تفسير سورة المطففين

 

بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ  وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1 الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ 2  وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ  3  الويل هو الهلاك لمن يستحق الهلاك ومن يستحقه أكثر من الذي ينقص المكيال والميزان فيُخسر الناس ظلما وترفعا؟ لكنه إذا أراد أن يشتري من الناس فهو يُمعن باستيفاء الكيل والوزن كي لا يخسر هو وليخسر الناس. لا ريب أن هذا الإنسان يتجاهل الآخرة أو يُنكرها ويُنكر ويلاتها لمن يستهتر بحقوق عباد الله. ولو أن عذاب القيامة مخصص لمن يكفر بالرحمن، ولكن هؤلاء يكفرون بعدل الرحمان ويسرقون من عباد الرحمان فهم قريب المستوى من الخبث والضلال. إن من حق المرء أن يستوفي المكيال والميزان عند الشراء ولكن الذي يستوفي لنفسه فهو عالم بحقوق المشتري ومصر على استيفاء حقه، فحري به أن يوفي حقوق الغير عليه أيضا. لكنه من فرط حب الذات فإنه يعطي كل الحق لنفسه ولا يعترف بأي حق للآخرين. بمثل هذا فسرها المفسرون رحمهم الله وإيانا.

 

ولكن لماذا ذكر الله تعالى الكيل للتاجر وذكر الكيل والوزن للمشتري؟ ثم لماذا تحدث سبحانه عن مشتريات التجار بالاكتيال ومعناه أن يتولى التاجر الكيل بنفسه وهو غير متعارف بين المجهزين والتجار؟ قَلَّ من  يسمح للمشتري بأن يباشر الكيل بنفسه فهو غير متعارف ولا يمكن أن يكون مصاديق هذه السورة المباركة هم القلة من الذين يمكن أن يكتالوا بأنفسهم عند الشراء. ناهيك أن الذي يلعب بالكيل والوزن فهو لن يستوفي الكيل عند الشراء بل يطلب المزيد أيضا، فكان من الأفضل أن يقول: إذا اكتالوا على الناس يستزيدون. والاستزادة في كيل غير السوائل ممكنة. والكيل هو للمعطي أما الاكتيال وهو مطاوع الكيل فيكون للذي يأخذ، وكان الأصح أن يقول: إذا اكتالوا من الناس وليس على الناس. وقد تفطن علماء اللغة لذلك فقالوا بأن معنى الآية هو اكتالوا من الناس دون ذكر السبب. وقد يأتي اكتال مرادفا لكال فيكون مع على. فجملة اكتالوا على الناس حينئذ تعني كالوا للناس وهو نفس كالُوهُم، فلا فرق بين الجملتين ويبطل معنى إذا اكتالوا .. وإذا كالوا .. وهو غير صحيح بالتأكيد.

 

ثم ما معنى كيل الناس أو توزينهم؟ فالبائع يكيل ويوزن المال لا الناس. إن علماء اللغة يجيزون تعدية كالَ إلى مفعولين ولكن ظاهر الآية متعد إلى مفعول واحد هو الإنسان وليس المال والبضاعة. فالمقصود هو معنى المطاوعة في الجملة الأولى والمعنى الفعلي في الجملة الثانية وهو ما لا يتفق مع بيع البضاعة بالوزن أو الكيل بل يجب البحث عن معنى آخر للكيل بحيث يمكن خلعه على كلتا الجملتين ويكون متناسبا مع هدف السورة ورابطا لبقية النتائج الواردة في الآيات التالية. ولو فرضنا أن ما قاله المفسرون صحيح بالنسبة للآيات الثلاث التي فتح الله سبحانه السورة بها، فإن كل ما ذكر بعد الآية السادسة مقطوع تماما مع معنى الآيات الثلاث ، وهو مربك لسلامة السورة. إذ من الواضح أن المقصود بالذين يشهدون الكتاب المرقوم وهو في سجين هم الذين يكذبون بيوم الدين وهم أنفسهم المطففون. والردع بـ كلا هو بيان للويل الذي يصيب المطففين ليس إلا.

 

ثم إن الذي يُخسر الكيل والوزن ليس بالضرورة كافرا. هناك الكثير من المسلمين والمؤمنين بالله وهم يُخسرون الناس أشياءهم. إن مما لا شك فيه أن المسلم الذي يُخسر الكيل قد يعد يوم القيامة كافرا ويخسر الحياة الأبدية ولكنه في تعداد السكان مسلم وليس كافرا. وهو ليس بالضرورة مكذبا بيوم الدين، بل هو غير مهتم بيوم الدين مع الأسف. لكن هذه السورة المباركة تتحدث عن أناس مجرمين يضحكون على المؤمنين ويستهزؤون بمعتقداتهم ويسفهونهم. والمنوي معه إما مشركوا مكة أو المنافقون وأهل الكتاب في مكة أو المدينة ولم يشتهر أي منهم بتطفيف الكيل والوزن كما كان يفعله قوم شعيب عليه صلوات الله.

 

ولذلك لا يمكن التعويل على أقوال المفسرين رحمهم الله، ويجب البحث بدقة أكثر لمعرفة المقصود من المطففين. ولنبدأ بدراسة ألفاظ الآيات الكريمة. التطفيف معناه التنقيص والتخفيف عامة بما فيها تنقيص الوزن والكيل قليلا باعتبار أن الطف يعني الدنو. فعمل المطفف قريب من كامل الوزن والكيل ولكنه ليس بالغا ذلك فعلا. ولذلك أطلق على الشاطئ وعلى كربلاء سابقا حيث كانت المدينة آنذاك على ضفاف الفرات. فالتطفيف في الكيل يعني دنو البائع من كمال الوزن والكيل كما يطلق الطفيف على غير الكامل أو الناقص أيضا.

 

والوزن في الأصل هو اختبار الثقل والخفة باليد بالنسبة للأشياء. وأما توزين الإنسان يعني دراسة عقله وفكره بغية الكشف عن رجحان عقله من سفاهته؛ فيقال: راجح الوزن أي كامل العقل والرأي وفي مقابله خاسر الوزن أي ضعيف العقل والرأي.

 

وكال الحبوب واكتالها بمعنى واحد ويمكن أن يتعدى إلى مفعولين فيقال: كاله طعاما أو كال له قمحا، ولم نسمع من العرب أن يقولوا كاله أو كال له دون ذكر متعلق الكيل. ويقال: كال فلانا بغيره أي قاسه بغيره. فالمقايسة حينئذ بين الإنسان والإنسان لمعرفة الوزن الاجتماعي للفرد. وأما قول بعض اللغويين أو المفسرين (اكتال على الناس يعني اكتال من الناس لنفسه) غير بليغ برأيي. فلو كان المقصود ذلك لكان راجح البلاغة أن يقول سبحانه: وإذا اكتالوا من الناس. ثم إن الذي يُخسر الآخرين فهو كما قلنا يسعى للمزيد من الوزن لنفسه لا الاستيفاء، ومعناها استيفاء الحق فهو من حقه البتة.

 

ولم يشر سبحانه إلى الطعام أو الحبوب أو أي مال يُباع بالكيل أو الوزن في هذه السورة ولو بنحو الإجمال كما قال تعالى عن لسان شعيب: ولا تبخسوا الناس أشياءهم في سور الأعراف وهود والشعراء. ولو بحثنا عما يشابه هذه الآية في الكتاب العظيم، لرأينا الكثير من التشابه بين هذه السورة وبداية سورة القلم. هناك يدور الحديث حول الذين يسفهون رسول الله عليه السلام بل يعتبرونه مجنونا فهم المكذبون وهم الذين يهمزون الرسول ويتغامزون عليه وهم الأغنياء الذين يتعالون على رسول الله بمالهم من مال ويصفون آيات ربه بأساطير الأولين. ولم يذكر الله لهم عقابا دنيويا غير الاستدراج ليبقوا في غيهم وضلالهم حتى تقوم الساعة.

