تفسير سورة الغاشية

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ   هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴿1﴾ يُطلق الحديث على أخبار ما حدث فعلا ولكن الله يحدثنا عما سيحدث ويُطلِق عليه الحديث تأكيدا لحصوله بأمر الله الذي لا رادّ له جل جلاله. وأما صيغة السؤال فهو كما قاله سلفنا رحمهم الله لتفخيم الأمر وما أفخم ذلك الأمر فعلا. وأما الغاشية، فلقد اعتدنا أن نسمعها تُطلق على العذاب والظلمات والغطاء المعتم وما شابه ذلك. ولكننا نرى في القرآن الكريم آية أخرى في سورة  النجم تنبؤنا عن حدث عظيم وقع لرسول الله وسوف نتحدث عنه بكل تفصيل إنشاء الله تعالى. فقد غطى الشجرةَ نور من الله تعالى حتى أصبحت الشجرة كتلة من النور فالتغطي قد حصل فعلا ولكن تغطية الجسم المادي بالنور. وهكذا فإن تغطية الموجود المادي بالنور الشديد أو الطاقة الكبيرة هي تغشية ولكن ليس بمعنى الظلمات أو الغطاء الساتر.

 

وواضح أن الغاشية تعم الجنة والنار حيث أنه سبحانه بدأ بالحديث عن أهل النار ثم تلاه مباشرة الحديث عن أهل الجنة ولم يفصل بين  الحديثين حتى بواو العطف. ذلك لأن مسمى الغاشية تعم الظاهرتين. فالنار عبارة عن طاقة كبيرة حولها الله إلى طاقة حرارية بأمره ليعذب بها الفاسقين كما أن الفردوس يمثل طاقة كبيرة حولها الله إلى نعيم ونعم وأنهار وفواكه فوق الحسبان. وتخصيص الدار الآخرة بالطاقة الكبرى باعتبار عدم محدوديتها. فالنار كبيرة وخالدة لا تنتهي أبدا والنعيم كبير وخالد لا ينتهي مهما أسرفوا في التنعم به أبدا أيضا. وأما ابتداء الحديث عن أهل  النار فلأنهم فعلا يعذبون أمام أعين أهل الجنة قبل أن ينتقلوا إلى منازلهم التي بناها الله تعالى لهم. فالجميع يبدأون بجهنم ثم يبقى من يقضي الله له البقاء ويخرج من يفوز برحمة الله وقضائه أيضا. فيقول سبحانه:

 

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴿2﴾ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴿3﴾ فالطاقة لها وجهان عندما تتصل أو تشع على الإنسان، فإما أن تتحول إلى نار محرقة أو إلى نعيم ممتع. والطاقة الأخروية كبيرة جدا على الذين يعيشون فإما نار كبرى أو فردوس مليء بالنعم والأرزاق والمباني والأثاث والمياه العذبة. فإذا سلط الله تعالى مزيدا من الطاقة الحرارية على أبدان ضعيفة لا يحمل صاحبُها أي مكسب فردي يبني به جسده حسب مقاييس الآخرة، فإن ذلك البدن سوف ينهار أمام احتدام الطاقة الحرارية الكبرى. سوف تتدلى الجلد والشعر وكل ما يبرز في وجوه أبدانهم من شدة التصلية بالنار قبل أن تنكوي تماما. وبما أن عملية التصلية ليست مفردة بل تتوقف حينما يحترق الجلد فيتقلص معه الشعور بالألم ويبعد الشخص المعذب عن النار ليستعيد جلدا جديدا حسب نظام الحياة الأخروية التي سنشرحها فيما بعد إنشاء الله تعالى. وبعد استعادة الجلد تتكرر التصلية بالنار فلا يشعر المعذَّب بالراحة إطلاقا بل يبدو على وجهه عناء الجهد المضني والمتعب كثيرا.

