بِسْمِ اللهِ
الرّحْمنِ الرّحِيْمِ وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْبُرُوجِ
1
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُوْدِ 2
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
3
أقسم سبحانه وتعالى
بثلاثة مواضيع غير متجانسة فالسماء وبروجها موجودات كونية ثقيلة ومهيبة
نراها فعلا، واليوم الموعود زمان لم يأت بعد وهو يوم تدمير الكون،
والإنسان هو الشاهد وأما المشهود فهو أعمال الناس في يوم الحساب كما يبدو
ولم يحن موعد الشهادة أيضا. وأما جواب القسم فهو الآيات 12 إلى 16 كما
سنعلم. ذلك برأيي المتواضع وما نعلم إلا قليلا. لكننا نرى في هذه الآيات
الخمسة ارتباطا وثيقا بموضوع السورة. وسنشرح الموضوع في نهاية السورة
بإذنه سبحانه.
ولنشرح تلك المقسومات
بها الثلاثة:
1.
السماء هنا هي كل الفضاء التي تملأ قبة
الكون المتناهية وجدانا. وقد سجل العلماء 88 برجا مشهودا بالعيون
الإشعاعية. وكل منها عبارة عن مجموعة كبيرة من النجوم والسدم المتجمعة في
مكان ما داخل السماء، سميت بروجا لارتفاعها الشديد عن أفق البصر. وقد عين
البشر اثني عشر برجا معروفا لتعيين نقاط مرور الأرض طوال دورانها السنوي
حول الشمس حيث نرى ونحن في النصف الشمالي من الكرة أن الشمس تمر بهذه
البروج السماوية. وبما أن سرعة الكواكب غير متجانسة وبعض هذه البروج ليست
بعيدة جدا فإن بعض هذه البروج سوف تتداخل في بعضها البعض من حيث الرؤية
على الأرض. إذن سيقوم الناس بعد عدة مئات من السنين إلى تعيين أبراج أخرى
لتحديد مراكز رؤية الشمس حين سيرنا في ما يُعرف بدائرة البروج، أو سطح
الدوران السنوي حول الشمس.
فليس المقصود بالبروج
هو البروج الإثني عشر المشهورة بل هي عامة بروج السماء. وأما أهمية
البروج فهي هندستها القوية والمتينة التي تتيح لها تجميع عدد غير قليل من
النجوم التي تسير بسرعات خيالية وبحركات متعددة دورانية ومستقيمة أحيانا
حول نفسها دون أن تصطدم ببعضها البعض. وأما ما نسمع عنه من الاصطدامات
بين الأجسام الثقيلة فهي مقصودة برأيي وليست حوادث طبيعية محضة. ولعلنا
لا نكون مخطئين كثيرا لو قلنا أن البروج في السماء مثل الجبال في الأرض
وخاصة التحتية منها، فهي تساعد على تعادل قوى الجاذبية في الكون المهيب.
2.
وأما اليوم الموعود فهو كما سنعلم في
نهاية السورة، هو يوم الدمار الكوني الشامل والذي يسقط فيه كل الأجسام
العلوية مفتتة مبعثرة كأنهم أناس انحرفت بهم النوتي في البحر المحيط فسقط
بعضهم على بعض ثم سقطوا في أحضان المياه ليشاهدوا حتفهم غرقا.
3.
والشاهد هو الذي عذب بدن الصحابة الأوائل
بالنار المحرقة على يد زبانيته وجلس يتفرج عليهم بكل تكبر واعتزاز.
والمشهود هو ظهور أعمال الناس على شاشة الأفق يوم الدمار الكوني الشامل
حيث يفضح الله فيه أعدائه ليعذبهم بالخزي قبل أن يمنحهم الأبدان ليعذبها
بالنار الحريق. فالأعمال كلها ستضحى مشهودة في ذلك اليوم والعلم عند
المولى جل شأنه.
ولو استشكل أحد على
القسم بالكفار أنفسهم وبأنه تكبير لشأنهم فإني سأرد عليه بأن اتخاذ الله
نفوسهم شهداء هو المقسوم به وليسوا بأنفسهم التي لا قيمة لها في ميزان
العدالة. فسوف تأتي أنفسهم يوم القيامة مرسومة عليها أعمالهم التي صبغت
نفوسهم الشريرة. فكل نفس تشهد دون إرادة منها بل بإرادة الله سبحانه. هذا
أمر منطقي فإننا نرى وجدانا بأن كل من اعتاد على عمل زين أو شين، فإن
نفسه تصطبغ بذلك العمل فيغدو الشخص وكأنه مدفوع وراء العمل لا إراديا.
فالذي يدخن السجاير فترة يغدو عاجزا عن تركه والذي يدمن على الخمر يقع
فيه والذي قتل النفس أكثر من مرة احترف القتل والذي روض بدنه على الصيام
استمتع به ومن علم نفسه مواساة المعوزين لم يفارقهم وهلم جرا. فالشاهد هو
النفس بتكوينه فقد سواه الله تعالى، وليس بما تحمله من آثام وخبث.
قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ 4
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
5
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ
6
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ
7
الأخدود هو شق في الأرض كان يوجده الإنسان ليساعده على إبقاء النار فترة
طويلة ليستفيد منها إما للبيع أو للطبخ أو للتدفئة. ولعل العرب استفادوا
من الأخاديد لتعذيب المسلمين الأوائل في أيام الشتاء. إنهم كما يذكره
المؤرخون، كانوا يعذبون المسلمين وخاصة عبيدهم المؤمنين بالضرب وبشده
فترة طويلة تحت حرارة الشمس المحرقة لعله يتنازل عن تمسكه بالإسلام. وبما
أن نار الأخاديد كانت تبقى فترة طويلة ليستفاد منها كوقود عند الحاجة فإن
التعذيب بها كان شاقا ومزعجا للمؤمنين. ومما لا شك فيه أن الإحراق لم تكن
لحد الموت وإلا لما أعطاهم الله فرصة التوبة كما سيأتي في الآيات
المقبلة.