 

وأما في سورة المطففين فلعل الموضوع يدور حول الذين يسفهون الناس الذين آمنوا برسالة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ويتغامزون ويضحكون على المؤمنين منهم ويصفون آيات الله بأساطير الأولين. هم الأغنياء الذين إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين بطرين معجبين بأنفسهم. ولم يذكر الله لهم عذابا دنيويا أيضا بل أجل ذلك إلى يوم القيامة. وعلينا بأن نعرف أن مثل هؤلاء يمكن أن يعذبوا في الدنيا أيضا ولكني أحتمل أن جزاء استهزائهم بالمؤمنين وبالرسل يؤجل إلى يوم الحساب والعلم عند الله.

 

ولعل السر في تكذيبهم ليوم القيامة واعتبارهم القرآن أسطورة من أكاذيب الماضين هو أنهم ورثوا أخبار البعث والنشور عن آبائهم وجدودهم من سالف الأيام دون أن يروا وعد الله وقد تحقق فعلا. كما قال عنهم سبحانه في سورة المؤمنون: 83 {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل، إن هذا إلا أساطير الأولين} ومثله في سورة النمل:68. ذلك بأنهم التجار الذين تعودوا على جني الأرباح السريعة كما اعتادوا على الاستهزاء والضحك على الذين ينتظرون وعد الله في الآخرة. هكذا يأفكهم الشيطان لعنه الله عن الحق.

 

فلو فسرنا التطفيف بالتطفيف بالعقل وبالحظوظ لكان أكثر انسجاما مع السورة بكل آياتها. فالمطففون في هذه السورة المباركة هم الذين يستخفون بعقول الناس ولا يعترفون بحقوقهم ويستهزئون بهم ويضحكون على المؤمنين منهم بأنهم تمسكوا بوعد الله تعالى بإقامة العدل والقسط يوم القيامة وبالجنة والنار لمن يستحق وتركوا الأرباح النقدية التي يمكن أن يجمعوها و يتهنئوا بها في الحياة الدنيا. وهم كما وصفهم سبحانه وتعالى، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون: يعني إذا ألقوا بأنفسهم على الناس يتوقعون مقالة الكمال منهم. والوجه في تفسيري هذا هو أن الاكتيال والكيل في سياق الآيتين الكريمتين تدلان على معنى المطاوعة للاكتيال والفعل للكيل. فيكون معنى الكيل (بدون ذكر المكيل المتعارف بين بائعي الحبوب) حينئذ كيل الناس أو توزين الناس أنفسهم. ومعنى المطاوعة في هذه الحالة هو تكييل نفسه بالنسبة للناس ولذلك عدى الاكتيال بـ "على" لا "من". أي وإذا عرض نفسه على الناس في مقام المقايسة. فكأنه يأمر الناس أن ينظروا إليه نظرتهم إلى الإنسان الكامل البريء من كل عيب.

 

 ولا يخفى على اللبيب أن الكمال هو المطلوب بالنسبة لمقتنياتنا البدنية وليس الزيادة. فالذي يحمد نفسه لن يتفاخر بأن يكون له ثلاثة عيون أو لسانان. كما أن الرؤية والسمع مطلوبتان بالقدر الذي نحن عليه لا بأكثر من ذلك. فالذي يرى طيفا وراء ما نراه كأن يرى ما تحت الجلد مثلا فهو لن يتلذذ به كما أنه لو سمع ما وراء الأمواج التي نسمعها فإنه سوف يتألم ويحزن لما سيسمعه من أصوات غير ملائمة للنفس البشرية في حياتها الفعلية. وهكذا العقل فالكمال في العقل مطلوب لا الزيادة. إن الزيادة في العقل أمر خارج عن حدود البشر وغير مفيد له بل هو ضار به. حتى الذاكرة لو كانت أكثر من الحد المتعارف فإنها سوف تورث صاحبها الشقاء. إن من الخير للإنسان أن ينس المصائب والآلام وموت الأحباب. لولا ذلك لعاش الناس في رثاء دائم. ولذلك فإن الذي يحمد نفسه ضد الآخرين فإنه يريد استيفاء حدود الكمال في الجسم والعقل لا الزيادة.

 

وفي المطاوعة استعمل سبحانه وتعالى لفظ الكيل لأن المجرم ليس في مقام التوزين الحقيقي بل في مقام المقايسة الظالمة ولذلك سماه الله بالمعتدي. إنه بالمقايسة يريد إظهار نفسه الذي حكم عليها مسبقا بالتفوق كما حكم على الطرف المقابل بالضعة. والكيل ليس مقياسا دقيقا ولا يستعمل إلا في الحبوب المتساوية والصغيرة أو في السوائل. فلو قام شخص بكيل الحجارة مثلا فإن التعادل مستحيل. ذلك لأن الحجارة ليست متساوية في الحجم، فالصخرة الكبيرة تأخذ حيزا أقل من الصخور الصغيرة فتزداد الوزن لو كان في المكيل عدد من الصخور الكبيرة وسيكون الكيل غير دقيق. حتى الحبوب ليست متساوية تماما وإذا قمنا بكيل مقدار من القمح فإنه قلما يكون معادلا وزنا مع الكيل الثاني. ولذلك فهو يكيل نفسه ولا يزنها. ولكنه في المقابل إما أن يكيل نفس الطرف المقابل أو يزنها بالإجحاف.

 

وحينئذ يكون معنى كيل الآخرين هو ما يلقونه فيما بينهم ضد الآخرين بالهمز أو الضحك والاستهزاء. ويكون معنى توزين الآخرين هو ما يقولونه ضدهم إذا اضطروا للمواجهة كما كانوا يفعلونه مع الرسل حيث يتهمونهم بالجنون والسفاهة. ويمكن لنا تصور ذلك إذا أحضرنا في ذهننا إنسانا عالما في ورع وتقوى وأدب وهو يحاور إنسانا متكبرا ذا مال يريد فرض رأيه بما يملكه من سلطة مالية وقوة عائلية ونفوذ سياسي. فليس هناك للغني دور علمي ليواجه العالم غير أن ينال من وزنه الاجتماعي فيتهمه بالجنون والسحر وما شابه ذلك. والمترفون عادة ما يميلون للتحدث ضد المصلحين بالهمز في الغياب ولكنهم يتحاشون مواجهتهم ما أمكن. ولذلك قدم الله الكيل على الوزن فقال سبحانه: وإذا كالوهم أو وزنوهم. فالتأكيد على الكيل الذي هو وسيلة المعتدي لا الوزن الذي هو وسيلة المعتدل. ثم إنه سبحانه يفسر المعاني الثلاثة في نهاية السورة، كما سنعرف بعد قليل. وباختصار فحديثهم عن الناس في غيابهم كيل إذ ليس هناك من يدافع عن نفسه فلا يحتاج المستهزئ للاستدلال. وأما تناولهم في حضورهم فهو توزين نوعا ما إذ يحتاج المستهزئ إلى نوع من الاستدلال إن أمكن أو يضطر للجوء إلى الاحتيال والمكر كأن يتهمه بالجنون والضلال والحمق والعمالة للغير وعدم الرزانة والحكمة وما شابه ذلك.

 

هؤلاء المسفهون هم الذين يرفِّعون أنفسهم وأهليهم على المؤمنين ويستهزئون بالذين آمنوا تصغيرا لشأنهم وتحقيرا للرسالة التي آمنوا بها. هم الفجار الذين يكذبون بيوم الدين، وهم المعتدون الآثمون. فالمطففون معناه الذين يطففون عقول المؤمنين ويستهزئون بهم؛ واكتالوا على الناس أي قاسوا عقولهم بعقول الناس فهم يدعون الكمال لأنفسهم.

