تبدأ
كل السور القرآنية تقريبا بالبسملة وقد اعتاد المفسرون أن يفسروا هذه
الجملة المباركة العظيمة في بداية القرآن وتحديدا مع سورة الحمد. لكني
كما قلت سوف أبدأ ببداية الجزء الثلاثين ثم التاسع والعشرين و
هلم جرا إلى الجزء الأول. وحتى أجاري
المفسرين الكرام ما أمكن فإني أفضل أن أشرح البسملة مع سورة الحمد، على
أني أعتقد بأن البسملة الواردة في بداية السور جزء من 113 سورة في
القرآن.
سورة النبأ:
بِسْمِ
اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ
عَمَّ يَتَساءلُونَ
1
عَنِ النَبَإ العَظِيمِ
2
الَذِيْ هُمْ فِيْهِ
مُخْتَلِفُونَ
3
كَلاّ سَيَعْلَمُونَ
4
ثُمَّ كَلاّ سَيَعْلَمُوْنَ
5
سؤال يسأله القوي العزيز سبحانه عما يدور
في خيال كل من سمع قسما من القرآن، ذلك الكتاب الذي ملأه الله بأنباء يوم
القيامة. ثم يجيب سبحانه بالوكالة عنهم -وهو على كل شيء وكيل- (يتساءلون)
عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون. فهم مختلفون فعلا؛ فمن عرف الله
وخافه وتأثر بإنذار رسوله فآمن
بالنبأ
العظيم ونظم حياته على أساسه؛
ومنهم من اعتقد به قليلا وفضل الحياة الدنيا عليه؛ ومنهم من أنكر النبأ
العظيم ولم يوله اهتماما بل حارب رسول الله وسعى على دفن رسالته بكل
السبل.
وعادة ما يتساءل الشخص العاقل عن أي أمر
يهتم به ويرغب
في
البحث عنه للتأكد من حقيقته، والكل في
الواقع يتساءلون عن القيامة لأنهم يتصورونه ويتخيلونه في أعماق نفوسهم.
ولكن حب التمتع بالمغريات والسعي لإرضاء الشهوات المتنامية تحول دون نقل
مكنون القلوب إلى أطراف الألسن. إنهم يتظاهرون بالشجاعة في إظهار ما يفيد
عدم الاكتراث بما يُنذَرون به.
وكيف لا يتساءل اللبيب عن خبر هو أخطر
الأخبار. فالقائل يُنادي بأعلى صوته أمام من يسمع مسمعا أو غير مسمع أن
الناس جميعا راجعون إلى ربهم يوم الحساب، ليقفوا أمامه جل وعلا للمقاضاة
بالقسط. إنه سبحانه خلقهم ليرحمهم ويكرمهم، ولا يليق برب الكون أن يُكرم
من لا يستحق أو يفيض بالرحمة على من هو مجرم كفار. ناهيك أن هذا الرسول
المنذر يحذر من عذاب أبدي أليم وحياة شاقة مضنية لا برد فيها ولا سلام
كما لا يحول الموت بينها وبين من أصيب بها أبدا. فالتساؤل هو النتيجة
الحتمية لما يطبعه إنذار المصطفى عليه السلام من مهابة في القلوب
والأسماع.
والنبأ عن مسألة لا
مناص منها لأحد حتما وجزما. الكل أناسي وجنا، أنبياء وملوكا، أغنياء
وفقراء، أسيادا وعبيدا أو مستعبدين، علماء وجاهلين؛ كلهم جميعا دون
استثناء، يقفون خاشعين أمام الديان العظيم بانتظار حكمه العادل الذي لا
استئناف فيه ولا
تمييز
ولا رد و لا شفاعة {أفمن
حق عليه كلمة العذاب، أفأنت تنقذ من في النار؟} سورة الزمر: 19
والخطاب للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. كما يقول العزيز الجبار سبحانه
للرسول الأمين في نفس السورة: 13 {قل إني أخاف
إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} حكم عادل وشامل يصدره العلي العظيم
وحده لكل الخلق. يا لهيبة ذلك اليوم.
والاختلاف طبيعي حول نبإ غيبي باعتبار
التفاوت الكبير في أفكار الناس وأهوائهم ومشاربهم. ولا سبيل لترسيخه في
الأذهان عدا التأكيد والتشدد في التأكيد. فالله سبحانه يقول ويقول؛ ومحمد
رسوله يكرر ويكرر معلنا أو مخفيا، للأفراد والجماعات، لعشيرته وللغرباء،
ليلا ونهارا وفي كل وقت وكل مكان وكل حالة. وهكذا فإن القرآن الكريم يكرر
الجملة: كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون.
وليس خفيا على من يعرف العربية ما يكمنه
هذه الجملة من تهديد ووعيد ولعله سبحانه يبتغي من وراء ذلك عدم لجوء
عبيده إلى التعويل على المستقبل. ومعروف لدى الناس جميعا أن التهديد
المستقبلي ليس منفَذا بالضرورة. هناك الكثير من العقبات في سبيل الوعيد
بما سيأتي. فلعل واحدا من هذه العوائق يحول دون تمكن الذي يهدد من المضي
في تهديده أو يُغير الحوادث رأيه وتصميمه أو يقوم الشفعاء والوسطاء
بالضغط المعنوي عليه حتى يتراجع عن قراره ويتوقف عن العقاب. كل هذه غير
مجدية لأن يغير الله رأيه. هناك حساب ثم ثواب وعقاب لا محالة.
