أول الكلام

 

الحمد للجميل الأزلي والحميد الأبدي الذي وهبنا العقل لنهتدي وقوانا على الفكر لنتعلم وأنزل علينا الكتاب لنميز به بين الحق والباطل وأرسل الرسل الكرام ليوجهونا الوجهة الصحيحة ويرشدونا إلى الصراط الواضح المستقيم فنختاره إن شئنا وشاء الله أو نتركه إن شئنا وشاء الله. وما إن تكامل العقل العام المستنير حتى قطع الله الوحي عنا لألا يظلم الذين هم أقل منا خبرة  وتفهما للأمور ممن سبقنا من الأمم الغابرة، فلا يكون لأحد حجة على الله يوم القسط الأكبر، كما أظن.

 

أراد سبحانه وتعالى أن يخلقنا ليرحمنا فأنشأ الكون العظيم ليصطفي من يستحق من البشر أن يغمره بكرمه وكان من ضرورات عدالته أن يعاقب المسيء حتى لا يستوي مع المحسن فبشر وأنذر وبعث الرسل الكرام لإبلاغ رسالته. فالصلاة على أنبيائه ورسله جميعا والسلام على الذين كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق من المرسلين ولا سيما قائدنا المنتجب محمد بن عبد الله خاتم النبيين ووارث الأنبياء المهذبين. ذلك الرجل المثالي الذي شغف أعماق من نظر إليه بخلوص حبا وولاء، فآمن به وبرسالته وتاق إليه من لم يُحظ بالنظر إلى محياه الكريم من الذين ساروا على دربه وتقبلوا دعوته المخلصة نقلا عمن سمع عنه وتحدث باسمه وروى قصة حياته سيرة أو نطقا.

 

لم نسمع فيما بلغنا من أخبار الحبيب أنه طلب الموت والتخلص ممن آذاه من سلفنا بل كان يتودد إليهم ما قوي عليه ويحبهم ويحب أن يعلمهم طريق الرضوان، طريق السالكين العارفين لا طريق المشركين الذين يظنون في الله شيخا كبيرا يتولى أمر الأنبياء الذين يعدلونه ويشاركونه حكم الكون والوجود والعياذ بالله من جهلهم. لعله كان يتمنى أن يرى كل شيعته في الأرض ويبقى معهم حتى يقدر الله انتهاء الحياة في كوكبنا الأرضي، ولكنه دون شك كان متعطشا للتبتل والانقطاع إلى الخالق العظيم أكثر منا وممن سبقنا، فكان أساه على الموت قصيرا واستبشاره بالرجوع إلى الله كبيرا.

 

إنه عليه السلام هو المثل الأعلى لكل من عاصره فهو شهيد عليهم والذين حضروه هم المثل الأصح لمن يأتي بعدهم، فهم شهداء علينا. ولنا النموذج الأوفى و الأتم في أقرب وأكثر من صحبه وهو فريد مميز بين الصحابة وهو أشبه الصحابة برسول الله، تلميذه وربيبه علي بن أبي طالب. فهو خير من يُقتدى به بعد الرسول العظيم، وقد اتبعه جل الصحابة بمن فيهم الذين قدّر الله لهم أن يمسكوا بأزمة الحكم، فخلفوا الرسول في الملك دون العلم والتقوى. اتبعوه اتباعا كاملا أو مشوبا، رضي الله عنهم وعنا وغفر لهم ولنا جميعا.

 

أما بعد

فكان من قضاء الرحمن الرحيم أن يطردني حكومة الكويت من وطني الكويت إلى إيران ثم أنتقل باختياري إلى الإمارات وأضطر في النهاية أن أقيم في بريطانيا. وقد وفقني الله لكسب إخوان صفا في كل قطر أقمت فيه ولي في من تعرفت عليه من الخلان في المملكة المتحدة خير عزاء لي في الغربة. وقبل فترة وتحديدا يوم الخامس من أكتوبر عام 2001 عرض علي أحد الاخوة المؤمنين أن نقيم معا جلسة قرآنية في أمسيات الجمعة بمنزله، وكان من واجبي الاستجابة لدعوته الطيبة. وقد من الله علينا بإقامة الجلسة في الأسبوع التالي (على ما أذكر) وهو أمسية الجمعة، الثاني عشر من أكتوبر عام 2001. هناك يجتمع بعض الاخوة لتعلم القراءة فهم عرب مغتربون، اختلطوا بالإفرنج فتعثرت العربية لديهم. وقد بدأنا بالجزء الثلاثين من التنزيل بناء على طلبهم فبدأنا بسورة النبأ. وكنت أختم الجلسات بذكر ما أعرفه من معاني السور ليتعرف الجمع على مفاهيم الكتاب الذي أنزله الله سبحانه للبشر وأراه من لا يسعنا رؤيتهم من الجانّ.