 

سوف يصير الوجه دائم العناء واضح التعب والرهق. فصاحبه كالذي يعمل ليل نهار دون توقف تحت حرارة الشمس المتأججة مثلا. والوجه العامل يعني الوجه الذي يكافح بطبيعته وبمساعدة بقية الأعضاء لدرء العذاب والعنت حتى يتبلور عليه آثار التعب المرهق. وأما النصب فمعناه التعب وهو ما يلازم العمل الدائم غير المجدي. إن الذي يتعب للكسب أو للعلم مثلا فإنه سوف ينسى تعبه في آخر النهار فيشعر بالراحة ولا يبدو عليه أمارات التعب لأنه جنى ثمرة كسبه واجتهاده وتعبه حين العمل. ولكن الذي يعمل ليل نهار لمنع الحرارة والنار وليس للاكتساب وجمع القوت، وذلك دون أن يجني شيئا أو يدرأ عن نفسه قسما من العذاب، فإن آثار التعب والعنت لن تفارقه بل تلازمه ما دامت السماوات والأرض. يا لبئس المصير.

 

تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴿4﴾ ثم يوضح الله لنا سبب النصب والعنت المرهق الملازم لوجوه الكفار المعذبين. إنها تصلى نارا حارة. وهل هناك نار غير حارة؟ هذا لنعلم أن أهل النار لما يدخلوا حقيقة في النار بل يُقربون منها لتكوى بها جباههم وجنوبهم. وبما أن القرب نسبي، لزم القول بأن نسبة القرب من النار كبيرة بحيث يتأثر المرء بشدة الحرارة المنبعثة من النار المشبوبة. إن الهواء الفاصل بين أصل النار والبدن لا تقاوم الحرارة المتجهة نحو الوجه وظاهر البدن بل تساعد تأثير النار بأن تحمى كل جزيئات الهواء لتصلي دون أن تحرق. إن المقصود تعذيب الشخص وليس إحراقه ليأخذ جزاءه الأبدي. والعياذ بالله من شر النار.

 

تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ﴿5﴾ وبما أن الطاقة كما قلنا غير محدودة بل متوفرة بكثرة والعبرة بالطريقة التي يريد الله تعالى لها أن تتحول، فإن الماء موجود وبكثرة تخرج من العيون ولكنها حارة لا تروي العطش. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا يقدم الماء لأهل النار المقصود تعذيبهم لا ترويتهم؟ ذلك لنعلم أن البدن سوف يحتفظ بليونته فلا يتحول إلى مادة صلبة لا تؤذي صاحبه بل تساعده على مقاومة الحرارة فيواطن النار كما تواطنها جهنم نفسها. سوف يتم سقاء الأبدان البشرية لتبقى أبدانا بشرية ولتقاوم الفناء وليستعيد الجلد حياته من جديد وليتشبع الخلايا بالمياه ولكن دون إزالة الحرارة من الماء لئلا يشعر المعذب بأي نوع من الراحة التي لا يستحقها وهو عدو لله رب العالمين.

 

و آنية اسم فاعل من أنى يأني بمعنى قرب ودنا من النضج. وكما يبدو فإن نضج الماء هو بلوغه الغليان فالعين الآنية هي العين التي تنضح بالمياه الحارة القريبة من درجة الغليان. وكما أتصور، أن أسباب الحرارة هي تركبها مع بعض المواد الكيماوية شديدة التوقد الموجودة في باطن أرض جهنم مثل المياه الكبريتية، كما سنعلم قريبا. ولعل السبب في تقدير عدم الغليان هو عدم نشر غازات المياه في المنطقة التي يُسجن فيها كبار طغاة الأرض لئلا تترطب جلودهم فيشعروا بنوع من الراحة. والمقصود فقط تروية خلاياهم لتساعدهم على تذوق العذاب وتحسس شدته.

 

لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِن ضَرِيعٍ ﴿6﴾ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴿7﴾ نحن لا يمكننا أن نعرف طعام أهل النار، فهو ليس من جنس الأطعمة الأرضية كما يبدو. وقد أعطاها الله تعالى ثلاثة أسماء مشهورة في القرآن وهن  الضريع والغسلين والزقوم. وقد وصف سبحانه الضريع بأنه لايسمن ولا يغني من جوع، كما وصف تعالى الزقوم بأنه شجرة تنبت في أصل  الجحيم، طلعلها كأنه رؤوس الشياطين. ولم يصف سبحانه الغسلين بأكثر من أنه طعام الأثيم. وسوف نشرح كلا منها في مكانها بإذن الله تعالى. لعلي أكون محقا إذا ظننت بأن كل الأطعمة الثلاثة مشابهة أو واحدة بثلاثة أسماء. فالضريع نوع نبات ينبت في منطقة جهنم وهو لا يمنح صاحبه الشبع ولا السمنة. وسوف نعرف بأن المعذبين يطعمون من الضريع وهو مثل الزقوم أو هو بنفسه، ثم يسقون الحميم الحار ليغلي الطعام في بطونهم. وهو دون ريب يساعد خلاياهم على البقاء كما يغسل أجهزتهم الداخلية لئلا يصابوا بما يشابه الإغماء من شدة التعذيب فيغيبوا عن الوعي ولا يشعروا بالعذاب. أضف إلى ذلك أنه لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ ﴿8﴾ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ﴿9﴾ وأما أهل الجنة فإن الطاقة المكثفة في الجنة سوف تتحول إلى مايزيدهم ترفا ونَعمة و حبورا. فالغاشية التي تعني الطاقة الكثيرة أو طغيان الطاقة ستكون نعيما بالنسبة لأهل الجنة. وقد تراءى لبعض الأخوة  المفسرين أن الوجوه  الناعمة في مقابل الوجوه الخاشعة وأن لسعيها راضية في مواجهة العاملة الناصبة. ثم إن العين الجارية تجاري العين الآنية وليس في هذه الآيات ذكر لطعام الفردوسيين أسوة بأهل النار الذين يأكلون الضريع. أنا لا أظن بأنهم قد أصابوا، رضي الله عنهم وعنا. وسر نعومة الوجوه هو ما تفوح به العيون الساقية والأزهار العبقة والأوراق المخضرة من رطوبة منعشة ناعمة نقية بهية عطِرة فتلاقي ظواهر البشرة لتنعمها وتزيدها بهاء ورونقا. كل شيء في الفردوس تتظافر لتمنحهم الإشراقة والحسن والنعومة واللذة.

 

وبما أن الوجه - في منطقنا نحن البشر- يمثل حقيقة الشخص ويميزه عن غيره، فإن الله تعالى استعار عنه لتعريف الأفراد والمقصود في الواقع هو النفوس التي تقف وراء هذه الوجوه. ولكنه سبحانه لو ذكر النفوس، لاختلط الأمر بحالة الناس النفسية الفريدة في عالم البرزخ وقبل أن يمنحوا البدن من جديد. وفي تعقيب الوجوه بيومئذ إشارة واضحة إلى الطاقة والنور الواحد التي تؤجج نار جهنم كما تزيد من نعماء أهل الجنات. وهي نفسها التي تعطينا اليوم مختلف الأشكال والألوان والمواد في دنيانا. والنعومة ضد الخشونة وليست ضد الخشوع. لطالما كان الشخص خاشعا وناعما في نفس الوقت. وكما أن نعومة الوجه تعني وتمثل نعومة الحياة الخالية من كل مظاهر الحزن والأسى والمليئة بالبهجة والفرح فإن الله تعالى اكتفى بها لإثبات أنها راضية لسعيها في الدنيا. ثم يشرح سبحانه أسباب النعومة في ظاهر الوجوه ويفصح لنا عن بعض مظاهر النعمة فيقول سبحانه:

 

فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ﴿10﴾ لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ﴿11﴾  الجنة تعني المكان الذي يجتمع فيه النبات بشجرها وثمرها وزرعها ووردها ومائها وطيورها بكثافة ونظم تبعث بالبهجة. فإذا وجدت تلك بلا نظم سميت دغلا أو مرعى تبعا لارتفاع أشجارها وخشونتها أو قصرها و رقتها. وكلما كانت الجنة في ربوة مرتفعة كلما نظفتها الرياح والمياه وغسلتها وأخرجتها جميلة بهيجة. ونحن نرى في دنيانا هذه أن أصحاب القصور والجنائن يختارون الكثبان المرتفعة الناعمة أو التلال القصيرة العريضة لإقامة مبانيهم وبساتينهم الشخصية. فالجنة العالية النظيفة والمشرفة خير من الجنة النازلة التي تشبه المستنقع وتربي الوحل.

