تفسير سورة الانفطار

 

بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ  إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ 1 وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ 2 وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ 3 وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ 4 كيف يمكن تجميع رفات الناس إذا تناثرت بين التراب والهواء والمياه وأصبحت أبدانهم أجزاء متفتتة تحولت فيما بعد إلى مواد بشرية أخرى وتداخلت في تكوين أناس آخرين؟ وكيف يتأتى لأحد أن يجمع الذين ماتوا قبل آلاف السنين في حالات وأماكن مختلفة فضاعوا وضاعت نفوسهم، يجمعهم في مكان وزمان واحد للحساب؟ كيف يمكن التعرف على الضائعين والتمييز بين كل منهم غب بلايين السنين وفي خضم الكون العظيم الذي سوف يتدمر بكامله ويتجمع في مكان واحد دون خلايا بعد أن تتوقف كل إلكتروناتها عن الدوران؟ كيف يمكن تجميع أناس كل أرض في مكان دون أن يختلطوا مع أناس أرض أخرى؟ هذه التساؤلات بمختلف مفاهيمها كانت متداولة في مختلف العصور. فعلماء وأناس كل عصر يقدمون ما يشاؤون من إشكالات علمية على يوم الحساب، والقرآن يرد عليهم جميعا.

 

فطر معناه شق بداية كما أن الإفطار هو أول طعام الصباح أو أول طعام الصائم. إن معنى البداية مضمومة في الفطر، والانفطار وهو مطاوع الفطر. هناك في بداية تكوين السماوات والأرض عملية انفجار كبير كما يتخيله علماء الفيزياء. وسيكون هناك انفجار كوني آخر لتشكيل السماوات والأرض الجديدة القابلة للبقاء الأبدي بإذن الله سبحانه ولكن استعمال لفظ الانفطار تعني الانشقاق الأول على ما يبدو. وبما أن هذه السورة تعنى بمسألة القدرة القاهرة على تجميع الرفات والفتات والمبعثرات فحري بها أن تتحدث استدلالا عن الحوادث الكونية التي حصلت بداية لا التي ستحصل والتي يصعب على العلماء تصورها بدون اللجوء إلى الكتاب السماوي. ولذلك فإني أظن أن الآية الأولى تشير إلى الانفجار الذي حصل فعلا قبل أكثر من تسعة بلايين سنة في مركز الفضاء.

 

يمكننا بكل سهولة أن نتخيل الانفجار المهيب في المادة الصلبة التي تشكلت داخل الكرة المائية الكبرى والتي سماها الله بالبحار. إن أول انشقاق يُحصل داخل المادة المفجرة هو أن تنتصف إلى نصفين بداية ثم تتفتت الجزيئات من كل نصف كرة وتتصاعد إلى السماء. هذه المواد المتحولة إلى غاز إثر الحرارة الشديدة سوف تنتشر وتتناثر في الفضاء دون أي جدوى.

 

كلما تبرد جزيئات الغاز تحت تأثير الفضاء البارد فسوف تتجمد على شكل كرات غازية كبيرة وتتخذ مكانا لها داخل الفضاء العظيم ولكن دون جدوى. إن الفيزيائيين على علم أن المجموعات الغازية الكبرى التي تكونت داخل الفضاء وتجمدت تحت تأثيرها كانت غير متفاعلة مع بعضها حتى تأثرت بقوة خارجية غير معلومة لدى أرباب العلوم الحديثة. إنهم يذكرون ذلك في كتبهم ولا يفكرون في القوة الخارجية التي أثرت في هذه التجمعات وأربكتها وحركتها لتتفاعل مع بعضها البعض فتشكل المجرات والنجوم. إنهم يعتقدون بأن شمسنا كانت ضمن كتلة غازية كبيرة بقطر أكثر من خمسين سنة ضوئية وهي هائمة في الفضاء حتى أربكتها قوة خارجية جعلتها تتفاعل مع بعضها فتشكلت منها سبعة أو ثمانية أنظمة شمسية. وسوف نتحدث عنها مستقبلا بتفصيل أكبر بإذن الله تعالى.

