الديمقراطية تطوير للشورى

            الديمقراطية ببساطة هي محاولة لترجمة الرغبة الشعبية العامة وإن تعذر فرغبة أكثرية الناس في وضع منهج السيطرة الشرعية وتعيين ومراقبة المنفذين لها وهي أمر طبيعي تفرضه حقيقة الإرادة الإنسانية وتحققه مواهب البشر وقدراتهم في تنفيذ مبتغياتهم، والأسس الديمقراطية توضحها وتنظمها. والشورى في اللغة هي نفس الديمقراطية كما وصفتها ولكنها في عرف بعض المنادين بالدين عبارة عن مشاركة المؤمنين وتشاورهم في أمورهم الدنيوية واضعين أحكام الله جل جلاله وتبعات تلك الأحكام على رأس كل الاعتبارات والهمم  باعتبارنا عبيدا للباري تعالى شأنه والعبد و ما في يده لمولاه. ويشد قلة منهم الحصار على الشورى فيعتبرها آلة تساعد الحاكم الشرعي وتمده بالأفكار والإبداعات دون أن تشاركه في اتخاذ القرار. نحن نحاول في هذا البحث الموضوعي والموجز أن نستعرض إمكانات التطبيق للنظريات المذكورة وواجب الإنسان المسلم تجاه نفسه وتجاه أخيه المسلم (ذكرا وأنثى) لعلنا نتعرف على حقوقنا وواجباتنا العامة ثم نطبع أنفسنا عليها ونستعين بالله العزيز الحميد أن يعصمنا من الزلل وأن يعيننا للتغلب على الأهواء والعصبيات التي لا تليق بمن يدعي التسليم لله.

 

ولدت الحكومة الإسلامية بتولي الرسول الأعظم السلطة في مدينته المباركة وهو الإنسان الكامل علما وعملا والمؤيد من قبل رب العالمين فالطاعة له طاعة لله ولا يُتوهم فيه أي ظلم أو خطأ أو نقص ولذلك فلا بحث حوله إذ أن نظامه متصل مباشرة بالسماء وقراراته مسنودة بالوحي الإلهي وأما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم غابت الأهلية والعصمة من السلطة وانفرد نفر من المسلمين بتعيين الخليفة الحاكم ثم عين الخليفة الأول من يحكم بعده وعندما حضرته الوفاة لم يؤهل الخليفة الثاني غير أبي عبيدة الجراح الذي كان قاضيا نحبه فاضطر للشورى السداسية التي غلب فيها التأييد لأحدهم فقام الخليفة الثالث ثم حاول الخليفة الرابع أن يتخلى عن الحكم بعد أن عرضه عليه المتواجدون آنذاك في العاصمة الإسلامية ولكن الإصرار الشعبي أجبرته على قبول السلطة. هكذا وصل الخلفاء الأربعة إلى الحكم وهم أقرب الحاكمين إلى الرسول العظيم دون أن يتركوا منهاجا نستعين به لاتخاذ الحكام من بعدهم.

 

الشورى التي ينادي بها بعض المسلمين اليوم غير واضحة المعالم وغير متفق عليها في مختلف المذاهب الإسلامية وغير مسنودة بسير الخلفاء الأولين. ولو اجتمع أولو العلم والفضل بيننا لتعريف الشورى والاعتراف بها ثم قبلناها لما تسنى لنا العثور على من يقوم بأعباء الخلافة في القرن العشرين وكيف نأمن جانبه ونثق بصلاحه ونظافته. هناك الكثير من الإبهام المؤدي إلى الشك في سير الخلفاء الراشدين الذين حكموا مجتمعات غير متفككة وغير مبعثرة وواجهوا متطلبات بسيطة جدا فكان بيت المال وجمع الزكاة أكبر همهم في الداخل والعلاقات الخارجية لم تكن معقدة أبدا لأن الترابط الدولي كان ضئيلا جدا وما أسهل الفتوحات والتخلص من كل نظام لا يدين لهم بالولاء. هذا وهم جمعوا خبراتهم من خالص الوحي ومن مشاهدة السيرة النبوية التي لمسوها بل عاشوها واجتمعوا عليها وائتلفوا بها. أما نحن اليوم فلا يجمعنا إلا قرآن لا نختلف عليه ولكن نختلف على تفسيره وسنة نشك في من أوصلها إلينا قبل أن نجهل مغزاها وأما كتبنا الرئيسية وفقهنا الذي نرجع إليه فلا تخلو مما يصعب أو يستحيل تقبله على عقلنا الذي به عرفنا الله واهتدينا بهدي أنبيائه ورسله المكرمين.

