بِسْمِ
اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ
عَبَسَ وَ تَوَلّى
1
أنْ جاءَهُ الأعْمى
2
وَ ما يُدْرِيْكَ لَعَلّهُ يَزّكى
3
أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى
4
ليس النبي شاذا عن بقية
الناس. فهو إنسان يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويعبس ويتفتح ويُحدث وينام
ويلعب ويمرح ويطلب الجنس الآخر، تماما مثل بقية الناس. إنه ليس ملَكا
خلقه الله ليشفع بينه وبين خلقه فهو يطيع الله فحسب. إنه لا يأكل ولا
يشرب ولا يستريح ولا يضحك، حتى أنه لا يخطو الخطوات مثلنا نحن البشر ولا
يركب المراكب. إنه يتنزل بأمر ربه ويحفظ الخلق امتثالا لأمر الله تعالى.
فالملَك لا يدخل الجنة ولا النار وليس هو ذكر ا ولا أنثى. إنه عبد مقرب
إلى الله تعالى، لا يطرأ عليه ما يطرأ علينا ولا يتعرض للاختبار مثلنا.
أما النبي وبقية الطيبين فهم
معرضون للخطأ والإثم وهم ضعفاء مثلنا بالمقارنة بالملائكة. ولكن الله
تعالى يختار النبيين من أجود وأطيب منابت البشر ومن أقواهم نفسا وأشدهم
حبا للخالق المنعم الواحد القهار. ثم يختبرهم اختبارا غب اختبار حتى
يراهم صالحين لحمل المسؤولية، فيخصهم بالرسالة ثم يُضاعف اختبارهم
ويعسرها، فإذا خرجوا منها فائزين أدخلهم جنات النعيم وإلا فالنار مثوى
لهم. هذا هو نص القرآن. {قل إني أخاف إن عصيت
ربي عذاب يوم عظيم}.
هذه الآيات الكريمة تخاطب
شخصا عبس وجهه لرؤية رجل أعمى يخشى الله وقد جاءه طالبا تعليمه السبيل
إلى الله. لم يكتف المخاطَب بتلون وجهه، فالأعمى لا يرى عبوسه، ولكنه
أعرض عن الأعمى وتلهى عنه مشغولا بغيره. فلو كان العبوس وحده والذي كان
كافيا لإرضاء الحاضرين أصحاب العيون الجسمية، لما جاءه العتاب، حسب ظني
والعلم عند الله تعالى وحده. ويرد هذا الإشكال أن الرأي العام السائد قبل
خمسة عشر قرنا لم تكن ميّالا لاحترام أو إظهار الرحمة للمعوقين ولا يُمكن
لنا انتظار خُلُق البشر المتطور بعد خمسة عشر قرنا من إنسان قديم نسبيا.
ومحمد بن عبد الله صاحب الخلق العظيم كان ملتزما باتباع بعض خصال المجتمع
ليكسب الأصدقاء. ولولا ذلك لكان لزاما عليه محاربة الرق الذي هو أشرس
أنواع التحقير للإنسان.
ومن الواضح أن الأعمى قد دخل
على رسول الله وهو في حال التحدث إلى الغير. فالدور بالطبع لمن كان
موجودا عند رسول الله قبل دخول الأعمى، والمخاطَب إنسان لا يملك قلبين في
جوفه ليتحدث إلى شخصين أو مجموعتين في آن واحد، كما يفعله الله سبحانه. و
مما لا شك فيه أن الأعمى لم يراع أدب اللقاء حيث أنه فاجأ المخاطَب الذي
كان مشغولا مع غيره، يطلب منه الهداية والتعليم، مع أنه لم يكن معوقا في
السمع. كان على الأعمى أن ينتظر حتى يجيء دوره أو ينتهي المخاطَب من
حديثه مع الذين سبقوا الأعمى في الحضور. ولعل الأعمى أراد أن يستعمل عجزه
البصري للتقدم على الغير، وهو تصرف لم يُعجب المخاطَب الذي يُصر على
مراعاة حقوق الأسبقية. ولا ندري فلعل الموجودين كانوا قد أقبلوا بدعوة
المخاطَب، ولكن الأعمى جاء على غير موعد واقتحم الجلسة مبتغيا تفضيله على
الموجودين. أو أن المخاطَب ظن أن الأعمى لا يُحب الموجودين ويريد أن
يطردهم من عنده بطلب الهداية والتزكية.
و لو كان الحاضرون من الذين
يهتمون بالضعفاء والعاجزين، لطلبوا من المخاطَب أن يولي الأعمى اهتماما
خاصا نظرا لضعفه وبأنهم راضون على منحه حقهم في الأولوية؛ ولكنهم كما
يبدو كانوا مصرين على استعمال حقهم دون أن يعبئوا بعاهة الضيف الضرير.
و مما لا شك فيه أن المخاطَب
وقع في حرج كبير، بين أناس يملكون حق المناقشة استنادا للشؤون الإدارية
والأعراف والآداب العامة، وبين عاجز في عينه فاجأه بطلب معقول ولكن في
غير وقته؛ أو بالأحرى في وقت لا يملكه المخاطَب بل يملكه من سبقوا الأعمى
بالحضور تبعا للآداب العامة. كما أن المخاطَب لم يرَ تساهلا من الحاضرين
رعاية لضعف الأعمى. كان لزاما على المخاطَب أن يُرضي الحاضرين وأن يستمر
بالتحدث إليهم كما كان وأن يتودد إلى المعوق الذي أقبل إليه في شأن يهم
المخاطَب كثيرا وهو السعي للهداية وتعلم دين الله.
والآيات الكريمة تدل على أن
المخاطَب إنسان يحمل هم الدعوة إلى الله تعالى وأن الأعمى ابتغى صميم
الدعوة وأن الذين سبقوه في الحضور كانوا من الرافضين للدعوة وأن المخاطَب
هو الذي اهتم بهم وسعى لهدايتهم وأن رفضه الاستجابة لاستهداء الأعمى يمكن
أن يُخسره إنسانا مقبلا على دعوته ولا يضمن أن يتقبل دعوته الذين هم
موجودون في حديث فعلي مع المخاطَب. فالمخاطب في الآيات ليس إنسانا غير
مهتم بالدعوة إلى الله تعالى مثل الشخص الأموي غير المهتم بالإسلام كما
تصوره بعض الأفاضل من المفسرين. فالذي عبس هو نفسه الذي يهتم بنشر
الإسلام والهدى بين الناس.
وإذا كان المخاطَب هو رسول
الله نفسه فلا يناسبه الإعراض عن أعمى عاجز بدنيا وقد أقبل إليه بنفسه
يستهديه. هذا الأعمى أخطأ في عدم الانتظار حتى ينتهي رسول الله من جلسته
مع الآخرين ولكنه ضرير يتوقع مزيدا من الرأفة والمحبة من رسول الله صاحب
الخُلق العظيم، بيد أنه تواق للهدى والرشاد. ولو كان الرسول قد اكتفى
بتقطيب الوجه إرضاء للحاضرين لما كان هناك أي إشكال عليه، فالأعمى لا يرى
العبوس والحاضرون كانوا بالأحرى يكتفون بذلك. لكنه عليه السلام أعرض عن
الأعمى أيضا. والإعراض كما أحتمل هو في عدم الاكتراث بالأعمى ولو بجملة
قصيرة تبعث الرضا في قلب الأعمى طالب الرشاد وتعينه على عدم انكسار قلبه.
وأما الآيتان الثالثة
والرابعة تشيران إلى أن رسول الله لم يكن واثقا من أن الأعمى سوف يهتدي
لقوله تعالى: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر
فتنفعه الذكرى}. معنى ذلك أن رسول الله كان يهتم بالأعمى لو كان
واثقا من أنه سوف يهتدي، لوجود المرجح المعقول والمقبول لدى صاحب الرسالة
على من سبقوا الأعمى في الحضور. نحن لا ندري ما الذي قاله الأعمى لعدم
ذكر قوله في السورة المباركة. ولا يمكن التعويل على سبب النزول المذكور
في كتب التفسير، لما في ذلك من بيان للكتاب المبين بالكلام المنقول غير
المبين. نحن هنا أمام قضية كبيرة ضد رسول الله فعلينا أن نسعى للدفاع عن
ساحته النظيفة ولو اضطررنا لرد كل ما يرويه الرواة على لسان صحابته وأهل
بيته. لذلك سوف نكمل هذه الدراسة مكتفين بالآيات الكريمة نفسها، لتصوير
الموقف بأكبر قدر من الدقة بمشيئة الله تعالى.
