تفسير سورة الأعلى

 

 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ    سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴿1﴾ تسبيح الله تعالى هو تنزيهه سبحانه عن كل ما لا يليق بشأنه العزيز. والله تعالى يأمرنا أن نسبحه ليهدينا أدب الحديث عن الله سبحانه نعمة منه وفضلا ولولاه لكنا في جهل وعمى مما يجب علينا فعله عند ذكر الله تعالى. ومتعلق التنزيه يشمل الشرك والزمان والمكان والجسمية والحدوث والتركيب وبقية معاني الحاجة والضعف. ولكن هذه السورة تدعو رسول الله لتنزيه اسم الله تعالى بأنه الاسم الأعلى برأيي المتواضع. ودليلي على ذلك هو- أولا: إن الله سبحانه هو العلي وليس هناك علو يجاريه ليكون هو الأعلى. فالعلو بالنسبة للذات القدسية ليس علوا نسبيا بل علو مطلق، فكل شيء دونه ليس عليا. ولو أطلقنا صفة العلياء على غير الله فبالنسبة لأقران الموجود الثاني ولكن ليس بين الله وخلقه نسبة المجاراة ليكون هو أعلى من كل شيء.

 

ثانيا: التسمية مشتركة بين الله وخلقه، فالله تعالى قد سمى نفسه كما عين الأسماء لخلقه وعلم البشر التسمية. ولكن الأسماء عادة ما تطغى على المسميات. ذلك لأن الله تعالى يعطي الأسماء الحسنة لخلقه باعتبار انتسابهم العبودي إليه سبحانه كما أن الخلق يستحبون الأسماء الحسنة لمن هو دونهم كأبنائهم وبناتهم ومراكبهم ومصنوعاتهم ليفيضوا عليها جمال الاسم سعيا لتغطية السلبيات الموجودة في ما هو تابع لهم. فالمخلوق عادة ما يكون أقل من اسمه ولكن الله فوق كل شيء و أسماؤه التي علمنا الله إياها لتقريب الذهن إلى الوجود الفياض وليس مجاريا لوجوده العزيز. لكنها على كل حال أكثر دلالة على العزيز المجيد من دلالة أسماء المخلوقين على ذواتهم. فاسمه الأعلى على كل الأسماء.

 

وحينما يقول سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى فإن الأعلى يمكن أن يكون متعلقا بالرب أو باسم الرب. وبما أن تعلقه بالرب غير صحيح لما ذكرت، نجزم بأن المقصود هو اسم الرب. هناك في القرآن آية أخرى ذكر فيها الأعلى، وهي الآية 20 من سورة الليل {إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى}. وسوف أشرحها بالتفصيل في مكانها بإذن الله تعالى وباختصار فإن متعلق الأعلى هو وجه الله وليس الله. ذلك لأن الإنسان يمكن أن يقدم أمواله إرضاء للناس وابتغاء لوجههم. فابتغاء الوجه مشترك بين الله وخلقه. ولذلك نبهنا الله تعالى بأن ابتغاء وجهه سبحانه أعلى من ابتغاء وجه خلقه.

 

هناك رواية موجودة في بعض كتب الحديث والتي سار عليها الفقهاء بأن نقول في السجود: سبحان ربي الأعلى وبحمده. وقد تبع فقهاء الشيعة المتأخرين نفس نمط فقهاء السنة. لكننا لا نرى هذا الذكر في البخاري ولا في مسلم ولا في أقدم وأهم رسالة فقهية شيعية وهي شرائع الإسلام للمحقق الحلي. بالطبع أن الذين قاموا مؤخرا بطبع كتاب الشرائع ذكروا هذا الذكر في حاشية الكتاب وهو غير صحيح لأن المحقق لم يذكره واكتفى بذكر سبحان ربي العظيم وبحمده للركوع والسجود. الذكر الوارد في صحيحي الشيخين هو : سبحانك اللهم وربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. وقد أورده ابن ماجه وأبوداود والنسائي في سننهم كما  ذكره الإمام احمد في مسنده. وأما كتب الحديث الأربعة للشيعة فقد ذكرت سبحان ربي الأعلى للسجود. وأضاف "من لا يحضره الفقيه" الحديث الذي يتضمن أمر رسول الله حينما نزلت فسبح باسم ربك العظيم أن يقولوها في ركوعهم وحينما نزلت سبح اسم ربك الأعلى أن يقولوها في سجودهم. وقد ذكر الحديث لدى بعض كتب السنة غير الشيخين.

 

فلو كانت الرواية الأخيرة صحيحة لزم أن نقول: سبحان اسم ربي الأعلى كما أمر الله في السورة. وأنا لا ألزم نفسي بما أورده المحدثون وخاصة حينما أراها مخالفة لمفاهيم القرآن.

 

ولعل من يقول بأن الله أكبر تسبب نفس المشكلة وقد انتبه علماء السلف أن الله أكبر تسبب مشكلة أكبر. ذلك لأن "أكبر" هو أكثر دلالة على التفضيل من "الأكبر". ولذلك قدر بعضهم (أكبر من كل شيء) وقدر الذين هم أكثر منهم علما: (الله أكبر من أن يوصف). وأنا غير متفق مع الأول بالطبع إذ لا وجه للمقارنة بين الله وخلقه. نحن لا نقدر أن نقول أن الإنسان أكبر من الهواء إذ لا مقارنة بينهما فكيف نقول أن الله أكبر من كل شيء مع أنه ليس كمثله شيء. والوجه الثاني جميل ومقبول ولكني أقدر وجها أكثر دلالة وهي هكذا:

 