 

لا اتفاق إلى اليوم على تعريف خاص بالحكومة الإسلامية أو الخلافة الإسلامية أو الشورى الإسلامية أو غير ذلك من الأسماء المذيلة بكلمة عزيزة علينا جميعا وهو الإسلام. كلما في الأمر أن بعض السياسيين المسلمين يستعملونها لجذب انتباه العامة وكسب تأييدهم وزرع الأمل والطمأنينة في قلوبهم. إذا كان هناك بعض التعاريف فليست كاملة وليست مدعومة بمنهج تطبيقي ولا استدلال محكم بعيد عن الشعار والتعصب والتهييج. كل حزب أو فرقة مسلمة ترى لنفسها الحق بأن تصف أفكارها ومعتقداتها بالصفة الإسلامية أو تسميها باسم الإسلام وكأن دعاتها هم أولياء على الإسلام والمسلمين. أضف إلى ذلك أن المسلمين الأوائل بمختلف مهنهم وطبقاتهم كانوا دعاة للإسلام عالمين بأحكامها وواقفين على دلائلها أو مسانيدها، لكن العلوم الإسلامية اليوم -مع الأسف- محتكرة بواسطة طبقة مميزة عن المجتمع بالملابس والألقاب الخاصة يوهمون الناس بأنهم هم الإسلام في علمه وثقافته وارتباطه بخالق الكون العظيم الذي يقشعر العاقل من تصور العالم الذي أبدع في خلقه، هذا العالم الذي لا تناسبه أرضنا إلا بمنا تتناسب القطرة الصغيرة مع المحيط المهول الذي لا يدرك حجمه، دون مبالغة في هذا التناسب.

 

نحن عامة الناس بأطبائنا ومهندسينا وعلمائنا وصناعيينا وتجارنا ومهنيينا لا نعرف شيئا عن دلائل رجال الدين الذين يلفون فتاواهم بتعابير ومصطلحات خاصة بهم وكأنهم يتعمدون إخفاء الحقائق الدينية عنا نحن عامة الناس. أ ظن بأننا يجب أن نرفع هذه الحوائل بيننا وبين رجال الدين قبل أن نعمل بفتاواهم  وآرائهم المصطبغة بصبغة الوجوب لمجرد أنها صدرت من فئة خاصة. قرأنا عن نبينا العظيم أنه كان رجلا عاديا يلبس ما يلبسه الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجلس على الأرض مع الطبقة السفلى دون تمييز. ولولا أنه ينطق لما عرف أحد بأنه رسول الله وأنه إمام الناس أجمعين.

 

            إن الله قد أودع في البشر قدرة تقرير المصير فلا يجوز أن نتخلى عنه لغير من يحمل آية من الله بأنه رسول أو موحى إليه أو مميز تمييزا إلهيا واضحا عن بقية الخلق. وحتى نرى هذا الشخص فإننا نحتفظ بقوتنا وإمكاناتنا التي وهبنا إياها رب العالمين لدى أنفسنا ولا نعطي أحدا حق الحكم علينا وتقرير مصيرنا إلا بصورة مؤقتة وبمقدار محدود. هذا العمل الذي يحكم بصحته العقل هو ما يصطلح عليه اليوم بالديمقراطية. وهو توسيع منطقي لدائرة الشورى التي انتخبت الخليفة الثالث. فلو كان ذلك الانتخاب صحيحا فإن الديمقراطية صحيحة أيضا وإلا فشرعية الخلافة الراشدة في خطر.

