بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ
﴿1﴾ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴿2﴾ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ
﴿3﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴿4﴾ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ
لِّذِي حِجْرٍ ﴿5﴾
لقد شرحت مقدمة هذه السورة ضمن موضوع
(ليلة القدر، والفجر وليال عشر) في المفاهيم الصحيحة بنفس الموقع، ويُفضل مراجعته
وقراءته للمزيد من الاستنارة حول موضوع السورة مسبقا. استقل الله تعالى بنفسه في
إدارة خلقه فمنح كلا منها ما يناسبه من أوامره النافذة المطاعة. وبما أن الإنسان
موجود عاقل مدبر، وقد منحه الله تعالى الاختيار والإرادة فترة وجوده في النشأة
الأولى التي نحن فيها الآن بغية الاختبار، فكان ضروريا أن يوفر الله تعالى له ما
يتلاءم مع مختلف كيفياته وتطوراته الفكرية والبدنية والعلمية من تسهيلات. كل ذلك
بالطبع بدافع من الرحمة التي كتبها الله سبحانه على نفسه كرما وجودا وإحسانا.
وحينما يبدأ البشر بالتكاثر وتكوين
السلالات، فإن الحاجة لمزيد من التشريعات والتوجيهات الإدارية تبدو ضرورية
لمساعدتهم وإنارة الطريق لهم. هذه الأوامر والتوجيهات تنزل من الحي القيوم و تمس
البشر عن طريق الملائكة المكرمين. إنها تنزل في ليلة واحدة كل ألف سنة وتسمى ليلة
القدر التي سوف نشرحها بالتفصيل في سورة القدر بإذن الله تعالى. وسورة الفجر هذه
تشير إلى بعض حوادث تلك الليلة الإلهية الكريمة. إن هناك مجموعة من الملائكة
موجودون في أعالي النظام الشمسي، للقيام بأعمال تخص النظام ككل على ما يبدو. إنهم
ملائكة أكفاء قادرون على استيعاب الأوامر المباشرة، والتي يوحي بها الله تعالى
لحماية البشر عن طريق الروح القدس المسمى جبريل. إنه على ما يبدو رئيس أو مدير
نظامنا الشمسي.
ولعل مساعديه العلويين يتولون إدارة
المسائل الكبرى داخل الأرض مثل الحروب والطفرات الصناعية والزراعية والأسواق الكبرى
وتوزيع المبيعات والمشتريات وتدبير السياسات الإقتصادية والاجتماعية العليا وتخليص
المجتمعات من الشرور السياسية الكبرى مثل الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين
المنحرفين وتوجيه الرأي العام مع مقتضيات المصالح الإلهية العليا واستحقاقات
المجتمعات البشرية. لعلهم كذلك يوجهون القوى العظمى لينفذوا مصالح الله تعالى دون
أن يشعروا. نحن بكل سهولة نرى كبريات الأنظمة الإدارية أحيانا وهي تغفل عن أبسط
المسائل السياسية وتخطئ، ولكنها في خطئها تخلص مجتمعا من شر زعيم أو عاهة أو مرض أو
غير ذلك، دون أن يقصدوا ذلك فعلا. فهذه دون شك إرادة إلهية خفية. وهناك بالتأكيد
أشخاص مسؤولون عن فهم إرادة الله تعالى وفرضها على المجتمعات البشرية بدون المساس
برغبات الأشخاص والمجتمعات أنفسها. ذلك لئلا تنقلب حقيقة الاختيار التي يريدها الله
تعالى لعبيده الإنسيين هادفا اختبار نفوس أفرادهم كلا على حدة.
هناك ضرورة ماسة للتوفيق بين همم
الناس بأفرادهم مع الأهداف الكبرى غير المرئية لأي منا. والمسؤول عن همم الناس هم
ملائكتهم الذين يراقبونهم؛ وعلى الواجهة، يستقر الملكان الملازمان لكل فرد وهما
الرقيب والعتيد. سوف أشرح وصفهما ومسؤولياتهما حين تفسير سورة ق بإذن الله تعالى.
كما أن هناك ملائكة أخرى موكلين بالأفراد وسوف أشرح ما أعرفه عنهم عند تفسير سورة
فاطر إن شاء الله تعالى. فالملائكة الموكلون بالأفراد محتاجون إلى التعرف على
البرنامج العام كما يعوزهم تطوير معلوماتهم المخزونة لديهم. وبالأحرى أوامر مثل:
إذا رأيت كذا فاعمل كذا، أو إذا اجتمع باء مع جيم مع ع فاقطع منهم العين أو أضف
إليهم النون.
وكما سنعرف فيما بعد، فإن الملائكة
العلويين يتنزلون ليرتبطوا بالملائكة السفليين الموكلين بالأفراد مرة كل ألف عام.
ذلك لأنه سبحانه يقرر البرامج الألفية لتعرج إليه معلومات وآثار التنفيذ طيلة الألف
المقبل. ثم يقرر سبحانه برنامجا جديدا للألف التالي. ولعل الله سبحانه بدأ بهذا
النوع من المتابعة الإدارية لبشر كوكبنا قبل حوالي 6500 سنة، باعتبار تكاثر البشر
وتنوع أجناسها بعد انتشار أبناء آدم وحواء في كل أقطار الكوكب. أنا لا أعرف بالضبط
بداية الحضارة البشرية. إن هناك آثارا للحياة المتطورة لأكثر من خمسة آلاف عام
ولكننا لا نعرف تاريخ ظهور الرسول الأول نوح عليه السلام. كلما أعرف عن القرآن
الكريم هو أن ذرية نوح هم الذين بقوا وانقرضت السلالات القديمة وأن السلالات
العاقلة كانت من نسل آدم وحواء. ومن الضروري معرفة أن آثار التطور الزراعي التي تدل
على أنها بدأت قبل حوالي 11000 سنة ليست دليلا كافيا على التطور الحضاري لعدم وجود
أثر من الحضارة المعمارية في تلك الأيام. والعمارة هي بداية التقدم الحضاري أو
التقدم العلمي. إن الزراعة البدائية وتطويرها تم بشكل بدائي أيضا ليتناسب مع حجم
التكاثر البشري (الضئيل حسب مفاهيمنا) في ما مضى. ولم تكن هناك حاجة لإرسال توجيهات
شاملة للبشر حول التطوير الزراعي البسيط.
كنت أحتمل سابقا، أن أول ليلة قدر
كانت أيام نوح، ولعل ذلك خطأ. إن البشر انقرض بعد الطوفان وتكَوَّن نسل جديد من
ذرية نوح نفسه. اللهم إلا إذا فسرنا قوله تعالى في الصافات: 77 {وجعلنا
ذريته هم الباقين}، بأنهم هم الذين بقوا في المنطقة التي عاش فيها نوح؛
وبقيت معهم جماعات بشرية عاقلة أخرى في الأقطار البعيدة. ولكنهم تناسلوا فيما بعد؛
ولكن ذلك احتمال ضعيف جدا. وعلة ضعفه هو أن الله تعالى اختار قوم نوح لاستلام أول
رسالة سماوية كما يُستفاد من التنزيل. قال تعالى في آل عمران: 33 {إن
الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}. فآدم هو بداية
البشر ونوح هو الذي اصطفاه الله من آدم ليبدأ به الرسالات وآل إبراهيم هم الذين
اختارهم الله لاستلام الكتب والصحف السماوية، ثم اختار منهم بنو إسرائيل للتعرض
لتجربة العهد السماوي وختمهم بالنبي الكبير عيسى بن مريم الذي كان هو وأمه آيتين من
آيات الله الحقيقيين. بالطبع هناك اليوم آيات وآيات عظام ولكنهم غير معترف بهم
قرآنيا بل هم يمثلون ادعاءات غير صحيحة هداهم الله تعالى وإيانا.
وقد ذكر سبحانه لكل اصطفاء معانيها
وخصائصها فذكر كيفية اصطفاء آدم من بين بقية الموجودات المشابهة ليمنحه النفس
الإنسانية، ولم يذكر له نبوة؛ كما ذكر كيفية اصطفاء نوح وأن في ذريته وفي ذرية
إبراهيم النبوة والكتاب. قال سبحانه ذلك في الآية 26 من سورة الحديد:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}
وفي الآية 27 من سورة العنكبوت: {وَوَهَبْنَا
لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ
وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ
الصَّالِحِينَ}. وقال تعالى في نهاية الأعلى {إن
هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} فالصحف بدأت من إبراهيم والرسالة
بدأت من نوح. وحتى لا يقع الذي يراجع آيتي الحديد والعنكبوت في شبهة فإني أوضح بأن
الكتاب الكامل كان كتاب موسى ولكن إبراهيم كان يحمل للناس صحيفة أقل كمالا من
التوراة ، والعلم عند الله تعالى.
ومن المؤكد أن آدم لم يكن رسولا ولا
نبيا لأن الله تعالى لم يجد فيه العزم (وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(طه115).
باعتبار نسيانه وانجرافه وراء الشهوات ولم يذكر الله تعالى له رسالة أو نبوة. وقد
اهتم سبحانه كثيرا بآل عمران أو بني إسرائيل باعتبار العهد المبرم معهم ولكنهم مع
الأسف ظلموا أنفسهم ولم يحترموا العهد الذي كان يورثهم جنات النعيم إلا القليل من
المؤمنين منهم. والاصطفاء في حد ذاتها لا تدل على الإيمان والإحسان لقوله تعالى في
سورة فاطر: 32 {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا
فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو
الفضل الكبير}.
فالملائكة العُلويون ينزلون في ليلة
القدر إلى السماء الدنيا ليرتبط بكل ملك سفلي موكّلٍ بكل فرد، ملكٌ علوي ليعلّمه
ويدربه على البرامج الجديدة للألفية المقبلة. تتم العملية في الليل ويبدأ الفجر في
كل بلد وقد استقر فيه النظام الجديد وابتدأ العمل به من أولى ساعات الفجر. فالفجر
الألفي مهم جدا وجدير بأن يقسم به رب العزة العظيم سبحانه. وأما الليالي العشر فهو
كما يبدو عدد الليالي التي يتم فيها التقديرات طيلة عمر الحياة البشرية المتقدمة في
كوكبنا الأرضي ومعناه عشرة آلاف سنة. وبما أن محمدا قد أتى في منتصف هذه الليالي
لقوله تعالى في البقرة: 143 {وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} وقد شرحتها في الشاهد
والشهيد في التنزيل وهو من مواضيع المفاهيم الصحيحة في هذا الموقع الفكري، وسأشرح
الآية بدقة عند تفسيري لسورة البقرة بإذن الله تعالى .