سوف يعلمون أو سوف تعلمون، و"سوف يعلمون"
أكبر خطرا من سوف تعلمون. إن لغة الخطاب دليل على اهتمام القائل بالمخاطب
ولكن لغة الغياب دليل على اهتمام القائل بالموضوع وليس بالأشخاص. فتأكيد
ذو الجلال والإكرام بتكرار لغة الغائب يعطي السامعين مزيدا من اليقين بأن
هذا هو وعد الله الذي لا يُخلف وعده وهو أحكم الحاكمين.
ثم يُكرمنا الله سبحانه بترك لغة التهديد
ويتوجه إلى ذكر الدلائل والبراهين الواضحة على أسباب تأخير يوم الحساب
إلى وقت معلوم لديه سبحانه؛ وأن لكل شيء وقتا محددا ولكنه سوف يقع بتا،
فيختار لهذه المناسبة
عشر
علامات وآيات معلومة لدى عامة الناس مرتبة في أربع مجموعات متناسقة:-
المجموعة الأولى: آيات المكان
المناسب لهدف النشأة الأولى وهو الإنسان.
1
1 - أَلَمْ
نَجْعَلِ الأرضَ مِهاداً
6
كانت الكرة الأرضية في
مراحلها التكوينية النهائية، عبارة عن بحر ضخم واحد يمثل أكثر من ثلثي
المساحة وقطعة يابسة على القسم المتبقي من الكرة. البحر واليابسة كانا
مركبين على مجموعة من الألواح الصخرية الضخمة جدا لا يزيد عددها على عدد
الأصابع وبعض الألواح الصغيرة نسبيا. كل صخرة كبيرة من هذه الصخور تفوق
في طولها وعرضها وارتفاعها حجم أعظم سلسلة جبال في الأرض مرات كثيرة. كان
عرض ما يُعرف اليوم بالمحيط الهادي عبارة عن عرضه الفعلي بالإضافة إلى
عرض المحيط الأطلسي.
كانت القارة الأمريكية برمتها ملتصقة
بأوروبا وأفريقيا والحوض المتوسط. كان البحر الضخم مركزا للزوابع
والحواصب العاتية وكانت الكرة كلها في اضطراب شديد إثر الأعاصير والرياح
المدمرة. ولم تكن هناك جبال راسيات مثل اليوم.
أضف إلى ذلك البراكين الشديدة التي تنبثق
من المحيط المهيب لتُخرج الماء وبعض المواد الضرورية الأخرى من أعماق
الأرض إلى السطح. وسوف نتحدث فيما بعد عن مصدر الماء بإذن الله تعالى.
ولمزيد من التفصيل يمكن قراءة موضوع (مرج البحرين يلتقيان) من كتاب
"المفاهيم الصحيحة" الموجود في نفس موقعي الفكري هذا.
حينما أمر الله القطع بالتحرك لتقسيم
البحر العظيم إلى بحرين كما هو الآن (المحيطان الأطلنطي والهادي)
وبالارتطام بين القطع تشكلت الجبال الراسيات وهي غير الجبال الأوتاد.
فالأوتاد التي تحت أرجلنا أضخم وأكثر ارتفاعا وحجما من سلاسل الجبال
الراسيات المقامة فيما بعد بأمر الله فوق تلاقي الألواح أو الجبال
الأساسية تحت الماء واليابسة لتحد من حركتها. هكذا استقرت الأرض وتواجد
الأنهار ووزعت المياه وتوقف اضطراب الأرض تمهيدا لخلق الأنعام التي نتغذى
عليها؛ ثم ظهور الإنسان المتطور الفعلي. سوف نمر على خلق ما ذكرناه
مستقبلا حينما يصل بنا البيان إلى أماكن ذكرها بتفصيل في الكتاب العزيز.
2-
وَالْجِبالَ أوتاداً
7
ليس مجهولا بأن إطلاق
كلمة الجبل في اللغة العربية هو باعتبار صلابة هذه الصخور الضخمة وليس
باعتبار ارتفاعها كما هو في اللغة الفارسية والإنجليزية والفرنسية ولعل
في اللاتينية عموما. ولذلك اختار الله نفس الاسم
–كما
يبدو- للألواح الضخمة جدا المنصوبة تحت اليابسة والمياه. ذلك لأنها
ألواح صلبة وكبيرة جدا وهي بمثابة مسامير السطح المسكون والمُبحَر. هذه
الأوتاد التحتية تساعد في منع الفلزات الجوفية المصهورة من الطغيان
ضدنا كما تعزل عنا حرارة الفرن الجهنمي في أعماق الأرض.
ولعل وجه
تسمية الجبال الظاهرة منها
بالرواسي الشامخات هو
أنها تساعد كثيرا في ربط الجبال أو الألواح الأساسية التي تتحرك بصورة
طبيعية وقفلها من فوق ومنع هجوم البراكين إلى حد كبير. فالجبال بنوعيها
تتحكم في تعادل السطح مع العمق وتفيض على السطح هدوءا ودعة تساعد الإنسان
و أنعامه على العيش بسلام.
المجموعة الثانية: آيات النفوس البشرية
التي تمثل الهدف الأساسي للنشأة الأولى.
3-
وَخَلَقْناكُم أزواجاً
8
تتحرك أكثر من مائتي
مليون من الحوينات المنوية عند التلاقي باتجاه البويضة الأنثوية لتفوز
حوينة واحدة بالولوج وإقفال أبواب البويضة درءا لبقية الحوينات. وبعد هذا
التلاقي يتم خلق الإنسان الجديد في خلية واحدة خلال اللحظات الأولى من
التفاعل. ثم يمنح الله النفس للموجود الجديد، يليه توزيع الأوامر و
الكودات الجينية الجديدة على الجينات الحادثة داخل هذه الخلية الأساسية.