 

 هناك آيات مشابهة لهذه المعاني مثل الآيتين 52 و53 من سورة الذاريات {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون   أتواصوا به بل هم قوم طاغون} ومعناها استهزاء الناس بالرسول وضحكهم عليه وتسفيههم إياه بأنه ساحر أو مجنون. فهل هو مجنون فعلا يتواصى الناس بعضهم ببعض بشأنه كما يتواصون في القصر والسفهاء؟ هكذا كانوا بأقوالهم الخبيثة يطففون ويخففون من عقل الرسل الكرام عليهم السلام. أو الآية 14 من سورة البقرة {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} وهم المنافقون. وقد استعمل كلمة الناس تعبيرا عن المؤمنين من الناس، بأنهم العامة التي تمثل الشريحة الإنسانية، تماما مثل سورة المطففين فلعل الناس فيها باعتبار أنهم هم عامة البشر الذين خلقهم الله تعالى وسيمثلون أمامه يوم الحساب، وقد آمن الذين حضروا منهم برسالة محمد عليه الصلاة والسلام. والآية 53 من سورة الأنعام ليس بعيدا عن بحثنا {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أ هؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين؟} وهم كفار مكة.

 

أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ 4 لِيَوْمٍ عَظِيمٍ 5 يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 6 إن كل اللصوص والغاصبين و السلابين والنهابين وكبار الضباط وكبار رجال الدين والدولة والمال من الحكام والملوك والأغنياء والعلماء الذين يفضلون أنفسهم على بقية الناس مشمولون في هذا التعريف القرآني البديع. تقتضي العدالة أن يؤمن الفرد بأن له ما للناس وعليه ما عليهم وإلا فهو مطفف لحقوق الناس ومكذب بيوم الحساب. إن الذي يخاف الله ويتقي يوم يقوم له سبحانه فإن ضميره وقلبه ويده وكل مقوماته النفسية والبدنية ترتجف وتضطرب عند الظلم والترفع على خلق الله فلا يترفع على غيره أبدا. إن المتقين يتقون الله في ظلم عباده حتى يُظلموا. هذا علي بن أبي طالب الذي قال وهو في سنام قدرته: "ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي" إنها كلمات تشع بالنور وبالهدى وبالعبرة لمن يخاف الله تعالى ويخاف عقابه.

 

مجرد الظن بأن الإنسان لا محالة عائد مع بقية الناس إلى رب العالمين يكفي لأن يرتدع عن الترفع على الغير. هذا هو حكم العقل الذي تعيدنا إليه هذه الآية الكريمة. والبعث هنا ليس بمعنى الإرسال بل هو بمعنى القيام المثير بعد نوم طويل. وسنعرف كيفية الإثارة والتهييج في يوم القيامة فيما يلي من السور الكريمة. هذا الاستيقاظ بدعوة من الله وأمر منه سبحانه لنخرج من الأرض كما تخرج الفطريات ونقوم على أبداننا الجديدة التي سوف نتحدث عنها مستقبلا بإذن الله سبحانه بتفصيل وسعة. فالبعث يسبق الحساب وهو يوم نقف مع كل آبائنا وأجدادنا وأحفادنا وأنبيائنا والملائكة الموكلين بنا أمام المحكمة الكبرى دون تفريق بانتظار الحكم النهائي. لعل ساعات الوقوف الخاشع أمام الله تكون أطول بكثير من أطول الأعمار البشرية ونحن بأبداننا التي كسبناها وليس بأبداننا الحالية دون تمييز بين أقوى الملوك وأفقر الناس. أليس هذا مدعاة للتواضع مع من هم مثلنا ودافعا كبيرا لقتل النفس الأمارة بالسوء وترك أي نوع من الاستفزاز والتهكم والاستهزاء بعباد الله تعالى؟

 

وقد ظن بعض المفسرين رضي الله عنهم مثل أستاذنا العلامة الطباطبائي أن الإشارة بضمير البعد "أولئك" لبعدهم عن رحمة الله وهو غير وارد باعتقادي. إن الله تعالى يشير بنفس الضمير للمؤمنين أيضا مثل {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} في سورة البقرة:5. بل هو إشارة إلى فرقة من فرق الناس ومن المحتمل أن يُقصد بها البعد الزمني باعتبار التبويب يوم القيامة. فالناس يوضعون في صفوف وزمر متجانسة آنذاك. وأظن بأن العزيز سبحانه يشير إلى كل مجموعة منهم بـ أولئك، والعلم عنده جل وعلا.

 

وأما توصيف يوم قيام الناس لربهم باليوم العظيم فلعل المقصود هو صعوبة ذلك اليوم كما تقول لمن قسا وصعب عليه أمر: عظُم الأمر عليه. واليوم يعني مطلق الوقت الذي يتم فيه أمر كوني أو أمر يهم المعني بهم، مثل اليوم الأرضي المعروف أو يوم الانفجار الكوني أو يوم فقر الشخص أو يوم غناه أو يوم الحرب أو يوم النصر. كل الأيام غير الأرضية خارجة عن حدود النهار والليل المعروفين. فالمعنيون بيوم القيامة هم الناس وما أعظم يوم الحساب العام ويوم المحكمة الشاملة الكبرى على الناس جميعا؟ وما أعظم يوم الحساب على المطففين حيث يقفون مع من استخفوا بهم في مواجهة حاكم واحد هو علام الغيوب جل وعلا؟

 

كلنا مربوبون لله تعالى فلا يجوز لأحد أن يتكبر على من هو مثله أو يتباهى عليه بأنه أغنى منه مالا أو علما أو نفوذا سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا أو عائليا أو غير ذلك مما يوسوس به الشيطان في نفوس الناس ليلقي إليهم التمايز والتفرقة ويبث بينهم الفتنة والعداء والبغضاء ويهيئهم للعذاب الأبدي والعياذ بالله منه. كما لا يجوز لأحد أن يظن بأنه دائما على حق ويستعمل نفوذه المالي أو السياسي أو العلمي أو المهني أو حتى الصوت الجهوري والتفوق البدني لفرض رأيه أو حقه على الآخرين. إنه بلا شك تطفيف للناس ومعني به هذه السورة ولو بصورة جزئية. فحين التعامل مع الغير سواء كان الغير قريبا أو بعيدا، زوجة أو ابنا أو أخا صغيرا، موظفا أو زميلا دون مستوانا أو تلميذا أو مريضا إن كنا في السلك الطبي، فقيرا أو مسكينا أو يتيما أو أسيرا أو أسودا أو جاهلا أو ضعيفا بدنيا؛ علينا أن نتذكر دائما أننا جميعا عبيد لرب واحد هو رب العالمين. إنه سبحانه هو الذي خلقنا متفاوتين وهو الذي يداول بيننا القدرات ليختبرنا ولكننا في ميزان العبودية (سواسية كأسنان المشط).

 

وواضح في هذه الآيات الثلاث أن يوم البعث هو غير يوم القيام لرب العالمين أو يوم الحساب. فنحن مبعوثون في يوم من الأيام لأجل القيام لرب العالمين وهو يوم آخر وسوف نوضح ذلك مستقبلا بمشيئة الله تعالى.