 

            أما الذين يعتقدون بأن أمور الناس  فهو -بحكم القرآن- شورى بينهم لقوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" ولم يقل وأمر الله شورى بينهم. هذه الطبقة تدعي بأن الرئاسة العامة حق إلهي وليس حقا بشريا كما أن تشريع الحلال والحرام حق إلهي أيضا. نحن معهم تماما ولكننا بانتظار من يأتي بمعجزة سماوية واضحة لنسلمه أمورنا طائعين راضين من كل قلوبنا لكن الذين يدَّعون ذلك دون إعجاز فهم بشر مثلنا دون تمييز مهما بلغ علمهم وظهر تقواهم أو كبُر ادعاؤهم. أما تشريع الحلال والحرام فالمسلمون جميعا متفقون بأنها من حق الله وحده ومن حق أنبيائه الذين لا ينطقون عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وكل إنسان يعمل بما يعتقد به من تلقاء نفسه، فإن كان مسلما متمسكا عمل بأحكام الله حسب مذهبه وإلا فهو يمارس الحرية التي منحتها له طبيعة الحياة الأرضية وصادقت عليها شرائع الله. نحن المسلمون نعتقد بأن مصدر الطبيعة ومصدر التشريع هو واحد وهو الله تعالى ونعتقد بأن الأنبياء يوضحون لنا ذلك لعلمهم بها ونفتخر على غيرنا بأن ديننا القويم لا تخالف الطبيعة  بل تجليها وتحافظ عليها وتنظم حركة الإنسان القادر على الإرادة معها -تشريعا لا تكوينا- فالطبيعة هي قانون السماء أو قانون لا تخالفه السماء (حسب اختلاف الفلسفات الإسلامية).

 

إنني أشعر بصورة طبيعية بأن لي قوة التفكير والإرادة وأشعر بأني قادر على تعيين مصيري وأمارس ذلك في الحدود المتاحة لي والتي لم تدخل تحت سيطرة السلطة أو المجتمع. هذا الشعور الطبيعي لا يمكن تحديده إلا بتشريع مقبول لدي وإلا فإنني كبشر سوف أرفض ما يفرض علي وأكافح من أجل تثبيت مواهب الطبيعة لنفسي. لنفرض أن مجموعة من المسلمين يعيشون في مجتمع مسيحي فهل يستسلموا لما يفرض عليهم من التشريعات المضادة للإسلام أم يدعوا إلى الديمقراطية ليتسنى لهم الدفاع عن حقوقهم وهكذا القلة غير المسلمين الذين يعيشون بين المسلمين. فلو نوسع الصدر قليلا وننظر إلى اختلاف آراء المسلمين أنفسهم فهل هناك وسيلة لفرض قانون يعتقد به بعضهم على جميعهم ؟ أليس من الخير أن نخير المسلمين ليقرروا مصيرهم ويشرعوا لأنفسهم من واقع معتقداتهم  ثم نلزم المجتمع بالعمل برأي الأكثرية؟  هذا المنطق نطلق عليه اصطلاحا "الديمقراطية". كلما  يعارض ذلك فهو فرض يُرغَم عليه الناس ومحكوم عليه بالفناء والزوال بمجرد ما يستعيد الناس ما فقدوه من قوة وسلطان بقوة السلاح أو بقوة الخداع والإغراء.

 

            دعاة الإسلام في السعودية يتقبلون سلطة الملك ويكتفون بالمحاكم الشرعية وبهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الجزائر يطالبون بتسليم الدولة والملة لفرد باسم الخليفة حتى يبايعونه وهم لا يعرفون ما سيؤول إليه مصيرهم بعد ما يتربع الخليفة على أريكة السلطة فتظهر حقيقته للناس، إما زاهدا مثل عمر بن عبد العزيز وإما ماجنا مثل بقية الأمويين بلا استثناء تقريبا. أما دعاة الإسلام في إيران فهم ينادون بولاية الفقيه وينتخبون بجواره رئيسا للجمهورية وبرلمانا يشترك فيه وفي صنعه الرجال والنساء والمدنيون والعسكريون على حد سواء. أما الإسلاميون في باكستان وأفغانستان فلهم ديدنهم الخاص بهم. والذين يفجرون القنابل في مصر فلا هم و لا نحن ندري ماذا يريدون وأي نظام ينشدون وعلى أي مذهب يسيرون؟

 