ثم يأمر الله سبحانه الجينات الجديدة أن تصنع من الحوين الذي كان يحمل
الكروموزوم × طفلا أنثويا والذي يحمل الكروموزوم
Y
أن يكون طفلا ذكرا والعلم عنده سبحانه.
تتكون هذه الحوينات التي على شكل الحرفين
الإنجليزيين أعلاه بصورة عشوائية يوميا عند الآباء، ثم تنتقل بنفس النمط
العشوائي إلى الأنثى؛ فاحتمال النسبة عند التشكل وعند الانتقال وعند
الولوج لا يكون إلا النصف أو خمسين في المائة دائما. على هذا الأساس فإن
احتمال أن يكون المخلوق الجديد ذكرا أو أنثى هو خمسون في المائة أيضا.
ولذلك نرى بأن الإناث في الكرة الأرضية متساويات مع الذكور
تقريبا.
فنحن أزواج متساوون بالنتيجة، لا يزيد نسبة جنس على الجنس الآخر، ويرى كل
واحد منا إنسانا من الجنس الآخر من نصيبه دون شك إلا من ظُلم. فنحن أزواج
بالضرورة.
4-
وَجَعَلْنا نَومَكُم سُباتاً
9
الإنسان مصنوع في هذه
النشأة ليعيش فترة اختبار يموت بعدها، فلا يمكن أن يعيش على وتيرة واحدة
بل يجب تعريضه لتطور يومي في أسلوب الحياة بل تعريضه لنوع من الموت
يوميا. ذلك ليعلم أنه ملاق للموت إن شاء أو أبى بعد فترة معقولة من
الاختبار المُظهر لحقيقته النفسية. فالنوم يعبر عن توقف الحركات الإرادية
التي تميز الحيوان من غير الحيوان، بل تميز أصحاب الخلايا من غيرها. هذا
التوقف مؤقت ليستعيد الموجود نشاطه وطاقاته لفترة تحرك تفصل بين نومة
ونومة.
ويسلب الله تعالى قوة الإرادة كاملة من
الموجود الإنساني حين النوم، فلا يقوى الإنسان النائم من أن يقول أو يريد
أو يمنع شيئا، بل يبقى مسلوب الإرادة حتى يقوم من النوم. فالنوم سبات أي
موت ما أو نوع من الموت، وهو الموت الناقص بإذن الله تعالى.
5-
وَجَعَلْنا اللَيلَ لِباساً
10
الليل هو غياب الضياء أو
غياب الشمس في منطقنا نحن البشر، ولكنه في الواقع ليس مجرد طاقة مسلوبة
بل هو حال من النور أو الطاقة المحدودة غير المشعة.
فالليل الطبيعي الذي هو عبارة عن اللاطاقة
غير مقدر للبشر وغير موجود في كل النظام الشمسي. هو حال الفضاء الخارجي
وفي أماكن الفراغ شبه المطلق البعيد عن الإشعاعات المجرية والشمسية
والنجومية. ولا أظن أن للفراغ أو الليل المحض مكانا في الكون، ولعل الكون
كله يتمدد وينكمش داخل الفراغ المطلق المحيط بالكون؛ والعلم عند الله
وحده.
أما ليالينا الدنيوية الهادئة الجميلة فهي
ليال مصنوعة ومخلوقة بيد الله تعالى، وقد قرر الله سبحانه أن يجعلها غطاء
حماية لنا نحن البشر فنرتاح فيها نوما هادئا ونعبد الله ونفكر في خلقه
كما نتعلم ونتطلع إلى النجوم والمجرات البعيدة مستمدين العون من ظلامها
الدامس في أنصاف الليالي الطويلة.
وبما أن الطاقة محدودة في الليل، فإن
الإنسان بطبيعته لا يميل إلى الكسب والصناعة والأعمال الحيوية الأخرى
ليلا، إلا ما ندر وفي حالات شاذة. وليكن واضحا أن هذه الحقيقة الطبيعية
تمثل تماما نصف الزمان خلال السنة في أي مكان اخترناه من العالم. فعلى
الإنسان أن يكيف أعماله معها فيكثر من التفكر والعبادة في ليالي الشتاء
الطويلة كما يخصص أيام الصيف الطويلة للأعمال التجارية والصناعية الكبرى
وللأعمال البدنية والترفيهية. وهذا لا يتنافى مع الأعمال الوظيفية بتاتا،
فنحن نوزع الأعمال الشخصية على أوقات الفراغ، ونترك ساعات العمل الرسمية
تأخذ نصيبها المقنن لها من الليل والنهار في الشتاء والصيف.
والخلاصة أن الليل بطبيعته الهادئة غطاء
طبيعي يساعد المفكرين والعابدين والنائمين بإذن الله تعالى ليأتوا بما
شاءوا في ظلال الهدوء والدعة المطلوبة لهذه الأعمال. ويُطلق اللباس على
ما يجب أو يستحسن ستره وإخفاؤه كالنوم والأعمال الفكرية ومناجاة العبيد
لربهم وابتغاء ما كتب الله للأزواج مع ما يسبقها من ملذات مباحة مسموحة.
كل ذلك من خصائص الليل وقد هيأه الله لعبيده وحباهم به.
6-
وَجَعَلْنا النَهارَ مَعاشاً
11
وقد قدر الله
سبحانه النهار لالتماس العيش والحياة وما يقويها ويهنئها من مأكل وملبس
وملجأ ومركب. فالكسب يضخ المعيشة بالمال والمعيشة تشمل كل ما يحتاجه
الإنسان لحياته الدنيوية من مشرب ومطعم ومسكن ومظهر ووسيلة نقل ومن تزيين
وتجميل ووسائل رفاهية وأدوات تنعم وتخابر وغير ذلك. كل ذلك من أعمال
النهار المليء بالطاقة والحيوية.