وليس بعيدا أن يكون الله
سبحانه أراد إنقاذ الموقف بإنزال آيات توبيخية لرسوله من باب إياك أعني
واسمعي يا جارة، فيبيح ويأمر رسوله بأن يبدي الاهتمام الأكبر لغير
الوجهاء والأغنياء الذين يندر رضوخهم للحق وخشوعهم لله سبحانه وتعالى.
إنهم اقتنوا وسائل النعيم حيفا للثروة العامة وأكلا لحقوق العاملين وظلما
على من دونهم من الخلق. فإذا جاءت الهداية السماوية رحمة من الله تعالى،
لزم إعطاء المستضعف حقا أكبر من المستكبر الذي يرى نفسه مستغنيا عن
الرسول وعن دعوته وحتى عن من أرسله سبحانه وتعالى. إن المستكبر يركن إلى
ماله ومواهبه الشخصية في حين أن العاجز المستضعف يشعر بطبيعته أن لا حول
ولا قوة إلا بالله العظيم وهذا ما يريده الله سبحانه. ولو كان الطالب
ضعيفا أو عاجزا أو مضطرا فقد كتب الله على نفسه الرحمة, والرحمة تنزل على
من يحتاج إليها أكثر من الذي يظن نفسه مستغنيا عنها. نحن نعلم بتا بأن
قلب الرسول الرحيم كان مع الفقراء والمعوزين ولكنه صلى الله عليه وآله
وسلم كان يهتم بالأغنياء حرصا منه على دفع الأذى والظلم عن الذين أسلموا
على يديه وهم تحت رحمة الكفار والمستكبرين عبيدا أو خدما أو محتاجين.
فرسول الله أظهر الإعراض عن
الأعمى:-
1-
حتى يكون مراعيا
للآداب العامة والعرف السائد بين المجتمع.
2-
وحتى يكف المؤمنين شر الذين كفروا واستكبروا بأن يبدل كفرهم إيمانا
واحتسابا.
3-
وحتى لا يُقال بأن محمدا يكتفي بالضعفاء والعجزة ولا يهتم أو لا يملك
الاهتمام بوجوه القوم وسادتهم.
4-
وحتى يؤدب الناس بالآداب العامة الواجب مراعاتها صونا للنظام.
5-
وحتى يقول للناس بأن المسائل العاطفية لا تحول بينه وبين إعطاء كل ذي حق
حقه؛ فلا يمكن أن يوزعه عجز أحد محبيه عن التغاضي عن خطئه على حساب
الآخرين ولو كان من أعدائه.
ولننظر الآن إلى ما استتبع
تصرف الرسول هذا من تبعات إلهية. وحتى نتعرف على التبعات الإلهية بدقة،
علينا بأن نعرف بأن الله تبارك وتعالى يُحاسِب كل إنسان بقدر ما أوتي من
علم وحكمة فضلا منه ونعمة، تبعا لمنطق العدالة التي لا تفارق سيد الكون و
مالك الوجود سبحانه وتعالى. وعلينا أن نعرف بأن الرسل جميعا معصومون من
الخطأ في الرسالة لوجود الرصد الرباني المحيط بمنطقهم حينما ينطقوا
برسالة السماء صيانة للرسالة العظمى وليس لمنع الرسول من المعصية والخطأ
في المسائل العامة. ولولا هذه الصيانة لما وثق الصحابة بكل ما تفوه به
الرسول من آيات قرآنية وأحكام شرعية. كما أن لو كان الرصد يراقب كل حركات
الرسول فيمنعه من كل خطأ وعيب لما استحق الرسول أن يدخل جنة النعيم ولكان
إنسانا آليا لا قوة له ولا إرادة إلا بما ينطبق مع إرادة السماء
كالملائكة أنفسهم. وسوف يكون لنا حديث عن الرصد في سورة الجن بإذن الله
تعالى.
وبما أن الرسول العربي هو
صاحب رسالة سماوية عامة مثل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فإنه عليه السلام
يتميز بتعرضه لشدة المحاسبة والمعاتبة أكثر من عامة الأنبياء الذين لا
يحملون صحفا ورسالات تشريعية مثل إسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف ولوط. وحتى
نتعرف على ماهية الخطأ، علينا بأن ننظر إلى التبعات الإلهية بدقة وتفصيل.
ذلك لأنا لا ندري مقدار الإعراض عن الأعمى كما لا نعرف أيضا مقدار العبوس
الذي ظهر على وجه نبينا، وهل ظهر العبوس تلقائيا، أم أن الرسول كان يتصنع
ذلك إرضاء للحاضرين من زعماء المشركين. كما لا نعرف ما تأثر به الأعمى
نفسه من هذا الإعراض. كل ذلك غير مفصل في الآيات الكريمة. ولكن الله
سبحانه على كل حال يهيمن على سير الرسالة ويصححها متى ما شاء وأراد. وحتى
نعرف نوع التبعات، علينا أن ننظر إلى بقية الأنبياء والرسل وبقية أخطاء
المصطفى كبشر. وهاكم نماذج منها:-
1-
أخطأ نوح في الإلحاح على ربه لينجي ابنه، أو بالأحرى الاعتراض الخفيف
وتذكير الله بوعده والله ليس بحاجة إلى تذكير، فهو سبحانه لا يعمل غير
الحق، ولكن نوحا كان في حالة نفسية غير عادية وهو يرى ابنه يموت غرقا موت
خزي يتبع عذابا أبديا. فما كان من الله تعالى إلا أن وصفه بالتشبه
بالجاهلين وفضح قضية أخلاقية خافية على نوح وسنذكرها إنشاء الله في
مكانها.
2-
أخطأ يوسف في عدم ذكر الله حينما قال لزميله في السجن {اذكرني
عند ربك}. كان عليه كنبي يحمل ثقل النبوة أن يتحدث عن ربه هناك
كما كان يفعل دائما وكثير من الموارد مذكورة في السورة مشفوعة باسم ذي
الجلال والإكرام. فما كان من الله إلا أن قدر له البقاء في السجن بضع
سنين.
3-
أخطأ محمد نفسه حينما تمنى أن تكون له معجزات وآيات كما للذين سبقوه من
الرسل. فما كان من الله إلا أن وبخه توبيخا أشد بكثير من توبيخه له في
هذه السورة، قائلا له: {فلا تكونن من الجاهلين}.
أضف إلى أنه سبحانه أظهر عدم رضاه عليه حينما قال له: {فلو
شئت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية}.
أما بالنسبة لهذا الخطأ
الوارد في سورة عبس فإنه سبحانه لم يُخاطب النبي بالتشبه بالجاهلين كما
فعله مع نوح ومع محمد نفسه في قضايا أخرى، كما أنه سبحانه لم يستتبع ذلك
عقابا كما فعله مع يوسف. على أن يوسف نبي دون مستوى محمد، فيجب أن يكون
العقاب أقل من محمد ونوح. ولكن نسيان يوسف كان فادحا لا يتناسب مع مقام
النبوة. أما خطأ محمد كان أقل منه بكثير، فمحمد كان محرَجا لا يدري ماذا
يفعل. إنه لم ينس شيئا ولم يتصرف بجهل ودون مبرر، والهدف الذي جسده محمد
أمام عينه كان لمصلحة المسلمين عامة بمن فيهم الأعمى نفسه. ومن يدري
فلعل محمدا كان ينتظر مثل هذه الآيات لتكون عذرا له في هذه المناسبات،
وليكون مبررا لبذله مزيدا من الاهتمام إلى طالبي الرشاد استنادا إلى أمر
إلهي. وحينما نقرأ السورة كلها بدقة نرى بأن الله كان غاضبا على المشركين
وكان العتاب الموجه إلى رسول الله عتابا وديا إلى حد كبير، ومرضيا في نفس
الوقت للضرير الذي جاء رسولَ الله بكل خلوص يطلب الهدى والرشاد.