 

وبما أنني اعتدت على أن أبدع في كل ما أكتب وأقول، فقلما أنقل ما حرره الآخرون، وقلما أعتمد على الأحاديث  النبوية لمعرفة مغزى الآيات الكريمة. ذلك لعدم اقتران ما روي عن رسول الله بالصيانة الإلهية كما هو عليه القرآن، وللبعد الزماني بيننا وبينه عليه السلام ولاختلاف من تحدث عنه ولأن الأحاديث لم يُكتب حينما كان يُلقيه الرسول بل احتفظ به صحابته في صدورهم، ثم نقلوها إلى التابعين ومن التابعين إلى من تلاهم من الرواة الذين شرعوا في التدوين بعد حوالي قرن من وفاة الرسول الكريم. وهناك طريق آخر يدين به طبقة أخرى من المسلمين وهو طريق عترة الرسول، وقد أصابه ما أصاب مرويات التابعين من غير العترة النبوية من تبعات البعد الزمني.

إن عامة الروايات والأحاديث خليط بما يُخالف نص القرآن أحيانا أو يُخالف ما توصل إليه البشر من الحقائق العلمية الحديثة، وغير جديرة بتفسير الكتاب المبين الذي جعله الله تبيانا لكل شيء. فالقرآن واضح ينطق بالحقائق العلمية البحتة وبأسرار الكون والوجود، وتفسيرُ آياته موجود طيات الكتاب نفسه. علينا بأن نُشعر أنفسنا بأهمية الوحي المنزل ونقتنع بلزوم التفكر في الكتاب والتعمق الشديد في مكنوناته حتى يفتح الله علينا فهمه ويُلهمنا تفسيره. وسوف يرى القارئ الكريم بإذن الله تعالى ما يُرضيه من معاني عميقة وآمل أن يتبلور أمامه فهم جديد لأسرار التشريع ومكنونات الخلق وطرق الوصول إلى رضوان الله سبحانه وتعالى. وإني أوصي من هو مبتلى بالتعصب لمواريث سلفنا الذين مضوا في ذمة الله أن يتخلص من تعصبه قبل أن يُبادر بقراءة هذا التفسير البليغ بإذن الله تعالى.

 

إنني بكل خضوع ألتمس المولى العظيم أن يُمدني بلطفه وكرمه بما يزيل عن قاصر فهمي الجهل والعمى وأن يوفقني لمعرفة ما أوحى به إلى حبيبنا المصطفى، كما أطلب منه بكل ذل أن يهديني طريقه الواضح فلا أرتمي في حبائل الشيطان الرجيم عليه لعنة الله.

 

ما هو القرآن:

هو كلام الله المولوي لعبيده الذين صنعهم بيديه في هذا الكوكب ويجب عليهم جميعا أن يطيعوه دون منازع. ليس من حقنا أن نطبق القرآن على معتقداتنا ومواريثنا التي ألفناها وسمعناها ممن سبقونا فنزداد إثما. جاء القرآن لينطق بالحقيقة ومن واجب كل فرد أن يتعقله بما وسع الله عليه من قدرة فكرية حتى يصل إلى صميم المقصود ويعمل به دون مناقشة. إن لنا كامل الحق في مناقشة مفهوم الآية لمعرفة ما يُريد الله أن يبينه لنا أو يأمرنا به أو ينهانا عنه ولكن ليس من حقنا أن نأول معانيها لنطبقه بتكلف على ما نعتقد بصحته. علينا كمؤمنين بالله أن نصحح عقائدنا لينطبق مع كتاب الله ولو اضطررنا للتخلي عن عقائدنا الموروثة، إذ بدون ذلك لا يمكن لنا توحيد أنفسنا ضد الذين يشركون بالله أو ضد الذين لا يؤمنون به أبدا.

 

دور هذا التفسير وعلاقته ببقية التفاسير:

 

ليس القرآن كتابا جديدا وليس هذا أول تفسير له. فعظمة الكلام الثقيل والصحيح قد أوحى إلى كل من يقوى على فهمه أن يكتب له تفسيرا كاملا أو ناقصا، علميا أو روائيا، بمفرده أو بالمشاركة مع الآخرين، بالعربية أو بسائر ما ينطق به البشر، قديما أو حديثا. تفسير القرآن هو حقا زينة المكتبة العربية والطاغي عليها فهو جزئية فاقت غيرها من الجزئيات بحثا وتفسيرا ونقاشا وتفقها. والذين تصدعوا لتفسيرها هم من فحول العلماء والفلاسفة والمحدثين نظرا للأهمية البالغة التي توليها الأمة الإسلامية لهذه المكرمة الربانية الباقية. ومن حق كل أحد أن يعترض علي ويسخر مني لعدم وجود دور علمي لي بين كبار العلماء الدينيين والدنيويين.