وعلى كل حال فلو فرضنا أن أول ليلة
قدر كانت مع استلام نوح رسالته من ربه جل وعلا فإن ثاني ليلة قدر ستكون بعد ما لا
يقل عن خمسين عاما من الطوفان المعروف، أي قبل 5500 سنة تقريبا. وتكون الليلة
الثالثة مع ظهور الرسول العظيم إبراهيم الخليل قبل حوالي 4500 سنة. فسوف يكون ظهور
عاد ومن بعدهم ثمود بين الطوفان وإبراهيم. ثم تلاهم قوم فرعون مع ظهور موسى بن
عمران في الليلة الرابعة أي قبل حوالي 3500 سنة. ثم تلاهم داود في الليلة الخامسة
أي قبل حوالي 2500 سنة. ثم ظهر نبينا محمد قبل حوالي 1500 سنة وهي الليلة السادسة
من ليالي القدر. وبه ختمت الرسالات السماوية لأن الإنسان تعلَّم فعلا كيفية تطوير
نفسه وبلغ الرشد الفكري المطلوب لذلك. وقد برز العلم التجريبي الذي غير معالم
الحضارة قبل حوالي خمسمائة سنة أي في الليلة السابعة من ليالي القدر، فيبقى أمامنا
ثلاث ليالي قدر و3500 سنة لتنتهي ليالي القدر التي يدبر الله تعالى فيها الأمر. ثم
تبدأ الحياة البشرية بالتآكل والانتهاء والعلم عند الله تعالى.
وأما أهمية الفجر في هذه الليالي، فإن
الله تعالى وفي هذه الليلة من كل ألف سنة (كما يبدو) يوقف فيها الحروب والمخاصمات
بالقوة القاهرة ويفرض فيها السلام {سلام هي حتى مطلع الفجر}حتى
يتمكن الملائكة السفليون من التعاطي مع الملائكة العلويين فيتعلمون منهم الأوامر
الجديدة أو يأخذونها منهم. إن عملية نقل المعلومات تتم في الليالي طبعا حينما يكون
الغالبية في النوم ومع فرض السلام العام، فإن الملائكة تكون أكثر استعدادا وتفرغا
للاستحداث والتجدد. ومع ظهور الفجر وبدء الحياة اليومية لعامة الناس فإن الملائكة
سوف تبدأ بتنفيذ الخطة الألفية الجديدة وهذه هي أهمية الفجر في انتهاء هذه الليلة
النشطة.
وأما الشفع فهو إشارة إلى
ارتباط الملَك العلوي بزميله الملك السفلي الموكل بكل فرد لنقل المعلومات إليه. والوتر
هو الروح القدس (جبريل) الذي يرافق الملائكة العلويين رئيسا وموجها لتنفيذ تلك
المرحلة الإدارية الكبرى والعلم عند الله تعالى. وهناك مسائل علمية حول تفاعل
الملائكة مع الموجودات الفيزيائية لا تتلاءم مع كون الروح القدس وترا ولكن الملك
المقرب وفي هذه الليلة لا يتعامل مع الناس بل يراقب الملائكة الذين يعملون شفعا لا
وترا. (هذا ليلتفت من يعلم كيفية تفاعل الملائكة مع ما في عالم المادة لا لعامة
القراء الكرام).
فالملائكة العُلويون يبدءون عملهم في
أعماق الليل في منطقة ما من الكرة الأرضية ليكونوا قد أنهوا عملهم قبيل الفجر
وساروا مع الليل إلى منطقة أخرى حيث يكون الليل فيها متأخرا عن المنطقة الأولى،
وهكذا حتى يكملوا مسح القسم المسكون من الكرة الأرضية بالكامل بعد انتهاء الليلة
الافتراضية الطويلة بطول يوم كامل أو 24 ساعة وبداية الليلة الثانية. فالليل إذا
يسري (والليل إذا يسر) هو الليل الطويل من بداية
لحظة التطوير حتى نهايته في المنطقة المتاخمة لمنطقة البداية التي تكون مستعدة
لاستقبال الفجر الثاني حيث تنتهي مهمة الملائكة الذين تنزلوا بأمر الله تعالى
ليعودوا إلى أماكنهم، ويعم النظام الجديد كل كوكبنا. وإن في ذلك فعلا
قسم لذي حِجر.
والحجر معناه العقل الذي يمنع الإنسان عن الإتيان بما لا يليق بشأنه. فعلمت أن
المسألة تحتاج حقا للإمعان والتفكير العميق وإلى مزيد من التفكر لفهم أكبر مما ذكرت
بإذن الله تعالى في المستقبل.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴿6﴾ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
﴿7﴾ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ﴿8﴾
ما من شك أن التدبير الإلهي يشمل كل جوانب الحياة ويحفز الناس على تطوير حضارتهم
وترفيع المستويات المعيشية بينهم تمهيدا لاستقبال المزيد من البشر، إلى جانب
التشريعات الضرورية لتأمين العدالة الاجتماعية وتأهيل الناس لكسب جنات النعيم في
الدار الباقية الموعودة. ولذلك تمثل الله تعالى ببعض الجوانب التقدمية للفن
المعماري الذي يدل على التوسع الفكري للإنسانية. فتمثل سبحانه بقوم عاد الذين
تأخروا عن قوم نوح ولكنهم سبقوا بقية القرون المعروفة قرآنيا. لقد تشكلت هذه
الحضارة قبل خمسين قرنا تقريبا، ولعلهم أول من يبني العمارات العالية لقوله تعالى:
{التي لم يخلق مثلها في البلاد}. أي لم يُخلق
قبلهم، لا في بلدهم ولا في بلاد الآخرين. ووجه تسمية إقامتهم العمارة بـ "الخلق"
هو أنهم ابتدءوا بهذا النوع من المباني في كوكبنا، والعلم عند الله تعالى.
ألم تر
يعني ألم تفكر فالرؤية معناها التبصر والتفكر في الأمر. وقوله تعالى
كيف فعل ربك بعاد، يعني انظر أو فكر في ما آل إليه
أمر عاد ومبانيهم بأمر الله تعالى. وما يتناسب مع هذه السورة هو مباني عاد وليس عاد
أنفسهم. ولذلك بدل عنه سبحانه بقوله: إرم ذات العماد. فكلمة
إرم بدل عن عاد وهي كما يبدو اسم للمدينة أو المجمع
المعماري الذي بناه قوم عاد وكان فريدا من نوعه ولكن الله تعالى قدر إزالته وتدميره
وأهله بالكامل. والمقصود من ذلك إثبات أن الذي يدبّر أمور الناس لمّا يتركها بيد
فاعليها كاملة بل هو لهم بالمرصاد كما يوضحه جل جلاله في نهاية هذا الشوط. واسم إرم
يدل على أن المجمع المعماري كان مبنيا من الحجارة لأن الإرم في أصله يعني الحجر.
هذا مثل من يبني منزلا حديديا فيسميه الفولاذ. والعرب تسمي المكان أحيانا باسم ما
ينمو فيه كتسميتهم مدينة القطيف باعتبار ما يُقطف فيه من الثمار.
والعماد جمع عمادة وهي البناء الزاهي
والمرتفع. وقد أشار إليها سبحانه في سورة الشعراء
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
﴿128﴾ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
﴿129﴾. فكما يتراءى لنا فإن المباني كانت تقام على
المرتفعات وتحاط بالحصون وكل ذلك آية في القدرة العمرانية التي قام بها قوم عاد قبل
خمسة آلاف سنة تقريبا أو ما يربو عليها. وسوف نشرحها بتفصيل أكبر في سورة الشعراء
إنشاء الله تعالى.
وَثَمُودَ الَّذِينَ
جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴿9﴾
وأما ثمود وهم قوم صالح فقد قاموا بعمل غريب وهو شق الصخور في الوديان. هو عمل شاق
يفوق قدرة الإنسان إلا إذا تسلح بالآلات. وليت شعري ما هي الآلات التي يمكن تصورها
قبل آلاف السنين ليستعينوا بها على خرق الحجارة. ومما لا شك فيه أنهم كانوا
يخرقونها لغرض عمراني، فكانوا يجوبون الصخور بدقة وحساب؛ والجوب معناه خرق الجبل
وبريه من داخل الصخر بنية الإصلاح والاستفادة كالنحت .ليس سهلا أن تسيطر أمة عاشت
قبل عشرات القرون على صماء الحجارة لتكيفها بالأسلوب الذي يناسبها فتتخذها مساكن
تعيش فيها وتأوي إليها.
وَفِرْعَوْنَ ذِي
الأوْتَادِ ﴿10﴾ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ
﴿11﴾ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴿12﴾ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴿13﴾
وهاهم قوم فرعون (ولعله الفرعون رعمسيس أو رمسيس الثاني) الذين بنوا الأوتاد وهي
الأهرام كما يبدو. إنهم كانوا يرزونها في الأرض رَزّا كالجبال. والفراعنة عامة
كانوا يقيمون الأهرام ولكن فرعون موسى تميز عنهم بالطغيان والكفر بالله وبالإسراف
والمواجهة الظالمة مع رسول الله تعالى موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم.
وثمود وفرعون معطوفان على عاد لكنهما
ممنوعان من الصرف فكانت الفتحة علامة للجر فيهما. وقد ساعدت هذه المباني الضخمة كل
الأقوام الثلاثة على الكبرياء والخيلاء فطغوا في البلاد ثم أكثروا فيها الفساد.
والطغيان يعني الخروج عن الحدود وتجاوز الحقوق والسوط معناه الخلط ويطلق على السوط
المعروف الذي يُستعمل للضرب باعتبار أنه يخلط الدم باللحم كما يقوله اللغويون.
والسوط هنا بمعنى الخلط، حيث سلط الله تعالى على قوم عاد وثمود وفرعون أنواعا من
العذاب. وقد سلط على قوم فرعون وحدهم الطوفان والقمل والضفادع والدم. ثم قضى عليهم
بالغرق في النهاية. ولعل المقصود من الانصباب هو تتابع البلاء عليهم حتى الموت
وانتهاء الحياة بينهم والله العالم.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا هو أن
الله تعالى ذكر إكثار قوم فرعون من الفساد أو بتعبير قرآني آخر علوهم في الإسراف.