ما الذي ينتظره هذا الأعمى
أكثر من أن يوبخ الله تعالى رسوله من أجله؟ و هنا مسألة أخرى يجب أن
نتفطن لها وهو أن إعراض المرشد الهادي لو كان متعلقا بشخص عادي غير مبتلى
بعاهة أو نقص لاختلف الحكم تماما. ألا ترى أن الله يهتم كثيرا بالذين
حرموا من الآباء يتامى أو لقطاء، فهم بشر يستحقون نعمة الأبوة حتى يبلغوا
أشُدّهم، ولكن ضرورات الحياة الدنيوية أو ظلم الآخرين حالت دون تمتعهم
بذلك. إنهم أكثر استدرارا لرحمة الرحمن الرحيم من غيرهم، تبعا لعدالة
السماء. كما أن هناك عقابا شديدا أعده الله تعالى لمن لا يهتم بشؤون
الذين حرموا من التنعم بالأبوة أو الأمومة. إن أول ما أمر الله به نبيه
في سورة الضحى بعد ذكر ما أكرمه الله به هو:
فأما اليتيم فلا تقهر. لا تقهر بمعنى خذ بيده واطلب رضاه حتى لا
ينقهر ولا يشعر بمرارة اليتم وفقدان الأب أو الأم أو كليهما. يحب الله أن
يختبر عبيده في حالة متساوية وبعد أن يوليهم نعمه كاملة، ولكن طبيعة
النشأة الدنيوية تمنع ذلك، فمن فقد شيئا من النعم، وجب على الآخرين
تعويضه عن ذلك والتوجه إليه بعين العطف والرأفة حتى ينسى النقص الذي بُلي
به. ولنعد إلى الآيات لنختصر معانيها:
·
عبس
وتولى: محمد بن عبد
الله حينما فاجأه الأعمى قاطعا حديثه مع من سبقه.
·
أن
جاءه الأعمى: عبس في
وجه أعمى جاءه طالبا معرفة الله، ثم تولى عنه لانشغاله بآخرين من وجهاء
العرب، موجودين عنده قبل قدوم الأعمى، فكان لهم الأولوية العرفية على
القادم الجديد.
·
وما
يُدريك لعله يزكى:
كان رسول الله لا يعلم مدى جدية هذا الأعمى في توخي الإسلام، ولكنه يرى
أن نجاحه في إقناع زعماء المشركين، مكسب لا يُعوض للإسلام والمسلمين
عامة. مجرد الظن بأن شخصا ما يمكن أن يتقبل الهدى ولو كان ضعيفا أو
متأثرا بالفقر والحاجة، فإن واجب الرسول آنذاك أن يفضله على الآخرين ولو
كانوا أحق منه عرفيا. ذلك لثبوت غلبة الظن على أن يؤمن الشخص المحتاج من
أن يؤمن الغني الذي لا يشعر بالحاجة. وهكذا فإن الرحمن قد سن لرسوله أن
يفضل طالب الهدى ولو بدافع الحاجة على المستغني الذي طالما يشعر بالغنى
عن الهدى والرشاد. وكلمة "يزّكى" تعني أنه يطلب تنظيف نفسه من الشرك
والكفر بالله تعالى.
·
أو
يذّكر فتنفعه الذكرى:
إن رسالة الرسل هي تذكير الناس بعهدهم الطبيعي مع الخالق المنان وفتح
طريق المعرفة أمامهم لعلهم يتذكروا عهد الله ويتمتعوا بالعمل به فيصبحوا
مؤمنين بعد أن لم يكونوا كذلك. ومعلوم أن الذكرى تنفع المؤمنين الذين سبق
لهم تطهير أنفسهم من درن الشرك والكفر وأقروا لله بالوحدانية المطلقة في
الخلق والأمر سبحانه وتعالى.
أمّا مَنْ استَغْنى
5
فَأنْتَ له تَصَدّى
6
وَما عَلَيْكَ أَلاّ يَزَّكَّى
7
وَ أمّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى
8
وَ هُوَ يَخْشى
9
فَأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى
10
هذه الآيات الستة توضح وتفصل
ما فرط من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنها في نفس الوقت تصنف
المحيطين برسول الله آنذاك –كما يبدو- إلى صنفين، كي ينجلي الفرق بين بطل
السورة، الأعمى المشار إليه وصناديد قريش:
الصنف الأول) أناس يطلبون
الثروة والكنز ويريدون أن يوجهوا كل دعوة وكل تحرك شعبي وكل اهتمام في
القوم نحو مصالحهم الاقتصادية والتجارية. أولئك الذين يحولون الثورات
والحوافز الوطنية وكذلك الحروب والمنازعات الكبرى بالإضافة إلى الأعياد
والمناسبات العامة وكل شيء إلى متاجر يكسبون عن طريقها الأموال. مثل
هؤلاء يحضرون مجالس الأنبياء ويبدون المماشاة أحيانا بغية كسب هذا التوجه
وقَلبِه وتحويله إلى سلعة تباع وتُشترى، ثم يُخزنوا الفرق في الخزائن
والصناديق الشخصية.
الصنف الثاني) عامة الناس،
طيبي القلب وطاهري الضمير الذين يحبون الله ويخشونه ويتمنون معرفته وكسب
رضاه سبحانه وتعالى.
فالصنف الأول الذين كانوا
مشغولين بالتحدث إلى رسول الله، موحين إلى النبي الطيب أنهم على مشارف
الهدى، كانوا في الواقع يُخفون أطماعهم في استغلال الثورة الناشئة
لمنافعهم ومتاجرهم الخاصة. فالرسول في هذا لمقام ليس مقصرا لعدم درايته
بحقائق نفوسهم الشرسة التي تتقمم المال والثراء. إنهم يفسرون كل ظاهرة
بالفرصة الكسبية، ولا شيء يحفزهم سوى الأرباح والمكاسب الدنيوية العاجلة.
فيأمر الله نبيه ألا يُتلف
وقته الثمين على هؤلاء التجار والاستغلاليين، بل يمد الطرف إلى الطبقة
غير الثرية التي تخاف الله وتخشاه وتطلب وجهه الكريم سبحانه. يأمره
بالسعي لتعريف دين الله للعامة لعلهم يقدروا الله حق قدره في قلوبهم.
إنهم أقرب إلى الإيمان بالله من الذين أعماهم الزخارف والكنوز حتى نسوا
الله فأنساهم الله أنفسهم بالطبع، كما أغفلهم عما سوف يستقبلهم من متاعب
وعذاب أبدي في دار البقاء.
إن الرسول في الواقع وعن
سلامة قلب وخلوص نية كان يتحدث من حيث لا يشعر إلى أسماع لا تُدرك عمق
الدعوة إلى الله الملك الحق المبين. لقد كان الرسول يتظنن أنه يستثمر
الوقت في مصلحة المسلمين إذا ما توفق في إقناع من يمكن أن يُفيد الإسلام
بماله وشهرته وعلاقاته المديدة. وفي المقابل كان يؤجل التجاوب مع طلب
صادق قدمه إليه شخص عاجز ضعيف في الظاهر، ولكنه يحمل قلبا طاهرا نقيا
متقبلا للحق وساعيا إلى الرشاد، بمحض إرادته ودون أن يضمر أية نوايا
تجارية ومالية أو كسب شهرة سياسية أو قدرة اجتماعية ينتفع بها بشخصه. وفي
الواقع، فإن نظرة فاحصة دقيقة إلى ظاهر هذا الأعمى كان كافيا لأن يبعث
بالارتياح في وجدان رسول الله. ولعله عليه السلام فعل ذلك وأدرك حقيقة
قلب الأعمى وكان يُضمر كل ود وحب له، ولكن مصالح الإسلام الكبرى حالت دون
أن يترك الأغنياء فورا ويتوجه إلى الأعمى المخلص لعله يتذكر عهد الله
ويتقبل الإسلام و الإيمان أو يخشى ويتورع عما هو فيه من الشرك. وواضح أن
الخوف هو المرحلة الأولى التي تسبق قبول الدعوة.
