نساؤنا بعد التحرير

                  في الوسط الكويتي المتظاهر بالحرية، صفوة ناعمة انبجست من الأرحام  التي حملتنا والأصلاب التي أنجبتنا. لكنها قيدت -ساعة الولادة- في سجل الأسرى،  شأنها شأن الذين صفوا في طابور البدون والمتجنسين. هذه الشقة من الأمة لقنت  بأنها خلقت من فائض تراب آدم لتكون في خدمة الرجل وطوع إرادته ورغبته،  سهمها في العيش مما يرميه الرجل عند بلوغ التخمة وفى الكلام مما يمتع مسامع  الذكران ويرضي خيلاءهم، إذ أنها وعاء تحفظ كرامة الزوج وتصون أمانته حتى  تقدمها للأب ذكرا محظيا، أو أنثى مثلها، نسيا منسيا. هذه التعيسة التي  أهملت شخصيتها وأغفل عن مثالياتها ومآثرها، تلهو بتزيين مفاتنها أمام  المنظار، مترصدة، تتحين الحين لتأخذ نصيبها من الساحة ولو على شكل دمية  يعبث بها صبية الجند أو يستشفي بها المراهقون والذين في قلوبهم مرض. وإذا  ما تظافرت النداءات الخيرة والمناشدات المخلصة لرفع الضيم عنها؛ تصدت  لتحقيق أمنيتها في الحرية والمساواة برياء وطمع- عصبةٌ من العصاة  المهزومين المسندين على ألواح المجلس الوطني بانتظار نهايتهم الوشيكة.  هذا الحق الممنوح مشؤوم، أشأم من طويس القائل:ولدت يوم وفاة الرسول  وفطمتني أمي يوم وفاة أبي بكر وبلغت الحلم يوم قتل عمر وتزوجت يوم قتل  عثمان وولد لي يوم قتل علي .

 

          ركّب الشعب الكويتي فسيفساء "مجلس الأمة" على بوابة ضخمة مؤطرة  بالحديد القاسي المشدود ببنيان هندسي بهي وقويم بمباركة أمير مثالي حصيف هو  المرحوم الشيخ عبد الله السالم الصباح. ذلك الرجل الذي دعم أسرته الحاكمة  بالشرعية البرلمانية وكفى شعبه الكريم خوض الجهاد البرلماني فلم تأخذ  إشعاعات الحياة النيابية بالتوسع المطلوب حتى انتابها الأفول علي يد الخلف.  ثم ألح خلف الخلف على محو الديمقراطية رويدا، رويدا. وما المجلس الوطني إلا حفاظة تقي الحكم الديواني المطلق إبان فترة الانتقال إلى الأشد الأسوأ. إذا احتوى الدستور الكويتي الذي يؤصل سرب المجالس الحقيقية والممسوخة، حقوق  المرأة الكويتية فلا يجوز للفرع المنسوب تغيير الأصل الخاطئ. المجلس الوطني  الذي لم يكلل بمباركة الشعب الكويتي بل "اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار"  غير مؤهل لإطواء صكوك الرق ضد المرأة وكسر أختامها المزورة. نحن أبناء الديرة  بأيدينا نساعد فتياتنا ونسائنا المتطوعات للتخلص من سلاسل الرق والارتفاع من حضيض الإنظلام. سوف نرفع فسطاط الحرية في بلادنا ونوتد أعمدتها بالصخور الصلبة والنساء هن خير من يحرس الديمقراطية والحرية في الكويت. الطيش  والتخبط والمغامرة من خصائص الرجال ويندر اتصاف الجنس الناعم بها  والحراسة الصحيحة تلازم الاعتدال الذي تتحلى به الإناث. لو كان البرلمان  مختلطا في الكويت لما تأتّى للسلطة أن تستهزئ بها وتلبسها جلباب المهانة ثم  تهوي بها في أسحق الوديان وأعمقها. الجميع مدعوون لغرس فسيلة الحرية في  وطنهم ولإروائها برشحات قلوبهم وإنارة مغرسها بوهج أفكارهم وعقولهم. الكويت  لأبنائها وبناتها بلا استثناء ولا تفريق بين أعضاء السلطة وأفراد الشعب.  والمرأة سوف تدخل البرلمان الشامل والصحيح بمشيئة الله وحده، دون مشيئة  المجلس الوطني، وسوف تخرج من الذل بفضل إرادتها الصلبة وتصميمها الحديدي  لرفض الظلم والاستعباد والخيّرون من رجال الكويت يرحبون بهن زميلات في  البرلمان وشريكات في الانتخابات العامة جنبا إلى جنبهم دون تمييز أو تدرج.