 

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ 7 وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ 8 كِتَابٌ مَرْقُومٌ 9 ثم ينتقل سبحانه إلى رابط آخر في نفس المقام وهو شكل الكتب التي يتسلمها الناس يوم الحساب. فهو إما كتاب مضغوط استنسخ فيه الملائكة الموكلون بالأفراد، كلما فعلوه من أعمال تفيض السلبياتُ فيها على الإيجابيات وبما أن كل شيء يظهر بصورته الحقيقية في يوم القيامة فإن كتابة السلبيات تحجب الإيجابيات ثم تمثل ما يدل على انعدام الطاقة والنور كما أن انعدام المادة أو الهواء تكمش الغرفة أو الفضاء فالكتاب يمثل جدران الغرفة الخالية من الهواء؛ والمكتوب تمثل الهواء المفرغ ثم انعدام الهواء. ليس في مقدوري تصوير الشكل الذي سيكون عليه كتاب الفاجر إلا إذا اعتبرت الإيجابيات طاقة نورية و السلبيات ظلاما. وبما أن الظلام ليس شيئا قابلا للتكاثر باعتبار سلبيته فإن كلمة السجين أفضل كلمة للتعبير عن حالة كتاب المجرم الذي يلقى ربه دون إيجابيات تعطيه الوزن والقيمة. ولذلك لم يقل الله سبحانه بأن الفجار يشهدون كتابهم فليس للسلبيات وجود خارجي بل هو عدم الوجود. وصور السلبيات في الحقيقة ليست صورا قابلة للظهور فلا يشاهد الفجار رقما أو صورة في كتبهم التي يحملونها وبئس ما يحملون. سوف نواصل تفصيل هذا البحث شيئا فشيئا حتى يتبين لمن يطلع على هذا التفسير حقيقة المجرم في يوم القيامة بإذن الله تعالى.

 

وبما أن السلبية لدى المجرمين سلبية متوالية أي سلبية بعد سلبية بعد سلبية فإن البحث عنه لا يزيد الإنسان إلا غموضا ولذلك كرر سبحانه كلمة التوجيه بقوله وما أدراك لبيان المزيد من العتمة والسلبية في ما يحمله الفجار من أعمال هي في الواقع لا أعمال وليس  أعمالا. ويشير إليها في أماكن أخرى بما يتسلمه المرء في شماله أو وراء ظهره وهو بمعنى السلب والضعف في مقابل اليمين الذي يعني القوة والإيجاب كما سنعرف قريبا إنشاء الله تعالى. المهم أن الأعمال مرقومة في هذا الكتاب المشؤوم ولو بشكل سلبي. كما نفعله نحن حينما نريد كتابة أرقام سلبية أو ناقصة بأن نحرر قبلها علامة النقص هذا - . ذلك لأننا عاجزون عن بيان السلبي بشكلها الحقيقي ولكن الملائكة لا يستعملون العلامات مثلنا بل يحررون الشيء كما هو وسوف نعلم ذلك بكل وضوح في يوم الحساب لا قبله.

 

والفجار هم الذين يطلقون لأهوائهم حرية التوسع في الجريمة وفي التمتع بما حُرم منه المظلومون. إن مثلهم مثل السائل المضغوط الذي يتفجر من شق في كبسولة السائل؛ أو الماء المضغوط الذي يفور بقوة إذا انفلقت الصخرة المحيطة بها فتخرج السوائل أو المياه من الفتحات المتاحة وتنتشر دون نظام في الأطراف. وهكذا فإن الذي يُطلِق لهواه العنان سيفعل ما يشاء دون حساب ودون اهتمام بحقوق الآخرين وعلى حساب راحتهم وأمنهم وصحتهم وشبعهم. والمطففون هم الذين يتفجرون من نفوس فاسدة غير مكبلة بالتقوى والخوف من رب العالمين جل وعلا.

 

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 10 وبما أن الله تعالى في مقام توضيح حالة المجرم الذي يحمل السلبيات أو يحمل اللا محمولات؛ فإنه يتحدث عن نتيجة سلبية تنتظر المكذبين أيضا بالتعبير عنها بالويل. فالويل هنا هو بيان توضيحي للويل الذي جاء في بداية السورة وقد فسرناها بالهلاك وكان الأجدر أن نفسرها بالدعاء السلبي ضد المطففين ثم نفسرها هنا بالهلاك ثم نفسر الهلاك بعد قليل بما يشد على قلوب المجرمين. ذلك لأننا الآن نعرف شدة ذلك الويل أكثر مما كنا عليه في بداية السورة وبعد أن وضح الله لنا ما يزره هؤلاء الفجار من ضغوط وويلات جزائية لقاء ما فعلوه بأنفسهم في دنياهم التي نحن جميعا فيها اليوم. فالويل الحقيقي يتحقق يومئذ للمكذبين حينما تبرز أفعالهم العكسية التي تمثل نفوسهم الزنخة. تلك النفوس التي شجعتهم على الشر وحجبت عنهم فعل الخيرات. جدير بنا أن نضغط على كلمة يومئذ ليتبلور لنا معناها التي تدل على تأجيل الهلاك الحقيقي والمُساوي لظلمهم في ذلك اليوم. فالويل اليوم دعاء عليهم والويل آنذاك بيان لما يلاقوه.

 

الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 11 وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ 13  ثم من هم المكذبون الذين يشملهم الويل؟ بل من هم المكذبون؟ المكذب هو الذي ينكر حقيقة يعرفها وتستيقن بها نفسه ولكنه يلبس رداء المتنكر الذي يُري الناس بأنه غير مطمئن بما يدعيه الرسل الكرام من قيام الناس لربهم في يوم يجتمعون فيه مع أجدادهم وأحفادهم. إنه يدعي بأنه واثق من زيف ما يقوله الرسل فلا بعث ولا نشور ولا حساب. هذا ما كان يقوله الكفار الذين يؤمنون بالله وبأنه خالق الكون. فكيف بملك الكون كله، رب قوي قاهر ولكنه لا يُحاسب خلقه على ما فعلوه ضد بعضهم البعض؟ إنهم يرون أنفسهم وهم يحاسبون مَن دونهم بكل صغيرة وكبيرة ولكنهم لا يدينون للملك العلام ويرفضون العودة إليه للحساب ولبسط العدالة. إنه هو يوم الدين وهو يوم طبيعي لكل من يملك. إن المَلِك يعطي الفرصة والحرية لمن دونه حتى ينتجوا ويبدعوا ولكنه أنى يتركهم إذا تخلفوا عن طاعته؟ سوف يحاسبهم يوم يراه مناسبا للحساب بطبيعة الشأن. فالذي يتحكم في الناس ولكنه يكذب حكم ربه، إن هو إلا معتد تجاوز حدود تشريعات الرحمان فتمادى في الإثم والعصيان.

 

وأي اعتداء أكبر من الاعتداء على قوانين السماء وأي إثم أعظم من مخالفة رب السماوات والأرض. وأي عصيان فاحش يفوق الذي يرى علامات ربه وآياته ولكنه ينكرها. وكيف ينكرها وهي آيات واضحة باهرة؟ لقد جاء الرسول بما عجز عنه أفصح العرب وهو أمي لا يعرف القراءة والكتابة. فهو صادق دون شك ولكن المجرم الذي لا يريد كبح شهواته فهو يتشبث بالتطفيف من أهمية الرسول وذلك بأن يتهمه بنقل أساطير السابقين. وأين كانت هذه الأساطير التي برزت فجأة على لسان العربي القرشي محمد بن أخي أبي طالب سيد قريش؟ ذلك الرجل المعروف بينهم بالصلاح والتقوى والذي يعيش بينهم منذ سقوط رأسه على الأرض حتى يوم نبوته. فالمكذبون يفعلون ما يفعلون بدافع الإثم والعصيان وليس بدافع العلم والعرفان.