ولذلك بادر الله تعالى بكل
لطف أن يوضح الموقف لرسوله قائلا وعز من قائل: أما من استغنى وطلب الثروة
بمجيئه عندك فقد حُضي بإقبالك عليه وتصديك له وكأنك أمام فئة مخلصة تطلب
وجه الله. ثم ما الذي يهمك من أمر هؤلاء لو أنهم رفضوا تزكية نفوسهم
وتطهير قلوبهم. إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل. وأما من جاءك بمحض
إرادته ودون أن تدعوه وتتهيأ له وهو يتقدم ساعيا نحوك ومعدا قلبه ووجدانه
للإصغاء إلى تعليماتك وقد ملأ الخشية قلبه فأنساه الآداب والأصول العامة،
بل أقبل إليك بدافع القلب والوجدان النقي، فإنك لم تواجهه بنفس البساطة
والدعة التي كان ينتظرها منك. بل أعرضت عنه وأريت المترفين أنك عابس
وغاضب عليه إرضاء لنفوسهم الشريرة التي لا تحب ولا تعبأ بدعوتك، بل تسعى
لكسب المال والثروة من عندك. ليس من حقك أن تنشغل عن هذا المؤمن وأمثاله
استجابة للحديث مع الأثرياء غير المخلصين. إنك رسول الله الذي يحب هؤلاء
المخلصين الطيبين فكن كما يريده لك ربك لتمثله سبحانه بين عبيده الطيبين.
هذا التفسير باعتبار أن لفظة
الاستغناء لم تقترن بأداة مثل عن أو من فأعطت معنى طلب الغنى والثروة.
كَلاّ إِنَّها تَذكِرَةٌ
11
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ
12
غير خفي علينا أن الرسول
الكريم كان يدعو إلى الله بالقرآن و يُنذرهم به لا بغيره، كما أمره
سبحانه وتعالى في سورة الأعراف:2 {كتاب أنزل
إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين}. فكان
أكثر خطابه مع الناس تلاوة لآيات الله من التنزيل العزيز وليس من تأليفه
الشخصي. ولا يخفى أن ظهور الآيات العظيمة على لسان الموحى إليه كان
مختلفا تماما عن ظهورها على لسان غيره. فهو عليه السلام يتلوها متفقها
لمعانيها وبأسلوب مُشعِرٍ بالمعنى. كما أنه كان يستعمل الآية في مكانها
وفي المناسبة التي تلائم الموضوع تماما، لا كما يفعله بعض الدجالين أو
عامة الذين يستندون إلى القرآن من المؤمنين دون رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ألم تر أن الجن كان يصغي إليه ثم يهتز من الأعماق، ليهتدي من يمكن
أن يهتدي منهم. فما بالك بالعرب الذين ينطقون بنفس اللغة ويجيدونها
ويدركون زينتها وثقلها الأدبي الرائع والرفيع.
كان الرسول يُظهر الحرص على
إيقاع الكلام الرباني في قلوب الذين يُصغون إليه كما كانت تفعله الآيات
في قلبه هو وفي قلب صحابته المقربين إليه. وقد كرر الله سبحانه له مرارا
بأن هذه الآيات تؤثر في قلوب المؤمنين فحسب دون الفاسقين الذين لا يجديهم
حرص رسول الله لأن الله لم يعمر قلبهم بالإيمان لزيغ في قلوبهم. ولكن
الرسول رجل عاطفي يُدرك عواقب رفض هذه الدعوة المباركة، فيعيش أسفا في
جحيم العاقبة لهؤلاء المنكرين ويبذل الجهد دون جدوى. هذا ما تقوله
الآيتان المذكورتان بأن هذه الآيات تذكرة لمن شاء هو بنفسه وليست تذكرة
لمن شاء رسول الله. ومشيئة العبد تابعة لمشيئة المولى الحق جل وعلا {وما
تشاءون إلا أن يشاء الله}. فالله تعالى لا يوفق الذي خبث قلبه
وساءت نفسه أن يُذعن لآيات ربه.
كان هذا التنازع واضحا لمن
يدقق في كلام الله تعالى في موارد كثيرة من الكتاب الكريم. رب عظيم لا
يعرف غير الحق ويريد وضع كل شيء في محله سبحانه وتعالى، ورسول بشر يتأثر
بالعاطفة ويهز أعماقَه عذابٌ مؤكد تمس الذين عاش بينهم، وكان واحدا منهم
فهم أهله وأسرته وأصدقاؤه أو بشر عايشهم وطالما تجاذب الحديث وتبادل الود
معهم. هذا هو سر التوبيخ ولا شيء غيره باعتقادي، ولذلك فإن الله سبحانه
لم يستتبع التوبيخ بأي عقاب فالرسول كان مضطرا محرجا لا مذنبا.
على أن هاتين الآيتين
تساعدان الأعمى على تكييف نفسه مع مجلس الرسول فيصغي مع الآخرين إلى
تلاوة الرسول لآيات الله الموجهة إلى المشركين، لكنه يصغي إلى ما يقرع
سمعه فتخشع قلبه لذكر الله وينتظر وهو يسمع كلام المصطفى مع غيره حتى
ينتهي فيخاطبه بآيات تناسبه. فآيات الله جميعها تذكر الإنسان بعالم قوي
وراء ما تراه أعيننا فتبعث بالخشية من الله وتساعد المرء على أن يتذكر
عهده الطبيعي مع الخالق العظيم جل شأنه.
فِيْ صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ 13
مَرْفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ
14
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
15
كِرامٍ بَرَرَةٍ
16
هذه الآيات الكريمة في مصف
الصحف المكرمة الأخرى مثل صحف إبراهيم والتوراة والإنجيل وكل ما أنزل
الله على عبيده من صحف وألواح رحمة وفضلا. كل هذه الصحف مكرمة نقية خالصة
من كل عيب، تفوح بالهدى والرشاد. كلها تتلألأ بالنصح والعلم والموعظة كما
تتلألأ الحجارة الكريمة في عيون الناظرين المعجبين. وكلها منسوبة إلى
الكبير المتعالي، فهي ترتفع إلى الله حينما تُتلى وتُقرأ كما يرتفع إليه
سبحانه كل ذكر طيب بنسبة صحته وخلوص قائله كما قال تعالى: {إليه
يصعد الكلم الطيب}. هذه هي طبيعة الصحف السماوية فكلها تُرفع إلى
الله العظيم ثم تعود إلينا، فإن شاء الله أن يغير صحيفة منها أمسك بها
فلم تنزل إلينا خالصة كما كانت بل تفقد خاصية الصيانة الإلهية. هذا ما
حصل للكتب السماوية التي انتهت أوانها. لكن القرآن لن ينته أوانه قبل
انتهاء دورة الحياة الإنسانية في هذا الكوكب لأنه الكتاب الأخير.
كل هذه الصحف مشفوعة
بالطهارة من كل عيب واختلاف مادامت باقية باسم الله تعالى. فالكتب
السماوية الأخرى في يومنا هذا غير مشفوعة باسم الله ولم يدّع أصحابها
بأنها كلمات الله. يعترف اليهود والمسيحيون اليوم جميعا بأن كتبهم
السماوية مكتوبة بيد أصحابها. لقد مكروا ومكر الله والله خير الماكرين.
إن أسلافهم أعادوا صياغة الكتب السماوية القديمة بوحي من الشيطان ولكنهم
وشياطينهم نسوا بأن ينسبوها إلى الله تعالى لتحتفظ هذه الكتب المزورة
بأهمية الكتب الأصلية الموحاة. بقي كتاب واحد في الكرة الأرضية منسوبا
إلى الله تعالى بكلماته وترتيب آياته وسوره جميعها.