 

وكلما ارتفع موقع البستان عن الأرض ابتعد المكان عن الضوضاء والأصوات غير المطلوبة. فإن كل جنة لابد وأن يكون بجوارها مصانع ومزارع ومراع وبيوتا للخدم ومساكن للموظفين. فسوف يسكن أصحاب الجنة في الروابي المرحة بعيدا ومشرفا على من يعملون لهم. ومما لا شك فيه أن اللغو الناتج عن المنازعات والمشاكسات والثمالة والجهالة مرفوعة عن الفردوس ولكن أصوات العاملين والحرفيين سوف تكون بعيدة أيضا عن قصور المؤمنين الطيبين.

 

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12﴾ ثم ينبؤنا العزيز الكريم عن مصادر النعومة ومسببات الأصوات حينما يشرح لنا سبحانه مناظر الفائزين. فالماء بطبيعته تثير الأصوات ولكن المياه في  القصور الفردوسية تخرج من العيون الرقيقة التي لا تثير خريرا أكثر من الهمس والصوت الخافت اللطيف. فالعين يخرج منها الماء برقة ويجري بلطف في أطراف القصر لمزيد من الروعة والحسن. هذا الماء الناعم يزيد الناس نعومة في أبدانهم كما يزيدهم رضا في آذانهم ومسامعهم. وأما بقية مظاهر القصر فهي على أحسن ترتيب بحيث تمنع الضوضاء ولا تبعث بها أبدا. فأسرة الجلوس مرفوعة والأكواب موضوعة والوسائد مصفوفة والبسط مفروشة. وهذا ما يزيد القصر هدوءا وراحة وبعدا عن الضوضاء والصوت غير المطلوب. فلهذه الأسباب لا تسمع فيها لاغية.

 

والعين الجارية هي العين التي لا تتوقف عن العطاء بل هي مستمرة في الجريان. ذلك لأن مصادر العيون الفردوسية ليست من الأمطار مثل ما نحن عليه في الدنيا بل هي على ما أظن مياه الأنهار التي تسير خارج القصور. فقد شيدت القصور الفاخرة على ضفاف الأنهار الجارية. ذلك لأن البحار والأمطار التي لا تساعد على الدعة والراحة وتسبب الفيضانات والحواصب غير موجودة في الجنة كما ذكرنا في السور السابقة. كلما هو في العين أنها تستمد المياه من الأنهار المحيطة بالروابي التي أقيمت فوقها المباني وتنظفها وتصفيها ولعلها تضيف إليها المعادن الضرورية لتنبثق في أفنية القصور. ولازم ذلك أن تكون الأفنية أدنى من الأنهار والأنهار أدنى من القصور والعلم عند الله تعالى.

 

فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴿13﴾ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ﴿14﴾ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ﴿15﴾ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴿16﴾  السرر هي جمع السرير وهو التخت أو الكرسي الفاخر المريح والناعم الذي يجلس عليه الملك أو الشخص الثري للتهنؤ والتمتع. وهي هنا ليست جمع السرير بمعنى المضطجع. ولعل جمع التخت لا يأتي أسرة بل هو سرر فقط. وأما المضطجع فيجمع على الأسرة والسرر. والمرفوع اسم مفعول من رفع رفعا بمعنى أعلا المضاد للخفض وليس من رفع رُفعانا بمعنى قرب وأدنى. ذلك لأن السرير الذي يعني وسيلة النوم غير مطلوب في الفردوس. إن النوم هو مثال الموت وهو غير موجود في الجنة وساكنوها لما يتعبوا ليحتاجوا إلى الراحة وليس هناك ليل ولا شمس مشع بل كلها ظلال وأصباح كما سنعرف قريبا بإذن الله تعالى.

 