 

كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ 14  القلب هنا هو النفس وهو الذي يمثل الإنسان بحقيقته. إن الله تعالى يخلق للإنسان نفسا حينما ترتبط الخليتان الأحاديتان لتشكلان اللبنة الأولى للبدن. تلك النفس تسيطر على ذلك البدن وتهيمن عليه مستعملة كل طاقاته لحمايتها وللاستمتاع بها بمساعدة ما يحيط بالبدن من أبدان أخرى ومن مآكل ومشارب وملابس ومراكب ومآوي ووو. فالنفس الإنسانية التالية لنفس آدم ولو أنها مخلوقة من نفس آدم ولكنها بأمر الله وتقديره لا تحمل أية صفة خيرة أو شريرة ممن سبقه، بل هي ناصعة نقية مستعدة لاحتمال ما يضيف إليها صاحبها من معالم الطيب أو الفساد. والنفس ليست مركبا ماديا كالبدن وليست معنى ذهنيا بل لها وجود خارجي بسيط فلعلها شحنة طاقوية أو فوتون من الضياء. إنها تتأثر بما تواجهها أو تعتمها من محن وآثام أو تجليها من خيرات وطيبات. هي وعاء الأفعال ولكنها لا تتأثر بسرعة كما تتأثر المادة. إن لها ميزانا للتأثر فهو يؤثر في النفس إما بالتكرار أو بالوقت أو بشدة الوقع ولكن النفس في النهاية تتأثر بما يتكرر عليها فتكسب صفة أو لونا تشخصها عن النفس الفارغة الأصلية وتميزها عن نفوس الأشخاص الآخرين. وقد ورد هذا التأثير بصيغة الكسب في كتاب الله وسوف نشرحها بالتفصيل في سورة البقرة بإذن الله تعالى.

 

هذا التأثر المسمى بالمكاسب النفسية لو كانت بتأثير الإيجابيات فإنها تزيد النفس تشعشعا ونورا ولكنها لو كانت بالسلبيات فإنها تأخذ مما للنفس من طاقة طبيعية لتحل محلها الظلام. وبما أن الظلام سلبي فلقد عبر عنه سبحانه بالرين (ومعناه الغلبة) ليعطيه المعنى الإيضاحي. فالسلب عبارة عن اللا نور أو اللا طاقة واللا طاقة تمثل الغطاء والفساد للنفس اللطيفة. هذه الظلمات الطاغية تحيط بالنفس التي هي بمثابة القلب الحقيقي للإنسان فتسلبها شفافيتها وانعطافها نحو من تهواها أو من تحتاج إليها من نفوس البشر الذين هم جميعا إخوان صاحب هذه النفس. وعلى هذا تنحجب النفس وتبتعد عن الإشعاعات النفسية من الغير فتبقى متأثرة بنفسها لا بغيرها. هذا الحجاب هو الذي يغطي رحمة الله أيضا كما يغطي إيحاءات الآخرين تجاهها. إنها تعني الهلاك الحقيقي للنفس وانتهاء دور الإيمان والهدى في تصحيح مسار النفس. ويبن لنا سبحانه ذلك في الآية التالية.

 

كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ 15  هذه الآية الكريمة كسابقاتها تبدأ بالردع بكلا إيذانا بالتحول إلى حقيقة أخرى بعد ما سمعناها من حقائق ثابتة سابقة. فالنفس المحجوبة عن بقية النفوس هي في الواقع محجوبة عن رحمة الله في يوم الحساب الأكبر. وقد عرف هذه الحقيقة من عرف فسمعنا ممن يتحدث باسم رسل الله علي بن أبي طالب يقول: "وخذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم". إنه عرف حقا ما تحتاجه النفس من عناية حتى لا تحمل معها يوم القيامة حجابا يحجب عنها الله. وكيف ننال الله إذاً؟ قال تعالى في الحج: 37 {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}. ولو نمعن في هذه الآيات الكريمة لنرى كيف تتحول معصية التكبر والعجب إلى سفين أو إسفين تخرط القلب وتحطم كل مقوماته الإيجابية ليتحول إلى صخرة صماء فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وليست الحجارة القاسية مستحقة لرحمة الرحمان الرحيم قطعيا، بل هي محجوبة عن الله فلا يرحمه ولا يكلمه سبحانه وتعالى إلى الأبد. ذلك هو الخزي الفاحش وهو الخسران المبين. ثم ماذا؟

 

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ 16 ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 17  المشكلة الكبرى في الحياة الباقية أن لا مفر من رحمة الله إلا إلى الجحيم. لقد أخطأ من ظن أن الموت هو الجزاء النهائي لمن لم يطع الله ولكل من قسا في الأرض. هذا ما أفك به الشيطان من اتبعه من النصارى وغيرهم. فالكل مبعوثون يوم القيامة ولا مجال للابتعاد عن الرحمة الكبرى هناك. ثم لا رحمة لمن لا يستحقها تحقيقا للعدالة ولذلك لا سبيل لمن حجب نفسه بيديه جهلا وكبرياء وعدوانا وظلما حتى فقدت القابلية للتمتع بالموهبة الربانية والكرم المولوي العظيم، إلا النار. ويا ليته يلقى في النار ليحترق ويموت. كلا، بل يُقرب ببدنه إلى النار حتى يصطلي ثم يُبعد ليستعيد ما فقده من ظاهر الجلد ثم يُعاد إلى صلاة الجحيم وهكذا دواليك. سوف تكون حياته التصلية فهو صال الجحيم. هذه مسألة طبيعية لا مفر منها. وسوف نتعرف عليها علميا في المستقبل. إن هذه المسألة مذكورة في القرآن بعبارات مختلفة تكفي للمتتبع أن يتعرف على كيفية التحول الطبيعي إلى موجود لا يتناسب مع غير النار يصطلي بها إلى الأبد.

 

ولمزيد من العذاب فإنه يُزجَر لما ارتكبه من إثم. فالملائكة تزجره وتوبخه وتلعنه؛ ومن اتبعه واغتر به ممن صادقوه ورافقوه في الدنيا لا يتركونه دون لعن ودعاء بأن يؤتيه الله عذابا ضعفا من النار. لكن الملائكة أكثر زجرا وتوبيخا حيث يقولون له ذق العذاب الذي كنت تكذب به في حياة الحرية في الدنيا. فينال مزيدا من الخزي واللوم واللعن من ملائكة الرحمن الذين خلقوا مع الإنسان ليرحموه ويساعدوه وإذا بهم يتحولون إلى معذبين يؤلمونه ولا يرحمونه حتى اللا نهاية.

 

كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ 18 وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ 19 كِتَابٌ مَرْقُومٌ 20 يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ 21  لكن الذين قاوموا أهواء النفس وبدلوها بالطاعة لله والبر والإحسان لخلقه والعبادة لله وحده فكتابهم في ارتفاع لا في انكماش لانطوائها على الإيجابيات التي تعطيه الوزن والتجلي الطبيعي تبعا لطبيعة الحق في يوم القيامة. والوزن يومئذ الحق. فالملائكة كما قلنا لا يكتبون مثلنا بل يستنسخون العمل بكل مقوماته إن وجد. فالأعمال الإيجابية تنعكس في كتاب الإنسان طاقة ووزنا ونورا. ومن شأن الطاقة أن ترتفع ومن شأن النور أن تتجلى. وهل لنا أن نعرف ذلك قبل أن نراها. لو كان هناك سبيل للمعرفة فهو ما أنزله الله من حقائق في التنزيل لا غير. والعليون كتاب مرقوم فيه الإيجابيات النيرة ومن طبيعتها أن تتجلى فيراها الذي تقرب بإيجابياته إلى الله تعالى. كما أن المستهترين الطغاة والمطففين عجزوا عن مشاهدة كتابهم السلبي القاتم والمظلم؛ فإن المقربين يشهدون كتابهم الذي ينطوي على صفحات النور والطاقة الإيجابية. ومن طبيعة النور والطاقة أن تتعالى وتهم بالارتفاع. ولا ننس أن الذي يحمل كتابه في العليين هو ليس مؤمنا عاديا من أهل اليمين فحسب بل هو من أهل اليمين الذين طغت إيجابياتهم على سلبياتهم حتى غطت عليها تماما فاكتسبوا مقام التقرب إلى الله تعالى.