 

          المرأة في كتاب الله ليست طيعا للرجل بل هي شريكة لها في الحقوق  والواجبات العامة. نرى ذلك بوضوح في سورة التوبة "والمؤمنون والمؤمنات  بعضهم أولياء بعض،يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون  الزكاة ويطيعون الله ورسوله".  فهي تنهى الرجل عن المنكر وهو يأمرها  بالمعروف. المسلمة تنفذ أوامر الرسول -بالاهتمام بأمور المسلمين مثلا- كما  ينفذها المسلم. لقد ضربت ابنة الرسول أروع مثل في انتصار المرأة لزوجها  ولأموالها الشخصية، حينما دخلت المسجد حامية عن علي، مخاطبة خليفة المسلمين  بمحضر المسلمين. كما أن ابتنها زينب بنت علي سيطرت على أنفاس القوم حتى  تكمموا هلعا من قوة منطقها وهي تصقع الأساطير الأموية ناكرة عرش يزيد،  ومستشفة أهداف أخيها المقتول للعيان، في محاولة جريئة وصارمة لاستشراق دين  الله الذي بات على شفا الغروب في معمعان الديكتاتورية السفيانية الطاغية،  مثلما واجهت به والي الكوفة من قبل. ونحن وبنات بلدنا أولياء بعض, نستعرض  الشؤون الكويتية كتفا بكتف وجناحا بجناح، مصحرين تأهبنا للذود عن وطننا  وأمتنا وعن حقوقنا المشتركة، سيما حقوق المرأة تحت قباب مجلسنا التشريعي  المشيد. السواد الأعظم من المواطنين بادرت بهذه الدعوة الطيبة سنة 1979 إذ  هرعت زرافات أحدا تلو أحد إلى مسجد شعبان حيث يلقى فيه خطب جادة لاستعادة  البرلمان ولتشجيع المرأة الكويتية وإعدادها لاستلام مهامها الوطنية ناخبة  ومنتخبة. وقد ثنيت لي الوسادة في أربع ندوات رئيسية ومثيرة منها، مكنني  القوي العزيز من إصحار النوايا الشعبية الموحدة لرفع إكليل الديمقراطية على  فرع الوطن الزاهي ولتطهير مجتمعنا الزاكي من الفوارق  شبه العنصرية التي  ظهرت بيننا اثر تكاسل زمرة من العشائر والقبائل البدوية لاستحصال شهادة  الجنسية قبل فوات أمدها وكذلك تباطؤ بعض أرباب الحضر أو قصور قانون  الجنسية بالنسبة لعدد منهم مثل الأيتام القصر الذين أجلت تجنيسهم لعدم بلوغ  السن القانوني. وقد حاولت صب الرغبة الشعبية في قالب الحقوق الطبيعية لتشكل  ثقلا كافيا لفرض بغية الجماهير على السلطة. تلك السلطة الرافضة لتضخيم عدد  الناخبين ولو وصم جبينها بالرجعية والاستبداد. هذا الإصرار المخجل لتصغير  جماعة الناخبين شمل ذوات الحس الرهيف ليحرمن فيما يحرمن من الحظ البرلماني  بغية الدفاع عن مصالحهن وممتلكاتهن التي هي حصة من ثروة الوطن وشفافة من  الشرب السائغ المؤمم.

 

          وإني أكتب للتاريخ ولأشهد يوم التناد أن الكويتيين أكرم من أن يرضوا  بالظلم والإجحاف وأرحم من  أن يستلقوا على بساط التعسف أو يأثموا بنكران  الحقوق، إلا أنني وبأعلى صوتي أخاطب شعوب العالم ولاسيما الذين حرروا بلادنا، من أصدقائنا وإخواننا الديمقراطيين مناديا: اعذرونا من تراجع الشرعية  البرلمانية في الكويت فان الذين يظلموننا هم إخواننا وبنو جلدتنا الذين  يصعب بل يستحيل علينا التخلي عنهم مهما أجحفوا. ولقد رأيتم زبر الحديد  تتناثر من أنفاسنا لتبث الروع في أعماق الدخلاء الذين غزونا ظالمين. إن  أكفنا تدفع الطود حتى تقلعها وتصفع سراة الشر وما يمسها من لغوب أو ملل  لكنها تتهادى بين يدي ابن الوطن لتصافحه وتصفح عنه ثم تصفح عنه أو ترتفع  نحو السماء لتدعو له بالهدى من رب العباد. هذا من شيم الكويتيين العافين عن الناس والرحماء بينهم. أرجو أن تصحح السلطة موقفها مع الشعب الودود قبل أن  تكيف الأمة وضعتها مع من لا يرحمها ولا يحترم دعواتها الخيرة والنبيلة فالمؤمن  لا يظلم ولاينظلم .

 