 

فالانفجار حسب ما نعرفه من كتاب الله قد حصلت في كتلة طافية على سطح البحار الكبرى أو داخلة فيها تحت تأثير انفجار البحار نفسها. وقد شاء الله تعالى أن تختلط عناصر الكتلة الكبرى بالعناصر المائية لتكون الكون كونا رطبا مفيدا وقد عرفه بعض العلماء حديثا بـ (The Wet Universe). إن الحرارة التي استعملت لأول انفطار كانت في غاية الأهمية وفوق تصورنا، يتلوها أهميةً تناثر الغازات التي تحمل عناصر ومكونات النجوم والكواكب ثم يتلوها أهميةً انفجار البحار نفسها تحت تأثير العواصف الكبرى التي تشكلت فوقها تبعا لطبيعة العرض الكبير للبحار. أنا لا أقدر أن أخمن حجم البحار لقلة علمي بالفيزياء ولكن قطرها يفوق مئات الملايين من السنين الضوئية بالطبع.

 

القوي العظيم جل وعلا، الذي وجَّهَ الجزيئات المتناثرة في فضاء مهيب يفوق الخيال ليصنع منها السماوات والأرضين ويصنع منها ألطف المخلوقات فيما بعد قادر على تجميع العناصر البشرية المتشتتة في الفضاء وتوجيه كل منها إلى الأرض التي تتبعها لتُحشر كل نفس مع من كانوا معها أو قبلها أو بعدها لما سنعرفه فيما بعد بإذن الله تعالى. وحينما ينتهي ملك الكون والوجود جل جلاله من إعادة تشكيل السماوات والأرض فإنه سبحانه سوف يُعيد النفوس المجردة التي انفصلت عن أبدانها بعد موتها في دنيانا الفعلي، إلى باطن الأرض الجديدة لتكون قبرا لها حتى يقدر الله لها بدنا نباتيا جديدا. هذه الأبدان ليست مدينة لآباء وأمهات كما نحن عليها اليوم بل هي من تكون الفطريات الترابية بإذن الواحد القهار. ثم تخرج النفوس المرتبطة بالأبدان الجديدة كالفطريات وكالنبات تحت تأثير الأصوات القوية التي يعتبرها الله دعوة للناس بالخروج من الأرض وقد تخلصوا من وحدتهم وفرديتهم. سوف تتحكم النفوس في أبدانها آنذاك باعتبار أن البدن قد أضيفت إلى نفوس موجودة فعلا فتزوجت النفوس. سيكون الحال بعكس ما نحن عليه اليوم تماما حيث أن أبداننا قد خلقت قبل نفوسنا ثم أضيفت نفوسنا إليها. نحن اليوم ضيوف على الأبدان فإذا ماتت الأبدان ابتعدنا عنها ميتين. لكننا في المستقبل سنكون المضيفين للأبدان فإذا مات عضو أو مات البدن كله فنحن لا نموت بل نستنبت جلدا أو عضوا أو بدنا جديدا.

 

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ 5 بعد تبعثر وانتشار الناس في الأرض الجديدة فإن كل نفس تحمل معها علم ما قدمت وأخرت. لقد تعرفت النفس على ذلك في مرحلتين بعد الموت، هما مرحلة إبلاغ كل نفس بأعمالها مع انفجار النظام الشمسي ثم مرحلة نشر أعمال الناس على شاشة الأفق في يوم الفزع الأكبر وسوف نشرحهما مستقبلا بإذن الله تعالى. فأما ما قدمته النفس من خير أو شر هو الذي يعمله الإنسان أو الجن في الحياة الدنيا فتصطبغ نفسه به ويصير جزءا من كيانه النفسي كما سنشرحه فيما بعد أيضا إنشاء الله تعالى. وما أخرته النفس فهي آثار ما أتت به النفس في الدنيا. فهل لهذه الآثار أثر في محاسبته سلبا أو إيجابا وإلا فما فائدة علمه بها؟ مما لا شك فيه أن الشخص يُحاسَبُ بما أتى به و لا يُحاسب بما تأثر به غيره إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ولولا ذلك تعثرت العدالة التي هي هدف يوم الحساب.