 

لكني بكل خضوع أطلب ممن وصل في متابعته إلى هذا الحد من هذه المقدمة الوجيزة ألا يبخل على نفسه الانتقال إلى متن التفسير ليجرب حظه في فهم معنى سورة قصيرة أو طويلة كما ينطق به هذا الكتاب. سوف أحاول ألا أكتب جملة غير مستدلة كما إني سوف أسعى للبحث طيات الكتاب الكريم نفسه لعلي أنال الغاية والقصد من إنزال الآية أو السورة. ولذلك فإني سوف لا أهتم ببقية التفاسير الفلسفية والروائية عدا ما يؤنسني ويفتح قريحتي للوقوف على كل الاحتمالات الصحيحة لفهم الآية. لكنني سوف أسعى بإذن الله تعالى أن أقرر فهما واقعيا بعيدا عن الاحتمالات لمعرفة كلام المولى العلي القدير عز اسمه. وفيما عدا ذلك فسوف أكتفي بالاعتراف بالعجز عن معرفة الآية.

 

وإني اعترف بالفضل لكل من سبقني في التفسير، فهو أو هي كمفسر قد صرف وقتا وجهدا لمعرفة أعز الكلام وأشرفها وأحبها على قلوب المؤمنين الصادقين. إنهم جميعا محترمون مكرمون في قاموس المسلمين جميعا، وأنا بينهم مستجد لا أفوقهم فضلا ولو تفوقت عليهم معرفة للكلام الرباني المجيد. ذلك لأن الوسائل المتاحة لمن هو في حالي أكثر بكثير مما أتيح لهم جميعا فاللهم ارض عنهم وعنا واغفر لهم ولنا وتقبل عنهم وعني إنك حميد مجيد. ولا أخفي على من يطلع عليه أن مكتبتي في محطتي الأخيرة لندن صغيرة لا تحتوي الكثير من التفاسير. ثم إن وقتي قليل لا يكفي للمزيد من التتبع. ولذلك فإني أكتفي بالاطلاع على ثلاثة تفاسير رئيسية هي: الميزان للعلامة الطباطبائي والكشاف للزمخشري ومجمع البيان للطبرسي. كنت أتمنى أنني أملك نسخة من كل من التفسير الكبير للرازي و في ظلال القرآن للسيد قطب والمنار للبنا ولكن ما باليد حيلة فعلا.

 

وأعترف أيضا بأنني ما تتلمذت على أي من المفسرين المعاصرين ولكني أخاطب العلامة الطباطبائي بالأستاذ عادة. ذلك لأني قرأت تفسيره المشهور بإعجاب وهو منهمك في التفسير، وكنت أشرحه لمن هو دوني علما قرآنيا في عنفوان الصبا بين أهلي في الكويت. وإني ما رأيت العلامة غير مرة واحدة قبل أقل من أربعين سنة وذلك بمعية والدي في إحدى زياراته له بمدينة قم، رحمهما الله ورحمنا جميعا، في زيارة ودية غير علمية. وليكن واضحا أنني ما توفقت للدراسات الحوزوية ولا الأكاديمية إلا أنني لست خاملا بلا نباهة ولا مهملا لما يعوزه الإحكام بل أقرأ ما أشعر بأهميته بكل دقة حتى أفهم كل معناه وأستوعب جل الغرض المطلوب. وهذا التفسير شاهد بإذن الله على صحة ما أدعيه.

 

التعامل مع الكتاب العزيز:

كل مسلم متتبع يعلم أن القرآن مع وضوح آياته ومفاهيمه ليس سهل المنال ولا يمكن التعامل معه كتعاملنا مع الجرائد والصحف، بل هو منزل ممن يعرف السر في كل الوجود فكل ما قاله سبحانه مقصودة بكلماتها وجملها وحركات إعرابها. كما أن كل الآيات مترابطة مع بعضها البعض ترابط سلسلة الجينات في عمق الخلايا النامية. إنما على من يرغب في فهم القرآن أن يجد ويجتهد لعله يعرف وجه الارتباط، كما أنه لا مناص من التخلي عن كل حديث وتفسير وأصل عقائدي لا يتناسب مع أية آية من آيات الكتاب الحكيم، الذي أرسله الله هدى للعالمين. جاء القرآن ليغير لا ليتغير ويتطور حسب مزاج القارئين، فلا يسوغ معه فرض الرأي ولا يمتزج بمعينه الصافي العذب، مذاهب أصحاب المصالح كائنا ما كانوا.

