العلمانية

        فطر الإنسان على الحاجة والضعف. نحن لم نأت  إلى هاهنا ولكن أتوا بنا  بعد أن قطعوا علينا المواثيق، مواثيق العبودية والرق لمن خلقنا، وبعد أن  جزنا حجب الظلام وعبرنا مرافق التطور قنطرة بعد قنطرة، وألبسونا السواتر  جلبابا تلو جلباب حتى فتحنا أعيننا مهرعين مضطربين كأننا فتقنا مغاليف الجو   إلى فضاء أوسع من الأفق. وما أن استقر بنا المقام واستعدنا رشدنا من طيات  الأغشية التي تغلف عقلنا ونفسنا كأوراق الملفوف أو قشور الصدفة، أدركنا  بأننا أعجز من أن ننفذ من أقطار السماوات العلا. ثم أصبحنا نتخيل العزة  ونتوهم الجبروت في محيطنا الذي هو صغير وضئيل مهما كبر في عيوننا المحدودة  الضعيفة.

 

      نحن في عالمنا الصغير مكانا والقصير زمانا لمّا نرتبط بموجود آخر  أو نتصوره حتى يغمرنا الضعف والهلع. أقوى ملوك الأرض يتحسب من أصغر عبيده  ويتقيه. كل الضغوط السياسية والاقتصادية التي تمارس ضد البشر وغير البشر  لهي أمارات الخوف من نفاد المال وزوال السلطان وانقضاء البهجة والترف وتوقي  الضرر والمرض والفقر ثم الموت. الزمان يقلقنا ويهز بواطننا التي تتهيج  وتنهم وتئن للغذاء والكساء والجنس ومن العرى والجوع والعطش والوحدة،  والكائنات تزيدنا اضطرابا وطمعا. فنحن نطمع أن نستخدم كل ما ومن نرى ونعي  حتى لو كان مثلنا أو متناسلا عنا، ونضطرب من كل من يبدي استقلالا وكيانا  أمامنا، فلعله يقضي علينا أو يحد من مقتنياتنا. على هذه القاعدة المضطربة  وفوق هذا الإحساس المقلق والمريب تشكلت المجموعات والمجتمعات والدول والقوى  العظمى.

 

      إذا استثنينا الذين عصمهم الله من الخطيات والذين بعثهم الله لإبلاغ  رسالته أو تكميلها بإرادته سبحانه وبتعيين منه جل وعلا، فإن الناس كلهم  ضعفاء تجاه حوائجهم التي لا تنتهي ولا تقف عند حد. لا عبرة بما يدعيه بعض  الناس ما لم يستندوا  إلى برهان مبين ومعقول تمنع الشبهات منعا قاطعا لا خرق  فيه ولا مجال للخرق. وأنى لهم ذلك؟!  نفتح عيوننا وأسماعنا كل صباح على  مختلف الادعاءات والنظريات والأفكار التي تنبجس من الأهواء بداعية الوطن  والصحة والبيئة والدين وغير ذلك، ليسهل فرضها على الناس وتوجيهها أمام ذوي  الإرادة والفكر، وهي لا تتعدى منية وبغية تبخرت بها أجوافهم التي لا تشبع  مهما امتلأت ولا تقنع حتى بالكثير المكثر.

 

      ولكن لا بد للمجتمع أن يعي ذلك يوما فيخطو نحو الخلاص. هذا ما حصل  في القرون القريبة حيث اقترنت داعية الدنيا المتمثلة في الملوك والسلاطين  وداعية الدين المتمثلة في الباباوات والقساوسة، فشدوا بعضهم إزر بعض، لأنهم  يسيرون في خط جهنمي واحد باتجاه الضلال وعلى هيئة الدين والوطن. هنالك ابتلي  الناس وزلزلوا تحت قسوة الذين يحترفون القسوة لإرضاء شهواتهم التي لا تكبح  ولا تتعقل أبدا، إلا إذا قضى الله على صاحبها لينقذ من ويلاته الخلائق. ارتفعت  هنا وهناك رايات النجاة بيد طبقات أخرى من الأذكياء الذين هم بدورهم ضعفاء  ومحتاجون. صبت الأحقاد على الدين كي ما تنقشع أسدال الذين يعذبون الشعوب على  اسم الله والبركات، ثم دخلت النظريات الجديدة في حومة التنازع لتتلخص  العصارة التي تمثل غلبة الإرادة العامة على الشهوات الفردية الخاصة. بذلك  حققت الإنسانية نوعا من الخلاص وتنسمت شهيقا من الحرية والحياة. وبما أن  المرجع الذي ينتقي نخبة القيادة هو الجمهور، فإن منطق الاعتدال لا بد وأن  يستقر في الأوساط، لأن عامة الناس يتميزون بالاعتدال النسبي مقارنة بالشواذ  والمترفين.