          أعتذر من بنت الكويت أنني رجل غير منفصل عن من ظلمها. وأعدها بأن  أواصل الدعوة "لتصحيح مفهوم المساواة" حتى  تبلع الأرض ماءها وتقلع السماء  ويغيض الماء ويقضى الأمر وتستوي على الجودي. لابد من الاعتذار ثانية قبل أن  أخوض عباب المشادات المختلطة بين الفتيان والفتيات داخل مجتمعنا المتطور.  لست مع الذين يذرون التراب بين الجنسين فيحرمون عليهما التعارف والتفاهم  كأنهما طرفا نقيض ولست مع تقييد المرأة ببيتها وتحرير الرجل داخل البيت وخارجه. ولقد تأسيت بخاتم المرسلين في أن أحب الثلاث من الدنيا وأكثر من  الثلاث فان نصيبي في الآخرة لا يوازي نصيب النبي البتة. لذلك فما يملي علي في  شأن المرأة غير حرصي على شخصيتها وشرفها وإيماني بأنها ذخر فياض للوطن  كما لمسنا تخليها عن كل مظاهر النعومة الطبيعية لتحمل السلاح في وجه  المجرمين طيلة الأشهر السبعة. مثاليات المرأة الكويتية تقوي فينا الهمم  الإنسانية وتؤصل مشاعر الخير والوفاء في نفوسنا. هذه المثاليات المشهودة  نعتز بها ونهتم بصيانتها فان بقاء الوطن مرتبط ببقائها وبحاجة إلى المزيد.  وهذا لا يعني إبعاد المرأة عن طبعها الأنثوي المليء بالجاذبية فكبار النساء  في تاريخنا الإسلامي والعربي كن أمهات. إنهن مارسن الحب واهتممن بالعلاقات  الجنسية الشريفة. العظيمات جدا من النساء تمكّن من إشباع أزواجهن حتى أن  امتنع الأزواج من التوجه إلى غيرهن فلم يتزوج الرسول في حياة خديجة بل  اكتفى بها وحدها مدة أطول مما عاشها مع جميع أزواجه بما فيها ريعان صباه  ثم  إن ابنتها فاطمة الزهراء لم تر ضرة حتى توفت. الجنس جزء من الكيان الإنساني  -وفيما عدا استثناء واحد على مر التاريخ- فهو من محاسن الكمال. لكن العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة -بحكم الطبيعة- واجب الفردية بالنسبة  للأنثى وهذا سر تشديدنا على عفاف النساء. حفاظ المرأة على شرفها تكريم  للرجل وتقويم للأسرة الشريفة التي تكوّن المجتمع السليم.

 

          ثم إن مجتمعنا إسلامي يغلب فيه التوجه الديني  فأكثر الناس ملتزمون  وسوف يحاربون الفساد الخلقي ويحاربون الذين سمحوا بها إذا فشلنا نحن  الناصحون. ألم تروا كيف حارب الإيرانيون حكومتهم الملكية التي سهلت التبرج وأباحت التعاطف الممقوت والموقوت. كلما نستند إليه نحن اليوم في الكويت كان  ظهرا للملك الفارسي في العقد المنصرم وحل به البوار من كل جانب وكان فساد  الفاتنات فتيل الثورة في إيران. حتى إن الإدارة الأمريكية العليا اضطرت  لملاحظة فساد الأسرة الملكية التي أثرت سلبيا ضد الديكتاتورية الإمبراطورية كما أفصح عنه فيما بعد السيد بريجنسكي  (مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر)  في مذكراته. توالت بعد التغيير السياسي تنسيق جديد للموازين أتاحت للمسلمة  الفارسية أن تلسع عشوائيا بنات جنسها السافرات في ردة فعل قاسية لا تستحق  المديح.

 

          فالمظهر الفاسد في الكويت برميل بارود يفقدنا السيطرة عليه إذا  اتقد. وكويتنا الصغيرة لا تتحمل مزيدا من التجارب الاجتماعية العاتمة. لذلك  أتوسل إلى بنات بلدي اللاتي تعبثن بمستقبلنا ومستقبلهن أن يكففن عن الظهور بما لا يليق لأمة استرجعت مضجعها الآمن بتقديم خيرتها شهداء أو معيوهين في سبيل  التحرير. إن نضارة الصبا وفتنة النواظر وما خلع على الحسان من الديباج والإستبرق و تحلين به من بريق الزبرجد وأريج المسك، تغريهن وتغري من في عمرهن  من الفتيان المغتلمين أن يتجاوزوا العوائق المعنوية متجاهلين كلما ينتظرهم  ويترصد لهم من اللواحق الموجعة والعواقب الفتاكة ولذلك فان الآباء أول من  يتوقع منهم الاهتمام بجدية وتعقل لرفع مشاعر النقص المستولية على أفكار  كريماتهم والتخلص بسرعة من شيطان الغرور لتقبل من يسره الله من الأكفاء قبل  أن يغلي الموقد من تلقاء نفسه.

 

          ولا يفوتني أن ألتمس المجتمع النسائي برمته القيام بحملة توجيهية  تخلق القناعة لدى الأحداث مناشدا أخواتنا المؤمنات ألا يحاولن التصدي بحماس  وهياج لدفع الفساد فالنتيجة سلبية حتما. علينا أن نشعر بما ينتاب بناتنا من إحساس بالضياع وبالضعف أمام مستقبلهن مما حملهن على ركوب العار للقضاء على  الشهوة الفطرية المتأججة التي فارقتها عفة المقتنع وهدوء المطمئن وسيطرة  المؤمن المقتدر. وكذلك أبناؤنا الذين استولى عليهم الضلال وأعماهم نشوة  الشباب وأغراهم العرض السافر الرخيص. رحماك اللهم يا رب.

 

                                                                أحمد المُهري

 

نشرت في منبر الحرية في عدد أكتوبر عام 1991 في لندن