المجموعة
الثالثة:
العظمة الصناعية
للنشأة الأولى
وما هي منشأ الأرض التي نعيش عليها اليوم.
7-
وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً
شِداداً
12
يضع البناء آجرا فوق آجر ولبنة فوق لبنة ويشدها ببعضها البعض ليضع الأساس
ثم ليبني الحيطان فوقها، ثم السقف ثم يخرج لنا بيتا نسكنه. وبناء الكون
يستلزم أساسا متينا لكل كوكب من كواكبها وقد أودع الله قوة الجاذبية في
وزن الأجسام، فكل جسم يملك من هذه القوة بمقدار وزنه، وهي أساس وقاعدة
للجسم المفروض وللأجسام المحيطة به. فالأجسام التي تسبح في الفضاء تشد
بعضها بعضا وتستقر في هذا النظام المتجاذب معتمدا على الشد والجذب
والانجذاب. ثم يبني الله جسم الكوكب ويستخرج من تفاعل المواد في جوفه، ما
يحتاج إليه من مقومات ضرورية لأداء دوره الفعال المقرر له على حلبة الكون
العظيم.
وأما عدد هذه المجموعات فهي ليست ثابتة
أبدا. ولعل الموت يكتب في كل يوم من أيامنا على نجمة أو مجرة أو كوكب
صغير ولعل هناك ما يبدأ الحياة في منطقة أخرى من مستقر الكائنات الموجودة
في هذا الفضاء المهيب، كما يتظننه العلماء المعاصرون. وليس في متناول يد
الذين يسمعون كلام الله أن يحصوا أو يعدوا هذه الكواكب الكثيرة المتكاثرة
المتباعدة السابحة في الفضاء العظيم والخارجة من منطقة الرؤية الكهربائية
والإشعاعية والذرية. ولذلك فلعل الله استعمل لفظا عدديا ليفيد:-
ا) وجود
عدد لهذه الأجسام يعرفه الله تعالى وحده ويعرف ما يطرأ عليه من زيادة أو
نقص.
2) وبما أن العدد
مطاطي مبهم للناس وغير قابل للتأكد أبدا، فإنه سبحانه استعمل العدد سبعة
الذي يفيد المبالغة، ومعناه عدد كبير من السماوات. ويروي الزبيدي في تاج
العروس نقلا عن الليث في قولهم "لأعملن بفلان عمل سبعة: أرادوا المبالغة
وبلوغ الغاية".
ولفظ سبع أو سبعة كانت
حقا للمبالغة بدون تحديد المضروب فيه. يقول الفيروز آبادي في لسان العرب:
"سبّعت سليم يوم الفتح، أي كملت سبعمائة رجل". إلى أن يقول: "والعرب تضع
التسبيع موضع التضعيف وإن جاوز السبع". فمضروب السبع في العربية غير
محدود، ولذلك ضربه المتكلم في مائة كالمثال السابق.
3) وكما أن عدد
الكواكب في الفضاء ضروري لازم لتوازن الجاذبية بين الأجسام العلوية، فإن
لفظة سبعة تدل على بلوغ الغاية أيضا وهي هنا تفيد بلوغ غاية الله في
تركيب وتنظيم خلقه، والعلم عند الله سبحانه.
والخلاصة أن عدد سبع سماوات كما يبدو يعني
مجموعة كبيرة غير قابلة للعد من المنظومات الشمسية. وقد من الله على أهل
كوكبنا بأن جعل إحدى هذه النجوم المتزايدة في الفضاء العظيم الواسع سراجا
وهاجا لأهله، فقال:
8-
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهّاجاً
13
السراج هو المصباح الذي يستضيء به ذووا
العيون الباصرة، والوهاج يعني شدة التوقد والتوهج. ذلك لأن الشمس هي تلك
الآلة النيرة التي تحول الليل إلى نهار بأمر الله تعالى. هي وهاج بنفسها
لأنها تبعث بالضياء إلينا من أبعد المسافات، فبيننا وبينها ما يقرب من
150 مليون كيلو مترا. هي بالطبع ليست كالمصابيح المعتادة التي نركبها في
منازلنا للاستضاءة بل هي جسم بالغ الضخامة، تحتوي على مجموعة كبيرة من
المواد المشعة وبكميات خيالية. هي تبعث بالضوء وبشدة وكثرة دون توقف، فهي
وهاج شديد التوقد وهي سراج علوي نصبه الله بين مجموعة من النجوم لتسبح في
الفضاء وتحملنا نحن وكوكبنا وكثيرا من الكواكب والمذنبات والأجسام
الأخرى.
وسوف نعرف بعد ما نتوسع بإذن الله في
تفسير هذا الكتاب الكريم على مصدر المياه وأنها كانت مع الشمس منذ
الانفجار الكوني ثم انفصلت عنها بأمر الله تعالى مع انفصال أصل الأرض
منها. إن الماء هو سر الحياة وقاعدة الخلق الحيواني والنباتي. وكان واضحا
أنه تعالى يريد التحدث عن سر مكنون حين ذكر سبحانه النجوم ونجمتنا
الشمسية. إنه تبارك وتعالى في صدد إثبات الزمان الذي أمضاه حتى أعد
لعبيده الإنسيين أراضي وأسسا للحياة والتطور على مسرحها. والماء أصل
الحياة وهو منفصل عن الشمس، وبعد أن استقر في الأرض، استخرجه الله من
باطن الأرض، ثم أعاد عملية التنظيف و التبريك والتداول إلى أمها الشمس
نفسها.
