بوش في المقاييس الكويتية

              كلامي هذا ليس ارتجالا عفويا هبت به الريح لتلصقه على أطراف لساني أو توجه به بلالة قلمي ولاسجعا منمقا انبثق من تأثر المذاق بالطيبات من الطعام، ولست ممن ينعزلون عن السواد الأعظم فلو سمحوا لي لكنت واحدا من الذين يصفون بجوانب الشوارع المهيأة لاحتضان موكب أبي عبدالله بوش. ولعلي من أوائل الذين شكروا ادارته الرزينة على موقفها الحازم ضد العتاة البعثيين، فأنا أحب الكويت وأحب كل من نفع الكويت وأتأوه ممن أضر بالكويت حتى ولوكان واحدا من أهلها. كل ذلك لايمنعنى من تحليل وتفكيك مسائل الوطن لأهل الوطن كي لا يهلك من هلك في الدياجير وليحيى من حي عن بينة ونور. ولذلك لم أصمت مع الذين استقبلوا إقفال البرلمان الأول بالسكوت ولم أرقص مع الذين رقصوا لأهازيج حارس البوابة الشرقية. فالهدايا التي قدمها له ذووا الأحساب من بيننا أكبر بكثير مما قدمه الشعب الكويتي بأسره إلى الرئيس بوش.

 

            لاريب أن الأحداث تتحكم في ترسيم صور القياديين داخل أذهاننا نحن عامة الناس ولاريب أن هذه الصور لا تمثل حقائق أصحابها بل تعكس للمتبصر مدى ارتباط مصالحهم بمصالحنا وتنم عن مقدار الدهاء والفطنة المستخدمة في تأطير أحاديثهم وقراراتهم وفي تنميق النتائج وتزيين العواقب. للمتتبعين دور كبير في إظهار الواقعيات وفي تذكير الأمة بما أهمل ونسي حتى ينبلج الحق مشرقا للعيون والأبصار. فلولا الغزو العراقي ولولا المصالح الأمريكية الكبرى في الكويت لما ولج الرئيس بوش في قلوب المسلمين الكويتيين. ولو أن الإدارة العظمى عملت على صد العدوان قبل حدوثه فجنبتنا واياهم الحسرات التي لم تنته بعد لما استقبل الرئيس بمثل ما استقبل به بعد الخسارة الكبرى. ولو كان الزعيم الأوحد ناجحا في عدوانه مع بداية استقلال الكويت وحينما كانت الكويت والعراق بائعين نفطيين غير متميزين ولما تظهر الأوبك بعد حتى يهتم الغربيون بعدم تقليص أعضائها خوفا من المزيد من القوة الإحتكارية فمن كان يمكن أن ينال وسام النصر وينهي الإحتلال القاسمي؟ آنذاك تصرف المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح بسرعة مذهلة وبدقة ووعي فسبق السيل ا لمطر وأوقف المعتدي قبل أن يعتدي ولم يشعر الشعب الكويتي بلذة التحرير ولا بنشوة النصر. فهل بقي منه غير التمثال الحجري في ساحة دار الرأي العام وفوز إبنه بولاية العهد؟ أي العملين أقل خسارة وأكثر ريعا وأحسن وقعا وأقل ضررا وأهون تبعة؟ هذا الى جانب ما أعطانا الأمير الراحل من فيض نشاطه ونبوغ فكره وشدة حرصه على الكويت وأهلها.

 

            لو ننظر إلى ذوي الحماس الوطني أو الديني المتوقد من خيرة الشباب فنراهم يتعشقون الشهادة أكثر من الحياة، والواقع أن الشهادة في سبيل الله أوالوطن الذي هو سبيل الله أيضا لهي فخار يفوق الوصف ويتعدى أسوار التعبير لكن البقاء حيا في خدمة الوطن وفي خدمة المؤمنين والأهلين أكثر فائدة وأعم نفعا من الموت اندفاعا الى ساحة الوغى (وأقصد هذا النوع من الشهادة). من السهل أن يعبر الشاب والحدث جسر حب الذات حينما تتزاحم في خياله متع الدنيا مع متعة الدفاع عن الشرف والوطن والله فيمضي مرتاحا ومهرولا نحو الحياة الأخرى ولكن من الصعب على نفس الفتى المتحمس أن يكبح جماح أهوائه طويلا فترى الكثير من هذه الخيرة يهوون في مستنقعات الرذيلة شيئا فشيئا إذا اجتازوا مجالات الحماس والدفاع بسلام. هذه المقدمة الضرورية لو نضعها في فراغ التفكير الحر لنصنع منها مقياسا نزن به المنجزات لعلنا نميز العطاء من الخداع ونفحة الحب ورشحة القلب من نفثة الشر وسياق المكر. لولم نستعن بالمقاييس الصحيحة ولم نلتمس الهدوء في أعمالنا وأفعالنا فسيكون المكرمات واللفتات وأبطال النجاة صبغة تصطبغ بها حياتنا فلا نهتدي الى الحرية والمساواة سبيلا، بل نظل عاكفين على عجل السامري أبدا ما بقينا.

