عوامل الاضطراب الأمني

يتولى (الملك المقرب عزرائيل عليه السلام) تنظيم شؤون السفرة الأبدية المحتومة لكل البشر، تلك السفرة المرعبة التي تهز كل ذي شأن وتبهت كل متكبر جبار، فهي أكبر مصدر -على الإطلاق- للاضطراب الأمني الذي يضع أكبر ثقله على قلوب الزعماء وأصحاب السلطة المشغوفين حبا لأنفسهم وذواتهم. لكن الموت يمثل روتينا طبيعيا محاطا بالغفلة وعدم الاكتراث قبل أن يدق الأبواب ويقرع الأجراس. تأتي بعده بفاصلة كبيرة جدا، عوامل الاضطراب الأمني التي تسببها البشرية لنفسها ثم تئن من ويلات ما جنته يداها وحملها أفعالها وأعمالها وأجهزت عليها تصرفاتها. فهي ثمرة الحرمان والطبقية الجافية وطبخة الظلم والاستهتار التي تعكس سورة الحقد وجلبة الانتقام. إنها بثرة الغضب وسقامة  الأذى بعد الأذى والزور تلو الزور.

 

  إن سياسة الأمن بالقهر جرّت السلطة الكويتية لأن تشرع المفاهيم والقيم حسبما يحلو لها، ثم تدافع عنها بالقوة البشرية المتراكمة الواقعة  تحت إمرتها مثل الشرطة والجيش والحرس وبقية العساكر. هؤلاء العسكريون المنفذون للأحكام وأولئك القاطنون في البلاد لا يؤمنون بالمفاهيم التي صنعتها شهوة أصحاب السلطة ولا يستسيغون الدفاع عنها لأنها تمس وجدانهم وضميرهم  الحساس أو تمس مصالحهم ومصالح من ينتمي إليهم من الأفراد الذين صدر ضدهم  الأحكام والقرارات المهزولة. وحينما اتسع خرق الفوضى وتتابعت ضربات الشغب حتى كادت أن تتحول إلى ظاهرة يتعذر إيقافها أو تشتد قسوة وشرا، فكرت السلطة  في أن تخلع عن الناس أسلحتهم التي ضموها ليدافعوا بها عن أنفسهم إذا ما  أدبر حماة الوطن عن الوطن عندما تطبق الشدائد أنيابها على الأعراض والأنفس والأموال. كذلك إذا ما عاد أمن الدولة إلى ممارساته التعسفية أو أبى  الحاكمون أن ينتصحوا وجاء وقت الكيّ لا سمح الله. أولم يأن لكم أن تعلموا أن هذا الشعب جاد في ما يقول وعازم على تقييد السلطة لديكم وتثبيت مشاركته في  الحكم؟ كما هو عليه الذين أذهبوا عنكم الخوف وأعادوكم آمنين إلى حضن الوطن.

 

  ماذا نكتب؟ وكل ما نكتب ونستنتج من تعليمات ونصائح نذكّر بها  مجتمعنا حاكمين أو محكومين فهي ليست أكثر تعبيرا عن الواقعيات من حكاية  الغزو الذي أراده الله لنا لعلنا نتذكر أو نخشى. لقد شهدنا إذ ذاك أن الأمن هو أمن إخواننا الحاكمين لا أمن الشعب الكويتي وضيوفه المقيمين في الكويت. النظام الأمني والاستخبارات أوصل الحاكمين إلى مأمن الطائف ساعات قبل أن تقع  عيون أهل الديرة على أشباح السراة الهائجين. كان الناس مطمئنين على خيال  العيون التي تسهر لأمنهم؛ لكن هذه العيون كانت تسهر على أمن الجمع الهارب دون الذين لم يأتهم الحذر قبل قرقعة الطلقات ودوي النفاثات. كل ما نراه  اليوم من خوف واضطراب ليس إلا ضربة رادفة تتبع زلزال الراجفة، فكما أن  تخبط البحارة وغفلة الربان عصفت بأمن الوطن في الأمس، فان شدة التخبط وازدياد الغفلة ستمحو مفهوم الكويت إلى الأبد، كما دمر الجبار القدير أمما من قبلنا وجعلهم أحاديث لمن بعدهم. ما إن أرى إلا أن نقوي الهمم ونشد  العزائم لتلقف أسباب الطمأنينة ودحر عوامل الاضطراب الأمني المحيط بنا من كل جانب.