 

وإني أكتب لمن يطلع على هذا من واقع تجربتي الشخصية أنني شعرت بعد فترة قصيرة من الانقطاع إلى التنزيل العظيم، أن الدعوة القرآنية غير متمثلة في المسلمين إلا قليلا. إن القرآن يدعو إلى شيء يغاير ما يدعو إليه المسلمون بمختلف مذاهبهم وكأنهم لم يُسلموا الأمر إلى العليم الخبير. إن حكاية المسلمين تُشابه حكاية المسيحيين واليهود إلى حد كبير. والفارق أن الطائفتين تطاولا على كتاب الله نفسه فحرفا الكلم عن مواضعه ولكن المسلمين لم يفعلوا أو لم يتمكنوا من التطاول على الكتاب المصون. فنحن نتلو القرآن ونرتله ونجوده ولكننا نعود إلى الشيخ أو المرجع ليُعلمنا أصول ديننا ويرينا معالم عقيدتنا ويتلو علينا مناسكنا.

 

لقد تمكن الشيطان من إقناع عامة المسلمين على عدم السعي لفهم القرآن وبأن من فسره برأيه أكبه الله على منخريه في النار، فلا يجوز السعي لفهم كتاب المولى خارج منظومة الأحاديث النبوية وبعيدا عن تفسير الصحابة والتابعين أو الأئمة المعصومين. وحينما نستقرأ المكتبة الإسلامية الكبرى فإننا لا نجد فيها تفسيرا كاملا كتبه أحد الصحابة أو ألقاه أحد أئمة الهدى. حتى المحدثون لم يكتبوا تفسيرا كاملا للقرآن. هذا البخاري يذكر في تفسيره آيات محدودة لا تشكل نسبة من الكتاب العزيز وهكذا بقية الصحاح. وهذا الكافي وبقية كتب الحديث الشيعية تكتفي بذكر آيات قليلة جدا لا يمكن التعويل عليها لفهم الكتاب السماوي المشع والمضيء. فكأن السلف الطيب كان ينظر إلى كتاب الله بعين ثانوية. لا فرق بينهم وبين الذين يعرفون القرآن حينما يقضي أحدهم نحبه فيستمعون إلى المجودين والمرتلين وحسبهم اتباعا لما قاله الله العزيز سبحانه وتعالى.

 

ولننظر إلى القرآن نفسه كيف يريدنا أن نتعامل معه: يقول الله سبحانه وتعالى في بداية سورة الأعراف .{المص  كتاب أُنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين    اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}. وهكذا فإن هذا الكتاب هو منهج الرسالة المحمدية وهو في نفس الوقت دستور المسلمين جميعا. إنه هو المسيطر ولا يجوز تقديم أي كتاب أو حديث عليه مهما كان مصدر الحديث الآخر وكائنا من كان قائل الرأي الآخر. الحكم الأول والأخير لله وهو مبين في محكم كتابه لا في صحيح الشيخ البخاري ولا في الاستبصار للشيخ الطوسي. ولو فرضنا أن الشيخين المذكورين حجتان علينا فهل نثق في ما كتباه قبل أكثر من ألف عام. نحن عاجزون أن نعرف ما قاله الملك عبدالعزيز آل سعود أو رئيس الوزراء چرچيل قبل خمسين عاما مع ما أحيط بهما من قوة إعلامية وفن متقن للتسجيل، فكيف ننسب الكلام إلى البخاري والطوسي الذين ماتا قبل أكثر من ألف سنة.

 

إن كل ما وضعه السادة العلماء الدينيون من قواعد لضبط الحديث وتتبع المحدِث محض خيال ووهم لا تمت إلى الحقيقة بصلة. ولو فرضنا أنهم اتفقوا يوما على دراسة أكاديمية متقنة للأحاديث النبوية فإن احتمال الوصول إلى ما صدر عن رسول الله فعلا ضئيل جدا. سوف نستبشر بمثل هذا التطور العلمي وسوف يتغير الكثير من المفاهيم لدينا ولكننا سنبقى في النهاية حائرين بين الجهر بالبسملة أو الإخفات وبين سن من تحيض ومن تبلغ اليأس وبين رجم المحصنة أو الإكتفاء بما ذكره الخالق العليم في كتابه من الجلد وبين تعزير شارب الخمر أو منعه فقط وبين كفارة الصيام أو قضائه. إن الكثير من الحدود والتعزيرات والديات غير واردة في كتاب الله ولا يمكن الجزم بصحة ما ورد فيها من أخبار نبوية أو إمامية.