فالماء المستخرج بداية لم يكن نظيفا عذبا
قبل أن يتبخر بتأثير الحرارة الشمسية كما يبدو، ثم تحوله إلى غاز متجمد
نسبيا في منطقة بين الأرض والأوزون. يتحول بعدها إلى سائل شديد السيولة
وهو في طريق العودة إلى الأرض، وقد جعلها الله تعالى سنة دائمة إلى
يومنا هذا.
المجموعة
الرابعة:
آيات
بداية الحياة من الماء فالخلايا النباتية.
9-
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً
14
من
الواضح أن الهواء المحبوس بين الأوزون والأرض هواء مضغوط وعامل الضغط هو
الأوزون والأرض. ولولا حائل الأوزون فلعل الماء أن يرتفع إلى الفضاء
الخارجي ثم ينعدم الحياة على الأرض، فعشرات الكيلومترات الطولية من غاز
الأوزون المحيط بالأرض والتي تدور مع الأرض حول محورها بقوة الجاذبية
الأرضية هي التي تضغط على الغازات المائية وتمنعها من الابتعاد عنا. كما
أن الجاذبية الأرضية والتفاعل مع الكلوروفيل هي التي تجذب الغيوم الماطرة
وتعصرها بعد أن تطهرت المياه المحمولة عليها بقوة الشمس وتباركت ببعض
الإشعاعات الشمسية المفيدة. فالماء ينزل من بين هذه القوى الضاغطة والتي
أسماها العليم الخبير بالمعصرات. وهو ثجاج أي كثير وشديد حتى يتمكن من
النفوذ داخل التربة واستخراج النبات بعد أن يتفاعل مع التراب أو معها ومع
الحبوب لخلق نبت جديد وحبوب جديدة.
10-
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّا وَنَباتاً
15
وَجَنّاتٍ ألْفافاً
16
هكذا يخرج الله الحب
والنبات من الأرض بعد ضخها بالماء المطهر والمغذي بين السماء والأرض، ثم
يصنع منها جنات مخضرة تشعبت مصادرها ومنابتها. فالأشجار تتطور وتتغير
أشكالها وثمارها إما بالتطور الجيني المعروف أو بالخلط الجيني كما يفعله
الفلاحون بالنسيج الغرسي وهو نقل قطعة من فرع شجرة ما وتوصيلها بحسم شجرة
أخرى لتكوين فاكهة جديدة أو تطييب نفس الثمر. وهذا برأيي معنى الألفاف
وهو جمع لفيف يعني المجتمع المختلط من الناس. ولعل الله استعمله في
النبات باعتبار أن النبات والحيوان ونوعه الإنسان مصنوعة من الخلايا التي
هي عامل النتاج المختلط في الواقع.
وكما نعلم فإن كل هذه الظواهر الطبيعية
التي أعدها الله وخلقها وجعلها لنا نحن البشر، إنها كلها تكونت وتشكلت
واستجابت لأمر ربها خلال أزمان وأوقات متفاوتة. فهي لم تظهر فجأة بل
اقترنت بالزمان وهكذا سوف نعلم ونقول حقا:-
إنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيْقاتاً
17
يوم
الفصل هو اليوم الذي يفصل فيه الله تبارك وتعالى بين الطيبين والفاسدين
بصورة قاطعة وفق نظام قاسط لا غبار عليه ولا تهاون فيه ولا ضرورة تحكمه.
ثم يترك الفاسدين في جهنم وساءت مصيرا وينقل الطيبين إلى جنات النعيم
زمرة زمرة حسب تجانسهم النفسي التي سنذكرها فيما بعد بمشيئة الله حينما
يصل بنا المطاف إلى الآيات المبينة لذلك الموقف الرهيب. إذن ما ذكره الله
من الشواهد العشر الطبيعية ليست إلا لإثبات ما يعوز كل منها من وقت وزمان
ليتحقق ويظهر إلى الوجود. وإن يوم الفصل أيضا محتاج للزمان والوقت حتى
يتحقق ولا يمكن التعجيل فيه قبل موعده المقدر من طرف الجبار العظيم بديع
السماوات والأرض جل جلاله.
وسوف تكون مرحلة الفصل
موقوتا بعد النفخة الثانية، حيث تتوسع الكون مرة أخرى وأخيرة بعد
انكماشها عقيب يوم الدمار الكوني الشامل. هذا التوسع السريع ضروري لإعادة
الكواكب في مواقعها الجديدة في الفضاء حتى تبدأ عملية الدوران الفلكي
العادي بعد اكتمال النفخة الكونية الثانية واستقرار النجوم الغازية
والكواكب الأرضية بأقمارها في مواقعها التي كتب الله لها. فقال تعالى:
يَومَ يُنْفَخُ في الصُّورِ فَتأتُونَ أفواجاً
18
الكواكب بمختلف
أنواعها، أراضي وشموسا و مجرات، تشد بعضها بعضا بالجاذبية، فإنها لا بد
وأن تُحاط بما تشد أو يشد الجوانب المحيطة بالكون والتي لا توجد وراءها
شمس أو نجم تبادلها الجاذبية. ولذلك قدر الله تعالى جدارا غازيا متجمدا
مهيبا و ثخينا جدا جدا، محيطا بالكون كله وسماه السقف المرفوع. وسوف
نتحدث عن تكوّن هذا الجدار المنطوي على نفسه في السور الأخرى التي ترشدنا
إليه. هذه الكرة المحيطة بكل الكون والتي تمنح الأحفة ما تحتاج إليها من
جاذبية لتشدها إلى نفسها وإلى بعضها البعض، فإنها ليست كروية متساوية
الأقطار. إنها بيضاوي الشكل ولها طول يساوي ثلاثة أضعاف عرضها تقريبا
تبعا لشكل الكون كما يصورها علماء الفيزياء. ولقد شبهها الله بالصور،
فلعله هو سبحانه وتعالى يراها صورا. والصور هو القرن الذي يُنفخ فيه
لإخراج الأصوات الموسيقية عند الغناء. وهناك بعض العلماء الفيزيائيين
المعاصرين يصورون أسفل الكون أو ما يمكن اعتباره أسفل الكون باعتبار فرق
العرض، مائلا كمقبض العصا، وهو أشبه شيء بالصور، والعلم عند الله.