أنت لا ترى اليوم توراة ولا
إنجيلا لم يُذكر بجواره اسم كاتبه الإنسي. فهذه الكتب في الواقع مؤلفة
على يد كتابها وليس منزلا من الله سبحانه. إنهم بكل صراحة يقولون بأن
القضايا التاريخية حضرها كتابها وكتبوها كمؤرخين وليس بوحي من الله
سبحانه! لكن الكتب الأصلية التي اختفت اليوم لانتهاء دورها كن مطهرات
وهن تتناقلن بين أيدي سفراء الله ورسله الذين هم كرام في منبتهم ومنشئهم
ونسبهم السليم كما أنهم بررة في أعمالهم وأفعالهم ونواياهم الطيبة
الخالصة المخلصة.
ونستنتج من هذا أن الصحف
الأولى ارتفعت إلى السماء ولم تعد إلينا ولكن القرآن لا زال يرتفع ويعود
إلينا والله يضيف عليه المعاني الجديدة لتبقى حيا نابضا بالحياة وناطقا
بالحق إلى أن يشاء الله إخفاءه والعياذ بالله إن غاب القرآن من بيننا.
وهذا هو عين الحق والعدل، فإن لم يحتفظ الناس بالتقوى والطهارة اللازمتين
فسوف يغيب القرآن قطعا كما غاب غيره ولو بقي في المجلدات. فالقرآن لا
يُفيدنا إلا إذا شاء الله ذلك. هذا واضح اليوم في ظهور المعاني الجديدة
عند الذين يطلبون معرفة القرآن ومعرفة كلام الله تعالى، فإذا اختفوا،
اختفى معهم روح القرآن ولو بقي جسمه. هذه هي ديناميكية الكتب السماوية.
قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ
17
مِنْ أيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
18
مِنْ نُطُفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
19
ثُمََّ السَّبِيْلَ يَسَّرَهُ
20
ثُمَّ أَماتَهُ فَأقْبَرَهُ
21
ثُمَّ إذا شاءَ أنْشَرَهُ
22
كَلاّ لَمّا يَقْضِ ما أمَرَهُ
23
تغير تعبير الردع والمنع بـ
كلا إلى تعبير شديد اللهجة ضد الإنسان الذي يكفر بالله العظيم بقوله
تعالى: قُتل الإنسان. هذا كلام من شهد الناس جميعا من يوم خلقهم حتى نزول
القرآن الكريم وسيشهدهم فيما بعد حتى تنتهي البشرية كلها. إنه هو وحده
الذي يجوز له أن يقول هذا الكلام بكل ثقة ودقة. فما أكفر الإنسان إن كفر
وما أكثره نفورا من خالقه الذي لم يفتأ يُكرِم ويُنعِم ويرحم ويغفر، لكن
الإنسان نفسه هو الذي يسبب الآلام والمتاعب لنفسه ولبني جنسه ونظرائه في
الخلق وليس الله الودود الرحيم سبحانه وتعالى.
ثم إن هذا الإنسان يسمح
لنفسه بأن تخالف أوامر الله العظيم وتعصي رسله المكرمين وتؤذيهم وتسبب
لهم الحرج والضغوط النفسية. كل ذلك كفر وجحود ونكران لجميله سبحانه الذي
خلق الإنسان بمفرده ليختبره فينقله بجدارة ودون ظلم إلى جنات النعيم
ليخلد في الملذات مغدقا برضا الله وكرمه وغفرانه. تلك هدف الجبار في خلق
الإنسان وليس النار هدفا للخلق قطعيا. حاشاه سبحانه أن يخلق أحدا بقصد
التعذيب، ولكن النار من لوازم العدالة وحتى يشفي قلوب المؤمنين الذين
ظُلموا في الحياة الدنيا، وسنعرف ذلك فيما ننتظره من آيات الكتاب الكريم.
يُذكر الله الناس بأفرادهم أن كلا منهم خُلِق من النطفة. والمقصود من
النطفة هو أقل القليل من عنصر الماء. إن الحيوان المنوي هو جزء بسيط جدا
من مني يُمنى وليس هو كل ما يُمنى. وسوف نشرح النطفة بتفصيل أكثر في سورة
القيامة إنشاء الله. إنه سبحانه خلق هذا الخلق بفرديته دون أن يحمل معه
الصفات والعقائد المكتسبة لأبويه. وهكذا يُعيد الله كل فرد إلى الفطرة
الأولى حينما يجرده من تلك الصفات ويجعله حيوانا منويا أحادي
الكروموزومات ليتمتع بالخلق من جديد فلا يكون تابعا لمن قبله من الخلق.
كل إنسان بمفرده خلق جديد يحمل نفسا جديدة خاصة به. ومن شاء أن يتفقه في
هذه المسألة فليراجع كتابي: المفاهيم الصحيحة/ عهد الناس لربهم قبل أن
يصورهم الله سبحانه. هذا الكتاب موجود في نفس الموقع الفكري هذا.
فالذي انتقل من نسيج الأب
إلى رحم الأم ونقل معه الحياة، لا يمانع انفراد الوليد الجديد في خلق
جديد يحمل نفسا خاصة به مغايرا لنفسي أبويه. ولذلك يعيز الله تعالى كل
تطوراته إلى نفسه سبحانه بصورة فردية: خلقه، فقدره، ثم السبيل يسره، ثم
أماته فأقبره. خلقه، يعني خلق بنيان بدنه حينما تلاقى الحومن مع البويضة
واختلطا معا أمشاجا من العناصر الكيماوية التي تؤلف الكروموزومات،
ليكوّنا موجودا جديدا يحمل كروموزومات ثنائية جديدة، لا تمت إلى الأبوين
بغير صلة القربى، وليست صلة التبعية كما يتصوره عامة الناس.
ثم انفرد الله سبحانه بتقدير
صورته فتتركب جزيئات بنيانه من كروموزومات الأب تارة ومن الأم تارة أخرى.
فبعض الأعضاء منه وبعضها منها أو من كليهما، ومجموعها أعضاء جديدة لموجود
جديد بلون جديد ثم نفس جديدة خاصة به. كل ذلك دون تدخل الأبوين أو
الأطباء والجراحين. ثم انفرد الله تعالى بتيسير السبيل لخروجه بحلته
الجديدة من الخلية البنائية الأولى، ثم التكاثر من نفس النوع دون أي
تغيير. ثم أمر بتشكل الأغشية الثلاثة التي شرحناها في نفس الكتاب السابق
تحت عنوان: الظلمات الثلاث عند خلق الإنسان. وهكذا يظهر الإنسان الجديد
في رحم الأم منفردا مطهرا من كل تأثير بشري فعال في طبيعته وخلقه.
هذا السبيل الجديد ميسر
ومقدم للموجود الجديد دون أن يتمكن أحد من التحكم فيه إلا نفسه بهدى
وإرشاد من رب العالمين. هذه هي الهداية الأولية تتكثف كلما نضج المولود
وتجاوب معها من تلقاء نفسه، كما تتقلص كلما ابتعد المولود الجديد من
اتباع وحي الفطرة الممنوحة له من الله سبحانه، وسنعرف ذلك بتفصيل أكثر في
رحلتنا مع القرآن المجيد بإذن الله تعالى. فالسبيل ميسر ممنوح له وطوع
خياره وإرادته. سواء في ذلك السبيل المادي أو السبيل المعنوي. ألا ترون
أن الطفل يتقبل غذاء ويرفض أخرى كما يتقبل السير في طريق ويرفض السير في
طريق آخر بمحض إرادته.
ثم أماته فأقبره، ثم إذا شاء
أنشره: يبقى الموجود الجديد قيد إرادة الله في اختياره واختباره. فالذي
يؤثر فيه تأثيرا فعالا هو الله نفسه دون غيره، حتى ينتهي أمده في الحياة.
فإما أن تقضي الطبيعة عليه بعد أن تسلب منه قدراته ومواهبه واحدة تلو
الأخرى حتى يذبل ويموت بإذن الله سبحانه أو يفاجئه أنواع من الموت
القسري، سرطانا أو ضربة دخان أو انفجارا أو سيفا أو سقوطا أو اصطداما وما
سواها من صنوف الموت غير العادي.