 

سوف أبذل الجهد ما قويت عليه للتعمق في مغزى الآيات الكريمة وتعريفها وتفسيرها للناس جميعا. ثم أرجو من السادة العلماء الأفاضل ألا يحاربوني فإني مخلص لهم جميعا وأحب أن أساعدهم لفهم أكثر وضوحا للكلام السماوي العظيم. لست قاصدا أي مكسب مادي أو دنيوي من وراء هذا المجهود الثقيل ولكنني أرجو من الله أن يغفر لي ذنوبي حينما أفرغ من تفسير كل الكتاب بإذن منه سبحانه وتوفيق ورشاد من العليم الحكيم جل وعلا. أخاف عذاب النار لنفسي ولكل المسلمين وخاصة للعلماء الأفاضل الذين تصدوا مشكورين لنشر الإسلام في أرجاء المعمورة. إنهم أحوج من غيرهم لفهم ما يريده الله منهم فلا يكونوا من الذين ضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. معاذ الله.

 

أملي كبير في أن أرضي الله تعالى بما أقوم به فيرضى عني عبيده الطيبون أيضا. اللهم اهدنا جميعا صراطك المستقيم وأرنا مسالك الحق والعدل برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

دعوة مخلصة:

أرجو من كل من يقرأ كتابي ألا يبخل علي بما يراه من قصور أو خطأ فيوسعني علما ويزيدني فهما. لست متعصبا لما أكتبه بل أنا محتاج لمن يسلب مني بعض مجهولاتي الكثيرة. ولعل أسهل شيء على قلبي أن أعتذر وأتراجع عن رأيي حينما ألمس صوابا من داعية خير. ذلك لأن ما ينتظر الأعمى من عذاب أخروي مهين أكثر بكثير مما يتحمله طالب العلم من تحقير حينما يتراجع عن آرائه ومذاهبه في سبيل الحق والعدل. والله في عون من يطلب وجهه ونعم الرب هو فلنكن نعم العبيد.

 

برنامج التفسير:

كتبت هذه المقدمة في بداية التفسير ولذلك فهي غير قادرة على استخلاص ما أرجو الله أن يقويني عليه من فهم للكتاب العزيز. ولعلي أكتب مقدمة أخرى في نهاية تفسيري هذا ليجعله الطابعون في مقدمة الكتاب قبل طبعه إن قدر الله لهذا الكتاب أن يكمل ثم قدر لما سيأتي أن يُطبع، سبحانه وتعالى.

 

أظن بأني سوف أتطرق إلى السورة بنظرة إجمالية لأفهم المقصود من تسميتها بالسورة أو بالأحرى إحاطتها بالسور الرباني الذي يستحيل ولوجه لمن يقصد النيل والتغيير. فكل سورة أخذت طابعا مميزا يعطيها الشخوص والظهور. لو قدر الله لي أن أعرف ذلك فسوف تكون الميزة مصباحا ينير لي الطريق للسير في مسالك السورة والتعرف على جواهرها الكريمة ولئاليها الباهرة النيرة. ثم أحاول استخلاص فهمي في عدة جمل قصيرة بنهاية تفسير السورة ليعلم الذي يريد السبر في أغوار الصحيفة المكرمة، سبيل تكييف بصيرته وعقله ليجاري منهج السورة ويصاحب ترتيب مخزناتها من أمهات المسائل العلمية؛ ورموز الكون والخلق والحياة؛ وأسرار النفس والجن والملائكة والأرواح القدسية وغيرها من علوم الغيب؛ ومن أخبارها التاريخية وأهدافها التربوية ووعدها ووعيدها وظواهرها وبواطنها ومما ترمز إليها وتشير إلى أهميتها؛ ومن أحكامها وأوامرها ونواهيها وغير ذلك.

 

وأما بالنسبة للسور الكبيرة فأظن أننا نحتاج إلى وضع خلاصة لكل مجموعة من مجموعاتها وأظن أن مجموعاتها مرتبة والحمد لله بالتوالي ولذلك فسوف أكتب تفسير كل سورة قصيرة وأنشرها في مجلد إلكتروني واحد وسوف أقسم السورة الطويلة إلى مجلدات متعددة ولكل مجلد خلاصة المجموعة المرتبة. وإني متعمد في وضع الخلاصة بآخر السورة أو المجموعة حتى يعود القارئ إلى ما قرأه مرة ثانية مع فهم الخلاصة إذا أراد أن يعرف المقصود فعلا.