إن كل إنسان وكل عاقل مشابه للإنسان يرسم في ذهنه صورة لله تعالى من واقع ما لديه من معلومات عنه سبحانه. وكلما يمر الزمان يزداد علمه بالخلق فيزداد علمه بالخالق فتتغير الصورة الذهنية إلى صورة أكبر من اليوم الذي مضى. هذه الحالة مستمرة ما دام الشخص يفكر في الله ولا يمكن أن يتوقف. ذلك لكثرة ما يصدر عن الذات القدسية من خلق ومن أصناف خلق. وكذلك لعمق الحقائق التي لا يمكن أن نصل إلى آخرها كلما نزداد فكرا وتعقلا. فنحن وفي صدد معرفة البنية الأساسية للمادة نصل إلى عالم غريب من الكائنات المتناهية الصغر وكلما ظننا بأننا وجدنا الجزء الذي لا يتجزأ، أرانا الله تركيبا جديدا في قاعدة ما وصل إليه العلم وأربك العلماء والمفكرين. إنني أتصور أن الروح القدس يصاب بنفس النكسة إذا ما فكر في الذات الربوبية. وفي كل تقدم فكري يقول الإنسان من أعماق وجدانه: الله أكبر مما صوره عقلي بالأمس. وبما أن العملية تتكرر يوميا لمن يفكر فإنه -وبعد فترة من التجربة- سيقول قبل اليوم التالي: الله أكبر مما وصلت إليه الآن أيضا. إن المفكر مهما تعمق فإنه يرى نفسه في تيه أكثر وفي عتمة أكبر حينما يفكر في الذات الربوبية جل جلاله. فهو سبحانه أكبر من الصورة الذهنية لدى كل خلقه وباستمرار. والله العالم.

 

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ﴿2﴾ إن للخلق ارتباطا وثيقا باسم الله تعالى. يقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: اللهم إني أسألك بــ ... وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء. إنني أعرف القليل عن هذا العلم وكما قلت سابقا فإني أخاف أن أبوح بما أظنه فلعله خطأ لأنه مرتبط بأخطر قاعدة لخلق السماوات والأرض. ولذلك نكتفي بما ذكره الله سبحانه بنفسه وننتظر من كرمه المولوي أن يعلمنا يوم القيامة أو قبله بإذنه. ولعلي أبوح بعض الشيء حين تفسير سورة الرحمن بإذن المولى جل شأنه. وللإنسان أهمية كبرى في خلق السماوات والأرض ولعله السبب في النشأة الأولى بكاملها كما أنه السبب في النشأة الثانية والأخيرة. وسوف نتحدث عن أهميته عند الخوض في قصة سجود الملائكة حين خلق أبينا آدم بإذن العزيز العليم.

 

ويطلق الله تعالى على كل موجود أكثر قربا إليه من حيث الخلق أو التقدير بأنه كلمته. {وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل، إنما المسيح بن مريم رسول الله وكلمته}. وهذا يرشدنا إلى أن الله يبدأ باسمه الكريم حينما يخلق ولكننا لا نعرف كيفيته بالطبع. وبما أن نفس الإنسان الأول (وليس بدنه) هي من نوع الخلق المباشر فهي أقرب إلى اسم الله تعالى. وقد منح الله تعالى عبده المسيح بن مريم نفسا مباشرا نفخها الروح القدس فهو مثل آدم وسوف نتحدث عنه في مكانه بإذن الله تعالى. يكفينا أن نعرف بأن للخلق الأول ارتباطا وثيقا باسم الله تعالى. ولذلك ذكر خلق الإنسان بعد أن أمر نبيه أن يسبح اسمه الكريم جل جلاله. وخَلَقَ هنا يعني خلق الإنسان الذي سواه والذي هداه والذي أخرج المرعى لأجله.

 

وخلق الإنسان يعني ارتباط الحويمن بالبويضة وتكوين الخلية الأولى للإنسان الجديد. هذا الإرتباط يخرج الكروموزومات الأحادية من عزلتها وعقمها بعد أن تتزاوج مع كروموزومات الأنثى الأحادية فتتداخلان وتكونان كروموزومات ثنائية قادرة على التكاثر وعلى خلق بدن إنسان كامل والعلم عنده سبحانه. والتسوية معناها خلق النفس وسنشرحها في سورة الشمس بإذن الله تعالى. وجعل أو تسوية النفس ضروري لشعور الإنسان الذي هو الهدف من هذه النشأة فيعلم ويعي ويبصر.

 

وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴿3﴾ بالطبع أن الذي يصنع شيئا فإنه يهيئ له ما يحتاج إليه من مقومات البقاء والراحة وما يحتاج إليه. والإنسان من أحوج الموجودات إلى الهدى. إن ذهنية الإنسان قابلة للتغرر ولذلك نرى الطيبين من الناس يعتنقون أديانا ومذاهب متباينة. هي طبيعة أذهانهم التي لا يمكنها أن تدرك لوحدها الطريق الأمثل. وقد خلق الله الإنسان وقواه على كثير من الأعمال فلو لم يهده الله فإنه سوف يستعمل عقله للتدمير والتنكيل وسوف يضطرب من تحته الأرض ومن فيها. والله تعالى يقدر الكثير من الأرزاق والخيرات ليتمتع بها الناس ولكنهم عاجزون عن ذلك ما داموا جاهلين فيمن الله عليهم بالعلم والهدى ليستمتعوا مما خلق الله لهم.

 

والهداية غير مقتصرة على التشريع ولا على الإنسان. إن الله تعالى يوحي إلى النحل والنمل والسماوات وكل الموجودات ليهديهم أسلوب ومقومات بقائهم. فهو يهدي كل موجود يشمله التقدير الإلهي دون استثناء. وكل موجود ينال من الهدى بالطريقة التي يواطنها وبالقدر الذي يحتاجه، فلو أن الإنسان نال الكثير من مفاهيم الهداية الربانية فلأنه أكثر احتياجا من غيره ولأنه أشد حبا للبقاء وأعمق في توقي العواقب. ثم يضرب الله مثلا كبيرا لتقدير الأرزاق يتلوه مثل رائع للهدى، بقوله تعالى:

 

وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴿4﴾ فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ﴿5﴾ إن مرجع المرعى باعتقادي هو التطور النباتي قبل 280 إلى 350 مليون سنة حيث امتلأت الأرض بالنباتات العشبية الكثيفة التي تربت في المستنقعات. ثم ماتت هذه النباتات الكثة في المياه وترسبت فيها. ثم تحللت شيئا فشيئا وخلال التحلل فقدت الموادُ المخضرة النباتيةُ منها ذراتِ الأوكسجين والهيدروجين لتخلف نسبة كبيرة من الكربون. هناك تشكلت الدرين وهي مادة نباتية لا تأكله الحيوانات ولا تصلح إلا للوقود ولونها بني غامق. مع مرور الزمن غطت بعضَها طبقاتٌ من الرمل والوحل المستخلص طبيعيا من المياه وبفعل الضغوط الشديدة خاصة حين التحركات الأرضية وكذلك بفعل البراكين واستمرار الأشعة الشمسية تصلبت وتكونت الفحم الحجري الأسود الذي اكتشف فيما بعد لتتصدر الطاقة الحرارية فترة طويلة من الزمن ولا زالت في بعض الأماكن. هذا ما يتظننه العلماء المتخصصون وهو ينطبق على الآيتين الكريمتين.

 

والمرعى يطلق على تجمع النباتات الكثة التي تتهنأ عليها الحيوانات آكلة  العشب والغثاء معناها النباتات التي تتجمع مع زبد السيل والأحوى تعني الأسود. ولا ضير أن نعلم بأن الكثير من الزواحف الكبيرة الضخمة والثقيلة التي تواجدت في نفس الأوقات والمعروفة بالديناصورات كانت تتغذى على تلك النباتات إلى أن انقرضت فجأة قبل 65 مليون سنة. ولعلها هي مصدر الزيوت البترولية.

 

سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى ﴿6﴾ إِلاّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴿7﴾ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴿8﴾ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴿9﴾ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴿10﴾ القراءة معناها الضم والمعنى المعروف باعتبار ضم الكلمات إلى بعضها البعض بصورة مستمرة متواصلة. والإقراء معناها جعل الشخص يقرأ سواء بمعنى الضم والجمع أو بالمعنى الثاني المعروف. وبما أن الله سبحانه يتبع القراءة بحصول القدرة على مكافحة النسيان فهو المعنى الأصلي باعتقادي. وعما قريب سوف نشرح معنى القراءة بدقة وتفصيل أكثر حينما نصل في تفسيرنا إلى سورة العلق بإذنه سبحانه. فالمرء إذا ضم المعاني وجمعها ليعرف منها الهدف والمقصود ويتعرف على كل فروع المسألة وشعبها فإن ذهنه سوف يطبع المسألة في وعائها لتكون في متناول المرء. مثال ذلك هو التلفزيون الذي ينقل الخبر مع الصورة ويكررها مرات حتى ينطبع في الذهن ويترسخ داخل خلايا المخ. هكذا يتعامل الإعلاميون مع أفكار الناس ويحولونهم إلى الجهة التي يريدونها.

 

وفي النطاق العلمي لو أن المتتبع درس جذور الموضوع وبحث كل جوانبه وفكر في كل الاحتمالات فإن ذهنه سوف يصور الموضوع وينقشه طيات فجواته. والذي يتتبع القرآن الكريم فيبحث عن المسألة العلمية أو الحكاية القصصية أو الحقيقة الكونية فيها ويجمعها من كل سورة ليفكر فيها فإن ذهنه سوف ينطبع على المقصود ولا ينساه إذا ما أراد تناوله في المستقبل. كل ذلك بسبب التكرار وفهم الجوانب والاطلاع على الحيثيات، كما يقولون بأن فلانا حصل على ملكة فهم هذا الموضوع أو هذا النوع من المفاهيم.

 

وبما أن المواضيع القرآنية متفرقة في ثنايا الكتاب العزيز باعتبار أن الله سبحانه يتطرق إلى الحيثية التي يرغب في الإشارة إليها إذا دعت الضرورة دون أن يذكر الموضوع بالكامل ثم يعود إليه سبحانه في مناسبة أخرى. ذلك شأن موسوعة كبيرة من المفاهيم ومختصرة في الكلمات والجمل مثل القرآن العظيم وبالأحرى الكتاب الأوحد الذي لا ند له ولا مثيل في كوكبنا وضمن ما نقله إلينا التاريخ البشري. هذا بالإضافة إلى حاجة المتتبع للمزيد من الاطلاع العلمي وإلى كم كبير من الخبرات والنظريات البشرية في تفسير الحوادث والمهام العلمية وكذلك الميزات والخصائص الاجتماعية والسياسية والقومية. وعلى المرء ألا يبخل على نفسه معرفة أحوال المترفين والفقراء والعلماء والسلاطين والجنود والحرفيين والصناعيين ليعود إليه متى ما مر على ما يشير إليه العزيز جل جلاله في الكتاب العزيز. وباختصار فإن فهم القرآن ككل لا يمكن أن يتأتى لأحد دون أن يجمع ويضم الشتات بالطريقة التي تناسب فهمه أو تناسب الموضوع الذي يبحثه. هذه العملية المعقدة تعينك على ألا تنسى بل تحفظ الكتاب بكل آياته وسوره بل تتعرف على كل مقاصده وأغراضه. هذا ما يحتاج إليه الرسول العربي الذي جاء ليشرح لنا كتاب الله وقد وعده الله بأن يساعده على ذلك. وهو سبحانه في واقع الأمر يعلمه بهذه الآية وما شابهها في سورة العلق أن يتعلم جمع القرآن ويساعد نفسه على فهمه وحفظه وعدم نسيانه.