وأما الأكواب الموضوعة فهي المعروف لدينا بالأكواب أيضا وهي موضوعة أسفل السرر والوضع هنا بمعنى الخفض في مقابل الرفع. وأما النُمرُق والنُمرُقة وكذلك النِمرِق والنِمرِقة تعني الوسادة أو الوسادة الصغيرة وجمعها نمارق كما يقوله اللغويون أثابهم الله وإيانا. فهي وسائد مصفوفة جنب بعضها حول متكئات الكراسي أو السرر. وأما الزربية فلعلها تعني البساط الناعم المنتشر في صالات القصر وغرفها ومداخلها والمبثوث في مقابل المصفوف تماما لما سنعلم من الآيات التالية. فلقد ذكر سبحانه أربعة حالات لتنظيم الديكور المتحرك داخل القصور وهي: الرفع والخفض والصف والنشر. هكذا يقوم الخدم بتنظيم أثاث القصور وتبديل شكلها حسب رغبة أصحابها فيرفعون شيئا ويضعون شيئا كما يصفون أشياء وينثرون أشياء أخرى لتغيير هيكل الاستقبال كما يبدو. وأنا لا أظن بأن هذه الحركات تتم بصورة طبيعية داخل القصور الفردوسية بل يقوم بها أصحابها حسب رغبتهم، حيث أن الكراسي وبقية أنواع الأثاث المصنوع طبيعيا غير مطلوب كثيرا وغير مناسب لوضعها داخل الغرف. ولكن الجبار العظيم سبحانه يقصد تذكيرنا وتوجيه أنظارنا إلى ديكور الكون العظيم كما أظن. فالقادر المتعال يقوم بنفس العمليات داخل الكون برمته عن طريق توجيه النور أو الطاقة حسب إرادته الكريمة جل شأنه. فلننظر:

 

أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿17﴾ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿19﴾ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿20﴾ وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه الآيات الأربعة ننصت إلى صيغة كل آية ونطبقها على الآيات الأربعة أعلاه. هناك تحدثنا عن الرفع والخفض والصف والنشر. وهنا سوف نتحدث عن النشر والصف والخفض والرفع داخل هيكل الكون. إنها ديكور الكون ولكننا لا يمكن أن ننظر إليها بعيوننا كما ننظر إلى ديكور غرفنا وبيوتنا أو إن شئت قل قصورنا في الدار الآخرة إنشاء الله تعالى. فأفراد الإبل منتشرة في الكرة الأرضية بصورة غير منظمة بالطبع ولكن القبة السماوية بعكس الإبل. إنها قبة مصنوعة من قوالب بشكل الأبواب كما قلنا في سورة النبأ ولكن الشكل الذي ذكرناه ليس هو كامل البيان. وسوف نكمل بيانها بإذن الله حينما نصل إلى سورة المدثر ولكن للعلم فإنها منظمة ومنضدة ومرصوصة جنب بعضها البعض مثل مكعبات الأرضيات الدنيوية. وبما أن القبة في تورم مستمر نظرا لتوسع الكون فإن المقاطع التي هي على شكل أبواب تتكاثر بإذن الله وتركب طبيعيا بين الأبواب الأخرى بانتظام وتصفيف كامل. وكما قلنا أننا نكتفي بالشكل القوسي الآن حتى نصل إلى المدثر بإذن الله تعالى. والمقصود أن نعرف أنها منضدة ومصفوفة مثل الوسائد المصفوفة في غرف القصور.

 

وأما الجبال فهي الجبال التحتية التي تشكل آخر قشرة أرضية فوقية وهي أوتاد الأرض وقد شرحتها في كتاب المفاهيم الصحيحة تحت عنوان (مرج البحرين يلتقيان) داخل نفس الموقع. هذه الجبال منخفضة عن سطح الأرض. وأما تسطيح الأرض فهي عبارة عن تغطية تلك الجبال التحتية بالتراب المتشكل فوق الجبال أو العوامات الصخرية الضخمة وبالمياه التي تغطي مسافات أخرى من تلك العوامات المثبتة أسفل اليابسة والبحار. فسطح الأرض مرتفع عن العوامات أو الجبال التحتية. وهكذا فإن الرحمن قد زين  الكون العظيم بهذه القطع المتحركة فعلا. فأما الإبل فنراها تتحرك أمام عيوننا وأما القبة السماوية المحيطة فإن التوسع المستمر للكون تحركها بصورة مستمرة لتتكاثر مقاطعها المنضدة، وأما الجبال التحتية فهي تتحرك كما بينتها في (مرج البحرين يلتقيان) والله تعالى يقول: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.

