برق خاطف قبل الظلام

  غزينا في عقر دارنا فكتب علينا الذل والهوان. زعماؤنا كانوا  يرتشفون سؤر الشر من إناء صدام، إبقاء للسلطة حتى استضعفهم مجرم العراق  بعد أن عبث بكويتنا كما يحلو له محتكرا خيراتنا، مهيمنا على أقلامنا و مرويا  أدبائنا من قصاع صدام فلا تنضح بغير المديح والإطراء لثعالب الرافدين.  رؤساؤنا اقتنعوا من أنفسهم بالاتصاف بأصحاب الألقاب الفخمة وهم يحتمون بالسفاكين والمتمرغين في دماء شعوبهم وذويهم. ليس إلا لأنهم اتقوا تفتح  إخوانهم وبني وطنهم في الكويت وارتعدت أكتافهم فزعا من الديمقراطية ومن  مشاركة الشعب في الحكم فاندفعوا يلبون رغبات الجباة والمبتزين وتطوعوا  بتثبيت أرائك الظلم من تحت مرضى القلب والعقل في العراق فأسبغوا عليم نعم الكويت ليقوي بها متقمص القادسية قلعته العسكرية ويحد بها سيوفه الغاشمة  التي سلها فيما بعد على رقاب أبنائنا الطيبين وفي صدور نسائنا الشريفات.

 

هؤلاء الذين عجزوا عن أن يهيئوا الكويت للوقوف بصمود و إباء ساعة، أمام زحف  الدبابات المغيرة بل فتحوا من هلعهم صدر الكويت لاستقبال الغزاة متسربلين حزام المهانة مدبرين، قاصدين جنائن الطائف، وسط أمواج العتمة في الليل الحالك. كيف أصورهم وقد حبست أنفاسهم وقبضت صدورهم وشردت أذهانهم لا تهتدي  غير درب الهروب ولا تدرك سوى حب الحياة بأي ثمن وعلى حساب كل الشعب الذي أوكل أمره إليهم لينام آمنا فزع الظلام فيستقبل في فلق الصباح فحيح الجند وهمهمة السلاح وجعجعة النفاثات التي زخت بكثافة لتلجم الذين كانوا مع  الكويت في رخائها لا في مصيبتها فقد تنافروا مع الجيش الزاحف في جنح الظلام. كلهم سائرون، هؤلاء من الكويت والعدى إلى الكويت. الخوف والرجفة استولت  على جميعهم حتى خاض أصحابنا أميالا جوف صحراء السعودية، وحتى انبلج الفجر على الكفرة الفجرة ليكشفوا أوهامهم ويعلموا أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا طيلة السرى في العذاب المهين. فالكويت معدّة للاغتصاب بلا حام ولا أحراس. كأنها فاجرة رفعت أعلامها طلبا للبغاء تأسيا بصبايا الجاهلية في أم القرى. آنذاك عاودت قلوب الفريقين نبضتها الطبيعية وجرى الدم مرة أخرى في أوردتهم وانقشعت عنهم غيمة الذعر.

 

هكذا لمسنا الغزو المؤسف والمشين. واليوم تكرر البروتوكول ببدء  جديد، بعد أن سكّرت الإضبارة العراقية وشدت بفتيل من نار الحلفاء. سنسير على  نفس النهج لان المخطط هو نفسه ومستشاروه هم أنفسهم الذين أعانوا الصداميين واستعانوا بهم. كتب علينا أن نترسب تحت رحمة الآخرين: إذ ذاك تحت من قوينا  عليه بالاتكاء على الذين هم أقوى منه واليوم تحت أقوى نظام وأمكن معسكر،  لا يمكننا التغابي عما يمليه علينا، ولا يتأتى لنا مصارعته بكل من استعنّا أو  استنجدنا، إلا الله وحده. مثل هذه الاتفاقية الخطيرة، كيف تتسم بالشرعية في  القرن العشرين، دون أن تناقش في برلمان شعبي صادق وجادّ. اتفاقية الدفاع  الأمريكي عن الكويت مقابل الدفع الكويتي من ثروة المستقبل لأمريكا، تنطوي ماهيتها على التزامات وتبعات أعظم بكثير من الاتفاقيات الاقتصادية المحدودة. فكيف بهم يعرضون مهمات أفكارهم الاقتصادية على شعوبهم في الاستفتاءات العامة  لكنهم يلزموننا بقرارات اتخذت من وراء الأستار دون أن نشترك في صياغتها  أو نناقش عناصرها وموادها. هل استشير الشعب الكويتي رسميا أم اكتفوا بما  جمعوه من تواقيع وتوصيات من بعض الديوانيات بعد أن أخافوا أهلها إجمالا بالخطر العراقي غب اختلاق جسارة عراقية جديدة في بوبيان أو تفخيم حادثة  فردية صغيرة لم تؤيد ضخامتها بالبراهين المقبولة.