 

وبما أن القرآن كتاب مقصود ومؤيد ومحفوظ بأمر الله تعالى فإن المرء لا يمكن أن يصل إلى أعماقه دون أن يريد الله ذلك. إن سبق المشيئة الرحمانية ضرورية قبل أن يُقدم الإنسان على أي عمل وتتجلى ذلك عندما يريد فهم القرآن. ولنعرف السبب يمكننا النظر إلى الموضوع الذي ذكره العليم الخبير في الآيتين السابقتين وهو مسألة الخزائن الأرضية من الفحم الحجري وغيره. لو كان الرسول على علم بذلك الموضوع لما فتئ يعلم أصحابه فيسعون للكشف عنه ويصلون إلى الخزائن قبل أن يأتي اليوم الذي يريد الله أن يفتح فيه هذا النوع من الكنوز. كان ذلك مربكا لمسيرة الحضارة بالوجه المطلوب إلهيا. كان يجب أن تبقى المسألة قيد الخفاء حتى يأتي وقتها فيظهرها الله تعالى. وعلينا أن نعرف بأن القرآن ليس وسيلة للكشف عن كنوز الأرض ولكنه حاو للأسرار العلمية التي يحتاج إليها الناس في الأزمان المقبلة ليطمئنوا على صحة نزوله من عند رب  العالمين جل جلاله، ليس إلا.

 

وما استنتجه بعض الفضلاء مثل العلامة الطباطبائي عن أن مشيئة الله هي المسيطرة دائما وأبدا ولا يفتأ يذكرنا الله تعالى بها واردة وصحيحة أيضا. علينا بأن نعرف دائما بأن اختيارنا ومقوماتنا وقدراتنا وأعمالنا وحتى مدركاتنا وعلومنا وعامة ما في ذاكرتنا وذهننا مقيدة ومنوطة دائما وأبدا بإرادة رب العالمين. ولولا ذلك فقد الجبار هيمنته على خلقه وهو محال. ولكن ما بينته علةً لتعليق الخبير العليم ذاكرةَ النبي الكريم بمشيئته، أكثر انطباقا في الشأن الذي تتحدث عنه هذه السورة المجيدة. وقد أتبعها سبحانه بقوله: إنه يعلم الجهر وما يخفى. وهو يعني أن المقصود من تعليق ذاكرة الرسول بإرادة المرسِل سبحانه وتعالى هو علم الله بالظواهر والخفيات. بمعنى أن هذا التعليق مقصود بصورة خاصة وليس من باب التعليق العام الذي تفطن له الأستاذ العلامة رحمه الله تعالى. إن علم الله بالستر والعلن هو العامل الأول لعدم إباحة المعلومات الكاملة بل اتباع سياسة التدريج في إظهارها. كما أنه نفسه هو العامل الأصيل لعدم إباحة الخيرات وتوفيرها بكثرة درءا لشيوع الفساد والفتنة بين الناس ومن ورائها فساد الأرض بكاملها.

 

ثم إنه سبحانه وعد نبيه بأن يمنحه اليسر في  أمره كما طلب منه موسى بن عمران فوعده الله سبحانه به. ومما لا ريب فيه أن تيسير أمر التبليغ والتذكير تيسير لفهم الذي يطرأ عليه التبليغ والتذكير. فالكلمة البالغة والجادة والصحيحة تعطي ثمارها بعكس الكلمة الناقصة والضعيفة التي لا تتيح للسامع فهم المقصود منها. وكما قرأنا في التاريخ الإسلامي أن الرسول لم يكن خطيبا يمارس التحدث إلى الناس بل كان عابدا ينزوي عن المجتمع للاختلاء مع نفسه وعبادة ربه. وحتى في تجارته فإنه لم يكن عارضا أو بائعا يدير المزايدات التجارية بل كان أمينا على أموال خديجة يسافر فيها إلى الشام ويشتري بها المتاع المطلوب. لكن أمر البيع كان يتولاه المزايدون كما هو عليه التجارة البلدية أو السوقية في أيامنا هذا. كان المزايد يدق الطبول ويترنم الأشعار التي تدعو الناس لحضور السوق فيقصده أهل القرية والمدينة ليعرض عليهم أمتعة التجار إما بالمزايدة أو بالإعلان لكل صنف بسعره. وهكذا فإن المزايد كان يعرف فن الخطاب. وكما ببدو فإن شخص الرسول لم يكن مؤهلا لذلك بل ما كان يليق به ذلك أيضا. فهو عليه السلام كان كأخيه موسى عليه السلام بحاجة إلى تقدير خاص من رب العالمين لتيسير لسانه ثم تيسير خطابه أمام الأمة.

 

فإذا علمه الله ويسره للتحدث إلى الناس وعلمه تجميع المواضيع من كتاب الله وضمها إلى بعضها البعض ليدركها ويتفهمها فلا ينساها أصبح مؤهلا للتبليغ بالعلم والخطاب. ثم أمره الله بالتذكير وإلا لم يكن ليأمره بذلك، حيث أن الله لا يحمل شخصا أكثر مما يقوى عليه. وهكذا هيأ الله تعالى نبيه لتبليغ رسالة السماء. وأما الذين يبلغهم فهم الناس جميعا. إن القرآن ذِكرٌ للناس جميعا والمقصود من إرسال الرسول هو أخذ النماذج والشهود من الذين يسمعون الدعوة لتطبيق الآخرين عليهم وجعلهم حججا على من هم مثلهم سواء كانوا مؤمنين طيبين أو منافقين وكافرين. والتعقيب بإن الشرطية ليس شرطا للتبليغ بل هو شرط للإيمان. فالرسول يبلغ والذي يُخلع عليه البلاغ سوف ينتفع إن كان يخشى الله تعالى ويخشى عاقبة أمره.

 

وهي بمثابة أن تقول لمن يقدم دواء للمريض الميؤوس منه: أعطه الدواء إن نفعته وسوف لا تنفعه إلا إذا كان قادرا على التفاعل مع العلاج. فالطبيب يعطي الدواء ولو كان يائسا من المريض وكذلك أهل المريض يطلبون ذلك، عسى ولعل أن ينتفع أو يكونوا قد أدوا واجبهم وحاولوا نجاة المريض من الموت ما قووا عليه. ألا نرى في تعليمات المستشفيات أن يساعدوا المريض المشرف على الموت على التنفس الصناعي وعلى إعطائه ما يمكن من الدواء ولو كانوا واثقين من موته. ذلك حتى لا يكونوا متهاونين في أداء الواجب ومساعدة المريض إلى آخر لحظة.