 

وأما الأرض فهي تتحرك حسب علمي المتواضع 8 حركات معروفة. إنها 1) تدور حول نفسها لتشكل الليل والنهار. 2) تتوجه قطبها الشمالي نحو اليمين والشمال بشكل مخروطي إثر الحركة التقدمية (باعتبار سرعة دوران الأرض مثل الفرارة) فتمر بهذه الحركة على ثلاثة نجوم بعيدة جدا هي النجمة القطبية وفيگا وثوبان وتستغرق هذه الرحلة 26000 سنة، فكنا قبل خمسة آلاف سنة باتجاه ثوبان ونحن اليوم مواجهون للنجمة القطبية وبعد 12000 سنة سنكون باتجاه فيگا . 3) تدور حول الشمس لتكون الفصول. 4) تتجه مع الشمس وبقية كواكب النظام الشمسي بحركة عمودية باتجاه فيگا. 5) تدور مع الشمس والبقية حول مركز درب اللبانة لتكمل دورة واحدة كل 200 مليون سنة. 6) تتحرك مع الحركة البطيئة للمجرة. 7) تتحرك مع توسع الكون باتجاه الشمال كما يبدو وبسرعة عالية جدا. 8) إن ميلانها بالنسبة لصفحة دورانها حول الشمس تتغير من 21.8 إلى 24.4 درجة كل 40000 سنة ونحن اليوم من حسن الحظ في وسط هذه الحركة الميلانية. وهناك حركات أخرى غير معروفة.

 

وأما شرح الكلمات، فالنظر هو التفكر وليس النظر بالعين المجردة. وأفلا، إشعار بالحاجة إلى التفكر في هذه المسائل لمزيد من العلم ومزيد من الفهم لكتاب الله. والإبل معناه قطيع الجمال والكيفية المطلوبة التدقيق فيها في خلق الإبل هي تناثرها في الأرض. والسماء هي القبة السماوية، ورفعها باعتبار أنها أبعد المواد وهي التي تحيط بالكون وهي تمثل حافة الكون فأنت لو تنظر إليها من أية جهة فهي موجودة ومرتفعة لأنها محيطة بالكون. وأما نصب الجبال فهي الشكل المتحرك في نصبها. إنها في حين أنها تحافظ على توازن الكرة فإنها في تحرك أيضا، فنصبها ليست كنصب المسمار في الخشب. وأما تسطيح الأرض فالوجه المطلوب هنا هو الهدوء والتسطيح الذي يشعر به الناس دون أن تكون الأرض فعلا هادئة ودون أن تكون فعلا مسطحة. ولطيف أن نعرف بأن الأجسام المادية  الأربعة المشار إليها في هذه الآيات تتخذ شكلا مخروطيا نسبيا. فالجمل بسنامها والسماء بشكلها القبوي المحيط والجبال التي هي كأسنمة الجمال وكرة الأرض المشابهة للقبة السماوية. هذا التشكل المتشابه دليل على وحدة المصدر سبحانه وتعالى.

 

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿21﴾ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ التذكير بالعهد المبرم بين الله وعبيده وقد وضحته في كتابي المفاهيم الصحيحة. والرسول هو مجرد إنسان يذكر الناس بعهدهم الطبيعي مع الله لعلهم يعودوا إلى فطرتهم. وأما وسيلته فهو الحكمة والموعظة الحسنة والقرآن هو الكتاب المنزل الذي به يوضح الرسول حقائق الحياة والكون. ولو أن رسولنا انتخب رئيسا للمسلمين باعتبار من قبل المسلمين أنفسهم بأن كانوا يراجعونه عليه السلام في كل أمر خارج عن سيطرتهم. فكان انتخابه من قبل الناس واضحا جليا لا يحتاج إلى تصويت. اختاره المسلمون بالتزكية وبتفوقه العلمي والإيماني عليهم. كان المسلمون في بداية الإسلام يمثلون القيم الحقيقية للإنسانية بفضل الله تعالى وبجهد رسوله الكريم. ولكن هذه السيطرة لم تكن بتفويض من الجبار العظيم ملك الكون.