كان الأثرياء يجلسون
بمقربة من حواف الأخاديد ليتطلعوا إلى عبيدهم المعذبين على جوانبها.
والقعود على الشيء يعني الترصد له. فكأنهم كانوا يترصدون ارتداد المؤمنين
المعذبين الذين كانوا في الغالب عبيدا أو خدما للكافرين. فكانوا بتطلعهم
إليهم يكررون دعوتهم للعودة إلى عبادة الأصنام وترك الرسالة المحمدية دون
جدوى. كانوا شاهدين بالنظر والرؤية العينية على ما يفعله عمالهم مع أبدان
المؤمنين وكانوا يسمعون صيحات المعذبين ولعل عبارات الاستنجاد من بعضهم.
وكانت الملائكة تصورهم وتصور أعمالهم للعرض على شاشة الأفق يوم الدمار
الكوني المفزع. والله الذي يشهد تلك المناظر أيضا فإنه سبحانه يلعنهم
ويهددهم بمنع الرحمة عنهم حينما يقول عز من قائل:
قُتِل أصحاب الأخدود.
ولدى المفسرين الكرام
قصص خيالية أشبه بقصص ألف ليلة وليلة أو قصص علاء الدين والفانوس السحري
في ذكر أصحاب الأخدود. وقد تخيل مؤلفو هذه القصص الروائية أنه سبحانه
يتحدث عن قصص الماضين فأسرف القصاص ما شاء في تسويد الصحائف عن أعمال
خرافية و محارق أقامها الملوك الغابرون ضد المؤمنين. كل ذلك في عالم
الخيال بالطبع فإن الله قد أمهل المعنيين بسورة البروج للتوبة ولكن
السابقين قد ماتوا فعلا. ثم إنه سبحانه تمثل بقصص الغابرين في نهاية
المطاف ولا معنى للتمثل بها ههنا.
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 8
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
9
من
الواضح أن الكفار كانوا ينتقمون من المؤمنين لصالح أصنامهم وما يعبدونه
من دون الله ولكن من هو معبود المؤمنين؟ إنه الله العزيز الحميد الذي
يملك السماوات والأرض والذي هو شهيد وناظر على كل أمر. فانتقامهم من
المؤمنين، في الواقع هو بسبب إيمانهم بالله وعبادتهم إياه سبحانه، وليس
بسبب تركهم لعبادة الأصنام. فلو أنهم لم يعبدوا الأصنام ولكنهم لم
يتجاهروا بعبادة الله فلا يحل عليهم عذاب ولما قصد الكفار أبدانهم. ونقم
منه أو انتقم منه بمعنى واحد وهو عاقَبَه. ومما يلفت النظر هو تجَرُّؤ
الكفار على الله العزيز الذي لا يمكن مصارعته فهو الغالب على كل شيء وهو
الذي لن يطرأ على ساحته المقدسة أي نوع من القهر.
ثم إنه سبحانه وصف
نفسه بالحميد في هذا المجال ليواجه به بشاعة عمل الكافرين مما لا يتناسب
مع جمال مالك الملك ولا يلائم قدسيته التي تؤهله لألا يفتر موجود في
تسبيحه وحمده وتقديسه. وقد ذكّرنا في بداية السورة بأنه سبحانه الذي خلق
السماء وخلق فيها البروج وهي زينة للسماء وجمال للكون بأكمله. فهو سبحانه
لا يحب البشاعة ولا يمكن أن يسكت على قبائح أعمال خلقه. وليس أقبح ولا
أبشع من أن يقوم أحد بتعذيب من سجد لله وخضع لجمال وجهه الكريم فهو مارد
لا يستحق الرحمة ولذلك هدده الله بمنعه من الرحمة ودعا عليه بأن يقتله
الله ومعناه: يلعنه الله.
ثم ذكر سبحانه ملكه
للسماوات والأرض بمن فيها وما فيها وفيها أولئك المشركون أنفسهم. فإذا
كان الكفار يعذبون عبيدهم بأنهم خرجوا عن طاعتهم في اتباع الرسالة
المحمدية، فإنهم بأنفسهم قد خرجوا عن طاعة الله الذي يملكهم ويملك ما
بيدهم. ثم إنه جل وعلا ليس ملِكا دنيويا تملََّكَ بالخداع والقهر أو
بالتوارث أو بالانتخاب، بل هو سبحانه مالك بأنه خلق كل شيء بيده فهو
المالك الحقيقي لكل ما في الوجود من ممكنات صغيرة أو كبيرة. فهو ليس
خالقا فحسب بل هو مالك وهو ملك ينظر إلى كل شيء ليشاهده ويكون شاهدا ضد
من أتى به إن كان ظالما. إن شهادته تطول وتتعمق لتبلغ أعماق المشهود كما
تبلغ أعماق قلب الفاعلين ليرى حقيقة ما قصدوه فعلا. فهو سبحانه شهيد شديد
الحضور وشديد الرؤية وشديد العلم.
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ 10
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْكَبِيرُ 11
بما
أن الله شهيد على كل شيء فهو يشهد ضعف عبيده أيضا ولذلك تأبى نفسه
الكريمة أن تقفل عليهم باب العودة إلى الله. ذلك إن لم تكن نفوسهم قد
سولت لهم قتل المؤمنين. آنذاك فإنه سبحانه لا يغطيهم باليأس ولكنه لا
يعدهم بقبول التوبة أيضا. ولو نمعن النظر في رسالة موسى بن عمران إلى
فرعون القاتل لنرى النبي الكريم يطالب الملك المصري بإرسال بني إسرائيل
معه والكف عن تعذيبهم ولم يعده بالسلام ولا بجنات النعيم. وقد قال عليه
السلام له: والسلام على من اتبع الهدى. وأنى لفرعون أن يتبع الهدى؟ كانت
رسالة موسى اختبارا لكل المجرمين ولكل الملوك ممثلة بملك حضاري يحمل بعض
العلم مثل فرعون ليكون شهيدا على بقية الملوك في الأرض. ولعل فرعون لو
كان مستجيبا للدعوة أن يمتعه الله فترة أطول في الدنيا كما يجازي أهل
الدنيا دائما بخيرات الدنيا. فليست الآخرة مكانا مناسبا للمجرمين مثل
فرعون ومن هو على غراره من الحكام الظالمين في الأرض.