 

وحتى لا ييأس الرسول أو يتضاءل نشاطه في تبليغ الرسالة فإنه سبحانه يخبره بأن هناك من يتذكر وهو الذي يخشى. ليعلم الرسول أن بين الناس من يخشى ومن لا يخشى، وهو لا يعرفهم ويتعامل مع جميعهم بكل إخلاص لكن الذي لا يخشى فسوف لا يتأثر ولا يضر ذلك بالرسول ولا برسالته ولا بعمله كمبلغ للرسالة ولا يسبب له إحباطا.

 

ويجب ألا نتوهم بأن الرسول كان مأمورا بالتبليغ إن نفعت الذكرى. لو كان كذلك لقال تعالى: فذكر إن تنفع الذكرى. ثم يعلمه كيف يقرأ قلوب الناس ولم يعلمه الله تعالى ذلك بالطبع. بل المقصود ألا يتوقع الرسول أن يؤثر الكلام الثقيل في الناس كما أثر فيه هو عليه السلام، فيصاب باليأس والإحباط لو لم يؤثر فيهم. والذكرى تنفع بالتأكيد، فإما أن يهتدي صاحبه أو تتم الحجة عليه وكلاهما مطلوبان لازمان للثواب والعقاب.

 

وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى ﴿11﴾ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ﴿12﴾ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى﴿13﴾ هناك الكثير من الذين ضلوا عن جادة الحق وهم يتوهمون بأنهم على حق ويخافون أن يدخلوا في نقاش مع أهل البحث والاستدلال. إنهم يكتفون بما توهموه وقد أنِسوا به ونظموا حياتهم وعلاقاتهم على أساسه. فإذا ما ذاع صيت دعوةٍ جادةٍ للحق، ابتعدوا عنها كيلا يخسروا أهلهم وذويهم ومن لهم فيهم هوى من بني جلدتهم. هذه الحالة تزداد غليانا إذا ما كان المرء صاحب جاه ومال وسلطان وموضع محبة واحترام من أقرانه وممن هم دونه قليلا. فلو كان النداء المذاع دعوة إلى الحقيقة وإنذارا بعذاب واقع ليس له من دافع فإن كل من يتجاهله فسوف يلقى العذاب ويُصاب بالشقاء ويخسر السعادة التي هو فيها إن عاجلا أو آجلا. وكلما ازداد انتشار الدعوة إلى الحق، كلما ازداد المتجاهل ابتعادا عن الدعوة وسعيا لعدم الإنصات لها.

 

إن الشقاء والمصيبة في انتظار كل من يسمع الإنذار الحق ولا يهتم به ولكن الشخص الذي تصورناه أكثر ابتعادا من عامة الذين رفضوا الخضوع للحق. إنه هو  الذي يتجنب الذكرى الطيبة لئلا يُصاب بتأنيب الضمير أو يتم الحجة عليه. مثل هذا الشخص الذي يتجنب الذكرى وهو يحتمل في نفسه الضلال والعمى فهو أكثر شقاء وأكثر حرمانا من السعادة الأبدية مقارنة بالجهلة من أقرانه وأعوانه. إن قلب هذا الشخص فاسد يمنعه من الرضوخ للحق والعدل فهو الذي سوف يصلى النار الكبرى. وما هي النار الكبرى؟

 

الكِبر في الماديات إما باعتبار كبر الزمان أو كبر الجثة التي تحتم كبر المكان. وسوف تقام في منطقة جهنم نار كبيرة في الحجم وكبيرة في العمر. نار تبقى ولا تزول ما دامت السماوات والأرض. وكما يبدو أن هذه النار تتوقد في وسط جهنم. وجهنم منطقة سيعيش فيها الخائبون الذين ضلوا ولم يسعوا لكسب الهدى. وبما أن النار في وسط جهنم فكل من أُسكن قريبا منها فهو في تماس دائم مع النار وسوف تُصلى بها جلده ثم يُبَعّد عنها ليلتئم الجلد فيعذب بالتصلية من جديد إلى الأبد. وهكذا فإنه لا يموت فيها ولا يحيى. وسوف نقدم وصفا أكثر تفصيلا لهذه النار  وللتصلية بها في تفسير سورتي الحاقة والمرسلات بإذن الله تعالى. فكل من كان كبيرا في العناد والضلال جُزي القرب من النار الكبرى والعياذ بالله من شرها.

 

وأين الموت في الدار التي تنبض بالحياة؟ إن الموت من سمات الدنيا وليس في الآخرة أي نوع من الموت لا لأهل الجنة ولا لأهل الجحيم. نحن نموت هنا لنخلي المكان لغيرنا الذي سوف يحل محلنا لينال قسطا من الاختبار بنوع وشكل مغاير لما ابتلينا به. إن الدنيا مكان للتكاثر والتناسل وليس في الآخرة تكاثر ولا تناسل بين الناس إطلاقا. فمن أراد أن يعيش الحياة الآخرة بهناء وسعادة فليشدد إزار التقوى ويترك الفسوق والخروج على أوامر ربه الجبار العظيم. إننا أتينا بعد أن خُلقت أبداننا ونمونا مع نمو البدن ولكننا في الآخرة موجودون وسوف ينمي الله بدنا مناسبا لكل منا. فالبدن في الآخرة ضيف علينا بعكس حالنا في الدنيا حيث أننا اليوم ضيوف على أبداننا. فإن كنا في شقاء فسوف نبقى في الشقاء الأبدي لا نموت فنرتاح كما يموت التعساء في الأرض ولن يكون لنا حياة هنيئة فنعيش ونحيا كما تتوق إليها نفوسنا.