 

فلو فرضنا أن شخصين من زمرة واحدة قاما ببناء مدرستين متساويتين وهما في حالة مالية ونفسية واحدة. ثم قدر الله للأولى أن تبقى ألف سنة ويتخرج منها آلاف المؤمنين ولكن زلزالا ضرب الثانية بعد وفاتهما فلم تفلح في أداء رسالتها. فلو كان للآثار معنى في محاسبتهما فستكون الغلبة للأول دون أن يكون له فضل حقيقي على الثاني عدا سوء حظ الثاني. ولنضرب مثلا أخطر من ذلك فلو فرضنا أن الأول بنى مدرسة صغيرة بجزء من ماله وبقيت بإذن الله؛ في مقابل الثاني الذي صرف كل ماله في بناء مدرسة تهدمت وهما يحملان نية واحدة من حيث الكيف، فإن الثاني يستحق جزاء أوفى من الأول ولو أن نتائج الأول كانت أكثر بكثير من نتائج الثاني. ولم يذكر الله أبدا أن ما يؤخره الفرد يؤثر في إضبارة أعماله.

 

ومثله السيئات فمن بنى بنيانا سيئا يُجازى بمثل ما بناه ولو جاراه أحد في ما يشابهه من المنكر ثم ماتا وقدر لأحدهما أن يبقى بنيانه ويفنى الآخر فإنهما يواجهان جزاء مساويا يوم يقوم الناس لرب العالمين وإلا تعثرت العدالة. إن الحديث عن الأجر والعقاب في الكتاب العزيز يلازم الحديث عما قدمته أيديهم لا ما أخرته أيديهم. لكن الله تعالى وعد أن يكتب كل شيء ويبلغنا بما اختلفنا فيه يوم نلقاه فلا يصيبن المجرم الذي تأخر آثار إجرامه ليتعلم منه من تسول له نفسه إلا لوما ولعنا ممن تأثر به وهم في النار. إن ذلك لحق تخاصم أهل النار. قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم، أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار. ولعل المؤمنين ينالون مدحا وترحيبا ممن هم مثلهم في الجنات.

 

فلو قدر الله للشيخ عبدالباسط عبد الصمد و الشيخ محمد صديق المنشاوي أن يدخلا الجنة وقد استمتع المؤمنون بعشرات الملايين من مكررات أشرطتهم فسوف ينالا ترحيبا حارا ممن تلذذ بتجويدهم المتقن وحسبهم ذلك. ولعلهما يحتفظان بقدرتهما الصوتية فيجودان القرآن للمؤمنين في الجنة أيضا. ولا يمكن تصور أي جزاء إضافي مقابل أشرطتهما إطلاقا وإلا تعذرت العدالة دون شك.

 

يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ 6 الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ 7 فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ 8 واضح جدا أن الخطاب موجه للإنسان بما أنه إنسان والاستفهام إنكاري يعني كيف تغتر بما منحك الله دون أن تهتم بمعرفة الله نفسه وبعبادته سبحانه وتعالى . كيف تتجرأ عليه سبحانه فتنكره أو تعبد غيره. لو لم يكفك النظر إلى الخلق العظيم فوقك فانظر إلى نفسك وما أكرمك الله به. إنه سبحانه يذكر الإنسان بما مر عليه من مراحل في خلقه حتى وصل إلى ما وصل إليه. هذه المراحل متعاقبة ومتتالية هكذا:

 

المرحلة الأولى: حينما تتحرك عدة مئات الملايين من الحيوانات المنوية بصورة عشوائية باتجاه الرحم ليدخل واحد منهم في البويضة المنتظرة ثم يمنع دخول غيره ليكوّن مع البويضة مجموعة كروموزومات ثنائية قادرة على التكاثر. هناك يُخلق الموجود الجديد في خلية واحدة مجردة تماما عن خلايا الأبوين ومحتفظة بما يشخصه عنها ويميزه عن أبويه.