 

أتمنى أن أربط المعلومات القرآنية ببعضها بكل دقة وإتقان وأن أوضح السبب في وضع كل آية وكل جملة في المكان الذي نراه في المجموعة القرآنية المعروفة بيننا. وإني قصدت أن أوضح السبب في تتابع السور بالشكل الذي نراه ونعتبره قرآنا وكذلك تتابع الجمل والمقولات ومعرفة عوامل وأهداف الترتيب من حيث المعنى فقط وليس من حيث الزينة والحسن لجهلي بهما. ومن الواضح الآن لمن قرأ هذه المقدمة أنني غير عابئ بما ذكره المحدثون رضي الله عنهم من أسباب النزول ولا أؤمن بالتجميع البشري بل أعتقد بأن الله هو الذي انفرد بجمعه وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى هذا القرآن بالترتيب الذي بين يدينا كما سوف أوضح ذلك بالدليل خلال تفسير الجزء التاسع والعشرين. كل ذلك بتوفيق وإذن ولطف من الله تعالى، فأنا أعجز وأصغر من القيام بهذه المهمة مع قلة علمي ومهانة اطلاعي.

 

سوف أتبع الضبط على ما روي عن حفص عن عاصم عن السلمي عن علي وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب عن النبي المصطفى عليه السلام.

 

لكنني قلما أتطرق لموسيقى القرآن وبديع نظمه ومتقن تجويده ونحوه وصرفه، لقلة علمي بها. ولعل من الصعب على عالم واحد أن يفسر هذه الأسرار الجمالية بمفرده ولم يفلح من هم بها ممن سبقنا من متخصصي هذه العلوم إلا قليلا. لعل الجدير بالمكتبة العربية الإسلامية أن تخصص مبلغا غير قليل للقيام بدراسة أكاديمية وسيعة لبديع الكلمات وتجانس الجمل والموضوعات ورنة التركيبات الموسيقية أو ما يُعرف بالمقامات القرآنية وتفكيكها موسيقيا لمعرفة أعماقها الجميلة الخلابة. يلي ذلك اقتراح الحركات الصوتية والترنيمات المناسبة لإلقاء الكلمات الإلهية مع نغم منسق يتناسب مع عظمة الموسيقى القرآنية. هناك سوف نعرف الكثير مما لم نعرفه إلى اليوم من أسرار القطع القرآنية ولعل أسرار فواتح السور أو بعض أسرارها تتجلى للمسلمين على يد النخبة المقترحة، والله نسأل أن يوفق أمتنا لعمل ذلك وأن يُرينا نوعا آخر من أسرار الكتاب المجيد والجميل.

 

فواتح السور:

ليس عيبا أن أعترف بأني صرفت وقتا غير قليل لمعرفة فواتح السور والكشف عن رموز الحروف التي أنزلها الله في بداية 28 سورة من الكتاب المجيد، دون أن أكتشف السبب أو أتعرف على المعنى. لقد فسر البعض بعضا منها مثل طه و يس بأنهما اسمان للمصطفى عليه السلام ولعل من يقول بأن ن ذكر للحوت الذي ذكره الله في نفس السورة، لكني غير واثق من ذلك وسوف أوضح رأيي في مكانها بمشيئة الله. ومما تخلصت وسعيت له وأرى في ذكرها هنا مثارا للضحك ولكني أذكرها حتى لا يجربها غيري بل يسعون لتجارب أخرى.

 

تظننت أن السورة تتنزل من عند الله تبارك وتعالى فيتسلمها الروح الأمين ثم ينزلها مع طاقة متقلصة على قلب النبي الكريم. إن الروح القدس يعرف النبي تماما ولا يحتاج إلى اتباع العنوان للعثور عليه. وتظننت بأن بعض السور يتسلمها بعض الملائكة غير الروح نفسه فهم بطبيعتهم لا يعرفون الأسماء ولا يمكنهم معرفة الرسول إن لم يتبعوا العنوان. وتظننت بأن كل حرف يرمز إلى خط من خطوط الطول والعرض. وبادرت بتقسيم الكرة الأرضية بالخطوط الطولية والعرضية ابتداء من نفس المكان المعروف بين الجغرافيين ولكن بتقسيم المقاطع والدرجات على أساس الحروف الهجائية العربية وليس على أساس 360 درجة كما هو المعروف. وتوصلت إلى أن المدينة المنورة تقع في تلاقي حرفي ح و م على الكرة الأرضية.