 

والآن، أليس صحيحا أن نقول:  قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴿14﴾ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴿15﴾ ؟ وحقا، أفلح من تزكى. إن كل إنسان يسعى في حياته الدنيا ليعيش ويبقى ما أمكن. فلو أنه سعى لتطييب مذاقه وإشباع شهواته فقد عاش أياما قد تكون جميلة وصنع لنفسه حياة شقية مليئة بالتعب يوم يلقى الله تعالى. وأما لو سعى لتطييب نفسه وتزكيتها وتهذيبها فهو الذي يفوز بالحياة السعيدة عند الله تعالى في جنات النعيم. ولو أن المرء أشعر نفسه الحق والعدل فإنه سوف يعود إلى فطرته بالطبع ويفكر فيها ويرى أن الله تعالى قد ملأ الكون كله قدرة ونورا وهدى ورحمة، فيذكر ربه بلا ريب.

 

وكيف يذكر ربه؟ لو يفتح الإنسان عينيه على أعماق المكونات المادية ليراها جميعا منسوبة إلى الأحد الصمد، فيقول هذا شمس الله وهذا أرض ربي وهذا خلق ربي وهذه الكترونات ربي وتلك فتونات ربي وأنا أشرب من مياه ربي وآكل من رزق ربي وحركتي وقوتي منسوبة لربي. سوف يرى أن كل شيء منتسب إلى الله، فهل يتأتى له أن ينسب شيئا منها إلى أبويه وإلى الملك وإلى رئيس الجمهورية وإلى النبي وإلى الخليفة والإمام؟ كلا. سوف يذكر بالطبع اسم ربه ولا يذكر اسم عبيد ربه. كلما ذكر اسم الله هكذا، كان متقربا إليه سبحانه. إنه ينسب كل شيء إلى ربه فيزداد شوقا وحبا إلى الله كما يزداد تقربا وسعيا لإرضاء ربه سبحانه وتعالى. ومثل ذلك الحقائق المعنوية.

 

وكما قلت في بداية السورة أنها تشير إلى الركائز الأساسية المكونة للوجود المخلوق وأنها منسوبة إلى اسم الله تعالى ولكني لا أعلم منه الكثير وأخشى من أن تزل قدمي فلا أخوض في هذا الموضوع الشائك أكثر مما فعلت. ولكن لا بأس بأن نعلم أن ذكر اسم الله تعالى أقرب إلينا من ذكر الله نفسه ذلك لأن الله خلقنا مما هو يتأثر باسمه سبحانه. إن اسم الله أدل شيء على الله بالنسبة لنا. إذ لا جنس ولا فصل لله تعالى. إنه سبحانه شديد الفردية فهو أحد كما سنعلم في نهاية هذا الجزء بإذنه سبحانه. فما يدل على ذاته غير ذاته ولنعم ما قال الإمام علي بن أبي طالب: (يا من دل على ذاته بذاته). ولكن الاسم باعتبار أن الله هو وحده الذي سمى نفسه وليس خلقه الذين يسمونه كما سنعلم حين ما نفسر سورة الحشر بإذنه سبحانه، فهو بالنسبة لنا دليل على الله تعالى. ألا ترى نفسك تذكر الله دائما باسمه العزيز سبحانه؟

 

ولو تذكر اسم الله من أعماق قلبك فترى بأن ما يحيط بك من خلق يتأثر بذكرك للاسم الكريم جل جلاله. ويمكنك تجربة ذلك إذا وقعت تحت قسوة الحواصب والرعد والبرق الخاطف فسوف ترى بأن ذكر الله يعيد الطمأنينة لقلبك وينجيك من قسوة الطبيعة. واعلم أن كل ذلك تتأثر باسم الله تعالى لأنها جميعا منسوبة إلى الله تعالى عن طريق أسمائه الكريمة. ونحن بالطبع لا نعرف حقيقة اسم الله سبحانه ولا نعرف كيفيته ولا ندرك عمق دلالته ولكننا نعرف بعض آثاره. وبتعبير آخر: إن اسم الله تعالى أقرب إلى ذهن خلقه من نور الله تعالى مثلا. ذلك بأن تكوين الخلق منسوب إلى الاسم الكريم ولكن النور هو فيض قدسي يساعد الخلق على البقاء والحياة والدوام. ولمزيد من الفهم فإنك لو تكتب كلمة الله على ورقة، جاز لك أن تقول هذا اسم الله ولكن لا يمكنك أن تقول هذا هو الله أو هذا نور الله. وهكذا فإنك تشير إلى اسم الله ولا تشير إلى الله نفسه جل جلاله. فمن السهل علينا أن نذكر اسم الله تعالى لنذكر الله ولكن ليس سهلا أن نذكر الله نفسه دون ذكر اسمه. وهكذا فإن ذكر اسم الله تعالى يقربنا إلى الله تعالى وهو الصلاة بمعناها الأصيل كما سنعرف مستقبلا وحين نصل إلى تفسير سورة المعارج بإذن الكريم العزيز. ولا تعني الصلاة التقليدية التي نصليها فرضا خمس مرات أو ندبا ما نشاء. ولكن المقطع الأخير من الآية (فصلى) تعني الصلوات التقليدية والعلم عنده سبحانه.

 

ولا تناقض في ما قلته حول اسم الله تعالى مع الاعتقاد بأن الطاقة هي أصل المواد وأن الطاقة كلها مرسلة من الله تعالى إلى خلقه فهو سبحانه نور السماوات والأرض. والنور في القرآن ينطبق على الطاقة أكثر من انطباقه على الضياء ولو أن الضياء نوع من أنواع النور أو قسم من أقسام الطاقة. ولعل الطاقة المرسلة لخلق المواد الأولية هي طاقة مضمومة مع اسم الله تعالى فالأسماء المرسلة أسماء طاقوية تبنت المادة الأولية أو المواد الأولى لخلق الكون كله والعلم عند الله سبحانه.