 

  التدرج الأناني في تطلعات الإنسان، ذلك التدرج الذي يغري صاحبه لتضييق حلقة الاهتمام شيئا فشيئا حتى لا يفكر في غير نفسه؛ هو نفسه الذي أحاط بعقول زعمائنا فنسونا عند البلاء ثم نسوا أهلهم ومن يلوذ بهم حينما اقترب  الخوف وطبّل القلب بين عظام الصدر مضطربا اضطراب الدلاء في أعمق الأجباب، هنالك لف بهم الرعب حول ظلال أجسادهم المترجرجة، فهاموا في البيداء ملتصقين بمقدمات سياراتهم التي طارت بهم في ظلمات الليل الأليل. عاد الهاربون وقد  أمسكوا بالعصا التي تحمل جثة الثعبان المقتول منسدلا على طرفيها، يقولون:  قتلنا الثعبان. ألا ليتهم يحتسبوا بذلك؛ كلاّ، بل تلقفوا أبناءنا من البدون وغيرهم يصنعون منهم هياكل لصدام، فيحاكمونهم أو يطردونهم سخطا على حارس  البوابة الشرقية! ألا تخشون القوي العزيز أن يقضي عليكم بالمحن والويلات على ما  فعلتموه قبل اختبار الاحتلال وبعده؟ ماذا إذا استدرجكم الحكيم العادل بأنكم تستصغرون شأننا نحن شعب الكويت  الذين يبكون شهداءهم ويحنون لأسراهم ولمن اختطف من أبنائهم وبناتهم؟

 

  السياسة العليا في الكويت هي أن يوزع الناس فرقا طبقية ممسكين بطائفة منهم يدكونها دكا فتنادي: هل من ناصر ؟ لكن ليس في الكويت من ينهض  لنصرة الصريخ المظلوم، فلا ملجأ سوى إلى الحكومة نفسها. سوف تنقلب هذه  الخطة إلي عبء يعسر أنفاس المنفذين وهم في غفلة من ذلك. لقد فشلت هذه السياسة التي واكبت سلطان كثير من الذين مضوا وهي لو تعزز سلطة بعض الحكام  اليوم فسوف تفشل قطعا في عصر المنطق الذي نعيشه. القرآن الكريم كشف لنا الغطاء عن سياسة فرعون قبل آلاف السنين "إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها  شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، انه كان من  المفسدين"  ثم مكن الله الذين استضعفوا من بني إسرائيل على فرعون وقومه و سلطهم عليهم في ما بعد، فاشلا بذلك خطة فرعون ومخيبا آماله التي أغرقها معه في قماقم البحر. لذلك يشق علينا أن نراكم تسندون الحكم على عصا التفرقة بين الرجال والنساء أو بين من فازوا بالجنسية الأولى في اقتراع  التوطين ثم الثانية وبين من حرموا منها أو بين الشيعة والسنة أو بين آل  الصباح وآل غير الصباح أو بين القدساوي والعرباوي. هل بدا لكم أن التفرقة  أساس متين للحكم في الكويت فلا تقبلون عنها بديلا؟ ما الذي حداكم على فكّ  حبل الألفة والوئام بين الذين رضعوا من ثدي الكويت وحدها وما الذي ساقكم  إلى التصعيد في تطبيق سياسة التفرقة الممقوتة بعد التحرير إلى حد التفريق  الجسدي بين الموظفين الوافدين وبين أزواجهم وأولادهم؟ ليتكم تسمعوا كلام  الله حيث يقول: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، أولئك لهم الأمن وهم  مهتدون". فكيف تبحثون عن الأمن في مسلك الظلم؟ هداكم الله وإيانا.

 

  لا يمكن أبدا لحكومتنا أن تفرض الأمن المصطنع على أهلنا من بعد عثرتها في تمويل الغازي قبل أن يغزو، ولا يمكن للقهر أن يقوي سلطانهم علينا.  وإذا كان لص بغداد قوي على مدّ سلطانه بالظلم والإرهاب، فان الشعب الكويتي  ومقومات الكويت غير الشعب العراقي ومقومات العراق، ولو قدر الله لذلك الشعب المظلوم أن ينتصر على ظالمه فما سيحيق بهم من عذاب سوف يفوق الذي أصاب الشعب العراقي على يد الزمرة الفاجرة، فلا قدوة فيهم. نحن لا نضعكم موضع تلك الشرذمة التي لا تعرف غير الفساد لكننا نخاف عليكم بأنكم منا ونشفق على الذين قسوا منكم وندعو لأكثركم بالهداية والصلاح ونقول لكم: إن معالجة  الإرهاب بالقسوة في الظلم هو إرهاب حكومي وليس علاجا أمنيا والنتيجة بعكس  ما تظنون والله يقول: "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله".