كلها تتم بأمر الله وإرادته
وإذنه وتقديره. فإذا مات انقطع عن البدن المادي الذي سوف يضحى بدوره جسدا
تحت رحمة الآخرين، فيدفنونه أو يحرقونه أو تأكله الحيوانات والديدان أو
الطيور والأسماك أو تحرقه الشمس أو تطرأ عليه غير ما ذكر حسب تقدير رب
العالمين. إنما الإنسان الميت بحقيقته بعيد كل البعد عن هذا البدن.
فالبدن كما نرى ليس مقبورا في كل الأحوال، فالتقبير غير عام وغير ضروري
البتة. لكن الإنسان بنفسه وحقيقته ينتقل إلى عالم آخر أقرب إلى الله
تعالى من العالم المادي الذي نحن فيه الآن. هناك يعيش الإنسان فترة طويلة
جدا، ليمر فيها على آيات وحوادث كونية كبرى، وسوف نشرحها مستقبلا بإذن
الله تعالى.
فإذا اقترب يوم الفصل
والحساب وبعد أن يعيد الله خلق الكواكب من جديد وتقام الأرض الجديدة
آنذاك، حينئذ يعيد الله البشر جميعا إلى الأرض الجديدة فيقبرهم جميعا تحت
قشرة الأرض المستقبلية. هذا التقبير عام يشمل كل إنسان بغض النظر عن
ماهيته وإيمانه وكيفية موتته الأولى. غب هذا التقبير يعيد الله خلق
الإنسان من خلايا بدائية نباتية، إذ أن الخلايا النباتية لا تحمل صفات
حيوانية ورثتها من أحياء متطورين كما نحن عليه اليوم في الأرض. وبما أن
الإنسان المستقبلي موجود بنفسه قبل تكوين بدنه الجديد فسيكون قادرا على
تصوير نفسه ضمن الخلية النباتية بإذن الله وتحويلها إلى خلية حيوانية
تناسب شخصه. وهكذا يخرج الإنسان من الأرض مرة أخرى بمشيئة الله تعالى،
فقال عز من قائل:
"ثم إذا شاء أنشره". وبعد أن
استقررنا جميعا تحت القشرة الأرضية الجديدة فشاء الله أن يأمرنا بالخروج،
نتحرك من تحت التراب كالنبات وكالجراد تحت تأثير الصيحة الكبرى التي هي
بمثابة الدعوة للخروج من الأرض. تلك عملية صعبة وخطيرة جدا ولكنها سهلة
على الله تعالى كما أنها مرعبة جدا. هناك إشارات كثيرة لهذا النوع من
الحشر في القرآن الكريم ومن الأفضل أن نتركها لآياتها بمشيئة الله تعالى.
علينا بأن نعرف بأن الله
تعالى لا يباشر هذه التطورات، بل هي أوامر أصدرها الله تعالى حينما قرر
خلق الإنسان وعلى أساسه بدأ الخلق الأول. فالنشور الذي ذكره الله تعالى
ليس إشارة إلى بلوغ النهاية في تنفيذ الأمر الرباني وتحقق قضائه سبحانه،
بل هناك مراحل تعقب النشور المذكور حتى يُقضى الأمر تماما فيضع الله كل
موجود في المكان الذي يليق به ويناسبه ويستحقه.ثمت تنتهي المراحل
التطورية وتبدأ مرحلة الحياة الأبدية التي لا تغيير فيها ولا تبديل بإذن
الله تعالى إلا أن يشاء سبحانه غير ذلك. ذلك لأن الله لن يأمر أمرا ناقصا
غير مطابق للعدالة والقسط، فكيف نرى عدم القسط جاريا على الكثير من البشر
في هذه الحياة؟ لكن الأمر لم يتحقق بعد ولن يتحقق إلا بعد يوم العدالة
الكبرى أمام محكمة الديان العظيم سبحانه وتعالى. وسوف نتعلم المسألة شيئا
فشيئا كلما خضنا بحار ومحيطات الكتاب المنزل بإذن الله تعالى.
فكلمة الردع في كلا لما يقض
ما أمره إشارة إلى ما ذكرته أعلاه والعلم عند الله تعالى. وحتى يتعرف على
مدى سريان الأمر المتعالي:
فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ
24
أنّا صَبَبْنا الْماءَ صَبّاً
25
ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ شَقّاً
26
فَأنْبَتْنا فِيها حَبّاً
27
وَعِنَباً وَ قَضْباً
28 وزيتونا
ونَخْلاً
29
وَحَدائِقَ غُلْباً
30
وَفاكِهَةً وَ أَبّاً
31
مَتاعاً لَكُمْ وَلأنْعامِكُمْ
32 يظن
الكثير الغالب من العلماء بمن فيهم غالبية مفسري القرآن بأن الإنسان
يُحشر من جديد وقد تهيأت جنات النعيم لاستقبال المتقين، بل يظنون أن جنات
النعيم قد خلقت منذ زمن طويل، والأمر ليس هكذا. ألا وإن خلقها منذ أمد
غير وارد في القرآن المجيد وهو وهم باطل، فلا معنى لخلق الجنة قبل أن
يحين موعد دخولها ولا معنى لخلق من فيها من الخدم والنساء بلايين السنين
قبل ذلك دون أدنى شك. وبما أن الموضوع أكبر من أن يستوعبها إنسان بداية
القرن السابع الميلادي فيكتفي سبحانه وتعالى بذكر ما يُشابه هذا التحول
الفيزيائي في عالمنا الدنيا بعد أن ذكر بأن الأمر لم يكتمل قضاؤه بمجرد
النشر الأخير.
ولعل الكثير من التطورات
الزراعية والنشوء الزراعي تتم مع النشر الأخير وبعده حينما يكون الناس
مشغولين بالحساب في وسط الكرة الأرضية المقبلة وفي مكان جهنم بالذات حيث
يجتمع الناس فيه قبل إشعال النار المحرقة. ولعل السبب في ذلك هو عدم وجود
برنامج لبناء مساكن لأهل النار كما هو الحال لأهل الجنة. وبعد الحساب
الأكبر يتم إشعال النار الكبرى فيرى الناس جميعا منتجع أهل النار، ثم
يبدأ ترحيل أهل الجنة إلى أماكنهم بعد أن يُعبّد الطرق وينقاد وسائل
الوصول إليها بإذن الله تعالى.
فلو أمعن الإنسان النظر إلى
منشأ طعامه الذي يتغذى منه ليرى بأن الله تعالى قد سبق وأن أعد الأمطار
لتسقي الأرض عن طريق التبخير والإمطار فترة طويلة جدا من الزمان. هذه
الأمطار الغزيرة والقوية أحدثت شقوقا في الأرض الخالية من التراب كما
يبدو. هذه الشقوق الصغيرة استعملت بأمر الله بدلا عن التربة لتتشكل
البكتيريا الأولية التي استعملت لإنتاج الكلوروفيل القادرة على تبديل
الطاقة الضوئية إلى طاقة كيماوية. ولعل مادة الكلوروفيل نفسها ظهرت عن
طريق التركيب بالضوء
Photosynthesis أيضا.
ليس سهلا علينا معرفة
كيفية ظهور أول بكتيريا أو أول طحلب بأمر العزيز سبحانه وتعالى، ولكننا
نعرف بأن الخلية الأولى التي تركبت من مجموعات كيماوية أسماها العلماء "الكروموزومات"
كانت بداية الطريق لتشكل الخلايا النباتية ثم الحيوانية.
ثم تكونت التراب من بين
الشمس والماء والصخور البركانية أو بالأحرى الصخور الصلصالية أو الفخارية
وهي صخور تشكلت من بعض العناصر الكيماوية فتميز الغلاف الترابي من الأرض
بالشقوق والفتحات لتكون مكانا ملائما لتكوين الخلايا النباتية الأولى،
حيث تطور فيما بعد إلى مختلف أنواع النبات قبل أن يتحول بعضها إلى خلايا
حيوانية. وتاريخ النبات أو الخلايا النباتية غير واضح لدى العلماء. هناك
من يعتقد بأن النباتات الأولية بدأت قبل حوالي ثلاثة ونصف بليون سنة أي
بعد بليون سنة فقط من تشكل الكرة الأرضية. هذه النظرية لا تخالف القرآن
الذي يقرر أن الماء قد انتقل إلى أعماق الأرض من البحار التي انفجرت
كونيا قبل حوالي عشرة إلى عشرين بليون سنة. فالماء كان موجودا في أعماق
الأرض ثم خرج مع البراكين واستقر في القيعان العميقة. أما ما يعتقد به
كثير من العلماء بأن الماء تشكلت داخل الأرض فهو نظر يخالف القرآن ولا
يعتد به.