 

وكما يبدو أن نظام الحكم قد تغير بمجيء رسولنا باعتبار أنه خاتمة الرسل وسوف ينقطع الارتباط المباشر مع السماء بوفاته انقطاعا تاما. لم يعد يعين الله تعالى الملوك كما فعل مع من سبقه من الرسل. ولو نمعن في حكومة موسى بن عمران لرأيناها مماثلة لحكومة محمد بن عبد الله تماما. إنهما كلاهما انتخبا بصورة عفوية من قبل المؤمنين بهما وبرسالتهما. وقد أمضيا كلاهما فترة تحت إمرة الآخرين. هذا الموضوع يحتاج إلى بحث لا يسعه هذا التفسير ويكفي الإشارة إليه. فالرسول لم يكن مسيطرا سيطرة إلهية على الناس. وأما ما ذكره الله تعالى من أن التحكيم لدى رسوله هو الوجه الصحيح واللائق بمن حضر الرسالة أو بأنه عليه السلام أولى بالناس من أنفسهم وأموالهم فهو باعتبار شأنه وليس بسيطرة فوقية تشمل كل جوانب الحياة. إن من شأن كل أمة أن ترجع إلى من هم أكثر منها علما ودراية وخبرة وإيمانا ليقضي بينهم.

 

هذا هو الشأن مع كل الأنبياء بالطبع حتى الذين لم يحكموا مثل المسيح عليه السلام. وهناك مسألة يجب فهما وهي أن سيطرة الملوك على الناس حتى الذين عينهم الله، ليست سيطرة كاملة لعدم علمهم بما في نفوس الناس. إنهم يحافظون على النظام ويصادقون على التشريعات البشرية التي تناسب شؤون الأمة ويتولون تنفيذها عن طريق الآليات التي منحها لهم الشعب بإذن الله تعالى، ولا شيء غير ذلك. فلعل نفي السيطرة في هذه السورة تشمل السيطرة الكاملة التي تخص الله تعالى وليس السلطان الجزئي. وعلى كل حال فإن الآيات التالية توضح لنا نوع السيطرة المنفية عن رسول الله على أصحابه وأمته.

 

إِلاّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ﴿23﴾ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ﴿24﴾ إلا في هذه الآية حرف عطف بمعنى الواو ولكنه – والعلم عند الله - يفيد حصر التعامل مع الذي يعرض عن آيات الله ويكفر بها على العذاب الأكبر دون أية مغفرة. ذلك لأن المعنيين بالآية كما يبدو هم الذين كفروا برسالة نبينا في حضوره مع رؤية البينات الواضحة. لكن هذه الآية يمكن أن تشمل كل جاحد يأتي فيما بعد إلا إذا كان مماثلا ومشابها تشابها دقيقا مع الجاحد الكافر بالرسالة في حضور رسول الله. والآية الخطيرة هذه تنص على من اجتمع لديه الإعراض عن الرسالة مع الجحود. فالجاهل الذي لا يعرف أو الذي يسعى ولا يعرض ولكنه لا يمكنه التعرف على صحة الرسالة إن وجد فعلا أو الذي لا يعرض عن الآيات والبينات ولكنه يجحد الرسالة باعتبارات أخرى مثل أصحاب الديانات الأخرى الذين لم يحضروا الدعوة المحمدية، فإنهم جميعا غير مشمولين في هذه الآية حسب علمي المتواضع.

 

وأما العذاب الأكبر فهو عذاب التصلية بالنار كما وضحت في بداية هذه السورة. وقد نسب الله تعالى العذاب إلى نفسه إشعارا بأن المخلوقين لا يحق لهم إيقاع العذاب المناسب ضد أحد. ومعلوم أن الحدود المذكورة في القرآن هي للردع وليس للمجازاة الحقيقية. إن الله تعالى لا يريد لعبيده أن يتورطوا بالانتقام والمجازاة وتعذيب الناس فذلك من حق خالقهم دونهم وسنعرف ذلك مستقبلا بصورة واضحة ضمن استمرارنا في تفسير الكتاب الكريم. والفاء وصيغة المفرد تدلان على حصر حق التعذيب على الله وعلى التعامل مع الأفراد في يوم القيامة كلا على حدة لبسط العدالة الممكنة. وأما تجميع الناس في مجموعات وزمر متجانسة كما سنعرف فيما بعد فهي لا تناقض الاعتبارات الفردية التي سوف يُنظر إليها قبل الفرز بواسطة الملائكة والعلم عنده سبحانه.