 

الكويتيون مقتنعون بأن  الأمريكيين اليوم - حسب مشاهداتنا العادية-  على رأس قائمة الهيمنة في العالم وهم يتحكمون فينا أردنا أم رفضنا. وأنا مع من يتقبل الحقائق ، ساعيا خلع صدرية الإهمال والاتكال المطلق من نفوسنا  وداعيا إلى شد الحيازيم للنهضة الوطنية. فلما توحدت صفوفنا واستقامت مسيرتنا فإننا سوف نتجه إلى اتباع النظام الديمقراطي في أمريكا دون التبعية للحكومة الأمريكية. لعل شكل الارتباط مع الولايات المتحدة كدولة صديقة قد تشوه قليلا إثر تجاهل الإرادة الشعبية بعد استرداد الوطن، وقد ازداد تشويها بعد توقيع اتفاقية لم نطلع عليها ولا نعرف بنودها كما لا ندرك مغزاها بدقة واستيعاب. نحن نجهل مدى رعاية المصالح الكويتية في اتفاقية وقعت مع حكومة كويتية ضعيفة لا تدرك الرموز السياسية ولا تقف على مرامي  الاتفاقيات المبرمة بين الصناعيين السبع الكبار حول توجيه همم وأفكار الشعوب النامية. رأيناهم كيف نجحوا في تفتيت كبد الأخطبوط الشيوعي ودس أولئك الشعوب في طوابير التموين والتدفئة بعد أن كانوا أقوى المنافسين  للدولة العظمى وحلفائها. لا أشك في أن الغربيين يكرهون الفوضى والإرهاب  ويحاربونها ولكنني لست واثقا أيضا من صحة تقييماتهم للأوضاع في بلادنا والبلدان المحيطة بنا وطالما مسنا ومسهم العنت إثر أخطائهم الكبيرة. ذلك لأنهم لا يتعاملون مع أصحاب الرأي والعقل في بلادنا بل يدعمون ضعفاءنا  وبسطاءنا الذين يتطلعون إلى تضخيم أرصدتهم الشخصية في المصارف ومستودعات الذهب قبل أن يتدبروا قراراتهم وتوقيعاتهم. كأنهم قادرون على التمتع بكل  هذه المدخرات، فقد أظلم عليهم وغاب عنهم ما يحاك ضدهم. إن الأموال سوف تعود إلى من دفعها ثمنا للخبء المكنوز تحت أراضينا أوفي بطون جبالنا أو بأعماق  بحارنا. انهم يستسهلون التعامل مع هذه الأشكال البشرية دون ذوي الألباب منا. واجبنا نحن أن نزيح المهملين من المنصات الرفيعة ونستبدلهم بالأكفاء  الزاخرين بالعلم والتجربة والحياء والإيمان.

 

الكويتيون قلما يختلفون على توثيق العلاقات الودية مع أمريكا، وذووا  التجربة عندنا لا يستصغرون عظمة الولايات المتحدة وأهمية ارتباطنا بها ولكن نرى أن من حقنا أن نطلب من أصدقائنا الأمريكيين إخضاع الاتفاقية للنقاش البرلماني غب الإسراع بتشكيل هذا البرلمان. نحن نعرف أن قرارا مثل هذا تتخذه السلطة الأمريكية تعتبر تدخلا سافرا في شؤون الكويت الخاصة. لكننا نسلم له مضطرين لأن الاتفاقية في جوهرها تحقير للشعب الكويتي وتجاهل لوجوده وشخصيته وإهمال لمقومات الاستقلال في دولة الكويت، وهذا أشد من مس شؤوننا الذاتية. نريد أن نعلن أننا لا نظن سداد حكومتنا التي لم تتخذ الطابع الشرعي البرلماني  بموجب دستور الكويت ونعتقد بلزوم تعليق كل قراراتها وتعهداتها التي تنطوي على تبعات مالية ومعنوية بعيدة المدى، حتى يطلع عليها نوابنا الحقيقيون وتأخذ مسيرتها القانونية المتعارفة.

 