 

إن الله منزه تماما عن السلبيات، إنه سبحانه مطلق الإيجابيات ولذلك فهو على كل شيء قدير. وما يتقرب إليه إلا من يسعى ولا يهمل ومن يعمل ولا يخذل ومن لا يفعل الشر ولا يهم إلا بالخير. فكلما ابتعد المرء عن السلب كان من نصيبه التقرب إلى الله حتى يُعد من المقربين. والمقربون طبقة من الناس فضلوا الله على كل شيء دونه فحاربوا النفس والشيطان حتى استأنسوا بالحق والعدل فاكتسبت نفوسهم صبغة القرب إلى الله تعالى. والله لا يبخل بالقرب على من يستحقه فهو سبحانه ليس وقفا للأنبياء وأولادهم ومنسوبيهم كما يتصوره البعض، ولا شيء يقرب الإنسان إلى الله إلا التقوى والخوف من الله ومن التورط والانخراط في شباك الشياطين. إن الملوك والزعماء لا يقربوا أحدا إلا إذا اتصف بما يحبوه وفعل ما يريدوه. والله تعالى هو الملك الحقيقي فإنه لا يمكن أن يتقبل أحدا إن لم يفضل الله وطاعته على كل شيء حتى أبويه وأهله والمقربين إليه ونفسه ولم يخش إلا الله.

 

وأما غير المقربين من أهل اليمين فإنهم الذين ترجحت كفة الإيجابيات عندهم على السلبيات دون أن تغطي عليها. إنهم يرون كتابهم ولكنهم لما يشهدوه فالكتاب لديهم ليست بقوة وجلاء كتب المقربين بالطبع وسوف نعرفها مستقبلا بمشيئة الله تعالى. فالمشهود هو الذي يلمع ويرتفع نورا وبهاء وهو كتاب صعب المنال. المشهود هو الذي يُري نفسه والمرئي هو الذي تبصره العين إذا أطلت عليه والعلم عند الله تعالى.

 

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 22 عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ 23  تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ 24  ما من شك أن الله تعالى يمثل لنا أدنى درجات الغضب والخذلان للمطففين في مقابل أعلى درجات الرحمة والغفران للأبرار في هذه السورة المباركة. فالمقصود في الواقع هو تشجيع الناس على فعل الخيرات والابتعاد عن الشيطان؛ فلا فائدة في ذكر من هو في الوسط. هذه هي طبيعة الإنسان الذي يحب النظر إلى أطيب الناس كما يحب أن يسمع أخبار أشرسهم إن تاقت نفسه لمعرفة أحوال الظالمين. والأبرار هم الصالحون الذين يطيعون الله بحب وصدق. وهم بطبيعتهم يتقربون إلى الله ولكن ليس كلهم من المقربين فعلا. وقد شرح الله أفعال الأبرار بتفصيل في الآية 177 من سورة البقرة. هناك يفرق الله بينهم وبين الذين آمنوا وهم يصلون الصلاة التقليدية. فالصلاة التقليدية وعلى الرغم من وجوبها المؤكد، فإنها لا تكفي للدخول في زمرة الأبرار، ولكنها شرط لدخول زمرة المسلمين والانضمام إلى جمعهم في الدنيا. وأما الأبرار فهم المؤمنون الذين يستحقون جنات النعيم بعملهم وصبرهم وصدقهم. فالنعيم مكان مناسب ومؤكد للأبرار. إنهم أصحاب الجنة والذين سيخولون التصرف الحر في القصور الفردوسية. واللام في لفي نعيم، هو للتأكيد.

 

وهذا لا يعني أن المصلين الذين لا يحملون صفات الأبرار سيدخلون النار والعياذ بالله تعالى. وسوف نشرح مستقبلا أحوال المؤمنين غير الجديرين بالجنة ومختلف الأماكن التي يمكن أن يتواجدوا فيها في الحياة الأبدية بإذن العزيز سبحانه. وبما أن الحالة التي يُحشر فيها كل إنسان في الآخرة تبين حقيقته وتعكس ما حمله معه من مكاسب في الدنيا؛ فإن الذي يحمل كتابه المشهود والمشوف سوف يرتفع في كل حالاته الأخرى. إنه على الأرائك وإنه ينظر من أعلى وإنه يشرب خليط (كوكتيل) العلياء المصنوع من أطيب وأرفع خمور الجنة. كل شيء يستعمله رفيع وثمين كما أن كل حالاته في رفعة وعلو وتجل وظهور. وأظن أن السر في النظر على الأرائك هو لإثبات عدم وجود نوم في الدار الآخرة. إذ أن النوم حال من الموت وهو غير متوفر بتاتا في الدار الموصوف بالحيوان (راجع الآية 64 من سورة العنكبوت. والحيوان يعني شديد الحيوية. كما أن الحيوان في الدنيا هو شديد الحيوية بالنسبة للحياة النباتية البدائية التي سبقته. والأرائك جمع الأريكة وهي السرير المزين الفاخر الذي يضطجع عليه أو التخت الذي يُجلس عليه. وللتمييز بينهما ذكر الله النظر على السرير للتأكيد على كرسي الجلوس دون سرير النوم.

 

وهم على تلك السرر يجلسون متهنئين متقابلين ينظرون إلى بعضهم البعض وإلى ما حولهم من المناظر المبهجة البهية. وحتى نتصور نضرة النعيم التي تُشاهد في وجوه المقربين، علينا أن ننظر إلى النعيم الدنيوي قليلا. فالنعيم الدنيوي يظهر أحيانا على بعض الوجوه المرفهة التي يحاول أصحابها الترفع عن كل ما يزعجهم ويقلص ترفهم. فلو كانوا ذوي وجوه صبيحة وجلود خال من التجاعيد والنقط القاتمة ومنظَف من الشعر والغبار العالق فإنهم:

  1. يخفون الكثير من المشاكل الطبيعية التي تنتظرهم وهم يعرفونها مثل الموت والأمراض المزمنة والعاهات الخفية التي لا نراها مضافا إلى السمنة والشيخوخة وما شابههما.
  2. يحملون مصنعين للقاذورات والنجاسات السائلة والجامدة في المثانة والمستقيم. وسرعان ما يضطروا لترك الترف، والاختلاء بأنفسهم في مكان ما ليتخلصوا منهما ومن الغازات النتنة التي تعصر البطن.
  3. إن حياتهم مليئة بالقتل والظلم والاغتصاب والسرقة والغش والخداع وتضليل الناس حتى تمكنوا من الوصول إلى البهجة المؤقتة التي تؤرقهم التفكر في اليوم الذي يُفصل بينهم وبين نعيمهم الزائل والزائف.
  4. لو فقدوا عضوا أو شيئا من العضو أو فقدوا شيئا من الجلد فإنهم غير قادرين على التعويض إلا بالبلاستيك وشراء أعضاء الغير أحيانا وبالحشو والتلبيس وغير ذلك مما يخفي العاهة والتشوه والنقص والتآكل وغير ذلك.
  5. إنهم عاجزون عن التمتع وإشباع شهية النفس بالكامل ويتزايد هذا العجز كلما ازداد العمر دون أن يجبر بالمال الكثير والصبر الوفير. وفي وقت التمتع وهم في ريعان الصبا فإن وجوههم الجميلة تتحول إلى بطاطا منتفخة بعد أن يُسقطهم  السبات في أعماق الغفلة فترة غير قصيرة من اليوم، طالما فاقت الربع ودنت من ثلث كل اليوم.
  6. إن تأنيب الضمير يلازم المترف فترة طويلة من العمر لما يراه من حق للآخرين ولما يراه من تباين بين المترفين أنفسهم.