ولو كان التاريخ تُكتب
بأيادٍ أمينة لنقل إلينا أن الكثير من الصحابة الذين سبق لهم قتل
الأبرياء، قلما استمروا على تمسكهم بالإسلام بل انجرفوا مع الأهواء
واستمتعوا بترف هذه النشأة الاختبارية الزائلة. ليست التوبة لمن يقتل
المؤمنين بل التوبة لمن يقوم ببعض الأخطاء ثم يهتز من قريب ليوبخ نفسه
على إثمه وعصيانه لأمر الله تعالى. ولكن التوبة تفيد المنخرطين في
الطغيان أن يستفيدوا من نعومة الحياة الدنيوية فحسب. إن الله تعالى لا
يقفل باب التوبة لألا ينتشر اليأس في صفوف البشر. ولكن الحقيقة أنه
سبحانه لما يهدِ الظالمين الذين ارتكبوا جرائم القتل و الإحراق بالنار أن
يعودوا مؤمنين متمسكين بحبل الله تعالى. ولو حصل ذلك فهو نادر جدا.
وبما أنه لم يتحدث في
هذه السورة عن إزهاق الأرواح البريئة بتعمد وسبق إصرار فإنه سبحانه فتح
باب التوبة لعلهم يرجعوا عن ضلالهم فيستغفر لهم الذين تعذبوا تحت رايتهم
فيغفر الله لهم بعض الشيء ويستعجل بتعذيبهم في الدنيا ليغسلهم من أدران
الظلم والقسوة على الآخرين. وأنا أرجو من الذين يقرؤون كتابي هذا ألا
يغتروا بالتوبة فينجرفوا في كل ضلال ثم يكتفوا بقولة فم ليطمعوا في قصور
الفردوس. ولو فرضنا أن قاتلا عاد إلى الله فعلا فإني أشك في أن يدخل
الجنة وهو أكثر من خادم أو منظف ينظف جدران القصور ويبيضها كما يشتغل
بالمطابخ ومعاصر الخمور الفردوسية ليس إلا. وليشكر ربه أنه نجا من عذاب
الخزي.
وعلى أي حال فإن
التصلية بالنار لن يكون إلا لمن اكتسبت نفسه الإثم. فالتائب بحق لن تصطبغ
نفسه بعوالق العصيان ولن يستحق التصلية بالنار المحرقة. وأما الذين تابوا
فليس لهم عذاب الحريق. ولعلهم يخدموا المعذبين بالنار ويعيشوا في مكان
بعيد عن الحرارة الشديدة أو يعيشوا على أعراف الجدار العازل بين الجنة
والنار أو يخدموا أهل الجنة والعلم عند الله تعالى. فلم يقل الله تعالى:
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم تابوا فهم في الجنة يُحبرون.
وفتن المؤمنين يعني
أضلهم أو أحرقهم أو عذبهم. إنه دون ريب لا يعني أنه استمالهم كما يستميل
الرجال أحبابهم من النساء والأصدقاء. وبما أنه سبحانه لم يعقب قوله
الكريم "ثم لم يتوبوا" بما يُفهم منه الزمان غير المحدد للتوبة فإن
التوبة من قريب هو المظنون معه. ولذلك فمعناه أن الذين فتنوا المؤمنين
دون أن يتوبوا نادمين... وهذا لا يشمل الذين كانوا يكررون عذاب المؤمنين
في كل يوم. إن الندم يقرع قلب الطيبين بمجرد أن يبتعدوا عن العصيان حتى
ولو بالنوم أو بأن يتعبوا من المعصية. فبمجرد ما يهدأ المرء من ثورة
الغضب أو السكر أو النشوة فإنه ينتبه لخطأه ويتوب فورا. و أما الذين
يكررون الإثم يوميا فإن توبتهم خير لهم بالطبع ولكنها لا تدل على طهارة
قلبهم. إن القلب الطاهر يؤنب صاحبه حين المعصية أو بعدها مباشرة. أرجو أن
يكون هذا القدر من التبيين كافيا لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.
ومن الواضح أن ذكر
الضالين ليس كافيا لمن يدعو عبيده للهدى فهو سبحانه يستمر بلطفه في تشجيع
المؤمنين على التقوى ولا يتركهم عرضة لليأس ولوساوس الشياطين. ولذلك أعقب
هده الجملة التوبيخية بذكر جنات النعيم. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فالذين آمنوا يشمل كل الذين دخلوا في تعداد المسلمين ولكنه غير كاف للفوز
بالجنات. إن الإيمان الأولي باب للنجاة من النار وليس منجاة بالكامل.
فالمقصود من الذين آمنوا هم الذين تركوا أحزاب الشرك ودخلوا في المجموعة
التي آمنت بالله تعالى. فإذا شفعوا إيمانهم الأولي بعمل الصالحات فإنهم
من أصحاب الجنة.
ومعناه واضح أن الذين
آمنوا ولم يعملوا الصالحات فليس لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وهذا لا
يعني بالضرورة أنهم يدخلون النار والعياذ بالله منها. فلعلهم كما وضحت
سابقا أن يدخلوا الجنة خدما وحرفيين وصناعيين وما إلى ذلك من أعمال تساعد
أصحاب الجنة على مزيد من التمتع. فالصناعيون الذين يدخلون الجنة كأصحاب
حرف فحسب، فليست لهم الجنة ولكنهم يخدمون أهل الجنة إلا الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فإنهم يرثون الجنة ويُمنحون مفاتحها.