 

  لا داعي للسعي وراء عزل شعبنا من السلاح، إذ أن الأمن لا يتأتى بذلك.  إن أسلافنا كانوا لا يبيتون إلا بأسلحتهم، لا يفارقونها قطعيا. واليوم تباع الأسلحة بحرية في كثير من دول العالم بما فيها بعض الولايات الاتحادية في  القارة الأمريكية. إن أخطر الإرهابيين في العالم يحملون أحدث الأسلحة فما بال  شعب صغير فاجأه زبانية البعث وهو لا يراكم تحمونه كما لا يرى في حيازته ما يدفع به الشر والأذى عن أسرته. ليست الأسلحة عاملا للفوضى و إنما الاستبداد  والحكم العشوائي والقبلي هو مصدر الاضطراب الأمني في شعب يعرف الديمقراطية ويتوق لها. لا نريد لأمتنا أن تشق طريق المقاومة والعصيان فتبتكر الأسلحة في  المنازل كما فعله المتحررون الذين صنعوا الكوكتيل مولوتوف وغيره في بيوتهم. خير للحكومة أن تتركهم وأسلحتهم وتتخلى -بجانب ذلك- عن بث التفرقة والشقاق وتطوي صحائف الاعتداء والظلم وتنسى السلطة المطلقة، فذلك أقرب إلى الأمن والطمأنينة وأدعى إلى تبادل الوداد مع من يعيش معها على هذه الأرض الزاخرة  بالخير والرحمة. لقد تزلزلت ثقة الناس بالدولة وارتجّ وتبلبل ميزان المعاني لدى الشعب الذي يرى نفسه ملزما بتقبل من و ما تفرضه عليه السلطة، فأضحت القيم تدار حول النبلاء أصحاب الألقاب والأهواء وكذلك الأخطاء. إخواننا  أعضاء الحكومة يتمنون أن يقاس الحق بهم لا أن يطبق عليهم؛ هذا تفاؤل ساذج  أشبه بالطمع في شعب أضحى  يعرف الكثير من الحقائق وداعية لأن تتساقط منزلة  السلطة لدى هذا الشعب فيهون النظام في عينيه ثم لا يبالي بما يفعل، ولعل  بعض المتشددين يبادلهم الضربة بالضربة واللكمة باللكمة. انه لحق أن سيور  أولئك قدّت من أديم هؤلاء فهم وإياهم سيان في الفكر والفعل!

 

  أنصتوا لنصيحة مخلص لا يضمر لكم غير الخير. تطلعوا إلى الذين سبقونا في كل مضمار من الذين هم أكثر منا أمنا واستقرارا لتعلموا أن القانون العادل وحده هو الذي يحمي الوطن، والقانون لا يشرعه إلا الشعب كل  الشعب وأهل الكويت كل أهل الكويت. البرلمان الذي ننتظره في أكتوبر والوعود  التي تلقى إلينا، لو تحققت، فهي لا تحمل الأمان الشامل أبدا. أي برلمان هذا  الذي أبعد عنه أكثر أصحاب الكويت وغالبية حماتها؟ ثم أي برلمان هذا الذي  يبتره إنسان واحد بمرسوم تستصدره ديوانية الوزراء؟ يكفي لمجلس الأمة ألا يقر قانونا اقترحه أحد أصحاب النفوذ أو يصر على استجواب وزير حتى يغلق كما  أغلق مجلسان من قبل. ولا تطلبوا الأمن بطرد الذين أقلقهم البؤس والفقر  فاضطروا لسلب الأمان من غيرهم،لأن الذي أعوزهم هو سياسة التفرقة التي تصرون عليها. هذه السياسة لا بد لها وأن تبلي شريحة أخرى من المواطنين بالفقر والحرمان إذا تخلص الوطن من بعض أبنائه وبناته المظلومين اليوم. قصاراي  أن أرى المحظوظين من أهل الكويت ينفقون عليهم مما يحبون، فهم اليوم ترس الأمان لغيرهم ومن يدري من ستقع القرعة الحكومية عليه بعدهم؛ فأرجو الحذر!

 

  أيها المواطنون الكرماء: اتقوا غضب الجبار أن يحيط بكم من طرف خفي،  فارجعوا إليه وخافوه من ظلم إخوانكم ولا تنصروا الظالمين إلا في منعهم من القسوة والطغيان. لا تعبئوا بما يخطط ضدكم من إبداء الرفض للمطالب الوطنية واحدة تلو الأخرى حتى تستولي عليكم الخيبة بل طالبوا بمجلس أمة شامل يشترك فيه الجميع واثبتوا عليه. أما مجلس أكتوبر المؤقت إذا كان لا بد منه، فأشركوا النساء وغير حاملي الجنسية الأولى والبدون فيه بفرض وجودهم على  المرشحين حتى لا يفوز النائب إلا إذا أذعن علنا أنه نائب المرأة الكويتية ونائب المتجنس والبدون كما هو نائب الرجل المؤسس. هكذا تخطون الخطوة الأولى لتحقيق الديمقراطية. والسلام على من سمع القول واتبع أحسنه.

 

                                  أحمد المُهري  

 

نشرت في مجلة منبر الحرية الصادرة بلندن عام 1991