 

المرحلة الثانية: هي مرحلة تكون النفس التي تحتفظ بكل حيثيات الموجود الجديد وتبقى إلى الأبد بأمر الله تعالى. والتسوية معناه صناعة النفس لقوله تعالى: ونفس وما سواها في سورة الشمس كما سنشرحها في حينه بإذن الله تعالى.

 

المرحلة الثالثة: وبعد أن تبين الشخص الجديد فإن الله تعالى يعدل أوامر الجينات الجديدة والتي تميز بدنه وقواه. فالموجود الجديد يأخذ الأوامر من مجموعتي الكروموزومات. فيأخذ مثلا لون البشرة من كروموزومات الأم أو الأب أو يخلطهما مع بعض ثم يأخذ خلايا المخ من كروموزومات أحدهما أو يخلطهما وهكذا. فهو تركيب جديد من البضاعة الموجودة ولكنه مغاير لهما ومميز عنهما في تركيب أجهزته ولون بشرته وقدرة دماغه وقوة عضلاته و هلم جرا. هذا هو معنى التعديل الذي يشرحه الله تعالى في الآية الثانية: في أي صورة ما شاء ركبك. هو فعلا تركيب من الاثنين وهو صورة جديدة خاصة بالنفس الجديدة. هو صورة فعلا لأن الخلية الأولى بعد تكامل خلقها سوف تنشق نصفين لتشكل خليتين جديدتين ولتصور الكروموزومات نفسها في الخلية الجديدة. ثم تنتصف كل خلية إلى خلية مصوِرة ما لديها من أوامر في الخلية الجديدة وهكذا دواليك. ولمزيد من المعرفة أدعوكم لقراءة موضوع "عهد الناس لربهم قبل أن يصورهم" في كتابي "المفاهيم الصحيحة" الموجود بنفس الموقع الفكري.

 

وبما أن مسألة البعثرة واردة هنا أيضا فلو أننا نجهل كيفية تشكل النفس فإننا نعلم أن الأنثى تحمل حوالي أربعين ألف بويضة والذكر يبعث بعدة مئات من ملايين الحوامن والله هو الذي يقدر من يتصل بمن ثم إن الموجود الجديد معرض لبلايين البلايين  البلايين من الصور.

 

كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ 9 وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ 10 كِرَامًا كَاتِبِينَ  11 يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ 12 ليست المسألة مسألة انتقال الصفات أو العقائد من شخص إلى شخص بل هو نفسك الشخصي التي تتجرأ على الله تعالى فتكذب يوم الدين حتى يُتاح لها التنعم بمتع الحياة دون خوف أو تقوى. لو يفتح الإنسان قلبه لينظر به إلى الطبيعة فيرى أن ما حوله تسير بأمرِ غيرِ البشر بصورة كلية وأن ما يقوم به الناس من تغيير في الطبيعة ضئيل جدا ومؤقت غير دائم. هناك سوف يعلم بأن الناس كلهم لا شيء أمام الوجود العام. لعله يعرف آنذاك أن كل شيء في الوجود مدين لله ومطيع له أبدا ودائما عدا نفوس البشر والجن. الكل خاضعون دائنون للديان العظيم جل جلاله والنفس الإنسانية بصورة مؤقتة وبإذن منه سبحانه متحررة من الدين لغرض الاختبار والامتحان فحسب. فانظر إلى نفسك أنك خرجت على مولاك مغترا بما أولاه إياك من حرية مؤقتة ليمحصك واتق الله وعد إلى رشدك يا ابن آدم.