وأما جريان الأنهار
تحت الجنة والتي تُذكر كثيرا مع ذكر الجنة فهو يعني أن كل البيوت والقصور
الفردوسية تشرف على الأنهار. فعلى هذا يلزم تكاثر الأنهار في الجنة وهي
جديرة بالتعمق والتفكر. لقد حاولت أن أجد ذكرا للبحار أو المحيطات في
الأرض المقبلة فلم أعثر. وهو ضروري لأن البحار بما فيها من جمال وبهجة،
إلا أنها مليئة بالمخاطر. إنها السبب الرئيسي لطغيان الرياح ولتشكل
الأعاصير والحواصب، وهي لا تلائم جنات النعيم. فلعل المياه موزعة على
الأنهار ولذلك فإن عدد الأنهار بعدد شوارع الجنة. ليس للأنهار دور في
تحريك الرياح الشديدة ولا شدة فيها ولا خطر فهي الأنسب للأرض الباقية.
فلو أن أناسا من
المؤمنين رغبوا في ركوب البحار في الدار الأخروية، فلعل حرس الجنة يهدوهم
إلى الطيران نحو الكواكب الأخرى في سفرات فضائية للتمتع بالشمس وبالبحر
أياما ثم العودة إلى مأواهم البهيج في جنات الفردوس. إذا كان أهل الدنيا
قادرين على أن يسبحوا في الفضاء الخارجي ويصلوا إلى الكواكب البعيدة فليس
الله بضنين في ذلك على عبيده المؤمنين في الجنة. كما لا أستبعد أن تكون
بعض الكواكب الأخروية معَدّة للاصطياف والزيارة ومزودة بالأوكسجين وببعض
أشجار الفواكه و المأكولات البحرية والطيور المشوية. و من الجدير بالذكر،
أن الأرض الأصلية مزودة ببعض مراكز الترفيه والتسلية الجميلة وأرجو أن
يوفقني الله تعالى لشرحها في سورة الرحمان.
والخلود في الجنة يعني
البقاء الأبدي ولكنها بقاءٌ بإذن الله تعالى. إلا أنها تعني كل مفاهيم
الخلود فنعيمهم خالد وشبابهم خالد وما بحوزتهم خالد وليس الخلود مانعا
لأن يكرمهم الله بالمزيد فقد صرح سبحانه في آيات أخر بأن لهم فيها مزيد
وبأنهم يرزقون ثمارا جديدة فلا مجال للضجر إطلاقا. إن شيئا واحدا سيبقى
دون تغيير وهو الحياة فهي لما تتغير وهي مطلوبة. إن الإنسان يحب حياته
الدنيوية وهو عادة ما يتمنى بقاءها ولو مع الشقاء فكيف به لا يتمنى بقاء
الحياة مع النعيم في الآخرة. حتى كسب العلم والتوسع في المعارف ليس
ممنوعا على أهل الجنة. ليس في الدنيا ما تنفرد بها من لذائذ سوى المال
والإنجاب اللذان لا يتلاءمان مع الحياة الأبدية. وفيما عدا ذلك فإن كل
الإيجابيات الممتعة موجودة في الآخرة. وأنا لا أستبعد الصناعات والتحف
المتطورة والموضة ونوادر الأوطان المختلفة من هدايا وطبخات ومشروبات وما
إلى ذلك مما يزيد الفردوسيين تمتعا ونعيما بفضل من الله ونعمة.
أما الفوز الكبير فهو
من باب أن الله تعالى يعامل الناس ضمن قوانين الطبيعة وليس ضمن القوانين
الوضعية التي تحكمها أصول غير عادلة مثل التوارث والتجارة والمفاجئات.
فالحظوظ في الدنيا ليست من باب الاستحقاق بقدر ما هي صُدف أو اختبارات
متكاملة. ولكن الحظوظ في الآخرة هي مخصصة لكل الذين صبروا دون استثناء.
فالفوز فيها غير منحصر على الأعداد التي لا يمكن لها أن تزداد عن حد معين
تبعا لضآلة النعم وتقشف الخيرات في الدنيا. ولذلك فإن الفوز بالنعيم في
الآخرة ليس مبنيا على الصدف بل هو واسع يشمل كل من صبر في جنب الله وآثر
رضوان الله تعالى على ترف الدنيا دون استثناء فهو فوز كبير بحق. كما أن
القصور أيضا ليست اقتراعيا بل إن جميع القصور معدة ليطابق استحقاق
أصحابها وكلها على ضفاف الأنهار دون استثناء. إن نظام مَن سبقَ لَبق
الدنيوي أو الصباح رباح وما شابهها غير وارد في الآخرة بتاتا.
ولكن النَيل هو طبيعي
والطبيعة تتعامل مع كل شيء بنظام الانبثاق والبعث والإثارة وليس بنظام
التسليم باليد والتنقل بالسيارة. إن كل ما يتعامل به الملائكة وما يتعامل
به الله من حكم وقضاء وإدخال في النار أو في الجنات هو بالإثارة والرمي
وبالسرعة الفائقة أيضا. ولكننا حينما نستقر في أماكننا فإن التعامل معنا
تختلف ففي الجنة خدم يقدمون الأكل بصحاف والشرب بكؤوس. ولكن دخول النار
بالرمي أو بالسَوق ودخول الجنة بالسوَق أيضا. كما أن المحكمة ليست مشابهة
للمحاكم الدنيوية فهي محكمة مثيرة بطبيعتها لأن التعامل سيكون مع سيد
الكون وملك الطبيعة. ولا أدري إذا كان هذا القدر الضئيل من البيان كافيا
لتوضيح موضوع معقد جدا. فلو تمكن أحد من فهم هذه المسألة سهُلَ عليه قبول
كلمة الفوز في الآخرة دون أن يتبادر إلى ذهنه الفوز الدنيوي غير العادل.
والله العزيز القادر هو الذي يعلمنا ما لم نعلم.
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ12
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ
13
وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ
14
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ
15
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ
16
وأخيرا وصلنا إلى جواب ما أقسم به الله سبحانه في بداية السورة. ولا
يمكننا التعرف على أهمية المقسوم من أجله في هذه السورة إلا بعد أن نعرف
أن أطول عملية زمنية في تفاعل الكون هو الانفجار الكوني ثم الدمار الكوني
وما يتبعهما من زمان إلى أن يستقر الكون. أما ما سبق الانفجار من صناعة
المادة وهو أصعب عملية تمت إيذانا ببدء الخلق ولهذه الصناعة مراحل غير
قليلة بالتأكيد، فلو قدر الله لها زمانا لكان طويلا جدا أطول مما يمكن أن
نتخيله من السنين. هو عمل في غاية التعقيد ولعلنا نتحدث عنه بعض الشيء في
المستقبل ولكن لم يكن للزمان دخل في عملية إيجاد المادة وإيجاد الفضاء.