 

وما أحلى اسم الله تعالى الذي يقربنا إلى مبدأ الفيض الذي لم يبدأ ولن ينتهي. وما أجمل الوقت الذي نصرفه في ذكر اسمه الكريم والتحدث عن ذاته القدسية عن طريق اسمه الجميل الحسن. ولنعرف بأن هذا لا يعني أن نجلس ونقول ألف مرة أو آلاف المرات: الله أو الرحمن، كما يفعله الصوفية. إن ما يفعله الصوفية محض الجهل والضلال باسم رب العزة مع الأسف. إن الله يريدنا أن نذكر اسمه لنعرفه وليس لمجرد الذكر وتكرار الذكر. هناك يتحول الذكر إلى ترنيم موسيقي فلا يتأثر به العقل والنفس ولكن يتأثر به البدن ليوجه الأقطاب الموجبة (الباحثة عن الشمال) باتجاه واحد فتتجه الأقطاب السالبة (الباحثة عن الجنوب) بالاتجاه المعاكس. هناك يتحصل العضو أو المكان الخاص المتأثر بالتوجيه القطبي على نوع من المغنطة التي تؤثر في الآخرين.

 

هذه النتيجة تتأتى بالتحريك الرياضي باتجاه واحد مرات كثيرة كل يوم أو كل ساعة أو بتحريك اللسان نحو ترنيمة واحدة مرات كثيرة كل ساعة أو كل يوم. وبالطبع أن هذا النوع من التعامل مع البدن يضر الإنسان ولا يفيده. ذلك لأن الخلايا والأقطاب موجهة طبيعيا بالاتجاه المفيد ولا يجوز تحويل اتجاههم فنخسر خاصية مقابل تجلي خاصية أخرى. وبما أن معلوماتي في هذا الشأن قليلة جدا فإني أكتفي بالقول أن الأمر بالتفكر والتعقل والتدبر وفهم ما يقوله الإنسان وكذلك التعلم والانتفاع مما عرفه الآخرون هي من دعوات القرآن. وأما تشجيع الناس على تكرار الذكر مرات كثيرة ليست منطقية وغير مفيدة ويعتبر عملا باطلا متأثرا بوساوس الشيطان وليس من تعليمات كتاب الله إطلاقا. ليس هناك تكرارا لاسم الله حتى مرة واحدة دون أن يكون للتكرار معنى منطقي. لا نرى في أي مكان من القرآن كلمة الله مرتين متتاليتين ولا الرحمن ولا الرحيم.

 

نحن نذكر الله بذكر اسمه الكريم وليس فقط نتغنى بالاسم البديع. والله تعالى يقول في البقرة: 152 {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}. هذا يعني بأن حضور الله يشتد حينما نذكره سبحانه فيذكرنا بمنه ولطفه وعلينا أن نشكره على جميل كرمه ولا نكفر به جل وعز. فذكر اسم الله هو بالطبع ذكر لله تعالى الذي يرد علينا سبحانه بأن يذكرنا فنتقرب إليه بالشكر والتنزيه لنصلي لكبريائه جل جلاله. فالمؤمن يطهر نفسه بذكر الله متفقها متفكرا خاضعا فيتقرب إليه بكل خشوع ليتحقق تزكية النفس بأمر الله سبحانه.

 

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿16﴾ والذي يقابل التقرب المستمر إلى الله بذكر اسمه عن علم ودراية هو طلب الدنيا. فطالب  الدنيا هو الذي يستهين بالصلاة فلا يصلي أو يتساهل ويسهو في الصلاة أو يصلي رئاء للناس، وكلهم محشورون معا في عداد غير المصلين. والخطاب للناس عامة الذين يؤثرون العاجل الدنيوي على الآجل الأخروي. ولو نحلل المسألة بعمق سوف نلمس حقيقة واحدة وهي أن الذين يستعجلون متع الدنيا غير واثقين من وعد الله تعالى، ولن يخلف الله وعده.

 

وفي الواقع فإن صيغة الخطاب تعم صحابة النبي الكريم والذين يأتون من بعدهم. وليس غريبا لو سمعنا عن الصحابة أن غالبيتهم لما يزهدوا عن متاع الدنيا بل كانوا يشتاقون إليها. إنهم صحابة النبي الذين خالفوا تعليمات الرسول في غزوة أُحد وهم في بلدهم فمنوا بالخذلان أمام الجيش القادم من مكة البعيدة عنهم. وقد فعلوا ذلك وهم يركبون دابة الجشع في جمع الغنائم قبل أن تنتهي الحرب وتحسم النزاع لصالحهم. أليس ذلك إيثارا للدنيا على الآخرة؟ ولم يكتفوا بذلك فحليمة لن تترك عادتها القديمة. والله تعالى يكتفي بالوعظ والنصيحة ولا يمكن أن يفرض الإيمان على أحد في دنيا الاختبار والامتحان. فيقول سبحانه:

 

وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴿17﴾ فالدار الباقية هي ما وعدنا الله تعالى بها في النشأة الثانية والأخيرة وهي خير مما نحن فيها. وهي أبقى من الدنيا باعتبار أن طبيعتها تؤهلها للبقاء الأبدي بعكس طبيعة الدنيا التي لا تؤهلها للبقاء الأبدي. وبما أن بقاء المخلوق غير طبيعي بل هو منوط بإرادة الرحمان فإنه فانٍ بطبيعته. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، إلا أن الآخرة أبقى من الدنيا وقد وعد الله تعالى أن يبقيها بإرادته إلى الأبد فعلا لا طبيعة. وبما أنها ستبقى إلى الأبد ولو فعلا فهي أكثر بقاء من الدنيا وهي خير من الدنيا. ذلك لأن المرء يسعى ويجمع المال ويحافظ على نفسه ليبقى فترة أطول في الدنيا فيستمتع بما قُدّر له أن يستمتع. فليفتح هذا الإنسان عينيه ليرى أن الحياة الآخرة بطبيعتها قابلة للبقاء إلى الأبد إن شاء الله تعالى الذي وعد أن يبقيها فعلا، فليستعد للتمتع في تلك الحياة ويضحي بهذه الحياة القصيرة جدا. إن أول أسبوع في الجنة ينسي المؤمن كل هموم الدنيا وإن أول أسبوع في النار ينسي الكافر كل متع الدنيا. هذه الأسابيع سوف تتكرر ولن تقف إلى الأبد. ومقصودي من الأسبوع في الآخرة ما يقابل الأسبوع الدنيوي زمانا أي 7×24 ساعة.