            إلى جانب ما ذكرت من اختلاف في الرأي وفي التطبيق فإن المسلم يشعر بوجوب حماية نفسه وأسرته وإخوانه وبني جنسه وأموالهم من كيد الأعادي ومن بغي الظالمين ومن هفوات أنفسنا. هذا الشعور طبيعي لا يحتاج إلى دليل بيد أن الأمر بوقاية النفس و الأهلين وبالتهيؤ والاستعداد لمقاومة أعداء الإسلام وأعداء المسلمين وارد في القرآن فلا سبيل لتجاهله. وما ورد في ذلك عن الرسول الكريم وعن سيرته الواجب إقتداؤها أكثر من أن يستقر في ميدان الشك بل هو أكثر من حد اليقين. فما ذا نفعل نحن الذين نخاف الله ؟ هل ننتظر حتى يتفق علماء المسلمين الذين لا نرى لديهم بوادر الاتفاق بل لا نرى لدى الكثير منهم أية رغبة في المناقشة والبحث، ليس معنا نحن بل مع أنفسهم أيضا. إن أصحاب النفوذ منهم راضون بما يتمتعون به من سلطان و تأييد جماهيري ولا يرتضون عنه بديلا. هذا هو واقع يفتت قلب كل مؤمن يحب دين الله ولكنه واقع.

 

            في هذا الخضم الموار بالمشاحنات والمناهضات لا يسعنا إلا أن نتمسك بآراء أنفسنا، فنحن مسلمون نحب ديننا وأمتنا ونحب البشرية كما كان رسولنا و قائدنا الأول يحب الناس جميعا. إن عملنا بآراء أنفسنا خير من التسيب أمام الأقدار وفي ذمة من لا نعلم بصحة أقواله وسلامة نفسه ولعل كل ادعاءاتهم غير صحيحة ولعل أكثرهم طالبوا الدنيا وعشاق الثراء باسم الدين والإسلام. المهم أننا لا نميز بينهم بالوسائل المتاحة لنا ولا يمكننا التعرف عليهم وعلى مقدرتهم لإدارة العباد والبلاد قبل التعرف على نزاهتهم. وهم لا يقتنعون بالسلطة البرلمانية حيث أن الهيمنة فيها للواعين من الشعب. الديمقراطية تفسير معقول ومقبول لخضخضة الأفكار العامة وانتقاء ما يمكننا انتقاؤه منها والمشاركة في صنع القرارات الأساسية لحماية نفوسنا ووطننا وأموالنا، وهي شورى مطورة تشمل كل جوانب الحياة لدينا. وما دمنا نحن مسلمين فإن حرصنا على الإسلام أكثر من حرص الذين ينصبون أنفسهم حكاما علينا. نحن نختار الذي يناسبنا ونفضل أهل الفضيلة والتقوى وأهل العلم والحلم برغبتنا وحريتنا دون فرض من الغير.

 

لا السلطة الأسرية استطاعت أن تقي وطننا من الضياع ولا الديكتاتورية الرجولية خرجت بنتاج كاف لحماية العرض والأرض ولا ادعاءات أصحاب الجلابيب نفعتنا.فلا سبيل للتخلص من كابوس الفزع الذي يعيشه أهل الكويت اليوم وخاصة بعد القرارات المطاطية المائعة التي تتفنن بصياغتها إدارة الرئيس بيل كلينتون والحيل السياسية التي يتبارى عليها زعماء أوروبا إلا بخلق رباط حازم يشد الكويتيين بعضهم ببعض ويوزع المسؤولية عليهم جميعا ويحكم ترابطهم مع الشعوب المتقدمة في الأرض مباشرة دون توسط زعمائهم المشبوهين. هذا الرباط ليس إلا الديمقراطية ومشاركة الرجل والمرأة والعسكري والمدني في أمن البلاد والتدبر لمستقبلها و لحاضرها ومراقبة كل تعيين وكل تحرك سلطوي في البلاد. هذا ما نعنيه بالديمقراطية التي لا نسكت ولا نجلس ولا ننام حتى تتحقق بأجلى صورها كما هي في عمق التطلعات الإنسانية المتقدمة والمتطورة دون تفريط. إن كلما نشاهده من ظلم وإجحاف وتفريق بين الجماهير لا يزيدنا إلا تصميما وعزما على تجاوز كل الصعوبات لتحقيق المشاركة الشعبية الحقيقية في صنع القرار لا أقل منه. وما النصر إلا من عند الله.

 

أحمد المُهري

25/5/1993

 

نشرت في مجلة منبر الحرية التي كانت تصدر في لندن آنذاك