 

كلا بل أنتم باختياركم وبحريتكم تكذبون بيوم الحساب والمقاضاة أمام الله تعالى حال كونكم محاطين بمن يحفظ كل أعمالكم وكل تطوراتكم النفسية بالتبع. إنهم ملائكة كرام أصفياء خالصون من المادة وما يشوبها ليكتبوا أعمالكم وتحولاتكم النفسية بدقة ودون ظلم وتحيز. إنهم على علم بما تخفيه نفوسكم فيدركون تماما سر ما يصدر منكم من أفعال ومقاصد لشدة نقاوتهم وكرمهم إضافة إلى سيطرتهم الكاملة على الاحتفاظ بصورة ما فعله أصحابهم.

 

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 حري بالأبرار الذين يعملون الصالحات أن يدخلوا جنات النعيم. إنهم فكروا في كل ما فعلوه وكل ما استفادوا منه من نعم الله تعالى لألا يكونوا ظالمين. إنهم فكروا في حق الله تعالى وجدارته أن يُعبد فعبدوه وسعوا لإرضائه سبحانه. إنهم حددوا سعيهم بما يفيد وينفع ليوم اللقاء مع الله دون أن يستهتروا بحقوق الآخرين أو بحقوق الله تعالى وحقوق رسله. فهم في نعيم مؤكد بصورة تلقائية. ولذلك فهم يُرزقون الأمان والبشرى بعد الموت مباشرة فيعيشون في جو من الثقة والاطمئنان بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون حتى يتحقق وعد الله فيدخلوا الجنة فعلا. والأبرار هنا هم الأتقياء الذين يمرون على كل مراحل الحساب تحقيقا للعدالة فقط والذين لا يمكن أن يدخلوا النار. أما بقية الناس ولو غفر الله لبعضهم ودخلوا الجنة فهم ليسوا في نعيم مثل نعيم الأبرار بالطبع. وسوف يعرفنا الله سبحانه على أحوالهم أكثر من ذلك في سور أخرى قريبا.

 

وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 14 يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ 15 وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ 16 الفجار هم الذين يستهترون في نواياهم فمثلهم مثل المياه التي تتفجر من الصخور الأرضية فتخرج بشدة من الأرض وتنتشر في الأطراف دون اختيار سبيل. إن تسمية الفاسقين بالفجار مناسب مع طبيعة هذه السورة التي تتحدث عن البعثرة والتشتت والانتشار الفوضوي. فالفجار المستهترون سوف يأوون إلى النار المستعرة والجحيم المؤجج لتُصلى بها أبدانهم فيتألموا ألما شديدا. إنهم لن يُلقوا في النار فيتعلموا على حرارتها كما أن النار ليست إلا موجودا جديدا لا تُناسب طبيعتهم التي خلقوا منها يوم خروجهم من الأرض بإذن الله العزيز. هذه التصلية تصليةُ جزاء ونتيجة قضاء عادل حق في يوم القضاء الحق. ثم إنهم لن ينفصلوا عن العذاب ولن يغيبوا عنها أبدا. ذلك لأنهم بنفوسهم اكتسبوا هذا الجزاء الأليم.

 

هم غير الذين يمكن أن يدخلوا النار بذنوب أقل منهم ولذلك فمصير الفجار هو النار وهم على علم بها بعد الموت فورا فعقوبتهم مؤكدة وسوف يمروا على مراحل المقاضاة تحقيقا للعدالة أيضا. إنهم معذبون نفسيا بمجرد انفصالهم عن البدن لأنهم فجار مستهترون لم يذعنوا لأي داعية وقد استمتعوا وظلموا غيرهم بكل وقاحة ودون أن يفكروا في حقوق غيرهم. إنهم مجرمون ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون والنار مثوى لهم بكل وضوح.