 

ناهيك أن التمتع في الآخرة ليست مقتصرة على ما عرفناه في الدنيا بل لدى الله المزيد من المتع التي لا يمكن لنا الإحاطة بها علما ما لم نر مثلا لها. وأهل الجنة مخلدون في شبابهم وقوتهم وأبصارهم وأسماعهم وأفئدتهم ليتلذذوا إلى الأبد. أليس ذلك خيرا من الدنيا.  

 

إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى ﴿18﴾ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴿19﴾ قال تعالى في سورة الأنبياء: 105 و106 {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون    إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين} الزبور معناه الكتاب ويطلق على كل الكتب السماوية بلا استثناء ولكنه أعم مما هو معروف في القرآن الكريم بالكتاب. فيُطلق الكتاب على الكتب التشريعية عادة مثل التوراة والقرآن ويعم الزبور الكتب التشريعية وغير التشريعية مثل الإنجيل وزبور داود. وأما الصحيفة فهي مقطع من مقاطع الكتاب ولعلها المقاطع العامة مثل مقطع القصص أو مقطع الحكم أو مقطع التشريعات أو مقطع البشائر والنذر. ولعلنا نتوسع في شرحها حين بيان سورة البينة بإذنه سبحانه. فالزبور اسم عام للكتب السماوية برمتها وليس المقصود منه زبور داود كما تأتّى للبعض. وقد كتب الله في كل الزبر أن الذي يصلي ويتقرب إلى الله هو الذي يرث الفردوس وهو الأرض المستقبلية الجديدة. فالذكر هو ذكر اسم الله الذي يسبق الصلاة أو يعني الصلاة لله تعالى.

 

وأما أرض الدنيا فليست مختصة بالصالحين وقد ورث قسما منها اليهود وورث المسلمون قسما منها بعد اليهود صالحهم وفاسدهم. وعادة ما يقول الله تعالى عن أرضنا التي نحن فيها بأنه سبحانه هو  الذي يرثها ولكن الفردوس هو أيضا أرض مشابه لأرضنا الفعلية وهي ليست هذه البتة، فالله تعالى يورثها من عباده من كان تقيا فقط. فتوريث الصالحين الذين يُصَلّون الفردوسَ أو الأرض المستقبلية شائع في القرآن وقد ذكره الله تعالى في هذه السورة الكريمة أيضا بعد ذكر الصلاة. وسورة الأنبياء التي تضيّف هذه الآية مليئة بالذكر فهي تبدأ بالذكر سواء ذكر الله أو ذكر الناس أو كتب الذكر كما تهتم بالعبادة التي أرسل الله الأنبياء لإبلاغ الناس بها. وسوف نشرح المسألة بدقة في المستقبل بمشيئة الرحمن، حتى لا يطول شرح هذه السورة الكريمة اكثر مما وصلنا إليه.  

 

فاسم الإشارة تشير إلى الأمر الذي ذكر في الآيات السابقة (وذكر اسم ربه فصلى). كما قال في سورة الأنبياء أيضا {إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين}ولكن لماذا  خصص الأمر بصحف إبراهيم وموسى؟ وقد ذكر ما يشابه ذلك في سورة  النجم أيضا. فإبراهيم هو مؤسس الإسلام وهو الذي كان مسلما قبلنا جميعا ولكنه لم ينشر الإسلام بين أهله لعدم توفر المناخ الملائم للتشريع الإسلامي القويم بل كان هذا الدين مقتصرا عليه وعلى من مثله من الأنبياء. وموسى هو الذي أتى بتشريع بقي إلى ظهور الإسلام. تشريع موسى انتشر بين بني إسرائيل الذين اصطفاهم الله على بقية خلقه في الدنيا ليكونوا نماذج للمؤمنين، فأخذ الله عليهم عهودا مقابل وعود أكبر في الدنيا والآخرة. لكن التشريع الموسوي لم يكن مقتصرا على بني إسرائيل فعلا بدليل أنه عليه السلام بدأ بدعوة فرعون قبل أن يدعو قومه.

 

فصحف موسى التي تمثل بمجموعها كتاب موسى، كانت تمثل تشريعا عاما لكل أهل الأرض، وقد شرع الله تعالى الصلاة فيها وفي تشريع إبراهيم الخليل. إذن لا ضير إذا فرضها على المسلمين الذين هم ليسوا خيرا ممن سبقهم، فكلهم عبيد لرب واحد لا شريك له. والله تعالى يُشير إلى الفرائض عادة بأنها كانت قبلنا وليست جديدة كما ذكره سبحانه عند إعلان فريضة الصوم. ذلك لإثبات أن الإسلام بفروضه ليس مبتدعا ولكنه مبتدع ببعض ما أحله الله لعبيده تحت ظل الإسلام وبما يحتويه هذا الدين المتمثل في القرآن الكريم من حقائق علمية واجتماعية تساعد الناس على حياة أفضل حتى في الدنيا. كما أن الإسلام ابتدع المجالس البرلمانية كما سنعرفه حينما نتعلم تفسير الجزء السابع والعشرين بلطف القادر المتعالي. كل ذلك لئلا يكون للناس حجة على الله تعالى بعد اختتامه للمسيرة الرسالية غب وفاة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله.

 

والخلاصة أن هذه السورة الكريمة تتناول أهمية اسم الله تعالى في خلق الإنسان وفي خلق الكون المحيط كله وتحثنا باعتبار العقل والتكليف ألا ننسى ذكر اسم الله تعالى أبدا ودائما لنتقرب إليه وقد استعمل فيها الكلمات التي تدل على التكوين مثل: الخلق والتسوية والتقدير والهدى والإخراج والجعل والحياة والبقاء لارتباط كل ذلك باسم الله تعالى التي تتصدر البنية الأساسية للخلق والعلم عند الله سبحانه.

 

وقد من الله علينا بتفسير سورة الأعلى ويليها سورة الغاشية بلطف من الله تعالى.