فالذي يحرك الغضب ضد الأمم هو إسرافهم في الفساد في الأرض من الترف الشخصي إلى
التعرض لأموال وممتلكات ونفوس الآخرين. هو الإسراف وحده عامل بارز لفناء المجموعة
البشرية أو المجتمع البشري وليس الفساد نفسه. ذلك لأن الطبيعة البشرية مع التفاوت
في إيمان الناس تستتبع الفساد بالطبع ولكن ليس بشكل يضر بالنظام العام. أما لو توسع
مجموعة من الناس في الطغيان والفساد فإن ذلك يستوجب اضمحلال موارد العيش للناس كما
يستتبع سعة رقعة الموت بين البشر. ولذلك فإن ذلك النوع من الفساد المستشري لا يمكن
أن يُستهان به فلا يُعقل أن يترك الله تعالى القائمين به دون صدهم. فلينتظر الذين
لا يتورعون عن الظلم والفساد مزيدا من مصاديق غضب الرحمن الرحيم جل جلاله.
وبما أنه سبحانه يهتم كثيرا بالرد على
كل منتقديه وهو حق حتى لو كانوا من الملائكة أنفسهم فقد رد على الملائكة الذين
فكروا في سبب خلق الله للبشر الذي أبلغهم الله جل جلاله بما سيقوم به أبناء آدم من
فساد وقتل للنفس في القصة المعروفة التي سنشرحها مستقبلا بإذنه سبحانه. والقصة
مذكورة في الآيات 30-33 من سورة البقرة. وكذلك يرد هنا على من يمكن أن يحتج عليه
جل شأنه بما علّم أبناء آدم المعروفين بحب السيطرة والظلم من بناء العمارات والقلاع
والحصون ليكثروا فيها اللهو والعبث والظلم على بعضهم البعض. وذلك بعد أن يذكر قصص
بعض الطغاة الخطيرين في الكرة الأرضية بقوله سبحانه:
إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ ﴿14﴾
فهو سبحانه غير غافل عما يعمله الناس
وعما يستغلونه من التقدم العلمي المقدر لهم لبسط الظلم والفساد. إنه تعالى علّمهم
ما لم يعلموا من تفوق تقني ليفيدوا البشرية وليصلحوا الأرض لهم ولمن يأتي بعدهم.
إنه جل جلاله ينظر إليهم وإلى أعمالهم ويترصد لهم ويواجههم بكل قوة ليمنع انتشار
الفساد والدمار في الأرض. ومن المنطقي فعلا أن يصاحب التقدمَ العلمي والتقني قوةٌ
قاهرة تراقب كل تحركات ذوي الشأن. هذه القوة المسيطرة تُوظَف لصد الأقوياء إذا ما
سولت لهم نفوسهم الهيمنة والقسوة ضد الضعفاء من الناس ولو كانوا في بروج مشيدة.
هذه القوة القاهرة لم يفوضها الله
سبحانه لعبيده البشر بل احتفظ بها عنده جل شأنه ووعد بأن يستعملها لمنع إشاعة
الفساد في حكومته وبين عبيده. ذلك لأن الإنسان يزداد اختيالا عندما يُكرمه الله جل
جلاله بالنعم كما يزداد كفرا بأن الله سبحانه قد أكرمه بالنعماء، كما يزداد عتابا
على الله تعالى حينما يصيبه الله جل شأنه ببعض ذنوبه. هذا الموجود غير قادر على
استخلافه في كل مقدرات الأمم لضعفه وقلة صبره. ومن هذه الآية نعلم أن المدمرات
الكاسحة ولو نراها فعلا في أيدي الناس ولكنهم غير قادرين على التمتع بها متى ما
شاءوا دون إرادة الله العزيز الذي يرصد لكل الظالمين، سبحانه وتعالى.
ولو أن سائلا سأل: كيف يصب الله
العذاب على قوم عاد وثمود وفرعون ومن قبلهم قوم نوح ويتجاهل بعض الأمم القوية جدا
والفاسدة في نفس الوقت؟ فالله تعالى لم يُسعّر العذاب بين الفرس واليونانيين ومن
قبلهم السومريين والبابليين وهم جميعا فاسقون مستكبرون؟ نجيب على هذا الإشكال بأن
الله سبحانه لا يُريد المجازاة في هذه الدنيا التي أقامها لغرض الاختبار. ومن
مستلزمات الاختبار أن يوفر فرص الفساد للجميع محاذية لفرص الصلاح والهدى. ولكنه
سبحانه لا يمكن أن يترك الناس ليفعلوا ما يشاءون دون رقابة فتُظلم سبل الهدى على من
يريد الهدى والرشاد. إنه سبحانه قدر إزالة قوم لوط بالكامل باعتبار خطورة انتشار
مرض التخنث بين المجتمعات وانقطاع النسل، كما قضى على الأقوام الثلاثة الذين برعوا
في التقدم العمراني لألا ينفردوا بالسلطة بين البشر فيستعبدوا من دونهم ويخلو الأرض
من مهرب ومنجاة لمن يطلب النجاة.
وإن الله تعالى لا يمكن أن يعذب قبل
أن يبعث رسولا يواجه الظالم كما سنعرف فيما بعد. وفي الواقع أن السومريين
والبابليين كانوا أقل فسادا من قوم عاد وثمود. إنهم نشروا الحضارة الزراعية بين
الناس وخدموا أمتهم كثيرا. إنهم أتوا بالشرائع البشرية التي تحمي الناس أيضا.
والفرس كانوا يدينون بشريعة تحمي الفقراء وتعين المظلومين إلى حد كبير وهم كانوا
مهتمين بكسب شهرة العدالة بين أممهم. وأما اليونانيون فقد نشروا العلم والفلسفة مع
تقدمهم في السيطرة على الأمم وكانوا أقل خطرا من قوم فرعون. لقد رأى المصريون
الكثير من علامات النبوة لدى موسى الكليم عليه السلام ولكنهم ما برحوا يخاطبونه
بالساحر في حين كان أجدادهم الذين حضروا زمان يوسف الصديق فإنهم احترموا يوسف
وعزروه ووقروه وأطاعوه كثيرا. والله تعالى لم يعذب قوم يوسف من المصريين الذين لم
نسمع عن إيمانهم بيوسف في حين أنه سبحانه عذب أحفادهم الذين أطاعوا فرعون موسى ولم
يعبئوا بالرسول العظيم على الرغم من أنه ساعدهم أكثر مما فعله يوسف.
كان مساعدة يوسف عليه السلام للمصريين
مادية وقد ساعده المصريون على إقامة المباني التي شيدها لتخزين الحبوب وأكرموه
وسودوه عليهم. كان فرعون مصر آنذاك يحترمه ويكرمه وقد أكرم أبويه وإخوانه بأن
أدخلهم مصر آمنين مطمئنين. ولكن موسى قد ساعد المصريين مساعدات معنوية كبيرة كأن
نجاهم من الطوفان والجراد بقوة إلهية كما دعا لهم بإنهاء السنين الجدب وتكثير
الثمرات فقالوا له: كما في الأعراف: (وَقَالُواْ)
مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ
بِمُؤْمِنِينَ ﴿132﴾.
كان موسى يطلب منهم الإيمان بالله
وتحرير بني إسرائيل ليخرجهم من مصر وينجيهم من قسوة قوم فرعون عليهم ولكنهم كانوا
يأبون ذلك. قال تعالى في سورة طه:
فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ
جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى
﴿47﴾
ولو نمعن النظر اليوم لنرى أن الله
سبحانه قدر الاتحاد السوفيتي نِدّا قويا قبالة الولايات المتحدة ولما قدر زوال
السوفيت فإنه سبحانه أقام الأوروبيين المتحالفين مع أمريكا ليقفوا أمام التوسع
الأمريكي وأقام ضدهم الصينيين والروس والإرهابيين وغيرهم. فمن شأنه الربوبي سبحانه
أن يكون دائما وفي كل حين بالمرصاد لئلا ينتشر الفساد بصورة لا يقبل السيطرة
والكنترول أو تمتلئ الأرض كلها بالظلم والجور. هذا الرصد القوي المستمر يُحافظ على
التوازن في الكرة الأرضية ويرفع خطر الفساد الشامل كما يرفع الحاجة للعدالة
الكاملة فتتلاشى فرص الفساد أو تنحسر فرص النجاة. ذلك لتبقى الأرض مستقرا صالحا
لاختبار النفوس كما تبقى منتجعا بساعد الناس على التمتع بفرص الحياة والعيش في كثير
من أرجائها وبلادها. والمقصود من الحاجة للعدالة هو الرحمة التي عوّد الله
الكريم عباده عليها حينما تستدعي الضرورة ذلك ولو كانوا في دار الاختبار، تبعا
لقاعدة اللطف، فمع ضرب الله تعالى الظالمين بالظالمين يمنح الصادقين المخلصين
الراحة والهدوء اللازم للمضي في عبادته وإرضائه سبحانه وتعالى.
هذا هو الله سبحانه وتعالى الذي يقوم
بدوره دون تفريط، فضلا منه ورحمة و مَـنًّا وهو على كل شيء قدير. وأما الإنسان فإنه
يتكاسل عادة في استعمال العقل وإعمال الفكر في ما حوله من متغيرات وعوامل تؤثر في
قراره قبل أن يعقد العزم عليه، كما لا يريد أن يعرف حقيقة الأمر طمعا في المزيد من
مساعدة ربه جل جلاله. لطالما رأينا الناس يتكلون على البركة ومساعدة الملائكة ودعاء
الآخرين لهم. نراهم يقولون مثلا: دعه لله ونتوكل على الله -وهو لم يتدبر العواقب-
ونتشفع بصاحب هذا القبر ليدعو لنا عند الله و ما شابه ذلك. أو نراهم يقيمون الذرائع
للظالمين المجرمين ويبالغون في إدانة الشعوب والمظلومين وغير ذلك. لكنهم يخسرون لا
محالة، لأن الله تعالى الذي يُدير كل الكون بنظرة واحدة عادلة غير ظالمة فإنه
سبحانه لن يستمر في مدّ الجاهلين بما يقيهم ويحفظهم لأنه حينذاك سوف يكون ناقص
الحجة عليهم إذا ما قاضاهم يوم الحساب. ولله تعالى الحجة البالغة بلا ريب. ولبيان
ذلك يقول سبحانه:
فَأَمَّا الإِنسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
﴿15﴾ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴿16﴾ كَلاّ بَل لا تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ ﴿17﴾ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ
﴿18﴾ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًّا ﴿19﴾
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴿20﴾
وغب بيان النظام التدبيري الشامل لإدارة البشر وتنظيم حياته وتهيئة متطلبات
الامتحان له، جاء القرآن ليُظهر للملأ ما يُخفيه أفراده من فكر خاطئ جاهل لا يمت
إلى الحقيقة بصلة وثيقة أبدا. فنرى المترفين ممن انحدروا من أصلاب المؤمنين بالله
لا ينفكون عن التفاخر بأن الله تعالى قد أكرمهم وخصهم بنعمه إيهاما منهم بأنهم
يستحقون ذلك. وقد رأيت بعض الأغنياء الذين ينتسبون إلى الشجرة النبوية يدعون
البركات أيضا. وأذكر أن تحدثت ذات مرة مع أحد المترفين وهو يتباهى بماله الذي حصل
عليه ويعده كرامة من الله تعالى لأنه كان يُحب الله كثيرا، فأجبته قائلا: يا هذا هل
أنت تحب الله أكثر من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يدعُ لغير
الله وعاش فقيرا لا يملك الكفاف من المال؟ أم أن الله يحبك أكثر مما يحب رسوله الذي
لم يتوان في عبادته والدعوة إليه سبحانه؟ فبُهِت ولم يعرف كيف يهرب من قوله الأحمق!