وحينما نروم معرفة غذاء
الإنسان فالظن الأولي هو أن العصر النباتي الجديد قد تميز بظهور نباتات
وحيوانات أدت تطورها إلى ما نراه اليوم في الكرة الأرضية من نباتات
وحيوانات وأناسي. و القرآن الكريم يصرح بأنه سبحانه بدأ خلق الإنسان من
صلصال كالفخار. هو ذاك زمن غير بعيد كما يبدو فالعصر الصلصالي لو صح
تسميته كانت قبل ظهور التربة وهو بعد طمي النباتات الأولية بحوالي بليون
سنة. هذا البحث يحتاج إلى مزيد من المعلومات ولعلي أغير رأيي مستقبلا
حينما أكثف النظر في استنتاجات علماء الجيولوجيا وعلماء النبات. لكننا
نرى عدة أشكال من الفواكه على موائدنا اليوم وعندما ندقق النظر في
مبادئها نصل إلى النتائج التالية:
1)
هناك تشابه كبير بين أشكال الفواكه وطعمها ورائحتها ولونها فكل الناس
تقريبا يستسيغون كل الفواكه وليس كلهم يستسيغون اللحوم أو الألبان. ذلك
لأن الفواكه عبارة عن خلايا نباتية متطورة فهي أصل وجودنا.
2)
هناك تقارب خاص بين بعض الفواكه بصورة ثنائية أكثر من التقارب مع بقية
الفواكه مثل التقارب بين الزيتون والسدر من حيث الشكل والنواة وبين شحم
الرمان وشحم التفاح وبين حبوب الرمان وبذور التفاح وبين قشرتهما
الخارجية. هناك تشابه كبير بين شكل الذرة والموز وبين لونيهما وبين حلاوة
العنب وحلاوة الموز.
3)
شاع
بين الفلاحين مسألة تطعيم الأشجار بعضها ببعض ولا نستبعد التطعيم الطبيعي
بين بعضها البعض في فترات ما قبل التاريخ أو ما قبل ظهور البشر كما لا
نستبعد التطعيم بين الحبوب والفواكه وبين الزرع والشجر.
4)
ليست كل الفواكه قديمة ولا يعود تاريخ جميعها إلى فترة واحدة أو مكان
واحد.
5)
تتعاون الطبيعة في تلقيح النباتات كما نراه في الرياح اللواقح وفي
الفراشات المتنقلة بين الأشجار ولعل التلقيح تتم أحيانا من جنس لجنس آخر
فتنتج نباتا جديدا.
6)
تتأثر الفاكهة بالبيئة من حيث الرطوبة والحرارة والنور ونوع التربة
والغذاء والماء؛ كما يتأثر طعمها ولونها فترى نوعا من الفاكهة حلوة في
مكان وأقل حلاوة في مكان آخر أو حلوة في بلد وحامضة في بلد آخر.
فليس غريبا أن تكون هناك عدد
من الفواكه البدائية التي تبنت الفواكه الأخرى وهكذا الزرع والحبوب. فإذا
أصر القرآن على ذكر ستة من المأكولات النباتية الأولى في عدد من آياته
فهو دليل على كونها قاعدتها جميعا. وهؤلاء الستة هن:
الحبوب
العنب
وأخواتها من الأشجار
المسترسلة مثل التوت البري (القضب)
الزيتون
النخل
الرمان من غير الشجر بل من
الأدغال وهو الرمان غير المتشابه (حدائق الغلب).
ليس بوسعي أن أدرس التطور
النباتي ولكني أدعو أهل الاختصاص أن يفعلوا ذلك ليروا حقائق باهرة في ما
ذكر. وأما الفاكهة وهو ما يتنعم به الإنسان من ثمار الشجر والأبّ وهو
العشب الرطب غالبا، فإنهما من نتاج القواعد الستة. ولعل السر في ربط
النباتات الثمانية بالواو هو أنها ليست متتابعة بل متداخلة. فالرمان
والعنب فاكهتان بلا شك ولعل الزيتون والنخل والتوت فواكه أيضا قبل
تجفيفها، كما يمكن اعتبار الحبوب فواكه قبل تجفيفها أيضا، لكنها ليست
فاكهة دائما. هناك الزيتون كما نعرف أنه يبدأ على شكل شجرة برية لا يمكن
أكل ثمرها قبل أن يتم تعديل جينات الشجرة وهكذا العنب. ومن النخل ما لا
يمكن أكله بشريا ويمكن تعديل الشجرة فتتخذ منها الرطب اللذيذ. والعشب ليس
دائما برسيما خاصا بالأنعام بل يُطلق على أوراق أشجار الفواكه أيضا حيث
تتخذ بعض الأنعام غذائها منها. ومما لا شك فيه أن هناك تداخلا كبيرا بين
هؤلاء لصنع الفواكه الجديدة.
وفي تداخل النخيل والأعناب
نتاج واسع من الفواكه الجديدة كما يبدو من الآيات التالية في سورة
المؤمنون:18-20 {
وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي
الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ
فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ
فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلآكِلِينَ} على
أني أرجو أن أذكر حقائق أخرى عن النبات حينما يصل بنا المطاف إلى سورة
الأنعام بإذن الله تعالى وتوفيق منه سبحانه.
وأما المعاني اللغوية
·
فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى
طَعامِهِ :
وحتى يتفطن المرء لما سيتم
بعد النشوء الجديد للبشر في الحياة الأخروية فما عليه إلا أن يتفكر في
منشإ طعامه.
·
أنّا صَبَبْنا الْماءَ
صَبّاً
: أن الله تعالى أنزل الماء بغزارة.
·
ثُمَّ شَقَقْنا الأرْضَ
شَقّاً
: فأثر شدة انصباب الماء على الأرض لتتكون الفروج والشقوق.
·
فَأنْبَتْنا فِيها حَبّاً
: فأنبت الله الحبوب
في تلك الشقوق والخلل.
·
وَعِنَباً وَ قَضْباً
: كما أنبت نوعا من العنب ونوعا من الشجيرات المسترسلة مثل التوت.
·
وزيتونا ونَخْلاً
: وأنبت نوعا من الزيتون ونوعا من النخل.
·
وَحَدائِقَ غُلْباً
:
وأنبت الله حدائق من ثمار الأدغال وهي الرمان البري كما يسميها الله
تعالى بالرمان غير المتشابه وأما المتشابه من الرمان فهو الذي ينمو على
الشجر كما يبدو.
·
وَفاكِهَةً وَ أَبّاً
: الفاكهة هي ما يتنعم به الإنسان من ثمار الشجر مثل التفاح والبرتقال
والعرموط والموز والخوخ؛ وأما الأبّ فهو ما تتغذى عليه الأنعام من العشب
الأخضر أو اليابس.
·
مَتاعاً لَكُمْ
وَلأنْعامِكُمْ
: فالإنسان يتمتع بالفاكهة كما تتمتع الأنعام بالبرسيم وما شابهه.
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ
33
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
34
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
35
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
36
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
37 حينما يبدأ
الكون بالتدهور بأمر الله سبحانه إثر انعدام الجاذبية بعد أن يُنفخ في
وعاء الوجود المادي نفخة عظيمة تبعد الكواكب عن بعضها البعض بسرعة تفوق
الخيال فيتوقف الكون لحظة أو ساعة واحدة تغير الكواكب فيها مسيرتها
باتجاه القطب المخالف فيصدر من كل كوكب متحرك صوتان متقاربان زمنيا.