 

      هذا سرد شديد الاختصار لظهور العلمانية التي تفصل الحياة عن الدين،  وهي في الواقع تفصل حياة الناس وحقهم في تقرير المصير عن الانقياد والانصياع  لإرادة وشهية الذي يحترف الدين والمذهب ويومي بأنه يمثل خالق البشر -والعياذ  بالله تعالى-. الذي يخيل للناس أنه تجسيد حي للشريعة وأنه فان في رب  العباد ومهيمن على شهواته. كما أن بعضهم من المنخرطين في سلك المسيحية  المزورة يبتعد عن الزواج، لكنه يحتفظ بالكثيرات من اللاتي نذرن العفة في  القصور الكنائسية دون أن يعلم الناس ما يدور فيها. هكذا وبناء على ما  انصرم يمكننا التنويه بما يلي:-

 

      1- العلمانية لا تتنافى مع الدين ولا تمس الدين ولا اعتناق الدين  بأذى، بل هي وسيلة علمية لتسليط الناس على أنفسهم.

 

      2- إن الرسل والذين عصمهم الله من الزلات ليسوا على مقاعدهم اليوم ولا سبيل للرجوع المباشر  إليهم. أما الذين يدعون وراثة الأنبياء فهم لمّا  يقيموا برهانا  إعجازيا واضحا على ولايتهم وقيادتهم، ولذلك فنحن لا نأمن مكرهم  ولا يمكننا إسناد القدرة المطلقة التي يتطلعون إليها إليهم، فهم مثلنا بشر  ضعفاء ومحتاجون.

 

      3- التجارب التي مرت على البشرية أثبتت قسوة الديكتاتورية المذهبية والدينية وصلابتها التي تحطم عزائم المجتمعات أكثر من سيف الملك والسلطنة والإمارة. وأثبت التاريخ أيضا أن دعاة الملك والسلطة الفردية على أساس  الوراثة أكثر انصياعا لإرادة الأمة من دعاة السلطة على أساس الدين والمذهب.  تلك حقيقة تتفرع من استحكام وغلبة المراس الذي يتكئ عليه رجل الدين وهو  الاعتقاد السائد بالله تعالى على حبل السلطان وهو الغلبة العسكرية أو الميراث  العائلي الوهن. لذلك فإن خطر الحكومة المذهبية أعظم من خطر السلطة  الوراثية، ولا يفوتنا الانتباه  إلى أن الحكم في الحكومات المذهبية ليس لله  تعالى بل لأهواء صاحبها باسمه جل وعلا لا غير.

 

      4- الشورى التي يزعمها المعروفون برجال الدين، فإن تفسيرها لديهم غير محدود وغامض. لا زال المحسوبون على دين الله يتنازعون في قواعدها  وأصولها ويتقاتلون على شعبها وفروعها ولم يعلنوا برنامجا معقولا لتنفيذها.  كلما يقولون أنهم يريدون تنفيذ حكم الله، فعلى الناس أن يمكنوهم من السلطة  تاركين الأمر كله بيدهم حتى يقضوا بين الناس بما أنزل الله بلا تفصيل ولا  استناد. نحن نؤكد حقنا في التعرف على مرامي الشورى المزعومة ومعانيها  ودلائلها وطرق تنفيذها حتى نتدبر نتائجها وعواقبها قبل أن نسقط في مقلبها.  لذلك ندعو الاخوة الكرام أن يوضحوا أصول دعواهم ويحرروها في مسطورات خالية  من الشعارات والتهريجات المبتذلة، فإن أتوا بذلك معتمدين على العقل فإن  بساط البحث سيفتح على كافة أهل الفكر والنظر، وإن أتوا به على أساس النقل  فإني أدعوهم التخلي عن الحقائق والثوابت المزعومة بآراء سلفية وعرضها جميعا  على مائدة النقاش المفتوح.

 

      أرى لزاما علي أن أذكر إخواني المكرمين أن دعوتي هذه تكاد تكون حجة  عليهم يؤاخذون على تجاهلها يوم الحساب. فيارب اشهد أني قد أظهرت ما أعلم  فليظهروا ما يعلمون لعلنا نستحق هداك ورشادك.

 

      5- ما أكثر الحديث عن العلمانية (بفتح العين وبكسرها) وما أقل من يعرفها، سوى أن الذين نادوا بها كانوا في حرب مع البابا المتعاون مع القساة  الظالمين. لقد ظنوا بأن البابا هو الدين بعينه فحاربوه ليتقوا شره وبأسه،  كما أن الذين يدعون الحكم الديني اليوم يخلصون الدين في شخصية الزعماء  الذين يدعون لهم. إن وقوف الشعوب المتفتحة أمامهم يتشابه مع وقوف الجماهير  الغربية في وجه الكنيسة قبل قرنين فلم تنمحي المسيحية من أوساطهم وسوف لا  يزول الإسلام من أوساطنا. التقابل هو تقابل الشعب مع أفراد باسم الدين وليس  تقابلا مع الدين، إذ لا تباين بين الحكم الجمهوري أو البرلماني وبين التدين.  نحن علمانيون ندين بالإسلام ولن نتخلى عنه ولعلنا نكون أقوى إسلاما من الذين  يعيشون عليه ويرتزقون من فيض عظمته وسيطرته على قلوب الناس.