وهذه الآيات الكريمة الخمسة ترد كل
ادعاء باطل وسفيه فالله تعالى ينعم على الكثيرين أو يُقتر عليهم ابتلاء واختبارا
ليرى ردة فعلهم مع ما قدر الله سبحانه لهم من اختبار. وقد استعمل سبحانه مرجع
الربوبية لنفسه ليعطي المزيد من الإيضاح بأن ما يفعله تعالى في هذا الشأن هو ضمن
مسيرة الربوبية التي تشمل الإنشاء والتربية والتعليم والهداية والاختبار. فإكرام
الخالق الكريم عبده بالمال يستوجب المزيد من المسئولية للمرء. عليه أن يُسرع
بالإنفاق قبل أن يفاجئه ما يحول دون أداء الفرائض فينقلب عليه ماله وما أكرمه الله
تعالى به ونَعّمه عليه، وبالا وخسرانا ونارا وجحيما أبديا. وأما الذي قدر الله عليه
رزقه فهو ليس من باب التجاهل والإهانة به بل من باب الاختبار أيضا.
والآيات الأربع التالية ترتبط
بكليهما. فكيف يمكن أن نتصور إنسانا لا يُكرم اليتيم ثم يُكرمه الله تعالى؟ أو أنه
لا يسعى ولا يشجع غيره لإطعام المسكين ويُكرمه رب الفقراء والمساكين؟ أو أنه يحرص
على ابتلاع مواريث الآخرين ويتنعم بإكرام رب الآخرين؟ أو يملأ قلبه بحب المال بدلا
من حب الله تعالى ويفوز بالإنعام المولوي من الله سبحانه؟ هذا ليس قولا صحيحا بل
أشبه بالهراء والسخافة. ومن زاوية أخرى فإن الذي يجمع الأموال هو في الواقع يرى
الحاجة الملحة لدى اليتامى ولا يتحرك قلبه لمساعدتهم، و/أو يسمع ويمر على المساكين
ولا يعبأ بما يُعانوه من شح في المأكل كما لا يهتم حتى بتشجيع أقرانه على مساعدتهم،
و/أو لا يتقي الله في المواريث فيأكل حق غيره، و/أو يُبالغ في حب مال الدنيا ليتعلق
قلبه ونفسه بما هو محدود في هذه الحياة ليعيش عليها الجميع بالكفاف والعفاف لا
بالحرص والطمع. هكذا يجمع الثريُّ ما يجمعه ويكدسه لنفسه دون أن يكون له حق في ذلك،
فكيف يمكن أن ننسب ذلك إلى إنعام العزيز الحكيم وإكرامه جل شأنه؟ هذان الاحتمالان
يرتبطان بالأغنياء.
ولو ننظر إلى الذي ابتلاه الله تعالى
فعلا بالفقر فطالما كان غنيا يوما ما ولكنه ما اهتم بإكرام اليتامى ولا اعتنى بهم
وبشؤونهم وهو واجب وجداني وديني، أو أنه قبْل عوزه وفقره كان من الذين يخذلون
المساكين وهم بعين الله تعالى الذي خلقهم ولا يمكن أن ينساهم، أو أنه كان غير عابئ
بمواريث الآخرين بل تملّك كل ما استولى عليه دون حساب، أو أنه أفرط في حب المال فلم
يبق في قلبه مكان لحب الحقيقة المطلقة جل جلاله. وكثيرا ما ينتقم الله تعالى من مثل
هؤلاء الذين سبق عليهم التعرض للإثم والظلم فبدّل سبحانه غناهم فقرا ليذوقوا وبال
أمرهم لعلهم يعقلوا ويعودوا إلى رشدهم في النهاية أو يكمل الله تعالى حجته عليهم.
فالذين تنطبق عليهم هذه الآيات الستة هم عامة البشر الذين لم يسعوا لإصلاح نفوسهم
وتزكيتها لتتحلى بالقناعة وبالإيمان بالخالق العظيم. فهم من الذين أغناهم الله
تعالى أو أفقرهم ليحتج عليهم. أما المؤمنون الذين يعملون الصالحات فهم الذين تحلوا
بالتقوى والإيمان الراسخ فزادهم ربهم سيطرة على شهوات نفوسهم. مثل هؤلاء لو قدر
الله تعالى لهم بعض المال في الدنيا فهو تفضل منه ورحمة ولو أصابهم ببعض الفقر فبشر
الصابرين.
والمؤمنون وإن أتاهم مال كثير فهم
يُنفقونه في سبيل الذي أنعم عليهم جل جلاله ولا يمكن أن يبقوه لديهم وهم يرون في
أقطار الأرض من لا حيلة له أمام الفقر والعوز. كما أنهم إن أُصيبوا ببلاء الفقر
فإنهم يصبرون ويُصرون على عبادة ربهم وشكره سبحانه دون أن يؤثر الفقر في عبادتهم أو
توجههم إلى خالق الكون قيد أنملة. هم الذين يحدثنا ربنا عنهم في نهاية هذه السورة
الكريمة. وعلينا الانتباه بأن الله تعالى أطلق كلمة الإنسان على من تشمله هذه
الآيات الستة ليذكرنا بالطبيعة البشرية النابعة من حب الإنسان لذاته قبل أن يحجمه
المرء بالتقوى والعودة إلى الله تعالى والاهتمام بحالة الاختبار والامتحان المؤقت
التي نعيشها اليوم جميعا. فمن الطبيعي ألا يكون الإكرام والإنعام الذي نراه لدى
الغني إكراما خاصا من ربه له كما أن الفقر الذي نراه لدى الفقير ليس بالضرورة
إهانة وعقابا من ربه له، بل كلاهما اختبار يتناسب مع شأن الفرد لا غير.
وأما شرح هذه الآيات العزيزة فهي:
فَأَمَّا الإِنسَانُ :
الفاء عاطفة لبيان فلسفة الناس في تمسكهم بالمال أو تنفرهم من الفقر بعد أن عرفنا
أن الله تعالى مترصد لحال الناس ومتأهب للثواب والعقاب إلا أن النظام الربوبي يقتضي
اكتمال الاختبار قبل الجزاء، وأن كل ما نراه من عقاب وثواب دنيوي، فهو ضمن نظام
الاختبار وليس من منطلق المكافأة والمجازاة. والإنسان هو جنس البشر بطبعه الإنساني
قبل التحلي بالإيمان الكامل والتمسك بحبل الله تعالى.
إِذَا مَا ابْتَلاهُ
رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
: يعني حينما يأتي وقت ابتلائه واختباره بالإكرام بالغنى وبالنعمة الكثيرة فإنه
يقول: إن ربي قد أكرمني، حال كونه غافلا عن الامتحان. فلو قال: إن ربي قد أكرمني
وهو منتبه للاختبار لكان الاختبار فاسدا. فالإكرام الجزائي لا يصاحب الاختبار بل
يتأخر عنه. كان المفروض أن يقول: إن ربي اختبرني بالنعمة والمال ولا يقول قد
أكرمني. حينذاك سوف يهتم بالتخلص من ذلك المال جلبا لمرضاة الله تعالى دون أن يتعلق
به بمجامع قلبه ونفسه. والسبب في ذكر زمان الإكرام المستتبع لزمان الضغط والفقر هو
أن الله تعالى يداول الغنى والقدرة بين الناس فحينما ينقل الغنى من أسرة أو أمة أو
فرد بعد أن يقدره لأمة أو أسرة أو فرد آخر فإن الفقر سوف يحل محل الغنى قطعا. هذا
لا يستلزم أن يرى الفرد بعينه كلتا الحالتين في حياته كفرد. ولذلك استعمل الله
تعالى مفهوم الإنسان لنعلم بأن الناس كبشر سوف يمرون على كلتا الحالتين وليسوا
كأفراد. وإذا مروا بأي منهما فسيكون انفعالهم كما قاله الله تعالى إلا إذا تحلوا
بالنفس المطمئنة. والتنعيم هو صب النعمة بكثرة على الفرد بما يزيد عن حاجته.
وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ
: وحينما يأتي وقت اختباره بالفقر فإن الله سبحانه لا يمكن أن يسبب له الفقر بالطبع
لأن ذلك لا يتماشى مع إرادته الكريمة المناهضة لكل السلبيات. بل إنه تعالى ولغرض
الامتحان فقط يضيق عليه الرزق. وليكن واضحا أن هذا التضييق لا يؤدي إلى الجوع ولكن
الفرد بنفسه لا يكيف نفسه مع الوضع الجديد فينفد ما عنده. كان عليه أن يقتر على
نفسه وأهله حينما رأى آثار الضيق في الرزق فلما استمر في التمتع دون حساب فإنه جلب
لنفسه الفقر والجوع وليس الله تعالى هو الذي يسبب السلبيات ابتداء. حينذاك يقدر
الله يعني يضيق الله تعالى عليه رزقه. هذا دليل واضح أن لكل فرد رزقا عند الله
تعالى ولكن الغرض الامتحاني هو الذي يحول دون تمتع الإنسان بكل ما هو مقدر له من
الرزق. وسيكون ردة فعل الإنسان غير المتمتع بالإيمان الكامل أن يقول: إن ربي
أهانني. والإهانة في الواقع جزاء ولا يمكن أن يجازي الله سبحانه أحدا في هذه الدنيا
إلا جزاء ناقصا بهدف تنبيهه أو تنبيه الآخرين. ولا ننس بأن إيعاز الآية الكريمة ذلك
إلى الله تعالى باعتباره ربا وليس باعتباره إله العالمين هو لأن الربوبية شأن إلهي
يتناسب مع الرحمة ومنح الفرص للخلق أكثر من شأن الألوهية التي تتناسب مع النظام
وفرض القانون الصارم.