الصوت الأول حينما يعبر الجسم الضخم حاجز الصوت للتوقف والصوت الثاني
حينما يعبر حاجز الصوت بعد تغيير الاتجاه وكلاهما يصخان الأذن إن كان
هناك أذن. إن صوت تململ الكرة الأرضية لوحدها يكفي لصخ السمع والحال أن
كل الكواكب والمذنبات والنجوم والذاريات تمر بنفس المرحلة. سيكون المرء
في حالة نفسية ولكنه يتأثر بالتغييرات الطبيعية الكبرى ويحس بها نوعا ما.
حينذاك لا وجود للجاذبية
إطلاقا، اللهم إلا في منتصف الكون لسحب الكواكب إلى نفسها ولكن الكواكب
نفسها ستكون عديم الجاذبية لأنها تتفتت إلى جزيئات وتتوقف الإلكترونات
كاملة عن التحرك. سوف نتعرف على ذلك بتفصيل أكثر في نهاية هذا الجزء
الكريم من كتاب الله بإذنه تعالى. والإنسان بحاجة إلى مكان ولو في حالة
نفسية، ولكن لا مكان هناك. سوف يستقر المرء على طاقة غير مادية من نوع
آخر كما سنشرحها مستقبلا. إذ ذاك يتم الانفصال المادي بين كل الناس بصورة
تلقائية. فيفر المرء لا شعوريا من أقرب الناس إليه وقد ذكرهم الله بصورة
بديعة هكذا:
يبدأ بعض الإخوان حياتهم في
خلية واحدة داخل رحم الأم إن كانا توأمين متجانسين
Identical
فهذا هو أقرب أنواع التقارب. يليها تقارب الأبوة والأمومة من الشخص
فالإنسان مركب من جيناتهما فهما بصورة عامة يمثلان الدرجة الثانية من
التقارب معنا. وبعد ذلك يأتي دور التقارب النسبي مع الصاحبة شرعية أو غير
شرعية فهما يتخالطان بكل معاني التخالط الممكن لينتج منهما البنوة فهما
يمثلان الثالثة والرابعة من مدارج التقارب مع المرء. هذا التدرج يعاكس
شعور الإنسان الذي يُنفق ما يملكه في سبيل أولاده ثم في سبيل أزواجه ثم
في سبيل أبويه ثم في سبيل إخوانه. هنا يتم التباعد الطبيعي فيبدأ بالقرب
الطبيعي الحقيقي وهناك مسألة الشعور الشخصي الذي يذكره الله في سورة
المعارج ففي نفس اليوم يتمنى المرء أن يفتدي بمن هو أقرب إليه حسب مشاعره
فيبدأ بأقرب الناس إليه شعوريا وهو الأبناء.
كلما ازداد التقارب اشتد
الانفصال ولذلك بدأ بفصل المرء عن شقيقه. ولعل قائلا يقول: لو فر المرء
من أقرب الناس إليه فهو كمن فر من أقلهم قربا. وهذا غير صحيح فالموقف
موقف الافتراق الحقيقي حيث يبدأ المرء فعلا بالابتعاد عن أخيه ثم يبتعد
فعلا عن أبويه وهكذا. سيكون كل شخص مشغولا فعلا بنفسه إذ لا يمكنه مساعدة
أحد كما لا يمكنه الاستعانة بأحد. حتى الاستعانة بالله غير مجدية في ذلك
اليوم الخطير ولعلها تجدي يوم يقوم الناس لرب العالمين وفي المحكمة
الكبرى. سوف نرى قريبا بأن الله سبحانه يخوفنا من هذا اليوم كثيرا لأنه
سوف لا يرحم أحدا برحمة خاصة وسيكون كل إنسان مرهونا بمكاسبه الشخصية. إن
الخوف وحده هو عذاب ذلك اليوم ولا شيء غيره ولكنه خوف رهيب مفزع والعياذ
بالله منه.
وهكذا فإن لكل امرئ منهم
يومئذ شأن يغنيه. حتى المؤمن يفكر كيف ينجي نفسه ولن يعبأ بغيره أبدا، هو
يوم الفزع الأكبر وقد علمنا سلفنا الصالح أن نروض أنفسنا لذلك اليوم.
يقول الإمام علي بن أبي طالب في كتابه الموجه إلى عثمان بن حنيف
الأنصاري: (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر
وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولبا
ب هذا القمح ونسائج هذا القز) فسلام عليه وسلام على من سار على دربه
بصدق.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ
38
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
39 وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ
41
أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
42 الوجه هو
العضو الذي يبرز ملامح الإنسان أو الحيوان حسب عرفنا البشري. والوجه في
الواقع هو ما يظهر به الموجود ليُريَ نفسه للغير فكل آية عظيمة وجه لله
تعالى كما أن كل جهة وجه له تعالى. إنه سبحانه محيط بكل شيء وكل ما في
الوجود فيض من عطائه. والإنسان في طوره النفسي يملك وجها يبرز به أمام
الآخرين. فمن كان صالحا يوم الفزع الأكبر استقبلته الملائكة في وحدته
وفراره لتقول له هذا يومك فلا تخف. هناك لا يُرى منه إلا الثقة
والاستبشار بما سيواجهه من نعيم اقترب أجله. وأما من كان فاسدا كافرا لا
يعبأ بمن سوف يتضرر حينما كان يدعو لنفسه بالتمتع في الدنيا فهو قاتم
الوجه عبوس آنذاك.
هذه الوجوه ليست مادية قطعا
فالإنسان غير محاط بالبدن يومه ولكن ملامحه هي التي تبدو للآخرين. ولا
بأس بأن نعرف أن يوم الفزع الأكبر هو اليوم الذي يظهر فيه أعمال الناس
جميعا على شاشة الأفق كما سوف نشرحه مستقبلا بإذن الله تعالى. ولذلك فإن
وجوه كل الأفراد سوف تصير معروفة لكل الناس. وبالتأكيد فإن هناك وجوها
أخرى لم يذكرها الله في هذه السورة الكريمة لأن المقصود هو الدعوة إلى
الصلاح فيكفي ذكر أجمل الوجوه في مقابل أتعسها ليتعظ الناس. إن هناك
الكثيرون لا يعلمون ما سيحل بهم أمام منصة الحكم النهائي للجبار العظيم.
إنهم ليسوا كفرة فجرة ولكنهم ليسوا من وجوه التقوى والإيمان المعروفة
والواضحة أيضا.
وشكل الإسفار هو أن المؤمنين
يحملون معهم نفوسا متطبعة على الخير والتقوى والصلاح فتتحول مكاسبهم
النفسية إلى طاقة نورية تضيء موقعهم في الأفق. إنهم كانوا قبل ذلك
محسنين، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي
أموالهم حق للسائل والمحروم. وسوف يعم الخوف والفزع من دونهم جميعا ولكن
الكفار سوف يظهرون بشكل خاص. الكفار الذين ظلموا وعاثوا في الأرض فسادا
هم الذين وصفهم الله بالفجور. الفجور معناه اندفاع المرء نحو شهواته دون
تحسب للآخرين سواء منهم من سيقع فريسة له بالمباشرة أو بالوساطة، وكذلك
من سيراه في غاية النشوة فيتألم لما هو عليه من حال البؤس والفقر. حاله
حال العين التي تتفجر فتنتشر المياه من كل جانب دون تحديد أو رقابة. سوف
يتسم هؤلاء بانعدام الطاقة كاملة لأن إيجابياتهم تكاد تكون معدومة فلا
تظهر عليهم غير الظلام والقتم النسبي. مثلهم مثل السراج الكهربائي
المحروق فيظهر شكله قاتما مغبرا. والقترة هي لون الدخان الذي يُرهق نفس
الكافر من شدة الخزي المجتمع مع الخوف والفزع. إنه كان حسن الخَلق بداية،
ولكنه أمات قلبه بيديه وظهر أمام الناس بمظهر المصباح المحروق والعلم
عنده وحده سبحانه وتعالى.
وأما الكفرة غير الفاجرين
فسوف يخافون ويفزعون دون أن تظهر ملامح الشر من حولهم كما سيكون عليه غير
الكفرة من العصاة الآثمين والعلم عند الله.
تم تفسير سورة عبس ويأتي
بعدها تفسير سورة التكوير بحول الله وقوته.