إن
وجوه هذا الصور العظيم هي التي تتمدد إلى الخارج فتسبب توسع الكون بصورة
دائمة ولكن هذا التوسع –وعلى الرغم من سرعته التي تفوق سرعة تحمل الأجسام
الحيوانية من التجاوز- فهو ليس كافيا لإزالة الجاذبية وتفكك وهدم الكون.
اللهم إلا إذا مضى وقت طويل جدا يفوق التصور، أعني مسألة بلايين البلايين
البلايين البلايين من السنين أو أكثر، وهي خارج نطاق التعقل. ولذلك فإن
الله كما يبدو سوف يستعمل تكنولوجيا مغايرا لهدم الكون بغرض إعادة بنائه
من جديد وإعطائه القدرة على البقاء الأبدي. وذلك عوضا عن النجوم والمجرات
الفعلية ذوات الأعمار وغير القادرة على التمتع بالأبدية.
ولعله
سبحانه وتعالى استعمل نفس التقنية للتوسيع الأولي للكون الفعلي والذي
أسماه النشأة الأولى. إن العلماء الفيزيائيين يصورون لنا طول الكون بعشرة
بلايين سنة ضوئية وعمر الكون بعشرة إلى عشرين بليون سنة. وبما أن
الانفجار الكوني لابد وقد تم في وسط الكون، فإن الكواكب المحيطة بالكون
لابد لها وأن تسير بسرعة تساوي ربع إلى نصف سرعة الضوء لقطع مسافة خمسة
بلايين سنة ضوئية في عشرة إلى عشرين بليون سنة. هذا مستحيل بالطبع.
هذه
التقنية غير مشروحة بالتفصيل في كتاب الله حسب علمي المتواضع، ولكن الله
تعالى يشير إليها بصورة جزئية في الجزء الثالث والعشرين من القرآن
الكريم، وسوف أشرحها بمشيئته تعالى في وقته. وباختصار ولعل النفخ تم في
كل خلايا الكون مرة واحدة وبشدة لتفصل وتفتق الأجزاء المكونة للكواكب
بسرعة ومن كل صوب، من الأواسط والجوانب ومن كل مكان حتى تكامل صناعة
النشأة الأولى خلال عشرة إلى عشرين بليون سنة. هذا العدد ليس غريبا فالله
سبحانه يعين عددا مشابها في القرآن وسوف أوضحه مع تفسير الجزء التاسع
والعشرين من الكتاب المجيد بإذنه تعالى.
النفخة
المشار إليها هي النفخة الثانية المستقبلية ولعلها تمثل النفخة الثالثة
والأخيرة في سلسلة النفخات الكونية. في نهاية هذا اليوم العظيم والطويل
بنفس طول العودة وهي في حدود ثمانية عشر بليون سنة سوف نخرج من الأرض بلا
آباء ولا أمهات كما سنشرح مستقبلا بمشيئة الله تعالى، فسوف يكون الحشر
آنذاك في أفواج وزمر بعكس الحشر الأول الذي سوف يتم بصورة فردية مطلقة
ودون البدن. الحشر الأول هو أخطر حشر على البشر كما ستعرف والجزء الثاني
والأخير أقل خطرا والعلم عنده سبحانه.
سوف
يكون هذا النفخ بعد النفخة الأولى التي تفتح فيها السماوات وتسير الجبال
والأراضي بعد انهيارها باتجاه المركز. إذن سيكون الحشر بشكل أفواج بعد
النفخ وليس مع النفخ ولذلك قال العزيز: فتأتون أفواجا ولم يقل وتأتون أو
وأتيتم. لم يكتف الله جل وعلا بذكر النفخ الأخير الذي يسبق يوم الفصل
النهائي، بل بادر سبحانه بذكر ما يسبق هذا النفخ من ظواهر لتحديد العملية
زمانيا إلى حد ما. كل ذلك لأن السورة الكريمة تصور لنا المشاهد باعتبار
البعد الزمني ليقتنع الناس بأن البعث مشفوع بالزمان وليست مطاوعة للأمر
بسرعة الأمر نفسه.إن ذلك محال عقليا ولكن الناس ينتظرونه، فعليهم ألا
ينتظروا المستحيل منه سبحانه وتعالى.
تسبق
هذه النفخة نفخة أولى شديدة في وعاء الكون، حيث تفقد الكواكب جاذبيتها
تماما وتبدأ عملية الانهدام الكوني التي ستطول حوالي ثمانية عشر بليون
سنة (كما سنذكر قريبا بإذنه سبحانه). إن هذه النفخة مذكورة في سور عديدة
في هذا الجزء الذي نحن فيه وفي آيات أخرى من القرآن وسوف نشرح كلا منها
في مكانها بتوفيق منه تعالى. إذا فقدت الكواكب جاذبيتها فسوف لا تحمل
بعضها بعضا كما هي عليه الآن ولكنها سوف لا تسبح ضائعة في الفضاء بل
تعيد الكرة باتجاه منتصف الكون، حيث الانفجار الكوني العظيم الذي حصل
قبل عشرة إلى عشرين بليون سنة.
