو ربنا أكثر من أن يكون رب غيرنا وأنه تعالى يربط مصالح الكون ومصير الشعوب بما تشتهي أنفسنا وتلذ أعيننا؛ شأننا في هذا المضمار  شأن بعض الشعوب التي تظن في نفسها أنها مختارة مميزة عن الآخرين. لقد غرّنا التحالف الدولي لتحرير الكويت حتى ظن بعضنا أن ما حصل كان إكراما لأصحاب الألقاب بيننا أو محض تعاطف مع شعب مظلوم حرم مؤقتا من التمتع بخيرات الكويت دون حساب. كل ذلك ونحن نرى الذي أزاح جبل الشيوعية من على صدر الرأسماليين وبدد أخطارها، يتهادى من مطية العزة ليخرّ حديثا يملأ ليالي الشتاء الطويلة في الغرب، دون أن يردّ الغرب إحسانه بالمثل عدا أبيات الثناء ولقلقة التشكر الشفوي. ذاك هو جورباجوف منقذ أمريكا وأوروبا وأكبر صديق للرئيس بوش. فكيف بنا في أسرانا الذين لا يملكون ولا نملك بيذقا في  شطرنج السياسة الدولية ونطمع في اهتمامهم بقضيتنا.

 

          اذا توازت مصالحنا معهم فهم بثقلهم يساندوننا وإلا فلا. غزو الكويت ضربت منافعهم فضربوا الغزاة، لكن الأسرى الكويتيين تهم الكويتيين وحدهم فلا  يعبئوا بهم. لو أن الشعب الكويتي -عدا أسر المفقودين- وحكومته يهتمون حقا  بمن منهم في الأسر واستعدوا للتضحية -ولو مادّيّة- في سبيلهم لما بقي أسير في العراق. جدية الحكومة تتبلور في إيقاف كل المشاريع حتى عودة الأسرى،  حينذاك تتأثر المصالح الغربية فتهيج الضمائر الإنسانية وتتألم دون أن تهدأ حتى يلج الجمل في سم الخياط أو يعيد صدام أسرى الكويت صاغرا معتذرا! وجدية الشعب تتضح في المطالبة بذلك وفي إعلان الاعتصام عن الترفه وعن شراء السلع وركوب الطائرات والتمتع بالتسهيلات الغربية حتى إكراه البعثيين لإزالة جميع آثار الغزو. هكذا وليس بغير هذا تتوازى مصالحنا معهم فيهتموا بنا.

 

          إني أرى سياستهم صحيحة ومعقولة، وإذا أردنا استيعاب ذلك فما علينا  إلا أن نتبادل موضعنا معهم، فلو حدث ذلك، لكان موقفنا أخذل بكثير من موقفهم تجاهنا. نحن لسنا من أقربائهم ولا من شركائهم ولا من دينهم فلا حافز لتعاطفهم معنا، ولم يتعاطفون معنا؟ من أجل سواد عيوننا! كم واسينا الذين هم منا، لكنهم لسوء حظهم حرموا من الجنسية، وكم أشفقنا على العرب الذين أخرجوا من ديارهم من بني آبائنا الفلسطينيين الذين خدمونا بكل إخلاص لقاء لقمة عيش فحسب، كم ساعدنا جيراننا الإيرانيين المسلمين الذين أمطروا مطر القنابل والصواريخ العراقية طيلة ثمان سنوات، وأخيرا ما الذي قدمناه لأسرانا من تضحيات وأموال  طلبا لخلاصهم؟ لو فعلنا ذلك بجدية لكان احتمال الرحمة الإلهية حسبنا ولكن...

 

          أما إلهيا؛ فان الله جل شأنه يأمر أنبياءه بأن يخرجوا إلى الجبال والقفار ثم يطلبوه ليجيبهم، لكننا ناديناه نائمين على أسرّة المسرفين ودعوناه في أردية المبذرين وهو يكره ذلك فلم يعبأ بنا. لو فرضنا أن الدعوات قد حررت الكويت فهي التي رفعها أبطال المقاومة حينما لبسوا الأكفان وخاضوا عباب الموت بإيمان وإخلاص، لا دعاء الذين انتقلوا من قصر إلى قصر ومن نعيم إلي نزهة في عواصم الغرب والشرق. القليل من الذين اختاروا ترك الكويت، كانوا في طور يرضي الرحمان ويجلب رحمته. بحق أقول -وأنا أحب الكويتيين جميعا بلا تفريق- أن لباس التقوى لم يتجلى على مظاهرنا وظواهرنا حتى في حين  الغزو إلا قليلا، وانّ آثار الخوف من سوء الدار قد اختفى من وجوه غالبية  الكويتيين بعد أن اجتازوا مناطق نفوذ البعث وتسلموا الإعانات الحكومية. لو كانوا يخافون الله لكان ما تسلموه من حكومتهم يتقاسمونه مع فئة البدون -غير العسكريين- الذين حرموا من التمتع بخيرات وطنهم ظلما وعدوانا. ولنعم ما قال  سيدنا الإمام الحسين عليه السلام: "الناس عبيد الدنيا والدين لعق على  ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون".

 

          بني وطني وبناته: أخاف عليكم وعلى نفسي عذاب الدنيا قبل جحيم الآخرة  وأخشى من تشريد لا يرافقه المعونة الحكومية ولا تعاطف الشعوب الأخرى وأحذركم  ونفسي بما حذرنا به القرآن: "فذرهم يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون". كونوا جادّين في قضاياكم واهتموا بإخوانكم فان الله قد اختبركم بهم. لعلّ البدون والأسرى وبقية المظلومين هم حجج الله عليكم ليذيقكم العذاب باستحقاق وعدل فاتقوه قبل أن يحق علينا القول فيدمرنا تدميرا.

 

 

 

                                                أحمد المُهري          

 

                                                            1/3/1992

 

نشرت في مجلة منبر الحرية بلندن عام 1992