كَلاّ بَل لا تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ
:كلا حرف ردع وزجر لكلتا الطائفتين من
الناس وبل للإضراب عما قالوه ونسبوه إلى ربهم وهو بمثابة تقبيح لما قالوه.
ثم يبدأ الله تعالى ببيان الأسباب الداعية إلى اختبارهم بالثروة الطائلة أو بالفقر.
ونحن نعرف بأن الحالتين كلتيهما غير مطلوبتين لأنهما مضادتان للوسطية والاعتدال.
فكأنه سبحانه يقول لهم ردا عليهم: ليس الأمر كما تدعون، بل إنكم لا تُكرمون اليتيم
ولا... فيقدر الله تعالى لكم الفقر خذلانا لكم. أو لا تُكرمون اليتيم و لا
تحاضّون على طعام المسكين الخ.. فيبتليكم الله بالثروة التي تجمعونها عن طريق
عدم الإنفاق على غيركم. وإكرامُ اليتيم معناه الإغداق على اليتيم دون المساس
بكرامته العائلية أو الاجتماعية أو الإنسانية حتى يخف شعورُ اليتيم بفقدان من تولى
أمره طبيعيا. هذا بالنسبة لليتيم الفقير. وأما اليتيم الغني فيتحقق إكرامه بالسعي
لعدم قهره وباحترامه وإشعاره بأن المجتمع المحيط به كله يحبه ولا يتوانى عن السعي
لتلبية كل طلب له. ثم من واجب المجتمع المسلم أن يسعى لتعليم وتربية اليتامى حتى لا
يشعروا كثيرا بفقدان الأب أو الأم، بل يحل الاهتمام الاجتماعي محل اهتمام الأبوين.
هذه هي جزء من رسالة هذه الآية الكريمة.
وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ
فالإنسان بما هو إنسان يحمل الوجدان ويستعمل
الحكمة في حياته فلا يرضى بظهور الفقر بين الناس بل يعينهم بكل ما يقوى عليه بنفسه،
كما يشجع أقرانه على محاربة الفقر لدى بني جنسهم طلبا للأمان والسلام. هكذا ينتشر
عمل الخير بين الناس وتزول مسببات العذاب الدنيوي وكذلك الأخروي. فمحاربة المجاعة
بين المساكين لن تتأتى للأفراد إذا ما لم يتعاونوا مع بعضهم البعض للوقوف ضدها. إن
التصدي لقلة الطعام يتطلب التكاتف الكامل بالدفع أو بتخفيض الأسعار، وبدونه فإن
كلما يدفعه البعض سوف يمتصه الذين يحتكرون ويطالبون بالأسعار المرتفعة عند تقلص
مقادير الأغذية. وهذا لا يعني الإمساك الفردي للبذل بانتظار البذل العام، بل إن
البذل العام هو نتيجة حتمية لبذل الأفراد. فخطاب الجمع في الواقع بمثابة سعي
الأفراد للبذل وتحسين ظروف المعيشة للآخرين بجوار السعي لتحريض الآخرين على البذل.
ونعرف من هذا بأن كل فرد مسؤول عن السعي للنهوض بالمجتمع نحو الاهتمام بالغير. نعرف
ذلك حينما نمعن في الآيات الأخيرة من السورة حيث يعود الخطاب للأفراد المطمئنين
وليس للعموم. فالهدف الحقيقي وراء كل هذا التحليل القرآني أن يسعى كل فرد لإرضاء
ربه في النهاية.
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ
أَكْلاً لَّمًّا
وتأكلون التراث وهو الميراث الذي يبقيه الميت لصالح القريبين منه أو ما أورثه الله
تعالى عبيده من خيرات الأرض. إنكم تأكلون التراث بغرض جمع المال وضمه إلى أموالكم
وليس لإشباع بطونكم واللّمُ بمعنى التجميع وضم المال إلى المال. فلو كنتم
جائعين لما كان أكلكم للتراث سببا لنزول البلايا عليكم في الدنيا. والعلم عند الله
تعالى.
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ
حُبًّا جَمًّا
وأخيرا فإنكم تملئون قلوبكم بحب المال فلا يبقى فيها مكان لحب الله والعمل لإرضائه
سبحانه. إنكم تحبون المال حبا كثيرا كأن المال هو الذي ينجيكم من كل كرب وتغفلون عن
الله تعالى الذي يمكنه أن ينجيكم من ذلك. الحب الكثير سبب طبيعي للتمسك وللخوف على
المطلوب والرجاء منه. كما نرى الأغنياء يتمثلون بالاستغناء عن الناس لأنهم يظنون
بأن المال هو الذي يقيهم من كل سوء ويجلب لهم السؤدد والاحترام والسعادة. وفي
الواقع أن طلبَ النجاة والسعادة ودفعَ السوء من تبعات المربوبية والعبادة ولا تجوز
العبادة لغير الله تعالى بالطبع. هذه هي الأسباب التي تصدر منكم فيقدّر ربكم الكريم
لكم الفقر أو الثروة التي يصعب على المرء تجاوز آثارها الاختبارية. كما أن الشيطان
يوسوس له بأن ربه الكريم قد أكرمه أو أهانه وهو خطأ قطعا. إن الله تعالى قد اختبره
بالثروة أو الفقر لأنه أتى بما يسبب له ذلك من تلقاء نفسه.
كَلاّ إِذَا دُكَّتِ
الأرْضُ دَكًّا دَكًّا ﴿21﴾ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا ﴿22﴾ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴿23﴾ يَقُولُ يَا
لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴿24﴾ فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ
عَذَابَهُ أَحَدٌ ﴿25﴾ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
﴿26﴾
يمر الإنسان بمراحل متعددة بعد الموت حتى يأتي يوم الحساب فيرى بأم عينه النار إن
كان فاسقا كما سيرى النار ثم الجنة إن كان مؤمنا. وقد اختار الله سبحانه ما يتناسب
لزجر هذه الطبقة من العصاة فذكر اندكاك الأرض وتهشمها إشارة بأن ما يحرص الناس على
جمعه من خيرات الأرض فسوف لن تبقى بل إن الأرض بنفسها لن تبقى. ستزول جميعا فلا
فائدة في تجميع ما يزول بل من الحكمة أن نتخذ منه ما نحتاج إليه فعلا ثم نوزع
الفائض على من يحتاج إليه من بني جنسنا. ولو فعلنا ذلك فإننا كنا قد تمتعنا بحقنا
في الحياة الدنيا وقدمنا ما هو زائد على حاجاتنا الدنيوية لحياتنا الأبدية في
الآخرة.
ثم يشير سبحانه إلى ما سيواجهه
المتمردون من قضاء الله تعالى وشهادة الملائكة الكرام ضدهم. ثم إن الملائكة سوف
يسوقون الآثمين إلى نار جهنم بحكم رب العالمين. هناك فإنهم دون ريب سوف يتذكرون ما
كان عليهم أن يتذكروه وهم يجتازون مرحلة الاختبار في النشأة الدنيوية. سوف يتمنون
التذكر في الحياة الأولى ولكن دون جدوى. فيقول المرء: يا ليتني قدمت ما يمكن تقديمه
لحياتي الحقيقية التي لا موت فيها. ليتني فكرت في هذا اليوم المرعب، حينما كنت
طليقا غير مقيد بعذاب أو ضغوط مفروضة علي. كنت بكامل حريتي قادرا على التمهيد لهذا
اليوم الذي لا مفر منه ولكني ما فعلت شيئا.
كَلاّ،
كلمة ردع تفيد التنبيه؛ والمقصود منها إعداد الإنسان الدنيوي للاستماع إلى نداء
الحقيقة منبثقةً من متن كتاب الله الكريم الذي جاء لينجي من يمكن نجاته من العبيد
الذين غرتهم حرية الدنيا فجذبتهم إلى زخارفها و زبرجها وشهواتها ولذاتها. كفانا
غفلة وجهلا وضلالا. لنفتح عيوننا ونوجه مسامعنا إلى آيات الله العظيم الذي منحنا
الدنيا ليختبرنا، فها هو ربنا ينادينا: كلا؛ كفاكم؛ اسمعوا؛ افتحوا قلوبكم؛
ليس ما أنتم فيه باق؛ ولستم باقون فيه بأبدانكم؛ ستموتون وتنتقلون إلى عالم
الحقائق؛ ستفقدون كل مقومات الحياة الدنيوية ولكنكم سترون بعين القلب كثيرا مما لا
تنتظرونه...
إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ
دَكًّا دَكًّا:
فكروا في الكوكب الذي يحملكم فهو في فناء مستمر. إن أرضكم تتناقص يوما بعد يوم
وستموت كما مات الناس. لكل ما في الحياة الفعلية حدّ ينتهي بعده الشيء، ولكن أعمارَ
الأشياء متفاوتة بحسب ذواتها، وكيفية فنائها تابع لكيفية وجودها. الأرض صلبة قوية
جامدة ولكنها في تحرك وتنقل وكل متحرك قابلٌ للفناء بالشكل المرسوم له. فناء
الإنسان في انفصال النفس عن البدن وفناء النبات بأن يتوقف تكاثر الخلايا فيه وفناء
المواد بأن تحترق أو تتحول إلى مواد أخرى وفناء أمّنا الأرض بأن تندك مع مثيلاتها
في بعضها البعض. هذا سهل جدا على من خلقها وحركها وأودع الجاذبية فيها وفي ما يحيط
بها من كواكب أكبر منها بكثير لتعيش فترة حياة تفيدنا ثم تذهب لشأنها.
ومن الواضح والمعلوم فيزيائيا بأن
الأرض لن تبقى بطبيعتها. لكن فناء الأرض بصورة طبيعية تأخذ وقتا طويلا جدا. ولا
حاجة لأن يعطي الله تعالى الأرض فرصة غير ضرورية حتى تموت بطبيعتها. إنه تعالى خلق
كل النشأة الفعلية لغرض الاختبار، فإذا زال الغرض فلا داعي لتركها تموت لوحدها.
ولعل هذا هو السر في تكرار ذكر الإرادة الإلهية في تدمير الكون والمقصود هي الإرادة
الجازمة التي تفاجئ السير الطبيعي الفعلي، أو (كما هو في آيات أخرى) تكرار القول
بأن الله تعالى وحده يعلم الساعة والمقصود بالساعة هي ساعة تحول المسيرة الطبيعية
الفعلية بسير مغاير يبدأ بالتدمير وينتهي بتغيير كل الكون إلى نشأة جديدة قابلة
للبقاء الأبدي.
ولتحقيق ذلك وعد سبحانه بأن يعجل في
موت الأرض فيقدّر لها الاندكاك مع بقية الكواكب الصلبة والغازية في يوم خطير جدا.