 

قلت في نفسي: وهكذا يتعرف الملك على عنوان المكان فينزلها وهي في الواقع شحنة كهربائية كبيرة ويفلتها في مستقر العنوان. ومن طبيعة الشحنة المنفلتة أن تبحث عن المكان المناسب لها مثل عمود من الحديد لتتخذها وسيلة للخوض في الأرض كما هي عليه الشحنات النابعة من تصادم السحب ببعضها البعض والمعروف بيننا بالبرق. فإذا انفلتت الشحنة المقدسة في نفس المكان فإنها بطبيعتها تبحث عن المكان المناسب وسوف ترى قلب النبي مناسبا لها بما هيأه الله لاستقبال الشحنة فتخوض في قلبه الشريف ويتعرف النبي على النور ثم يتلوها كعادته على الصحابة الكرام.

 

ومما ساعدني على التشدد في هذا الظن أن الله تعالى يشير إلى تنزيل الكتاب أو كيفية الوحي بعد هاتين الحرفين أو ذلك الكتاب بعد بعض الفواتح الأخرى. ولكني بعد فترة ضحكت على نفسي حيث تركز ذهني على حقيقة أخرى تخالف هذا الرأي غير الدقيق وأبلغت الذين يدرسون علي أنني غلطان في هذا الظن. وذلك قبل أن أقسم النظام الشمسي إلى مقاطع وأقسم المجرة إلى مقاطع لأجد حلا للعنوان الذي سوف يتعرف عليه الملائكة الموكلون بالمنظومة أو بالمجرة وهي غير ممكنة بالطبع لأن الكواكب في تحرك داخل أفلاكها.

 

وفكرت أيضا أن هذه الفواتح علامات للجن ليعلموا بدء التلاوة للكتاب. ذلك لأن الجن لا يقرءون الكتاب بل يسمعون ولعل السبب في أمر الله نبيه والمؤمنين بتلاوة القرآن في الليالي هو ليس التفقه فحسب باعتبار أن قيام الليل يفتح الذهن والقلب ولكن باعتبار أن الجن يمرون فإذا سمع المسلمون منهم إشارات قرآنية استمعوا وتعلموا أيضا. ولعل هذا هو السبب في الأمر بالترتيل والتجويد ليلا حينما يكون عامة الناس نياما. ولا زلت أحتمل ذلك مع حذر حتى لا أصير في معرض الضحك مرة أخرى. والخلاصة أن فواتح السور كانت وسوف تبقى هما كبيرا على قلوب المفسرين جميعا حتى يفتح الله على بعضهم فهمها والله يسمعنا وندعوه سبحانه بكل خضوع أن يمن علينا بتفسير هذه الفواتح الغامضة وعليه التكلان.

 

آيات الأحكام:

يحتوي الكتاب العظيم على كثير من الآيات التشريعية التي تنظم عباداتنا ومعاملاتنا وتوضح حقوقنا وواجباتنا وتردع الخاطئين منا بالكفارات والحدود والديات. إن من واجب الفقهاء أن يناقشوا هذه الآيات بالدقة والتفصيل وقد فعلوا ذلك فعلا ووجب علينا الشكر منهم، جزاهم الله خيرا. لكن الاهتمام بالأحاديث النبوية وأحاديث أئمة الدين قد أربك السادة الفقهاء رضي الله عنهم أحياء أو أمواتا. لقد ظن البعض أن الحديث النبوي ينسخ القرآن أو أن فهم النبي هو مناط الحكم وليس فهمنا نحن الذين دون مستواه عليه السلام علما وفقها. وكأن القرآن لم ينزل إلينا بل أُنزل على محمد وله وحده؛ أو كأننا نترنم بالقرآن ولا نهتدي بهديه إلا في حدود الأحاديث وفي حدود فهم بعض أئمة الدين.

 

كلا، بل علينا أن نعرف القرآن ونعمل به ولا نعود إلى غيره إلا إذا تعذر علينا استخراج المسألة من الكتاب الكريم. حينذاك نستعمل عقلنا ومصالح أمتنا ونستنير بما ورد عن رسول الله رجاء أن يكون الحديث صحيحا وأن يكون الرسول قد أعلنه حكما عاما للمستقبل. بالطبع فإن بعض المسائل مثل كيفية الصلاة فهي مهمة الأحاديث ولكني أظن بأن الحديث النبوي لا ينسخ القرآن. كما أظن بأن الكثير من المسائل موضحة في القرآن ولكن ما سمعناه عن السلف من علمائنا يوحي بأن اهتمامهم كان منصبا على الحديث والفتاوى القديمة لقرب عهدها من الرسالة وأن الاهتمام بالقرآن قد انصب في إثبات صحة ما يخالفون غيرهم من المسلمين من أحكام وأحاديث. كأنهم يظنون بأن الأحكام التي ورثوها ثابتة لا تتغير وعليهم السعي للعثور على آية أو حديث تؤيد معتقدهم. أرجو أن أكون مخطئا.