 

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ 17 ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ 18 تكرار هاتين الجملتين اللتين تدلان على عظمة وأهمية يوم المقاضاة النهائية أمام الله دليل على شدة غفلة الناس عن عذاب قاس في غاية القسوة والشدة لقاء أيام هناء قليلة لا تعد شيئا بالمقايسة مع الحياة الأبدية التي لا تخضع للزمان بأمر الله تعالى. هذا إلى جانب غفلتهم عن نعيم سرمدي دائم النضارة في روضات الجنات مقرونا برضا الملك العظيم رب السماوات والأرض عز وجل. إنه لحق أن النبي لا يدري ماهية يوم الدين ولا يمكنه تصور هيبة ذلك اليوم فكيف بنا. ومما يبعث على الأسف أن بعض الإخوة المؤمنين على منابرهم أو شاشات تلفازهم يصورون مشاهد غير صحيحة ليوم القيامة وكأنهم واثقون منها وليس لهم دليل قرآني بل يستندون إلى الأحاديث التي صدرت من البشر. لو كان النبي المصطفى لا يدري ما يوم الدين فكيف بهؤلاء المحدثين ومن سار على دربهم المعتم يصورون المشهد بكل تفاصيله. معاذ الله منهم ومن جهلهم.

 

يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ 19  هذه الآية تنفي أي نوع من أنواع الوساطة المعنوية بين الله وعبيده. إن الإنسان بما هو إنسان يموت وقد استسلم تماما لخالقه. إنه يفقد أمر نفسه فكيف يمكنه أن يملك أمر غيره. إنه فاقد لكل مقومات التملك ومعرض للخضوع التام المطلق لرب العالمين. لا فرق في ذلك بين نفس ونفس ولذلك سماه الله بيوم الدين. هو يوم يخضع الكل لله تعالى وحده ليحكم بين عبيده بما يشاء سبحانه وتعالى.

 

الخلاصة: إن الذي يختار الحومن الذي يريده من بين مئات الملايين ليرتبط بالبويضة التي يريدها من بين أربعين ألف بويضة؛ والذي يختار لعبده الجديد نفسا مميزة قادرة على استيعاب كل ما سيعمله في المستقبل ومختصا به دون غيره من بلايين البلايين من ذوي النفوس في بلايين البلايين البلايين من الكواكب المسكونة في الكون العظيم؛ والذي وجه الغاز المتناثر الضائع في الفضاء ليتخذ طرائق لها ثم جمعها على شكل كتل متناسبة وأربكها ليكون منها النجوم والكواكب؛ والذي وجه مياه البحار لتتحد مع مكونات النجوم فيفصلها بقوتها عن النجوم ليودعها في أرض كل نجمة ثم يخرجها ليستفيد منها الأحياء؛ والذي يسوس بين مئات الآلاف من الجينات الثنائية ليشكل منها جسما مناسبا للنفس التي خلقها قبل لحظات في الخلية الأولى فلا يُخطئ في أي تقدير واحتمال الخطأ في هذه العملية تفوق الخيال من حيث العدد ونظامه سبحانه يأتي بها في لحظات ونرى عادة غالبية الذين يخرجون إلى الوجود هم في كمال الصحة والسلامة والقدرة؛ هو الذي يعيد الناس من جديد إلى مكان معهود ليحاسبهم يوم القيامة سبحانه وتعالى. وقد استعمل الله في هذه السورة كلمات تدل على البعثرة والانتشار العفوي مثل: انفطرت، انتثرت، فجرت، بعثرت و الفجار.

 

أما مسألة تداخل الجزيئات فعلينا أن نعلم بأن الله يحيي عظاما وأعضاء جديدة للمرء على أساس جيناته ولا يُحيي نفس الأعضاء الميتة. إن أجزاء الإنسان في تجدد مستمر طيلة حياته فأنفك اليوم غير أنفك يوم ولدت وهكذا عينك وأذنك وقلبك ورأسك وشعرك ولكن الصورة متحدة فيها جميعا لأن أوامر الجينات لن تتغير طيلة الحياة الدنيا كما يبدو. بيد أن البدن الأخروي ليس على غرار البدن الدنيوي بل هو مختلف عنه وسوف نتحدث عنه مستقبلا بإذن العزيز الحكيم.

 

انتهى تفسير سورة الانفطار ويتلوها سورة المطففين بإذنه سبحانه.