فدَكُّ القطع الصلبة بالقطع الصلبة الأخرى يعجل في تدمير هذه النشأة التي لم يُكتب
لها البقاء أساسا. ويجدر الانتباه بأن الله تعالى سوف لا ينتظر الدمار الطبيعي لكل
الكون فسوف يقوم سبحانه بتدميره حينما تنتهي مهمة اختبار من هو على وجه كل أرض
مسكونة في الكون العظيم وليس أرضنا نحن فقط. ولذلك أعاز التدمير إلى غير الأرض
نفسِها بأن ذكر صيغة المجهول لنعلم بأن هناك إرادة جازمة لإنهاء هذه النشأة ثم وضح
التدمير بأنه اندكاك ولا يمكن تحقق الاندكاك إلا بتصور أراض أخرى مشابهة لأرضنا ولا
يمكن حصول ذلك بين أرضين متشابهتين فقط لأن الكواكب مرتبطة ببعضها البعض وليس سهلا
أن نتصور فصلها عن بعضها البعض. فالاندكاك حاصل في جميع أرجاء الكون المهيب. وبناء
نشأة جديدة تتناسب مع إرادة البقاء التي وعد بها سبحانه عبيده المُعَرّضين
للامتحان من الجن والإنس.
وأما التأكيد في الدك بتكرار الكلمة
هو لأن الاصطدام بين الكواكب في يوم الدمار الكوني الشامل ليس معدودا و محدودا. إذا
ما انتفخ وعاء الكون المهيب بصورة غير عادية بأمر الله تعالى فإن الكواكب تفقد
جاذبيتها وتبدأ بتغيير الوجهة إلى الجهة المعاكسة باتجاه مركز الكون كما سنعلم ذلك
حين تفسير سورة العاديات وفي تفسيرنا للنفخ بالصور المبَيَّن في عشر سور قرآنية،
بإذنه تعالى. وكلما مضت الكواكب في طريق العودة إلى المبدأ، فإن الفضاء سوف تنكمش
معها وسوف تضيق بهم الفجوات الواسعة الفعلية. سوف تتجه نحو التراكم في سَفرة طويلة
ومسرعة. السرعة ليست بعيدة جدا عن سرعة الضوء والزمان لا يقل عن 18 بليون سنة.
ولذلك فإن التعرض للضرب والدك يفوق حد التهشم والتدمير الكامل. وهذا مشروح في سورة
المعارج وسوف نذكره هناك بإذن العزيز سبحانه.
وَجَاء رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا:
لا يضير البعد الزماني بحصول الدمار الشامل لكل الكون ولكن بحكمة وهدف. إن الذي
يقوم بعملية التدمير الكبير هو الخلاّق العليم نفسه الذي أوجد السماوات والأرض
وصنعها وأبدع في صنعها من قبل. هذا التدمير المهيب تمهيد وإعداد ليوم الوقوف
العظيم. إن بعد التدمير الشامل إعادة تبويب وتجميع لكل جزيئات الكون بطريقة مغايرة
لما هي عليها الآن لتتناسب مع ظهور الملائكة أمام أنفس الناظرين بطريقة غير واضحة
لنا اليوم. سوف نكون في أبدان جديدة يوم الحساب دون شك ولكن الوقوف أمام الله تعالى
سيكون غير مقيد بالبدن بالطبع. لعلنا نكون في حالة خروج النفس من الجسد المذكورة في
القرآن في سورة الواقعة بقوله تعالى: {كلا إذا بلغت
الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون} . هذه هي حالة لا يمكن وصفها بما يشابهها في
حياتنا الفعلية سوى حالة النوم.
سوف نشعر بالله تعالى أكثر من أي وقت
مضى ولذلك يمثل سبحانه الوضع في ذلك اليوم بمجيء الله تعالى. ليس الله تعالى في
عرضة الذهاب حتى يتعرض للمجيء، فهو حاضر دائما وأبدا. ولكنه سبحانه يشرح في هذه
الآية الكريمة حالتنا نحن أمام الله حيث ننفصل جزئيا عن أبداننا الجديدة شيئا فشيئا
يوم الوقفة الكبرى لنشعر بوجوده الكريم سبحانه وكأنه مقبل إلينا. حالتنا هي عين
حالة الشمس التي نراها تدور حول الأرض حينما تدور الأرض حولها. ولنا مثال آخر، وهو
حينما نمشي على الأرض بسرعة لنرى بأن الأرض تتحرك أو تمشي من تحتنا ولسنا نحن الذين
نمشي. فنحن الذين نقبل بحالتنا إلى الجبار العظيم هناك لنرى بأنه هو جل جلاله قادم
إلينا. كل الرؤية بالقلب وليست بالعين.
هذه المسألة غامضة قليلا ولكنها
مشروحة في غير مورد داخل الكتاب المجيد. لنفتح عيوننا على الآيات التالية من سورة ق
ونحن نفكر بأن النفخة في الصور هي النفخة الثانية وليست النفخة الأولى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴿20﴾
وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴿21﴾
لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ
الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴿22﴾ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا
مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴿23﴾ أَلْقِيَا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴿24﴾
هكذا نكون أمام الله فالأبدان الجديدة التي معنا ستكون بمعزل عن المحكمة الكبرى.
ذلك لأن الكثيرين سيكونون عميانا أو صما في النشأة الجديدة وهو غير مناسب للمحاكمة.
المحكمة العادلة تعطي الكل الحق في
الدفاع ويجب أن تعطيهم الحق في الوقوف في صف واجد مع بعض دون تمييز ولذلك فإن
نفوسنا سوف تحل محلنا ولا عمى ولا صمم في النفوس. ليس ممكنا رؤية الملائكة فكيف
يمكن رؤية الله تعالى. إن الملائكة موجودات طاقوية بعيدة عن الأبعاد المادية ولا
يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، ولكن يمكن استشعارها بالقلب. والاستشعار بالقلب ممكن
لنا بالنسبة للذات القدسية جل جلاله أيضا. نحن هنا يمكننا النظر إلى الله تعالى
بقلوبنا وليس بأبصارنا فكيف لا يمكننا ذلك يوم نقف مع آبائنا الأولين في صف واحد
أمامه سبحانه.
أما صفوف الملائكة فهم في صفوف فعلا
أمام الله تعالى. لا يمكن تصور هذه الموجودات الطاقوية القوية متداخلة في بعضها
البعض، بل هي مصفوفة ومنسقة تنسيقا بديعا لا يمكن للغاتنا التي بنيت على أساس
التعامل مع الأجسام المادية أن تبرع في وصف تلك الصفوف بحقيقتها. كما لا تسع العيون
التي اعتادت على رؤية الأجسام المادية أن تساعدنا على فهم غير المرئيات وخاصة ما هي
خارجة عن عالم الفيزياء مثل الملائكة المكرمين، أو أن تلهمنا كيفية مجيء الملائكة
في صفوف أمام الله تعالى. سوف نعرف الكثير عن تنسيق الملائكة حينما نغوص في بحار
الكتاب الكريم مستقبلا بإذن الله تعالى وخاصة ما سنعرفه من سورتي فاطر و ق. فنحن
سنشعر بالذات القدسية حينما نبدأ بالانفصال المؤقت عن البدن الجديد كما سنشعر
بالملائكة جميعا. وقد ذكر الله تعالى لنا اسم جهنم كما سيأتي لنعلم بأنها ساعة
الحساب.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ:
هل ستنتقل جهنم إلينا أم نحن الذين سوف نقترب منها؟ إنما نحن الذين نقترب من جهنم.
سوف يكون الحساب في منطقة جهنم بالتأكيد. لقد حرم الله سبحانه الجنة على الكافرين
ولكنه تعالى لم يحرم جهنم على المؤمنين. سوف نجتمع جميعا في منطقة جهنم بعيدين عن
المكان الذي خرجنا منه من الأرض الجديدة مزودين بالأبدان الجديدة. جهنم منطقة تحيط
بالنار الكبرى التي تقام في وسطها على ما يبدو لتكون قريبا من أهل النار أولا بأول
بحسب الإجرام والإثم. المحاكمة مع النفوس وجهنم واضحة للعيان والمعاينة بالنفس طبعا
لا بالعينين. لعل النار لم تكن مضرمة فيها بعد ولكن مسببات النار واضحة بادية. سوف
تطول المحكمة بطبيعتها وسوف يكون هناك وقت كاف لتزيين الكتلة الأرضية بالجنائن
والحدائق كما وعد سبحانه، كما يكون الوقت كافيا لإقامة النار الكبرى فيراها المؤمن
والكافر جنبا إلى جنب.
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الإنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى:
سوف يتذكر كل إنسان ويعود إلى رشده
حينما يرى العذاب الأليم بطبيعته دون أن يجديه ذلك التذكر. وهكذا يذكرنا الغفور
الودود بما سيحل بنا لعلنا نعود إليه هنا حيث مكان وزمان العودة إلى الله تعالى
باختيارنا قبل أن يحل زمان الإعادة إلى الله جبرا برغم إرادتنا ورضانا. هذه حالة
إنسانية طبيعية تحل بنا مرارا في حياتنا الدنيوية. لطالما رأينا الترف فنسينا يوم
البؤس حتى حل بنا البؤس، ولطالما غرقنا في الشهوات فنسينا المغبة حتى ألمت بنا،
ولطالما عشنا السؤدد فلم نفكر في اليوم الأسود الذي سيسود فيه الآخرون علينا حتى
وضعنا الدهر، ولقلما فكرنا في تلافي العتاب والعقاب بإقامة العدل والقسط ما قوينا
عليهما فنجونا من محاسبة الزمان ومؤاخذة الإخوان. والويل لنا إن لم نكن أعددنا
العدة للغد المقبل لا محالة فلا مجال للعودة إلى ما نحن عليه اليوم وقول: ياليتني
فعلت كذا وكذا.
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي:
ليت كلمة يقولها المرء حين اليأس مشفقا على نفسه ولائما إياها على عدم الانتباه في
الوقت المناسب. والحياة الحقيقية هي الأبدية التي وعدنا الله تعالى بعدم وضع حد لها
ولا زمان لنهايتها. نحن البشر من الذين وعدهم الله بالعودة إليه سبحانه في تلك
الحياة والبقاء إلى الأبد إلا ما شاء الله. هناك هندسة جديدة وتصميم معماري يفوق
فهمنا الفعلي للدار الآخرة التي تقدر أن تكافح الفناء إلى الأبد. نحن نعرف بأن كل
ما في الكون اليوم مشرف على الفناء إن عاجلا أو آجلا. الشمس تموت والنجوم تهوى
عديمة الجدوى والكواكب كلها في حال زوال فضلا عمن يعيش على ظهر هذه الأرض وظهر كل
أرض أخرى. فإذا صمم الله تعالى لأرض تبقى وشمس لا تزول فإن الإنسان لا يزول أيضا.