 

ولذلك فإني سوف أهتم بآيات الأحكام وألعب دور الفقيه في استخراج الحكم الشرعي ما أمكن من الآية المعنية بإذن الله تعالى.

 

الآيات الكونية والعلمية:

يحتوي الكتاب  الكريم على مجموعة كبيرة من المفاهيم العلمية والفلكية. لكن هذا الكتاب ليس مدرسة للكيمياء ولا بحثا للفيزياء وليس هو قاموسا للطب والجراحة كما أنه ليس مهتما بقواعد الحساب والهندسة والجبر والمعادلات والفلسفة والمنطق وغير ذلك من العلوم المتداولة. وجود بعض الحقائق العلمية الدقيقة طيات كتاب رأته عيون البشر قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، ليس إلا ليعلم القارءون أن لا يد للبشر في صياغة نصوصه وتركيب كلماته وجمله. ولذلك فنحن لا ننتظر أن نرى كل الحقائق العلمية في كتاب الله الذي أنزله لهداية عبيده فقط لا لنشر الفيزياء. لكننا كمسلمين نؤمن بأن من أنزله يعلم السر في السماوات والأرض وأنه سبحانه وتعالى وعد بصيانته وحفظه، سوف نرفض كل قانون علمي يخالف نصوص الكتاب المنزل بكل شجاعة.

 

سوف أسعى ما مكنني الله منه لبيان كل أو أكثر المفاهيم الكونية والعلمية المنزلة ضمن كتاب الدعوة إلى خالق الوجود الممكن كله، والذي هو سبحانه واجب الوجود قطعا ودون ريب. هذا لا يعني أن تأويل القرآن قد ظهر بفضل التطور العلمي فهو لن يظهر قبل أن تنتهي فترة الاختبار. فكلما نقوله في هذا الباب ليس إلا ظنا نتمنى أن يكون قريبا من الواقع الذي لا يسع أحدا معرفته عدا الله وحده جل وعلا. وأرجو أن يستمتع القارئ الكريم ويزداد علمه ويقينه بالتنزيل العظيم حينما يمر على تطبيقاتي للمسائل الفلكية والطبيعية على المفهوم القرآني البديع. لعلي وبفضل من الله وحده أقوى على إضافة المزيد من الذخائر القرآنية إلى المكتبة العربية والإسلامية لتنبض بالحياة مرة أخرى بعد خمود ونوم طويل غب انتقال العلوم العامة إلى علماء الغرب.

 

هذا إلى جانب قدر كبير من الحقائق الاجتماعية والأوامر العسكرية والاقتصادية التي صدرت لفترة خاصة والتمييز بينها وبين ما أراد الله لها البقاء والظهور على صدر التشريعات الملزمة إلى يوم القيامة إنشاء الله تعالى.

ترتيب التفسير:

 

عملية تأليف هذا الكتاب تغاير المعتاد قليلا من حيث النظم القرآني. فبسبب طبيعة التفسير الخطابي الذي ألقيه بشكل محاضرات أسبوعية فسوف أبدأ بتفسير سورة النبأ باعتبارها بداية الجزء الثلاثين. وبعد تفسير سورة الناس فسوف نعود إلى سورة الملك باعتبارها بداية الجزء التاسع والعشرين وبعد المرسلات نعود إلى سورة المجادلة حتى التحريم ثم سورة الأحقاف حتى الحديد ثم سورة البقرة حتى الجاثية بإذن الله تعالى. والله وحده يعلم إن بقيت حيا سالما قويا قادرا على متابعة التفسير حتى ذلك اليوم. لكن ذلك لا يمنع أن نرجو الله ما لا يُحصى من المكرمات وجزيلا من التوفيق حتى نهاية المراد كما نرجوه مزيدا من الإخلاص والشوق لفهم كلامه العزيز سبحانه وتعالى.

 

ولعلي أعود لترتيبه بعد انتهاء التفسير حتى ينطبق مع النظم المعتاد لدى عامة المفسرين الكرام، أو يقوم بها غيري بإذن الله تعالى.

 

اسم الكتاب:

أود أن يكون ذلك تفسير التنزيل إن لم يكن مُستفادا من قبلي ولكنه سوف يشتهر بتفسير الجلسات اللندنية  فقد بدأت به في لندن عاصمة بريطانيا العظمى ولعلي أبقى هنا حتى نهاية التفسير إن شاء العلي القدير أو أنتقل حيث ما شاء الله أيضا وتنتقل معي الجلسات اللندنية تباعا بتوفيق منه جل شأنه. وأنا العبد الفقير أحمد المُهري بن السيد عباس المُهري.

 

مدينة لندن في 10/3/2003 ميلادية.