لعل
بقايا الانفجار موجودة إلى اليوم وهي التي ستجذب هذه الكواكب، أو أنها
ستتخذ نفس الاتجاه لوجود مرجح خفي علينا. وعلى أي حال فإن الله تعالى قد
وعد بإعادة المخلوقات إلى مصدرها وسوف يفعل ذلك لا محالة.
وَفُتِحَتِ السّماءُ فَكانَتْ أبْواباً
19
فالنفخة
الثانية المستقبلية التعميرية تتبع النفخة الأولى المستقبلية التدميرية،
ومن علامات الدمار الشامل أن تُفتح القبة السماوية المحيطة بالكون
والمتخذة شكل الصور. كانت الأبواب كما تعوّد عليها الأقدمون أطواقا تتخذ
في إحدى حيطان البيت لا سيما إن كان البيت مصنوعا من مواد صلبة مثل الآجر
والصخر. فالقوس هو الذي يساعد على تماسك قطع الآجر وتصلبها وتحمّلها لما
يُحمل عليها من ثقل تمهيدا لعمل فتحة غير ضارة في جوار البيت وتحت القوس
بالذات، ليُستفاد منها كباب متحرك بنفس قوة الجدار. وعادة ما يكون شكل
القسم العلوي من الباب قوسا ليملأ أسفل القوس. كل ذلك كان قبل التعرف على
الكونكريت المسبوق حمله على السقالة.
وحينما يبدأ الكون
بالانهدام فإن القطع الأقل صلابة تسبق القطع الأكثر صلابة في الذوبان
والدمار. فتذوب القطع التحتية وتظهر الأقواس الذي يخيل للناظر أنها أبواب
متلاصقة والعلم عند الله وحده.
وَسُيِّرَتِ الجِبالُ فَكانَتْ سَرابا
20
وقبل فتح الأقواس السماوية فإن الجبال وهي
أثقل الأجسام الكوكبية سوف تنهار وتتهشم تبعا لفقدان الجاذبية، وتوقف
الإلكترونات من الدوران حول النوايا المكونة للأجسام الصلبة. سوف تنهمر
كل الأجسام الفضائية بما فيها الأجسام المتطورة والصلبة مثل الألواح
الأرضية والجبال الراسية والتحتية البنائية، حيث تتفكك ذراتها وتتحول مع
الانقلاب الفلكي العظيم إلى قيعان رملية فيراها الناظر من بعيد سرابا
وإذا مسها فهي كالعهن المنفوش حسب تعبير القرآن الكريم فتتناثر وتأخذ
طريقها نحو الوجهة المقدرة لها للعودة إلى مركز الكون. ولعل جزيئاتها
تتغير وتتهشم وهي في طريق العودة بعد الانهيار والارتطام ببعضها البعض
كما سنشرح قريبا بإذن الله تعالى.
إذن فتح السماوات تسبق تسيير الجبال وهي
تسبق النفخة الثانية (أو الثالثة بالتسلسل العام) وذكرهما هنا تأكيد
باقترانهما بالزمان فقط والعلم عند بديع السماوات والأرض ذي الجلال
والإكرام. كل ذلك لماذا؟
إنّ جَهَنّمَ كانَتْ مِرْ صاداً
21
لِلطّاغِيْنَ مَآباً
22
لابِثِيْنَ فَيْها أحْقاباً
23
جهنم، اسم للمنطقة التي
تقام في وسطها نار التعذيب شديدة الحرارة. في تلك المنطقة المنخفضة من
الأرض الجديدة التي تخلق بدل أرضنا الفعلي، وهي كما يبدو سوف تستقر في
وسط الأرض الجديدة، يعيش الذين لا يُبادلون رحمة الله في الدنيا وحبه
وكرمه المولوي العظيم بالشكر والعبادة. الذين كانوا غير مستعدين لتهذيب
حب الذات الفطري الذي يلازمهم من الطفولة بحب زكي للذات باعتبارهم أعضاء
في مجتمع لهم ما للآخرين وعليهم ما على الجميع. إنهم هم السبب في صناعة
النار التي تمثل توازن القسط الرباني إرضاء للذين آمنوا وتحملوا المشاق
والعذاب ولئلا يكونوا مع المسيئين بمنزلة سواء.
هذه المنطقة الحارة جدا بمختلف درجاتها
كانت في عالم الغيب وفي معرفة الله التي لا يمكن ألا تتحقق ألبتة. كانت
مرصادا يتوعد بها العظيم سبحانه عباده المذنبين والمجرمين الذين نعتهم
الله بالطاغين، لأنهم طغوا وتجاوزوا حدود التمتع بالموارد الطبيعية،
فطغوا بالنتيجة على حدود الله تعالى سواء في شكل الظلم على الغير أو
الخوض في ما حرم الله أو تجاهل واجب العبادة لله تعالى. فجهنم تمثل الوطن
الأصلي الأبدي الذي يلجأ إليه المجرمون ويعودوا إلى أحضانه. إنهم هم
الذين صنعوا هذه النار وما أحيط بها حينما كانوا يعيشون حياتهم الأولى.
كانوا يأكلون في بطونهم نارا دون أن يشعروا، وكانوا يُعدون أنفسهم لتكسب
ما يفيد النار لا ما يُفيد جنات النعيم من طاقات ربانية تصبغ النفس، وسوف
نشرح ذلك بتفصيل أكثر في سورة الجن بمشيئة العزيز الحكيم.
هم في الواقع يعودون إلى ما صنعوه ويلقون
ما اقترفوه دون زيادة، إلا أن أهل الجنة يلقون أضعاف ما كسبوه، فإن الله
رؤوف رحيم كريم وليس من شأنه العقاب والتعريض للجحيم، إلا أنها من ضرورات
عدالة السماء سبحانه وتعالى، ليس إلا.