ذلك لأن السلطة في هذه النشأة للمادة والنفس ضيف على البدن المادي، ولكن الحال
مختلف في النشأة التالية.
ستكون النفس حية قوية قادرة على
صناعة البدن فسيكون البدن ضيفا على النفس وعليه ستبقى النفس ما بقيت مقومات
الحياة الموجودة في الأرض الجديدة. ونقصد بصناعة البدن، عملية تجميع الجينات
الوراثية التي وعد الله تعالى بأن يحفظها بقوله في سورة ق:4 {قد
علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ}. فصناعة البدن المادي تتم في
هذا العالم والنفس ضعيفة لم تبلغ بعد، فستتولى الجينات بنفسها دور صناعة البدن دون
تدخل النفس وستبقى هكذا حتى وفاة المرء. ذلك لأن الجينات تقوم بعملها الكبير وهو
إنشاء كل الأجهزة والمقومات الأولية قبل أن نعرف بأنفسنا شيئا عن الحياة، ثم إن
الجينات تنضج بموازاة النفس ولذلك فإنها تخلق خلايا الشباب في سن معين بعد أن كانت
تخلق خلايا الطفولة. وهذا هو أحد أسباب عدم تمكن البشر من إيجاد نسخة مماثلة لأي
إنسان بالإضافة إلى أسباب أخرى سوف أشرحها بإذن الله تعالى في سورة يس : {سُبْحَانَ
الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ﴿36﴾}؛
كما شرحت عملية الصناعة الفعلية في سورة الانفطار. هذه النفس ستكون موجودة ومتطورة
وناضجة تماما حينما يقدر الله سبحانه البدن الجديد، فستكون مهيمنة على خلايا البدن.
وبما أن النفس لن تموت بالكامل بطبيعتها إلا إذا شاء الله، فإنها ستكون قادرة على
تصنيع وتجديد كل عضو نخسره في النشأة الآخرة. وعليه فلا ممات هناك بل سنبقى مع
أبداننا الجديدة أحياء إلى الأبد، إلا إذا شاء الله تعالى غير ذلك. أضف إلى ذلك أن
المقوّم الأول للحياة هو نور الله تعالى الذي يصلنا هنا بواسطة الموجودات الكونية
الأخرى ولكنه سوف يصلنا غدا مباشرة دون توسيط. وسنعرف حين ما نعود لسورة البقرة أو
سورة الزمر بأن علة الحياة الأبدية هي الإمداد المباشر لطاقة الحياة بعكس حالتنا
وحالة كواكبنا في النشأة الدنيوية الفعلية.
وأما التقديم للحياة فهو عبارة
عما نقوم به من تصفيةٍ وتزكيةٍ لنفوسنا الفعلية لتبقى قادرة على كسب رضوان الله
تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. لو ننظر إلى الطالب
المقبل للمدرسة والعروس المقبلة على الزواج والرجل المقبل على الزفاف والخريج الذي
يذهب لحفل التخرج والموظف الذي يريد أن يبدأ عمله غدا والعالم الذي يستعد لجائزة
الشرف نوبل والأمير المستعد للتويج بالملك قريبا، فإنهم جميعا يستعدون ليومهم بكل
قوة ونشاط. فكيف لا يقوم الذي هو مقبل على جائزة الملك القادر المتعال، جائزة
الفردوس البديع، بالاستعداد لها. حسبي لو أفكر بأنني سوف ألتقي بمليك الكون بنفسي
يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل، لأستعد لذلك اللقاء العظيم
والمحتوم. كل ما هو مطلوب منا هو طلب تزكية نفوسنا لا غير. الإنسان الذي يتأهب
للقاء الله فهو لا ينسى لقاء ربه أبدا حتى لا يقع في حبائل الشياطين ولا يضيع فرص
الإنابة إلى الرحمن الرحيم. وما أجمل وأثمن التدبر قبل الندم ولنعم ما قال الشاعر
العربي:
أُلام بـ لوٍّ ولو كنت عالما
بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله.
فَيَوْمَئِذٍ لا
يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ:
يا حسرتا على من لا يتذكر قبل أن يرى النار مقبلة إليه. إنه يتحسر على يومنا الذي
نحن فيه الآن. في هذا اليوم وضمن هذه المنظومة فإننا نلمس العذاب أحيانا من بني
جنسنا ولكن لا مقارنة بين عذاب الناس وعذاب رب الناس. كلما نراه في الدنيا من عذاب
فهو ليس عذابا في الواقع بل هو شكل من أشكال التحذير يقدره العزيز المتعالي ضدنا
لعلنا نتذكر الآخرة. كلما أسرف الإنسان في تعذيب أخيه الإنسان فإنه غير قادر على
إبقاء مشاعر التحسس لديه فترة طويلة؛ وكلما عزم الإنسان على تكبيل يدي أخيه فإن
العمر محدود وتحمّل السجن محدود لدى بشر الدنيا. وكثيرا ما يترك الناس السجون
المظلمة ويعودون إلى حريتهم التي حرموا منها. والأمر مغاير تماما يوم القيامة. فلو
شاء الله تعالى لأحد العذاب فلا مفر منه أبدا ولو شاء لأحد أن يكبل فلا مخلص منه
أبدا. فالهاء في عذابه ووثاقه عائدة إلى الله تعالى ولكن المقصود بكلمتي يعذب
ويوثق فهو الذي يعذب بني جنسه أو يسجنهم وهو الذي ينطبق على كلمة أحد في
{وثاقه أحد وعذابه أحد}. فمعنى الآية باختصار: لا أحد في الدنيا يعذب عذابَ
الله أو يسجن كسجن الله سبحانه في الآخرة.
كل شيء في الآخرة مسوّم و محكوم
بالأبدية. إنه مرعب ومخيف كما أنه بهي وبهيج. ذلك لأن المحاسبة على النفوس وليست
على الأعمال. إن الأعمال دلائل على سلامة النفوس أو خبثها، فالنفس المطمئنة تعود
إلى الله والنفس الخبيثة تلقى غضب الله تعالى. النفس المطمئنة تكسب الغفران ثم
الرضوان والنفس الخبيثة تخسر ما عملت من خير في الدنيا. بل إن كل إيجابياتها ستعود
عليها بالمزيد من العذاب لأن صاحبها فعل ما فعل بقلب فاسد يريد غير وجه الله تعالى.
ونعرف ذلك عندما نعود إلى آيات أخرى من كتاب الله العزيز.
إن هدف الذي يعذب في الدنيا هو التعرف
على أعدائه أو التخلص منهم وهدف الذي يسجن الآخرين في الدنيا هو أن يجعل للناس عبرة
يخافونه فيها فلا ينازعونه سلطانه. ولكن هدف الله تعالى يوم الحساب هو أن يعطي كل
نفس ما تستحقه من الثواب والعقاب. ليست الآخرة مكانا للتزكية ولا للتطهير، إذ ليس
من شأن الآخرة غير أن تعكس ما فعله المعنيون في النشأة الأولى. فمن ظن بأنه سوف
يتخلص من النار بعد أن يعذب فيها بعض الوقت فهو غير دقيق في ظنه مع الأسف. ولعل
الشيطان قد وسوس في نفوس الذين كتبوا بعض الكتب المسيحية واليهودية كما وسوس
في أسماع الذين قرءوا على أهل الكتاب أو استمعوا إلى أساطير ملوك المسلمين المدونة
في كتب التراث. إن في الدنيا شؤونا اختبارية كافية لمعرفة السليم من المريض والذي
يموت قبل أوانه فإن هناك طريقة أخرى لمحاسبته وهي موضحة في القرآن الكريم وقد
ذكرتها باختصار تحت عنوان "الشهيد والشاهد في التنزيل" ضمن كتابي المفاهيم الصحيحة
الموجود بنفس الموقع الفكري هذا. والخلاصة أن يومئذ في هذه السورة تشير إلى
نفس يومئذ المذكورة في الآية قبل الماضية وهو يوم رؤية جهنم.
يَا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴿27﴾ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴿28﴾ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي
﴿29﴾ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴿30﴾
وإذا عرفنا حالة الذين خسروا الآخرة فدعنا نتعرف على الذين كسبوها. وقد اهتم سبحانه
بالتوجه إليهم فردا فردا ليعطيهم المزيد من العناية، عناية الرب بعبده. فقال خطابا
نوعيا لكل فرد منهم: يا أيتها النفس المطمئنة. ولكي يكون الخطاب محددا وفرديا جدا
فقد خاطب الإنسان بـ نفسه التي تمثله بالكامل والتي تبقى ولا تزول أبدا
بإذنه سبحانه، دون التوجه إلى بدنه الذي يفنى ويتغير. والإمعان بذكر النفس يدل على
الحقيقة التي ذكرناها فيما مضى من الصفحات يوم الوقوف أمام الديان العظيم بأنفسنا
ونحن في حالة أشبه ما تكون بحالتنا في النوم اليوم ولكن في يقظة كاملة. ذلك لأننا
سوف لا نكون نائمين فعلا بل نكون منفصلين عن أبداننا. سوف نقف غير متأثرين بأبداننا
الجديدة التي ستحيط بنا إحاطة فيزيائية ولكن دون أن تمنعنا من انفرادنا بحقيقتنا و
بواقعنا. فالنفس هي مناط الحكم هناك إن شقيا أو سعيدا. والنفس المطمئنة في مقابل
النفس المتذبذبة المضطربة التي تمثل الذين تمتعوا بالدنيا واطمأنوا بها.
حقا بأن النفس تطمئن مادامت تؤمن
بالحقائق وتترك كل ما اشتبه عليها علمه. فما برح المرء يؤمن برب العالمين وبأنه
سبحانه هو مصدر الحقيقة وباستحالة تركه خلقه دون هداية وبأن القرآن الكريم كتابه
الهادي الذي يوضح طرق الوصول إلى الله الكريم، فإنه سوف يستلهم الطمأنينة من
الحقائق التي يؤمن بها لا بغيرها. سيعلم المؤمن الذي يعمل بكتاب الله العظيم ولا
يُشرك بالله تعالى شيئا ولا يخلط العلم بالجهل ويغض الطرف عن كل ما سمعه من غير
القرآن واضعا إياها موضع الشك والترديد، بأنه واقف على أرضية راسخة قوية وبأن
العواصف لن تهزه ولن تحركه يمينا أو شمالا. لو فكر المرء في كلمات ربه العزيز
وتعلمها وعمل بها فإنه سوف يبني في ذاكرته بيتا قويا للواقعيات التي لا تقبل
التغيير فيستقر بها قلبه وتتكامل ثقته بربه العظيم جل جلاله. وأما الذين يبنون على
المشكوكات والخرافات والادعاءات الواهية، امبراطوريات ورقية فإنهم لن يكونوا على
ثقة من أمرهم ولا يغنيهم الضلال الذي هم فيه عن الحق شيئا.