 

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴿25﴾ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴿26﴾ وعلى كل حال فإن إياب الخلق إلى الخالق هو مسألة طبيعية لا يحتاج إلى برهان. حتى الآباء والملوك وأرباب الأعمال يعطون لأنفسهم الحق في استجواب من هم تحت إمرتهم بغرض المكافأة والمجازاة. والله تعالى هو المالك الحقيقي لكل شيء ولكل شخص إنسي أو جني وهو القوي القادر المتعالي وهو القاهر فوق عباده وهو الخبير البصير وهو أرحم الراحمين فكيف لا يليق به استعادة عبيده المختارين إلى نفسه ليحاسبهم ويحاكمهم فيثيبهم أو يعاقبهم بنفسه سبحانه وتعالى. ومن الطبيعي أيضا أن من يعود إلى الخالق الجبار فإنه سوف يشهد محاسبة الجبار نفسه دون عبيده. هذه غاية ما يتمناه المؤمنون الحقيقيون الذين يعلمون سعة رحمة الخالق، فإنهم لا يقبلون حكم غيره سبحانه كائنا من كان. الذي يملك كل شيء فهو الذي يمكنه أن يغفر ويستر ويصفح ويعطي المزيد من الأجر، ولكن الذين يمثلونه _لو فرضنا جدلا وجودهم_ فهم غير قادرين على مجاراة الله تعالى في العطف والرحمة والعطاء. إن الذين ينتظرون وساطة الناس بينهم وبين الله إنما لم يدركوا حلاوة التمسك بالله تعالى وحده ولم يقفوا على حقيقة الرحمة الواسعة للجبار العظيم جل جلاله.

 

والإياب معناه العودة، ذلك لأن الله تعالى قد نفخ من روحه في الخلية الإنسانية الأولى التي صنعت أبينا آدم كما سنعرف بعدئذ إنشاء الله تعالى. وباختصار فإن نفوسنا التي تمثل حقيقتنا تماما والتي لا تموت مع موت أبداننا فهي مجردة عن المادة وهي أقرب من وجودنا الفعلي المحاط بالمادة من الله تعالى. إن خروجنا من البدن هو اقتراب من الله تعالى وهو بمثابة العودة إليه سبحانه. وتقديم المفعول على الفعل في الآيتين تفيد حصر العودة إلى الله تعالى وحصر الحساب النهائي عليه سبحانه دون غيره، فالمرجو من الإخوة  والأخوات أن يفهموا ذلك بإذن الله تعالى. وحينما يعيز سبحانه الحساب إلى نفسه بأداة على لتعني التزام الله سبحانه بمحاسبة الناس بنفسه فإن الكريم الرحيم يريد بذلك إفاضة مزيد من الاطمئنان للمظلومين والمعذبين في الأرض بأن الله تعالى قد أوجب على نفسه الكريمة الاقتصاص لهم وجر ظالميهم إلى المحاكمة الحقيقية العادلة على يد الغني القادر نفسه جل جلاله.

 

والخلاصة أن الله تعالى حينما نبهنا على آثار أسمائه في الخلق في سورة الأعلى أعقبها بذكر الطاقة الإلهية التي تحولت عن طريق الأسماء الإلهية إلى مادة تبنت صناعة الكون ومن في الكون. فالطاقة كانت ضرورية لإيجاد العمل أو الخلق ولكن الخلق لم تكن لتأتي بدون الأسماء الإلهية. وقد تضمنت السورة كلمات تدل على الطاقة والعمل وآثارها مثل الجريان والحرارة والرفع والنصب والصف والبث كما تضمنت السورة أنواعا من المصنوعات الكونية والأرضية والمنزلية.

 

ملاحظة: لقد كتبت موضوعا مهما جدا باسم "الطاقة ومسارها" لأرفقه بتفسير هذه السورة الكريمة لعله يساعد بعض القراء المتتبعين على معرفة كيفية تعاون الطاقة الأصلية الأولى مع الأسماء القدسية للخلق الأول. لكنني فكرت في عدم نشره حتى لا أسبب بعض الإرباك في أفكار الناس. ولعلي أنشره فيما بعد إذا أراد الله تعالى ذلك.

 

تم بحمد الله تعالى تفسير سورة الغاشية وتتلوها الفجر بمشيئة الرحمان وحده.