ولعل الزمان بدأ فعلا بالانفجار الكوني كما اقترحه علماء الفيزياء
المعاصرون.
وفي القرآن ذكر مفصل
لعملية البطش هذه التي تقضي على ذرات الكون برمتها لتهشمها وتحولها إلى
مواد ثقيلة بعد إزالة الفراغ الموجود بين جزيئات الكون. سوف يتحول الكون
برمته إلى موجود لا يأخذ حيزا كبيرا من المكان ولكنه في غاية الثقل لو
بقيت هناك جاذبية. يتصور بعض الفيزيائيين أن كل ملعقة منها ستزن مئات
الأطنان! هي فعل بطش جبار يدمر به الجبار سبحانه كل ما صنعه بيده طيلة
بلايين السنين ويهشمها ويعيدها إلى مكانها الأول في وسط الكون. ولم يكتف
سبحانه بذكر البطش بل وصفه بالبطش الشديد! وسوف نشرحها شيئا فشيئا كلما
مررنا بها في سيرنا في كتاب الله بإذن الله تعالى.
وقد وصف الله عمله
بالبدأ مستعملا صيغة الإفعال، لأنه سبحانه يأمر المادة بأن تتفاعل فهو جل
جلاله يُبدِؤها ولا يَبدأها. إنها هي التي تخضع لأمر الله فتبدأ بالتفاعل
والله يضغط عليها بالطاقة والدفع والعلم عنده سبحانه. إن أمره واحد وسريع
ولكن المادة التي تقع عليها الأمر تتفاعل ضمن إطار الزمان المرسوم له.
سنعرف فيما بعد وحين تفسير الجزء التاسع والعشرين، أن عملية الإعادة
تستغرق ثمانية عشر بليون سنة، والبليون هو ألف مليون سنة. وهذه تقتضي أن
تكون عملية البدء مستغرقة نفس الزمان أو أكثر. لقد بدأ الخلق بالانفجار
والاندفاع خارج المركز باتجاه القبة السماوية التي جذبتها بدورها ووسعت
نفسها لِتُوسع معها الفضاء فيتوسع المكان الحاوي للبروج والمجرات
والنجوم. إن البروج تكونت في عملية خلق السماوات والأرض وقد أشار إليها
الله سبحانه في بداية السورة.
ثم سيعيدها سبحانه
لتتدمر وتنهار وتصير كل كوكب صلب قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
وهو اليوم الموعود الذي يفزع فيه الناس ويُصعقون إلا من شاء الله من
المؤمنين الذين تتلقاهم الملائكة قائلين لهم هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
إنهم سوف لن يفزعوا ولن يخافوا يوم يفزع الكون برمته. ويقول الإمام علي
صلوات الله عليه وهو يُعدّ نفسه لذلك اليوم: " وإنما هي نفسي أروضها
لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر". سنشرح في الجزء التاسع والعشرين بإذن الله
تعالى بأن كل الناس حتى الذين سيشملهم الغفران فيما بعد فهم سوف يفزعون
في اليوم الموعود. ويستثني الله منهم البعض وسوف نشرح في نفس الجزء ما
يجب أن يفعله المرء ليتحاشى فزع اليوم الأكبر.
ومن مظاهر الغفران
العظيم أن الذين لا يستحقون الأمان في يوم الفزع الأكبر فسوف يُصعقون
فينتهي بذلك خوفهم وفزعهم ويبقوا في صرعهم حتى الخروج من الأرض الجديدة.
وبذلك فإن الذين لا يستحقون السلام سوف يسلموا أيضا حتى يأتي يوم المحكمة
الكبرى فيرى الله عملهم ولعله سبحانه يغفر لهم أو يسهل عليهم العذاب أو
يعذبهم. إنه غفور يغفر ما كان للغفران مكان وودود يرحم ويتودد ما ترك
العبد للمودة مجالا. أما الذي لا يتخذ الله موئلا فلا يرجع إلى ربه
بإرادته فإنه هو الذي منع عن نفسه سحب الغفران.
ولعل من يقول بأن الله
يتبرع بحقوقه ولكنه سبحانه كيف يغفر للمذنبين ما حملوه من أوزار للغير.
وقد سمعنا ذلك كثيرا من الذين يعتلون المنابر. قالوا ويقولون بأن الله
يتنازل عن حقوقه ولكنه أنى يغفر للمذنبين حقوق الناس عليهم. هذا محض
افتراء على الله والعياذ بالله مما أفكهم الشيطان. إن اللعين يغرر بالناس
ليُزيحهم عن عبادة الله فيعظم في نفوسهم حقوق الناس ويُبخس في قلوبهم
التعظيم لله رب العالمين. إن الله عزيزٌ عليٌ مالك لعرش الوجود جميعا فهو
يملك كل الناس ويملك ما بيدهم ويملك أبدانهم وله سبحانه أن يغفر لمن يشاء
سواء ظلم نفسه بأكل حقوق العباد أو ظلم نفسه بالكف عن عبادة الله تعالى.
إن حقوق الله أهم
بكثير من حقوق الناس فإذا استحق أحد أن يغفر الله له ما بذمته من حقوق
لله تعالى فإنه سبحانه يغفر له بالطبع ما بذمته من حقوق للناس المملوكين
لله أيضا. ليس للناس ولا لحقوقهم أية مقارنة مع حقوق الله تعالى. إنني
أدعو المؤمنين ألا يفرطوا في حقوق الناس ولكني أدعوهم قبل ذلك ألا يفرطوا
في حقوق الله تعالى الذي يملك الناس وما بيدهم. ولذلك فإن الغفران الشامل
سوف يعم حقوق الناس ايضا لأنها في المرتبة الثانية من حقوق الله تعالى
على عبيده. إن الله هو مالك العرش والعرش يعني كل السماوات وكل الأرضين
وكل من فيها.