ولننظر في الآية الكريمة وموقعها من
القرآن، فهي تأتي بعد أن يوضح الله تعالى لنا تدبيره الكريم لأمور الناس في ليالي
القدر الألفية وبأن العلم بها ليس في متناول من لا بصيرة له {هل
في ذلك قسم لذي حجر}. و مما لا شك فيه بأن تدبير الأمور سيكون على أسس علمية
دقيقة وسوف يكون الناس محتاجين إلى معرفة تلك الأسس. فسيفتح الله تعالى أبواب العلم
على رأس كل ألفية بما يتلاءم مع حاجة الناس وضرورة مجتمعاتهم. والعلم هو مفتاح
الطمأنينة والعمل هو صمام الأمان والاستقرار. فاطمئنان النفس المطمئنة التي تتلقى
العلم من مواهب الرحمان ويعمل بها صاحبه هو حقيقة حاصلة لعبيد الله المؤمنين الذين
لا يبخلون على أنفسهم ولا على أهليهم بالعلم والعرفان ومعرفة الديان وبالتقوى
والصلاح وعبادة رب العالمين وحده لا شريك له.
والنفس المطمئنة هي التي ترجع إلى
الله تعالى ولا ترجع إلى عبيده ولا إلى ثرواته وكنوزه جل جلاله. فالعودة إلى الله
هي علامة الثقة والإيمان العميق به سبحانه. الله تعالى هو مصدر النور والطاقة التي
تمد الكون بكل متطلبات الوجود والحياة، فهو سبحانه أخطر شيء يمكن لنا تصوره. نحن لا
نقدر الوقوف تحت ضياء الشمس في صيف الاستواء لمدة طويلة وهي على بعد 150 مليون كيلو
متر عنا، فكيف يمكن لنا أن نعود إلى الله تعالى، لولا أنه سبحانه هو السلام الذي
وسعت رحمته كل خلقه فلا يُحرق من تقرب إليه ولا يدمر من استعان به. وأنى للشخص الذي
يفكر في ذات الله تعالى، أن يتقرب إليه سبحانه لولا إذنه ورضاه عز اسمه. وأما
الجاهل فهو في ضلال علمي وفي ضلال سلوكي والعياذ بالله من ذلك. فقوله الكريم
سبحانه، بمثابة إذن للنفس المطمئنة أن تعود إلى بارئها مطمئنة أيضا.
وبما أنه سبحانه ملك الوجود ومالك كل
شيء فإن دعوته ليست دعوة فقيرة. إنه يمنح المدعو رضاه سبحانه فيفيض عليه زخما كبيرا
من الرضوان الذي يحيط به من كل جانب. فهو راض عما قسم الله تعالى له ومرضي من خالقه
وهاديه الذي لم يكله إلى نفسه أبدا، بل ساعده وهداه دائما وفي كل حال. وشأن الرضا
المتقابل مع الغني الكريم أن يدخل صاحبه في فسطاط العبودية الخاص الذي يملأ من دخله
فخارا ومجدا. فعبد الله تعالى في غنى كامل عن غير الله تعالى. إنه تمسك بحبل الشرف
الرفيع الذي لا ينقطع أبدا ولن يترك المتمسك به في غياهب التخبط والضلال. لقد أذن
الله العظيم مالك السماوات والأرض أن يدخل هذا المؤمن في عباده الذين خصهم بنفسه جل
جلاله. تلك هي جنة المأوى التي يتمناها كل مؤمن عارف بربه. ولذلك لم يقل سبحانه
جنات النعيم بل قال جنتي منسوبة إلى نفسه جل جلاله. وجنة المأوى مشروحة في سورتي
البقرة والنجم.
لا يمكن للمرء أن يتصور قربا أكثر من
ذلك لإنسان مفطور على الضعف ومنطو على الكثير من الأخطاء شاء أم أبى. ولو نتصور
عظمة خلق الله سبحانه في هذا الكون المهيب لنرى القدرة الهائلة التي تدعو إلى نفسه
كل مخلوق بشري يهواه ولا يهوى غيره. كم تصرف شركات الخدمات لإقناع الزبائن بأن
خدماتهم شخصية وبأنهم يهتمون بكل شخص على حدة. وفي الواقع فإنهم يقدمون خدمة حسنة
وليست خدمة شخصية لكل من يتعامل معهم. إنهم عاجزون عن تنفيذ ما يدعونه دون ترديد.
لكن ما يقولونه يهدينا إلى مدى أهمية التخصص لكل من يسمع عنهم. فكيف بخالق الكون
الذي لا يمكن أن يغلو أو يدعي ما لا يفعله، أن يبعث بهذه الدعوة الشخصية لكل من
يسمع كلامه الكريم. يدعونا الله تعالى جميعا إلى نفسه ولا يعبأ لو استجاب كل أهل
الأرض وكل أهالي الأراضي التي تفوق عددها آلاف البلايين البلايين. واضرب هذا العدد
في ما تقدّره من عدد نفوس إنسية وجنية في كل أرض من تلك الأراضي لتصل إلى عدد
المدعوين. فما أعظم ربنا المتعالي، جل جلاله. وأخيرا هنيئا لمن استجاب لدعوة ربه
فلم يعبأ بغيره أبدا.
والدعوة المذكورة حتمية النتيجة ولا
تحتاج إلى الدخول في القرعة كما لا تحتاج إلى دراسة وتجديد نظر. فالقرار صادر
بالدخول فعلا. فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. ومن فاز بهذه الجنة فإن جنات الفردوس
وما وصفها الله تعالى لنعيمها وجمالها وبدعة ما فيها ليست مقفولة الأبواب على من
دخل جنة الله تعالى الخاصة. سيخلق الله العظيم كل جنات النعيم لكل من يغفر له يوم
القيامة بمن فيهم الذين دعاهم للتشرف بجنته الخاصة واللحوق بخاصة عباده. وبهذه
الدعوة السخية يختم الله تعالى سورة الفجر ليوضح لنا أهمية الفجر الجديد الذي يتجدد
كل ألف سنة. إنه مفتاح السعادة ومدخل الخير والسلام.
خلاصة البحث
هذه السورة مشابهة بعض الشيء بسورة
الكهف فهي باختصار توضح لنا ما يفعله الله تعالى وراء الأستار من تدبير لشؤوننا
كأفراد وكأمم. وبأن هذا التدبير لا يمنع قيام الأفراد بما يخولهم رضوانَ الله تعالى
ودخولَ جنة الرضوان كما لا يمنع الذين يريدون أن يأثمون بأن تُتاح لهم الفرصة
ليأثموا. كما توضح السورة الكريمة أهمية الليالي المظلمة التي لا تقل عن أهمية
الأيام المشرقة سواء ما اقترن منها بالزمان المعهود الذي يتكرر معنا كل يوم أو التي
اقترنت بأيام العز وأيام الذل. وتحكي السورة عن رب العالمين اهتمامه بعبيده
وبهدايتهم ولأجل ذلك يدك حصون الطغاة بعد أن يفيض عليهم من رحمته ما يعينهم على
بناء صروحهم، وكما أنه سبحانه لا يعبأ بتدمير الحصون المملوكة للمجتمعات فإنه لا
يعبأ أيضا بدك الأرض نفسها دكا دكا ومعها كل أرض أخرى مخلوقة ومسكونة في أرجاء
الكون. تدبير الشؤون ومتابعة التنفيذ والتدخل عند الضرورة والاهتمام بعدم تقدير
الله تعالى للسلبيات إلا غِبّ ما يقوم به الناس من أعمال سلبية تستوجب المآل
السلبي، كل ذلك يؤكد نظام العدالة والقسط لكل ما في الوجود.
ولذلك انطوت السورة على إقبال الفجر
وهو علامة الحياة في الآخرة وعلى إدبار الليل وهي سمة الحياة الدنيا وعلى النسق
البديع لتقديرات رب العالمين والنسق البديع في تصفيف ملائكته والتذكير في الدنيا
والتذكر في الآخرة والتكافؤ مع الأعمال في الدنيا ومكافأة النفوس بالقسط في الآخرة
وتدبير الله تعالى لشؤون خلقه كما يعلِّم عبيده تدبير أمورهم وبرمجة أهدافهم لأدق
المسائل العمرانية في دنياهم مما يدل على تدبير من خلقهم وبأنه تعالى بالمرصاد لهم
في الدنيا وعلى أتم الاستعداد لبسط العدالة والقسط عليهم في الدار الآخرة. كما
انطوت السورة الكريمة على الزمان اليومي والزمان العملي والأعداد التقليدية العشرية
والأعداد العلمية شفعا ووترا وبأن الخلق والتدبير ليسا حكرا لله سبحانه بل يأتي
بهما عبيده أيضا إلى حد ما ودور الملائكة في التدبير دون أن يكون لهم علم بذلك ودور
الناس في تزيين الأرض دون أن يكون لهم علم بنهايتها وكل ذلك دليل واضح على عدالة
السماء وقسطها مع ملاحظة كل صغيرة وكبيرة وشاردة وواردة. فالله تعالى لم يمنح البشر
خلافته في الأرض اعتباطا كما أنه سبحانه سوف يقدر لهم النهاية المرضية أو المتعبة
بحق وصحة لاضعف فيها وليس لأحد حجة على الله تعالى في تلك النتيجة التي اشترك
المعنيون في صياغتها.
والسورة الكريمة البديعة بدأت بالفجر
الجميل واختتمت بالجنة الفيحاء مع أن أكثر السورة تتحدث عن أهل النار وما عذب الله
به بعضهم في الدنيا وما أعد الله لهم من جحيم أبدي في الآخرة؛ ذلك لأن الله تعالى
لا يريد الموت والظلام والدمار وعذاب النار لعبيده بل يريد لهم الحياة والضياء
ونعيم الجنات ولكن ما نراه ونسمع عنه من السلبيات فهي من ضرورات العدالة والقسط
وليس للرحمن الرحيم فيها أية رغبة، والعلم عند الله سبحانه.
تم تفسير ما بدا لي من سورة الفجر
وستأتي بعدها سورة البلد بإذنه سبحانه.