 

            من هذا المنطلق الفكري تطلعت إلى مغزى الإستقبال الشعبي للسيد الرئيس وقلت في نفسي لو أن رؤساء دول مجلس التعاون الذين لم يبخلوا عن مكرمة ليس فقط في سبيل تحرير الوطن بل وفي سبيل راحة المشردين من شعبنا أيضا، قد أتونا زائرين فهل ينالوا ما ناله الغريب الأمريكي من احتفاء والجواب نفي طبعا فالاستقبال الذي أقيم للرئيس الأمريكي قد امتص كل آيات العرفان من قلوبنا ليحتلها بنو سام بالكمال والتمام وبالرضا منا والقبول. هنا بيت قصيد هذه المقالة، فما هو الميزة التي يمتاز بها الضيف الغربي الذي طغى الاحتفاء به حدود العرفان بالجميل؟ هذا ما كنت ولازلت أتمنى أن يتمتع به صانعوا القرارات لدينا وأنا على ثقة من عدم انتباههم لهذه المسألة الدقيقة. فقبل خمسة عشر عاما كنت جالسا أمام أحد أطيب المسؤولين الأمنيين في الكويت أصغي إلى نصائحه بالكف عن المطالبة بالديمقراطية وعودة الحياة النيابية وأرد على استفساراته حول مدى الجهد الذي سوف أبذله والحد الذي أقتنع به وكان جوابي له مرتديا بردة السؤال: الذين يحضرون الندوات المفتوحة لايعرفونني ولا أعرفهم ولكني أبوح بخبايا مكنوناتهم وآمالهم وأصحر عن آلامهم وأمنياتهم بل وتطلعاتهم فيقبلوا إلى حديثي لا إلي، فلماذا لا تستفيد السلطة من هذه الفرصة الذهبية فتتعرف على لباب الإرادة الشعبية وتكيف مواقفها معها لتتمتع بالحماية الشعبية من الصميم وتتمتع بهذا التوافق بين الحاكم والمحكومِ كلُّ مقومات الحياة والاستقلال والكينونة لنا ولكويتنا؟ وبما أن سؤالي هذا كان جوابا لسؤال الأخ الأمني فلم أكن لأنتظر منه الجواب.

 

            الشعوب، يبدون صميم رغباتهم ويفصحون عن واقع مطالبهم ومطالباتهم بالحركات العفوية، فشعبنا الواعي يشعر تماما أن التعرض للغزو هو النتيجة الطبيعية لخلو الساحة من سلطة الأمة وأن السور الأمثل أمام الأطماع هو المزيد من المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والمزيد من المراقبة الشعبية لما تبقى من الذخائر والإمكانات العامة والرئيس بوش هو رمز الديمقراطية الأمثل وقد بادل الشعب الكويتي نفس هذه الهمسة المكنونة في الأعماق حين اشار إلى أن الحرية ليست ترفا وامتيازا لقلة من النخبة، إنما هي طموح إنساني عالمي ينبض في كل قلب. وخاطب البرلمانيين قائلا: كم هوشرف لي وتجربة بالنسبة لي أن أُدعى لأقف أمامكم وأشكر هذه المؤسسة الديمقراطية التي تمثل حيوية واستقلال الشعب الكويتي.

 

            فإذا اشتملت الزيارة التاريخية على بعض السلبيات التي ذكرها كتابنا الراشدون في جرائدنا اليومية وانتقدوها بشجاعة وحزم فإن ايجابيات اللقاء الديمقراطي مع شعب يتلهف للديمقراطية من عمق وجدانه طغت على كل الأخطاء البريئة التي انتابت أمتنا المثالية التي تشكر المخلوق اعترافا بمن خلقه وأودع فيه الأهلية للشكر والتمجيد.

 

                                                                                    أحمد المهري

                                                                                    27/4/1993