سوف أشرح العرش في
كتابي المفاهيم الصحيحة مستقبلا إذ لا مجال له هنا. المهم أن نعرف بأن
الله يملك كل شيء فعلى الناس أن يضعوا الله في مقدمة اهتماماتهم ولا
يضيعوا حقوق الناس باعتبار أن الله أمرهم لا باعتبار الناس أنفسهم، إن
الله فعال لما يريد. (وسوف أشرح المجيد في نهاية السورة إنشاء الله
تعالى.) وأما الفعّال فهي صيغة مبالغة من الفعل، إذ أنه سبحانه يفعل ما
يشاء دون أن يهتم بأحد. إنه لا يفرط في حقوق الناس وسوف يعوضهم عما نالوه
من ظلم إنشاء الله تعالى. لكن حقوق الناس لن تقف عائقا في فعالية المشيئة
الإلهية بالتأكيد. إنه سبحانه فعال لما يريد، ولكن هل يريد سبحانه إلا
الحق والصدق والعدل. وبما أن الله هو الحق والعدل فإن المساس به
وبكبريائه مساس بالحق والعدل. لذلك فلنحذر مس كبرياء الله تعالى ونهتم
بكل ما أمرنا به باعتباره هو سبحانه لا باعتبار حقوق الناس.
ولو فرضنا أنه سبحان
رأى في عبد تضييعا غير مقصود لحقوق الآخرين فإن من حقه سبحانه أن يغفر له
مهما كان ذلك العاصي مدينا لغير الله. إن الله يعامل كل فرد بفرديته قبل
كل شيء، فإذا كان الفرد قد خسر شيئا أو ورد عليه ظلم من أحد من عبيد الله
فإنه سوف ينال التعويض الكافي من الله بغض النظر عما له من حقوق على
الآخرين. لكل شخص الحق أن ينتظر من مولاه المكافأة على ما صبر سواء كان
صبره على ظلم ناله في سبيل الله أو على مال أكله عليه إنسان آخر عدوانا
وعتوا. ومن جميل فضل الله أنه سوف ينتقم من الذين أصروا على ظلم الناس
وخاصة ظلم المؤمنين، إظهارا لمزيد من المودة والرحمة بأن يروا ظالمهم
يأخذ جزاءه بمرأى منهم. هذا من باب الرحمة على المظلوم وليس من باب حق
المظلوم على الظالم. ألا ننظر إلى الأنبياء الذين ظُلموا ثم أرادوا أن
يعفوا عن ظالميهم فكانوا يستغفرون الله لهم. إن الحق كله لله وليس للناس
أي حق من دون الله وظلم الناس عيب باعتبار أنهم عبيد لله ليس إلا.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ
17
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
18
ذكر
الله سبحانه بطشه الشديد والشامل الذي يعم الكون كله بلا استثناء كما يعم
كل من فيها ماعدا النزر اليسير من المؤمنين الذين تتلاقهم الملائكة
قائلين لهم على ما أظن: هذا يومكم الذي كنتم
توعدون. وبذلك تطمئن نفوسهم ويزول الخوف والفزع من قلوبهم كما
يبدو بإذن الله تعالى. ومما لا شك فيه أن الناس في ذلك اليوم سيكونون في
حالة نفسية غير محاطين بالأبدان. وعليه فإنهم سوف لا يتأثرون بالطبع بما
يحل على الأجسام الكونية الضخمة من دمار وخراب فيما عدا الخوف والفزع
ولذلك يسميه الله تعالى بيوم الفزع الأكبر. وقد عودنا جل وعلا أن يُشير
إلى بعض الشواهد الدنيوية لنتخذها رمزا واضحا على صحة المقولات القرآنية
ولا ننخدع بوساوس الشياطين، فأشار سبحانه إلى حديث جنود فرعون وثمود.
إن من خصائص القرآن أن
يستشهد بالقضايا التي حصلت لإثبات ما سيأتي وقد اكتفى منزله العظيم
سبحانه وتعالى بذكر قومين من الظالمين الذين نالوا قسطا من عقاب الدنيا
وهم مجموعتان من الجنود. جنود فرعون وجنود ثمود. وبما أنهما كانتا
مجموعتين قويتين في غاية الغطرسة والسلطان فإن التمثل بهما مناسب لطبيعة
هذه السورة المباركة التي تتحدث عن المتغطرسين من مشركي مكة الذين أصغوا
لكبريائهم وغفلوا عن دعاء الله سبحانه الملك القدوس لهم بالعودة إليه
والكف عن الشرك بالذات القدسية. فلو نتصور أغنياء مكة الذين كانوا ينظرون
بكبرياء إلى المسلمين الأوائل وهم يُعذبون بمرأى منهم ويصطرخون بمسمع من
آذانهم المركوسة؛ فسوف نشعر بالتساوي الكيفي مع الذين سبقوهم من أنصار
فرعون وعادٍ الأولى. قام فرعون بقتل الأطفال الرضع ليأمن عدم ظهور شخص
يحتمل أن يقوض سلطانه. ولعل العرافين والسحرة هم الذين أشاروا إليه بذلك.
وأما عاد فكانوا يبطشون بالناس وقال الله تعالى عنهم على لسان هود: {وإذا
بطشتم بطشتم جبارين}. وقد دمر الله القومين تدميرا كاملا، حيث
أغرق فرعون وجنوده جميعا في اليم كما سلط الحواصب العاتية على قوم عاد
فأتت عليهم جميعا وأنهى جبروتهم وكبرياءهم بما يقابل بطشهم ببطش أكبر.