 

إضافة إلى المزيد من المنغصات التي لا داعي لذكرها. ولكن الذي يتنعم بنضرة الفردوس فإنه لا يرى الموارد الستة ولا غيرها إطلاقا. إنه يتحلى بنضرة حقيقية يستحقها ولا يفارقها أبد الزمان. ولذلك فإن النضرة تتجلى في وجوههم حتى يُعرفوا بها ويُشار إليهم بأنهم فردوسيون بنوا بنعمة الله ما شاءوا لحياتهم الأخروية في الدنيا. فالنعمة والنضارة تلازمهم إلى الأبد وهذا ما أعرفه من معنى لجملة "تعرف في وجوههم نضرة النعيم". والنعيم هو الليونة وطيب العيش والرفاهية وكل ما يتوافق مع مشتهيات النفس ومبتغيات البدن. ولذلك ذكره الله قبل النظر وبأنهم على الأرائك ينظرون أي يتنعمون بنعمة النظر إلى الطيبات وإلى الجمال والزينة وإلى ما يبسط القلب ويريح الفؤاد. ثم ذكره (النعيم) بعد تجليات النضارة ورغد العيش على الوجوه التي تحيط بأعضاء النظر فتعطيها الروعة والسحر إذا امتلأت بالنضارة وبالنعومة والشباب المخلد. ذلك لأنهم في نعيم النظر وفي نعيم المس. ينظرون إلى ما يسرهم ويُنظَر إليهم فيُسِّرون الآخرين بوجوههم وهي نوع آخر من البهجة والشعور باللذة لما يتلذذ به الآخرون منهم.

 

 

يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ 25  الرحيق هو الخمر الطيب كما أنه يُطلق على نوع من الطيب كناية إلى أن الخمر الذي يُسقون منه من النوع العطر. ولذلك يُختم الخمر أو قارورته حتى لا تتبدد الطيب التي تلازمه إلى أن يحين موعد التلذذ من رُحاقه العذب. وبما أننا نحن المسلمون لا نتلذذ من الخمر الدنيوي استجابة لتشريع السماء، فإن معرفة السقي ليس هينا علينا. ولكننا ننظر إلى الذين اكتفوا بخمر الدنيا ليعذبوا في جحيم الآخرة، ننظر إليهم حتى نتعرف قليلا على أسرار الرحيق وما تفعله الخمرة الطيبة في نفس الإنسان. إنهم يتلذذون بكل ما تضاف إلى الخمرة من كؤوس شفافة وزجاجات براقة وأغطية فواحة بالمسك وصحاف مذهبة وتقديم كريم و ما إلى ذلك من تشريفات وتنظيمات تعظم قدر الخمرة وتزينها لطالبيها. كل هذه التشريفات مشروحة في كتاب الله تعالى وسنتلوها واحدة تلو الأخرى بمشيئة الله مستقبلا.

 

خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ 26  والختام هو السدادة التي تقفل بها على القارورة لتحتفظ بنكهة الخمرة وكانوا في ما مضى يستعملون الطين لسد القوارير ثم تعلم الإنسان الفلين الذي يسد مسد الطين بفاعلية أكبر. أما خُتُم الجنة فهي من نوع خاص من المسك التي يتناسب مع الخمرة، ولعلها من مثيلات مسك الروم وهو نبات طيب من فصيلة النرجسيات أو ما كان يُعرف سابقا بمسك البر وهو كما قال ابن منظور في لسان العرب: نبت أطيب من الخزامى ونباتها نبات القفعاء ولها زهرة مثل زهرة المرو؛ انتهى. وهذا أو هذه المسك أنسب للقرآن من المسك الذي تصنعه الغزلان. ذلك المسك لا يتناسب مع سدادة قارورة الخمر لأنه غير مناسب للشراب. على أن اسمه فارسي معربة من كلمة "مُشك" بالفارسية. أما اسم الزهرة المذكورة عربي فصيح. فلو كان كذلك فإنه كسداد يتفاعل مع الخمرة ليزيدها طيبا و زكاءا. فجملة "ختامه مسك وفي ذلك" تعني ختام الرحيق أو سداد قارورته مسك (النبات) وقد تفاعل المسك في الخمرة فتداخل فيها. والختام هنا ليس معناه النهاية وحينئذ يعني سبحانه بأن في ذلك مسك أيضا ومرجع ذلك هو الرحيق والعلم عند الله.

 

على هذا الأساس فإن شبهة دخول العاطف على العاطف غير واردة أصلا. ولا داعي لما تكلف به المفسرون رحمهم الله للتقديرات غير الضرورية في هذا الشأن. وستكون جملة فليتنافس المتنافسون منفصلة عما قبله. ومعناه كما ذكره المفسرون أنفسهم بأن التنافس والتسابق كريم في ما يعقبه التلذذ بهذا الرحيق بالوصف المذكور والله العالم. وإني أحمد الله تعالى كثيرا على أن وفقني لتخليص عشاق القرآن وعشاق هذه السورة الكريمة من الكثير من التقديرات والاحتمالات التي اعتنى بها علماء التفسير رحمهم الله تعالى. وهكذا فإننا نقرأ الآية هكذا : ختامه مسك وفي ذلك؛ فليتنافس المتنافسون.

 

وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ 27 عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ 28 وأما المزاج ومعناه المخلوط وهو المعروف اليوم بالكوكتيل، فهو عادة يُتخذ من أرفع أنواع الخمور المركزة وهو ثمين جدا ولا يُشرب إلا بالتقتير المفرط بالقطرات فحسب. ولذلك خصصه الله للمقربين وهم الطبقة المتقدمة شأنا من أصحاب اليمين. لكن الكرم المولوي في الجنة غير محدد إلا بالاستحقاق فمن استحق شيئا أُكرم بوفر ودون تقتير. والعين برأيي المتواضع عبارة عن مخارج الأنابيب. ذلك لأن العين في الواقع يعني الثقب الصغير الذي يتوسع في مخرجه الأشياء فالعين الباصرة تعبر عن النقطة البؤرية التي تفتح أمام الإنسان كل ما يمكن له رؤيته. وعين الماء تعني المخرج الصغير الذي تتفجر منه المياه وسوف نشرحها بتفصيل أكبر في سورة الإنسان بإذنه سبحانه. وإطلاق العين على أنابيب الكوكتيل دليل على الكثرة والوفرة من الكوكتيل الثمين والذي ينحدر من المصانع عن طريق الأنابيب إلى قصور المقربين، جعلنا الله منهم. والتسنيم معناه الرفيع وهو شأن الكوكتيل أو ما سماه ربنا الحميد بالمزاج. هذا الكوكتيل الثمين خاص بالمقربين وأما الرحيق المختوم فهو مشترك بين كل أصحاب اليمين والعلم عند الله تعالى.

 

 إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ 29 وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ 30 وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ 31 وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ 32 وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ 33  يعود سبحانه وتعالى إلى بيان التكييل والتوزين المذكورين في بداية السورة فيوضحها بالتفصيل في أربعة أنواع من العمل يأتي بها المجرمون والمستهزؤون:

  1. إنهم يضحكون من المؤمنين عامة للتقليل من شأنهم وتحقيرهم فهم المطففون للمؤمنين.
  2. فإذا مر الكفار بالمؤمنين ورأوهم معاينين فإنهم يتحاشون التجاهر بالسخرية حتى لا يواجههم المؤمنون بما أعطاهم الله من بيان باهر ووصف متقن ومستدل للعقيدة الحقة التي يحملونها فينهزموا أمام قوة البرهان. ولذلك فهم يتغامزون ضد المؤمنين وهم ينظرون إلى الجاهلين الذين يتبعونهم في قريتهم. وهكذا فهم يكيلون قدر المؤمنين بالتطفيف دون أن يكون للمؤمن يد في الدفاع إذ أنه يتغامز مع زميله دون أن ينتبه إليه المؤمن ودون أن يتحرك للدفاع عن نفسه وعن عقيدته.
  3. وأما إذا انقلبوا إلى أهلهم ودخلوا نواديهم ودواوينهم الخاصة فإنهم يتفاخرون ضد المؤمنين وينالون من عقلهم وفهمهم بالسخرية والاستهزاء الغيابي فيضحكون على المؤمنين أمام ذويهم وأهليهم ليحطموا شخصيات المسلمين أمام السذج من أتباعهم دون أن يراهم المؤمنون. إنهم بذلك يقيسون أنفسهم بالمؤمنين غيابيا ليضحكوا على المؤمنين استكبارا واستعظاما لشؤونهم الشخصية. وهكذا فهم يكتالون على المؤمنين فينالون منهم وتبقى أشخاصهم غير ممسوسة. إذن فهم في ذلك الظرف كاملون لا ينقصهم شيء ولا يقلل من وزنهم في المجتمع سفاهة أو بلاهة ولكن خصومهم المؤمنين بلهاء سفهاء لا يعلمون شيئا! وفكهون جمع فكه يعني الضحوك البطر (البطران) المعجب بنفسه.
  4. وأما إذا اضطروا إلى مواجهة المؤمنين تحت أية ضغوط أو مصادفات،  فهم يواجهون برهان المؤمنين باتهامهم أنفسهم بالضلال وبأنهم مخدوعون سفهاء ومسحورون. ومن طبيعة السفيه المضلَّل أن يعين المجتمع واليا عليه ليحرس أمواله ويحرسه من السقوط. ويرد عليهم الله سبحانه بأنهم مثلكم لا فرق بينكم ولم يرسلكم ربكم ولاة على هؤلاء ولا حفاظا لما بيدهم من مال وجاه.

وقد ذكر الله في عدة أماكن ما يدل أن الكفار لم يُرسلوا حفظة على المؤمنين أو على الأنبياء والمقصود في كلها هو أن المؤمنين والرسل ليسوا سفهاء ولا قصر ليحتاجوا إلى من يتولى أمرهم ويدُير شؤونهم. والعلم عند الله تعالى.

 

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ 34 عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ 35 هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ 36 الفاء عاطفة تفيد السببية برأيي واليوم إشارة إلى آخر مراحل الدار الآخرة وهو يوم الاستقرار الأبدي في النعيم أو الجحيم. في ذلك اليوم يكون الكفار في منطقة جهنم بوسط الكرة الأرضية الجديدة محاطين بسور يفصل بينهم وبين المؤمنين. أما المؤمنون فيكونون بعيدين تماما عن حدود السمع والرؤية داخل جنات النعيم. والكفار هم أنفسهم الذين كانوا يضحكون على المؤمنين في الدنيا ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يضحك المؤمنون على الكفار وهم في قصورهم بعيدون عن مثوى الكافرين؟ نعلم بأن الضحك يمكن أن يضاف إلى من وعن والباء، ولكن هل يعني حينئذ معنى مشابها تماما دون فرق؟ لعل اقتران الضحك بـ "من" يعني ضحك من عمل أو من سوء عاقبة فلان وليس ضحك على فلان.

 

فالمؤمنون وهم على الأرائك، لا يرون الكفار دون شك. ثم ليس من شيم المؤمنين أن يضحكوا على من أصيب بالنكسة الأبدية في أشد العذاب. الضحك على المصاب عيب ولو كان ظالما لك. وقبل ذلك في يوم الحساب سيكون المؤمنون في أرض جهنم ينظرون إلى الكفار وهم يُساقون إلى نار جهنم زمرا فلم يذكر القرآن أنهم سيضحكون عليهم. وأما نظر المؤمنين في أحوال الكفار وهم في الفردوس يعني تأملهم في أحوال الذين كفروا وسوف أشرح ذلك بتفصيل في سورة المدثر إنشاء الله تعالى. يظن الكثيرون أن المؤمنين في الجنة يأكلون ويشربون ويتمتعون بالفردوسيات وحسبهم. هذا غير صحيح برأيي. إن أهل الفردوس يعبدون الله ويفكرون في ما مضى وفيما هم فيه ويتنعمون بالتفكر العلمي إلى جانب النعم الوفيرة غير المقطوعة التي يرتزقون منها. وسوف نصل في تفسيرنا إلى كل هذه المعاني بإذن الله تعالى. فالنظر هنا يعني التفكر فيما آل إليه أمر الكفار. وضحك المؤمنين هو ضحك تعجب لا ضحك تمسخر واستهزاء كما كان يفعله الكفار في الدنيا. وضحك التعجب أكثر انسجاما مع "من" منه مع "إلى".

 

إنهم في قصورهم وعلى كراسيهم يفكرون في أحوال أهل النار وفيما ادعوه في الدنيا من أنهم سيكونون خيرا منقلبا إن كان هناك يوم للحساب. قال تعالى في سورة الكهف:35 {وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا}. كان الكفار يضحكون على المؤمنين بأن المؤمنين ضالون جاهلون كما في نفس سورة المطففين:32. وحينما انتهى الحساب وفصل الله بين المتقين والمجرمين، أضحى المتقون على كراسي النعمة في  الجنة يستعيدون في خيالهم قول الكفار في الدنيا ثم يتطلعون بفكرهم إلى ما آل إليه أمرهم من غضب الجبار ومن عقابه المؤلم فيضحكون مما كان يدعيه الكفار من قرب إلى الله بحجة أن الله اصطفاهم عليهم بالمال والعزة وسوف يعودون محظوظين إن كان هناك عود بعد الموت! والجلوس على الأرائك هو أبرز معالم الفردوسيين.

 

فكلمة ثُوّب الكفار يعني فعلا الثواب المعروف. وما ظن به السلف الصالح من أن الثواب قد يكون النتيجة الطيبة كما هو معروف أو النتيجة المؤلمة باعتبار أن الثواب يعني الجزاء ولا يعني الأجر الجميل بعينه، فهو غير بليغ برأيي. قد يكون الثواب بمعنى الجزاء المطلق خيرا أو شرا ولكن يجب اقترانه بما يفيد ذلك حينذاك. إن الله سبحانه يتكلم عن البشرى في الكتاب المجيد بمعنى  الخبر السار ويتحدث عنه أحيانا بمعنى الخبر المزعج ولكنه سبحانه يقرنه إذ ذاك بما يميزه عن المعنى المتعارف كقوله جل وعلا: فبشرهم بعذاب أليم. ولو لا ذلك فالبشرى لحالها لا يمكن أن تعني الخبر السيئ. والآية الأخيرة بهيئتها تعني: هل أثيب الكفار لقاء ما عملوه من سوء في الدنيا بالحسنى يوم القيامة؟ هكذا يفكر المؤمنون في تأملاتهم الأخروية والعلم عند الله سبحانه وتعالى.

 

الخلاصة: سورة المطففين نزلت للتأكيد على خذلان الذين يستهزؤون بالرسالة السماوية الحديثة التي أنزلها الله تعالى على عبده المصطفى محمد وبأنهم سيخيبون إذا ما رجعوا إلى ربهم فتتبدل استهزاؤهم بالرسالة المحمدية إلى سلبية تعريهم مما يقيهم من سوء العذاب بصورة تلقائية فلا ينجون من جهنم كما ينجو المؤمنون بإذنه تعالى. ولذلك فسوف تتحول أعمالهم إلى سلبيات تحطم نفوسهم وتحجبهم عن نيل رحمة الله، وختمها سبحانه بما ينتهي إليه المؤمنون في تفكيرهم عن الكفار وبأنهم (الكفار) سوف لا يجنون ثوابا في الحياة الآخرة. وقد تضمنت السورة كلمات تدل على الاستهزاء والخسران مثل: المطففين، يخسرون، سجين، أساطير الأولين، ويل، محجوبون، يضحكون، يتغامزون. كما تضمنت السورة جملا تدل على التلقائية مثل: ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، إنهم لصالوا الجحيم، ثوب الكفار ما كانوا يفعلون.

 

والله المستعان في كل ما بينت وهو المستعان في ما يلي من التفسير وسنذهب معا إلى سورة الانشقاق بإذنه سبحانه.