أذهاننا تصوغ تساؤلات كثيرة حول اتفاقية الدفاع المشترك فنحن في  ريب من أنها اختارت جانب الوطن حينما تتعارض مصالح المتسلطين من الأسرة  الحاكمة الراغبة في الحكم المطلق مع المصالح الوطنية البحتة. نحن في قلق  شديد من استجرار بلدتنا الصغيرة في المخاصمات الشرسة داخل المنطقة حينما  توجه الصواريخ بعيدة القذف من أراضينا صوب إخواننا وبني أمتنا العربية والإسلامية. إذ ذاك سوف يُتخطَف رجالنا ونساؤنا للاقتصاص وأخذ الثأر من قبل  المهددين أو المغار عليهم فنفقد جل معاني الأمان والاستقرار. الكثير منا يعتقد بحكمة الرئيس بوش وأصدقائه المحيطين به، لكن الاتفاقية أبرمت مع دولته التي تتعرض للتغيير كل أربع سنوات ولا ندري كيف يستفيد الخلف من التسهيلات الاستراتيجية الممنوحة للولايات المتحدة الأمريكية. هل تجبرنا مثل هذه  الاتفاقيات على إعادة النظر في علاقاتنا مع أمير كسب نمطا من الشرعية  البرلمانية حينما تولى العهد ثم لم يعارض إمارته البرلمان المبتور عام  1986. ما من شك أن الدولة العظمى قد درست بنود الاتفاقية بدقة و إمعان وطلتها بالصبغة النيابية في الكونجرس بيد أنها تملك جل المتغيرات في منطقتنا وتندمج على أعظم قدرة بشرية لتنفيذ مضمون الاتفاقية وفرض تفسيرها الشخصي على الغير. وما من شك أيضا أن السلطة الكويتية لم تولها الدقة والاهتمام  اللازمين ولم تشفعها بالحيازة القانونية فليس في الكويت مجلس للأمة وليس لزمرة الحكم حنكة سياسية وما منهم من لم يشغل معظم وقته وفكره في جمع  العاجل من المال وتكديسه في الحسابات البنكية خارج الكويت (اللهم إلا النادر، ولعلّ). ثم إن حكومة الكويت عاجزة تماما عن فرض أي تفسير لبنود الاتفاقية أو استخدام أسلوب تنفيذي ينحاز لصالح بلادنا. كيف تملأ هذه الفجوة الوسيعة بين الفريقين وكيف يغطى عدم التكافؤ المادي والمعنوي بين الكويت  وأمريكا؟!

 

 

أنا أعرف الذين يحبون الإطراء بالبذل من حكامنا وأظن أنهم يحرمون البدون من الجنسية (وهي حق لأكثرهم) حتى لا يدفعوا لهم ما يجب عليهم دفعه لمن بحمل الشهادة الوطنية بتوقيعهم. إن كل من يكدس المال فهو بخيل لا محالة، وهم هم، فماذا وراء المنح الذي نسمع عنها منذ التحرير؟ لقد اتسم عهد الشيخ جابر  الأحمد بالمطبات الاقتصادية الكبيرة في حين أن ارتفعت نسبة المال نتيجة ارتفاع سعر النفط طيلة حكمه إلى اليوم، وهذا أيضا مظهر من مظاهر البخل والحرص على الانفراد بالسلطة المالية بمعية السلطة السياسية. لا أرى دافعا  لفتح الخزائن سوى إبقاء السلطة. ولعل هذه الظواهر تؤكد تلهف حكومتنا على  السلطان في إبرام اتفاق مجهول باسم الدفاع المشترك مع أمريكا، دون أن يتلهفوا على الوطن. إنني أخاف أن يتحول الوطن إلى قارورة في حانوت السكارى والخمارين فتنكسر عفوا إذا ما أسكر على رواد الحانوت فانجروا إلى التشاجر  بالزجاجات. أخشى أن تفشل الكويت وتذهب ريحها قبل أن يستيقظ الشعب الكويتي  من نومته المؤسف عليها، كما استيقظ من قبل ليفتح عينيه على أبطال البوابة الشرقية يغتصبون شرفه ويهينون كرامته. أواه من يوم البوابة الغربية!

 

اخوتي: لقد اعتبروكم بهيمة سائبة همها تقممها أو داجنا منزليا  تقتنع بما يلقى إليها من نفض الطعام . فلا تأنسوا بما ألقي إليكم، إن  المستقبل غامض ومعتم. تبصروا في أمركم وأمر من يحكمكم. أليسوا هم الذين  سببوا الغزو بغلطتهم فهل صححت البلاوى أخطاءهم، أم عادوا بأقل مما تحلوا به من شيم وأخلاق قبل غزو العراق؟ هل تقلص الظلم في بلدنا لنستدر رحمة الجبار، أم اعتلى مظالمنا بعد الغزو؟  هذا "البدون" بينكم هو مظهر ظلم الحكومة ورمز تعسفها. ارحموهم يرحمكم ربكم وارحموا حكومتكم بتوجيه النصح بل اللوم إليهم قبل أن تصفر أيديكم وأيديهم من كل شيء وتقوم قيامتهم وقيامتنا فيلعن بعضنا  بعضا. أخشى أن يكون الخير الذي ترونه والصلح الذي تتنعمون به برقا خاطفا  قبل ظلام دامس نتخبط فيه فنفقد كويتنا وننسى أنفسنا كما نسينا ربنا من قبل.

                               أحمد المُهري

نشرت بعد توقيع معاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة، في مجلة منبر الحرية التي كانت تصدر في لندن.