 

      6- العلمانية نظام بشري يطالب بتثبيت حرية التفكير كحق أساسي لكل إنسان. هذا المفهوم بطبيعته يتضمن إضافة ضرورية هي حق اقتناء الرأي المخالف في كل مجالات الفكر. هذا الحق يمكن إنكاره بدون أن يكون للمنكر أي حق في فرض الرأي الآخر على صاحبه. والعلمانية تؤكد حق كل الأفراد في بحث ومناقشة  المسائل الأصلية برمتها مثل السنن العامة، وجود الخالق، خلود النفس و إملاء  الضمير.

 

      العلمانية ليست بصدد إثبات عدم وجود مصلحة وراء هذه الحياة ولكنها  تؤكد حقيقة الخير الذي نراه في هذا العالم وبأن البحث عن خير الدنيا خير  أيضا. إنها تبحث عن محاربة ومحو الفقر والحرمان. العلمانية تؤكد أن العاقل  المنصف لا يمكنه إنكار أو تجاهل القوى المادية في هذه الحياة وهي الرحمة  والحكمة ولزوم الاهتمام بهما. إنها لا تحارب النصرانية ولا تنكر وجود الهدى  والنور في ما وراء الطبيعة. أجل إنها تعترف بالهدى والنور في الحقائق  الدنيوية التي تبقى منزلتها وقوة ردعها مستقلة وتعمل  إلى الأبد.

 

      اقتبست ما ذكرته في الفقرتين أعلاه من كتاب Encyclopedia Americana  تحت كلمة Secularism، وأظن أنها تكفي لتوضيح ما يغيب علينا من مقاصد  العلمانية التي انبثقت من قسوة الكنيسة التي كانت ولا زالت تفتقر الكثير من  هدي الخالق. ألا وإن الإسلام يجمع المثل الأعلى لمحاربة الفقر والجوع على أساس  الحقوق وليس على أساس المكرمات. كبار علماء الإسلام يحذرون من التفوه  بالإحسان. هذا علي عليه السلام يؤكد ذلك في كلمته المشهورة: "اتق شر من أحسنت إليه". هذه الكلمة استدلال دقيق لقوله تعالى: "ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن  والأذى" فإن الإحسان يتحول  إلى سوء إذا اقترن بإيذاء أو منة. وأما حرية الفكر  فهي عنوان إسلامي تتجلى في الدعوة  إلى الاكتفاء بالتسليم  إلى الله تعالى دون  غيره من خلقه. سمي الإسلام وتشخص بالحرية في مقابل النظائر و إنكار كل  استعباد أو تعبد لغير الخالق وحده، الذي يليق به أن يعبد ويسجد له. لذلك  فإن المسلم علماني بنفس المعنى الذي قصده العلمانيون دون الحاجة  إلى تفريع  حزب يدعو  إلى ذلك. وعليه فلا معنى لقيام بعض المسلمين بمحاربة العلمانية. إن كانوا جادّين فليحاربوا نزوات حكام المسلمين ثم يحاربوا ظلم بعض  الحكومات  الغربية بالمنطق والاستدلال وبقدرة المال المتوفر فعلا لدى  المسلمين.

 

      7- وأخيرا ما هو الحل في فترة التبلور العقائدي التي نسبح فيها؟ هل نسكت على الظلم وقد اقتحم الجهل خباءنا وفرغ الخزائن من قوام ديرتنا ومن دعامة مستقبلنا، فأصبحنا والعلم نسير على خطين متوازيين، وأصبحنا والثراء  نسير من نقطة بالاتجاه المعاكس، فكيف بنا إذا منينا بالبليات وقد رأينا جل  أموالنا يتداولها اللصوص الذين سوف ينسوننا كما نسونا من قبل؟

 

      أليس من الخير لنا أن نواكب مسيرة العالم المتحضر  إلى اليوم الذي  نتفق فيه على الحل الشامل؟ حينذاك، فلو كان الأمر بيدنا لهانت علينا تصريفه  في الطريق الصحيح. أما اليوم ونحن نعيش الخيال الديمقراطي ونفقد عقدة  التغيير، فلا أمر بيدنا ولا قدرة لنا على العتاة الذين يحولون دون تطبيق  الإسلام أو حتى تمكين الشعوب من معرفة الحقائق الإسلامية التي تعارض الكثير من  مقومات السلطة المتجبرة. ليس لنا -في حالنا هذه- إلا أن نتغزل على الشعارات  المنتفخة ونحافظ عليها كيلا تفتق وتذهب ريحها.

 

                                                      أحمد المُهري

    نشرت في مجلة منبر الحرية التي كانت تصدر بلندن حوالي28/7/1993