ومن الواضح أن
الاستشهاد بقومين بطشا فواجها بطشا أكبر، شملهم جميعا مع من تبعهم من
نسائهم وأطفالهم وكل ما يملكون، يفيد الاتعاظ وعدم التغرر برحمة الله لمن
لا يستحق الرحمة. إن الشيطان يوسوس في صدور الناس بأن الله سيرحمهم وهم
بين أهليهم وأطفالهم وقد أرى الله الظالمين أنه لا يرحمهم إن شاء ولا
يرحم أطفالهم ونساءهم أيضا. إن ذلك طبيعة عذابه الدنيوي. وطبيعة البطش
المدمر المذكور في سورة البروج هو الشمول أيضا. سوف لا ينجو من فزع ذلك
اليوم إلا من تهيأ له. ولذلك سماه الله بطشا لانتشار الفزع فيه بين كل
الناس إلا عددا قليلا ممن أعدوا أنفسهم لذلك اليوم. فبطش يوم الدمار يشمل
حتى بعض الذين سيدخلون الجنة مستقبلا بأن يغفر الله لهم ذنوبهم، وهذا هو
السر في فزع اليوم المهيب الذي خافه كبار العباد والزهاد مثل علي بن أبي
طالب. فكيف بنا؟! رحماك اللهم يا رب.
والمقصود من ذكر
المبطوش بهم هو العظة والاعتبار، ولا ريب أن الذين رأوا آيات الله من قوم
موسى وهود ولم يعبئوا بها بل تمادوا في عنادهم وتكذيبهم لآيات الله
تعالى، فهم ليسوا مختلفين عن بقية الناس. ولو كرر الله عذابه وبطشه في
الدنيا لغرض الاعتبار فإن النتيجة لن تختلف عما هي عليه بدون بطش دنيوي.
وبما أن الله تعالى كما يبدو غير راغب في إنزال العذاب الدنيوي، إذ أنه
سبحانه قد خصص الآخرة للجزاء، فإنه يكتفي بقوله الكريم:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ
19
فإن الذين كفروا اليوم والذين يكفرون من بعدهم جميعا في حالة تكذيب
مستمر. إنهم أنى يعودوا إلى الله إلا إذا رأوا العذاب الأليم تمسهم
بوضوح. و إراءة العذاب تخالف سنة العليم الخبير سبحانه في دار الاختبار
الدنيوية الفعلية. وسوف نشرحها في ما بعد بمشيئة الله تعالى. ولكنه
سبحانه لن يفرط بحق أحد، كما لا يمكن أن يساوي بين المجرم والمؤمن فهو
عالم بما يفعله عبيده وسوف يحتفظ بها ليوم الحساب ولذلك أعقب الآية
الكريمة:
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ
20
إن
إحاطة الله بالكون إحاطة علمية وإدارية كاملة شاملة. فكل الكون بمن فيه
وما فيه محاط بنور الله جل جلاله. والإحاطة هنا ليس بمعناها المادي
المتعارف بيننا وهو إحاطة الموجود المادي بما يمنع الارتباط به إلا عن
طريقه مثل تحويط البستان أو بناء الغرف والجدران أو الحاويات المعروفة
وما شابهها. كلا، إنها إحاطة إلهية وليس لدينا في الوجود ما نشبهه
بالإحاطة الإلهية، اللهم إلا الإشعاعات الرقيقة جدا مثل الأشعة السينية
أو أشعة جاما فهي تحيط بكل ذرات الموجود حينما تسلط عليه وضمن زمان
التشعشع. ومما لا ريب فيه أن إحاطة الله للموجودات أعمق بكثير من إحاطة
الإشعاعات فهي إحاطة نورية أو طاقوية تُقوِّم الموجود وتلازمه دون أن
تفارقه. إنها إحاطة تعطي المعنى الوجودي للموجود فكل موجود لا شيء
بدونها.
وليس خطئا لو قلنا أن
كل موجود يحمل في وجوده صبغة من الله تعالى ولذلك فإن كل موجود غير مختار
لا يفارق التسبيح للذات الربوبية. والموجودات المختارة بأجسامها تسبح
جبرا وبأنفسها تسبح اختيارا. ولعل الصحيح أن نقول بأن النفس بوجودها تسبح
لله جبرا ولكن لصاحبها القدرة على التسبيح الاختياري أيضا. والتسبيح
للذات الربوبية هو الخضوع لأمره باعتبار السيطرة النورية على الموجود.
وذكر الإحاطة هنا لإقناع ذوي الألباب بعدم تفريط الله في شيء لشدة علمه
بكل شيئ وبما أنه العدل المطلق فلا يمكن أن يصاب أحد بأي ظلم عند الله
بتاتا. فلو أن مجرما لم يقدر الله له أن يتذوق بعض الجزاء في الدنيا كما
قدر لجنود فرعون وثمود فهو ليس من باب الظلم أو الغفلة، بل لسبب آخر.
وسوف يكمل الله لكل المجرمين مجازاتهم يوم القيامة دون أن يبالغ في
عذابهم إذ أن الله لا يظلم أحدا.
وتخصيص الإحاطة في هذا
المجال بورائهم يفيد أنهم مختارون في ما يفعلون والإحاطة الربوبية التي
من شأنها أن تعدل سير الموجودات، فإنها سوف تمنحهم الخيار لغرض الاختبار
ولكنه يحتفظ لنفسه بالهيمنة الكاملة للتدخل أحيانا لإيقاف بعض الأعمال
التي تضر إدارة الكون. فهو سبحانه بالنسبة للمختارين محيط من ورائهم وليس
عائقا أمامهم إجمالا. فالإحاطة من الوراء خاصة بالموجودات العاقلة
المرسلة للاختبار ومحددة بزمن الاختبار. ولم يذكر الله هذا النوع من
الإحاطة في غير هذه السورة على قدر علمي المتواضع.
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ 21
فيِ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
2
يهدينا الله تعالى في هاتين الآيتين إلى موضوع مهم جدا مرتبط بصناعة
الكون. الضمير في هو راجع إلى العرش الذي أشار إليه الحميد المجيد قبل
قليل. وقد ظن المفسرون الكرام بأن الحديث هو عن القرآن المجيد. ولعل
السبب في ذلك تداعي ما ورد في سورة ق لديهم من ذكر القرآن ووصفه بالمجيد
وسوف نفسره في سورة ق بإذنه سبحانه. ليس في هذه السورة الكريمة أي ذكر
للقرآن أو لاعتراض الكفار على القرآن. إنهم عذبوا المؤمنين لمجرد أنهم
آمنوا بالله سبحانه وعبدوه بغض النظر عن كتاب الهداية. والعجيب أنهم ظنوا
بأن السورة تتحدث عن القرآن وإنكار القرآن ولم يتوقفوا عند ذكرهم للقصص
الخرافية التي تحدثنا عن تعذيب الماضين الغابرين للذين آمنوا بالله وليس
عن تعذيب مشركي مكة للمؤمنين. فلو كان الحديث عن كفار ما قبل الإسلام فما
هو ارتباط القرآن المجيد بهذه السورة الكريمة؟ إنهم رضي الله عنهم قد
تخبطوا فعلا.
ولو ننظر إلى سورة
الأنبياء:104 حيث يفصل الله تعالى فيها كيفية انطواء الكون يوم عودته إذ
يقول سبحانه: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب
كما بدأنا أو خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين} ولو نفكر
قليلا عن تشبيه الله للسماء المطوية بيمينه الكريم سبحانه بالكتب المطوية
داخل السجلات، فسوف نكتشف أمرا جديدا في تركيب الكون. ولعلي أعرف بعض
الشيء عن هذا التركيب الغريب الذي يوضح البنية الأساسية للمادة مما هي
قبل التركيب الطاقوي أو النوري. ولكني أعلم بأن ليس من حقي أن أبوح به
إطلاقا لقلة علمي به. ولعل المعرفة هذه ميسرة لبعض الناس ولكنهم جميعا
على ما يبدو ممنوعون من إظهارها للعامة. ولكني أذكر ما ذكره الله: فالكون
بمجموعه يمثل عرش الله سبحانه {وسع كرسيه
السماوات والأرض} وهي مجموعة من تلك المواد التي يشبهها الله
تعالى بما ينطوي عليه الكتب.
إذن فالكون كله قرآن
منسوب إلى الله وهو الذي بدأها ثم يعيدها جل جلاله. والقرآن معناه
المجموعة. وأما المجد فهو بمعنى الشرف المتصل ولذلك يطلق على الشرف
والفخار الذي يرثه الإنسان من آبائه ويبيح له العرب ذلك إن كان يحمل شيئا
من ذلك الشرف وإلا فهو غير ماجد. والمجيد هو الذي يملك الشرف المتصل
بغزارة وكثرة. وذكر الشرف المتصل لله سبحانه باعتبار أن كل صفات الله
قديمة غير حادثة لأنها تمثل ذاته المقدسة، بل هي كلها عين ذاته سبحانه
وتعالى. فالمجد حقا لله لا لغيره وهذا هو معنى المجيد في الآية 15 بإذنه
سبحانه، وإنما نسبة المجد إلى الغير من باب التشبيه فقط. ولكن الله
الحميد نسب العرش أو المجموعة الوجودية التي خلقها من فضله إلى المجد
أيضا في هذه الآية. ولعل السبب هو أن شرف الاتصال بالخالق العظيم يواكب
المجموعة الكوكبية التي تمثل الكون كله من يوم خلقه دون أن تدنسه الأهواء
كما هو الحال في نفوس البشر والجن.
ولقد كرر الله المجد
أربع مرات في الكتاب المجيد. منها مرتان لنفسه الشريفة ومرة للقرآن
الكتاب والأخيرة للمجموعة الكونية. والمرتان التي ذكرهما الله سبحانه
لتعريف نفسه هما بعد ذكر مالكيته المطلقة للعرش العظيم وبعد ذكر كرمه
المولوي المستمر لأهل بيت إبراهيم. فالشريف هو الذي يكرم الشرفاء ولو
كانوا عبيدا عنده. وذلك ليزيل العجب من قلب السيدة زوجة إبراهيم عليهم
رحمة الله وبركاته.
هذه المجموعة الكونية
محاطة بالسقف أو القبة السماوية التي تحفظها كما تحفظ الملائكة القبة
ذاتها. إنها كالصفحة الظاهرة التي تلوح من وراء كل الكواكب. وبالطبع أنها
لا تلوح من دون أن نتخذ سلطانا يزيل من بصرنا العوائق الجوية الموجودة في
الطريق الطويل إلى تلك القبة البعيدة جدا. وهذه الحقيقة مذكورة في عدة
أماكن من كتاب الله تعالى وسوف نصل إليها بإذنه سبحانه ونشرحها بلطفه
وكرمه.
والخلاصة: إن هذه
السورة تتحدث عن مجد الله تعالى ومجد ما صنعه بيده. إن مجد خلقه العتيد
المنسوب إلى مجده سبحانه وتعالى، لما يتأثر بتخلل بعض الضعفاء لفترات
قصيرة فيه وبقائهم على العصيان إلى أمد غير طويل. إن القادر على أن يبطش
بكل الكون فهو غير عاجز عن أن يبطش بهم متى ما شاء وأراد كما بطش فعلا
بفرعون وعاد الأقوياء، ولكنه لسبب وحكمة يؤجل البطش بهم إلى أن يحين
موعده. وكل كلمات السورة تقريبا تدل على الكبرياء والشدة والعظمة والمجد
والجبروت والزينة والجمال والقدم وكثير من مظاهر الكبرياء التي تليق
بالذات القدسية سبحانه وتعالى. وفي الآيات 12-16 إشارات بليغة إلى عظمة
الخلق وعظمة الفناء وعظمة الزمان إلى جانب شدة الغفران وشدة الحب والود
التي يبيحها الله تعالى لمن يستحق من خلقه دون استثناء أو تمييز. كما أن
الله تعالى لما يفارق عبيده في خيرهم وشرهم وفي عبادتهم وعصيانهم، بل
احتفظ بالإحاطة لنفسه ولو أنه سبحانه ما فاجأهم بالتنكيل. والله العالم
بحقائق الأمور ودقائق الرموز جل جلاله.
تم بحمد الله تفسير
سورة البروج وسنقدم قريبا تفسير سورة الطارق.