أما وجه تحديد الإبقاء بالأحقاب في الحياة
الأبدية التي لا عبرة للزمان فيها، فهي إما من باب الحديث بلغة أهل
الدنيا الذين لا يمكنهم تصور الأبدية إلا قليلا أو أن مرجع الزمن هو ما
يذكر بعده من أنواع العذاب. هذا وإن الخروج من جهنم غير متوقع بتاتا.
خُلق الإنسان ليبقى لا ليفنى أو ينقرض أو يزول. فهو إما في نعيم أو في
جحيم، ناهيك الذين يعيشون في الأعراف بين الجنة والنار وسوف نتحدث عنهم
في سورة الأعراف لو قدر الله تعالى لي البقاء بصحة وسلام حتى يومه.
فساكن الجحيم كمن خلق للنار، وساكن النعيم
كمن خُلق للجنة، وكلٌ في ما هو فيه باق ما بقيت السماوات والأرض الجديدة
والتي تبقى إلى الأبد بإذن الله تعالى، إلا أن يشاء ربنا غير ذلك.
فبالتقدير الثاني المذكور أعلاه يكون المعنى: إن أصحاب النار يعيشون
أحقابا دون أن يتذوقوا البرد والشراب ويعيشون بعدها بنوع من الشراب. وأما
الخروج من جهنم فمحال لأن الذي يدخلها مجرم ألبتة، وقد قال سبحانه في
الزخرف: 74 {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}.
ولا يخفى أن التقدير الثاني هو في غاية
الضعف فهو تعالى يقول في الزخرف: 75 {لا يُفتر
عنهم وهم فيه مبلسون} ولعل قائلا يقول: لعل الحر والعذاب لا يُفتر
عنهم ولكنهم يُسقون ماء بعد فترة الأحقاب، ونحن نقول: نتمنى لهم ذلك،
والعلم عند بارئهم وبارئنا جل شأنه. فلقد أعد الله جهنم ملاذا ومرجعا
لهؤلاء حتى يدخلوها جميعا لابثين فيها إلى الأبد، فلا معنى لذكر الأيام
والأشهر والسنوات والقرون زمنا لإقامتهم، بل يتناسب معهم ذكر الأحقاب وهي
المجموعات الزمنية الطويلة جدا. وإذا كان أجدادنا يُصورون الخمسمائة
والألف عام لتحديد الأحقاب، فإني أفضل تصوير الملايين أو مئات الملايين
من السنين لتحديد الأحقاب، فالزمن يتوقف عمليا في الدار الآخرة إذ لا
نهاية لتلك الدار. ثمت حياة الأبدية ولكن الله تعالى يعيز الأبدية إلى
إرادته سبحانه، فهو القادر على إنهائها إن شاء، ولذلك يعطي للزمان معنى
باعتبار أن أبدية الآخرة ليست طبيعية بل هي منوطة بإرادة الله تعالى الذي
وعد بإبقائها إلى الأبد. هي أبدية فعلية وليست أبدية ذاتية كأبدية الله
تعالى نفسه،فهي أبدية غير منوطة بإرادة أحد، ولذلك فليس لله عمر مثلنا.
وهنا مسألة جديرة بالذكر أن الله لم يحدد
أية فترة لأهل الجنة في أي مكان. ذلك لأنه سبحانه يحب الكرم والجود
والتفضل فلماذا يقفل على نفسه الشريفة باب الإعطاء والجود الذي هو وحده
به جدير. إنه مالك لكل مقومات الكرم وكريم يحب الكريم. مرحبا بكرم الله
في جنات النعيم فهلموا أيها الناس لنسعى لكسبه ونترك الدنيا لأهل الباطل
وللشياطين المرجومين.
لا يَذوقونَ فِيْها بَرداً وَ لا شَراباً
24
إلاّ حَمِيْماً وَ غَسّاقاً
25
التذوق هو تناول مقدار
ضئيل مما يمكن معرفة طعمه غذاء أو شرابا أو ما يشابههما بقصد الاستشعار،
وهو غير مجد لرفع العطش أو الجوع، والمجرمون محرومون حتى من تذوق الشراب
والبرد لأقل المقادير والفترات، والعياذ بالله من ذلك. لا يزداد المجرمون
إلا عذابا أو هكذا يشعرون. والمقصود من البرد هو عدم الحر ومن الشراب ما
يروي الظمآن. فإذا طلبوا الماء سقوا حميما و غساقا. فالحميم برأيي
المتواضع هو الماء الحار و الغساق هو الطعام الرديء. أما قول السلف رحمهم
الله بأن الغساق هو صديد أهل النار فهو كلام غير معقول ومبالغة مضحكة.
الصديد هو التقيح الذي يصنعه البدن المملوء بالغذاء والسوائل ولا صديد من
بدن جاف يلوحه حر الجحيم ولا يرى صاحبه طعاما مصنوعا من الألياف
والبروتينيات والزيوت حتى يُفرز الصديد. يحلو للإخوة المفسرين المبالغة
الشديدة أحيانا دون التوجه للإمكانيات العقلية والفعلية، حتى يتجاوزوا
أحيانا حيز الأهداف السماوية العليا، سامحهم الله وإيانا.
ولعل في هذا سببا آخر للتحديد بالزمان أو
بالأحقاب الطويلة، حيث أن الموجود الحي يواطن العذاب إذا كان أبديا
سرمديا فيصير جزءا من النارمثلا ولا يشعر بالأذى. ولكن الله تعالى قدر
لهم أوقاتا يُضربون فيها وحالات خاصة يشعرون فيها بالحاجة الملحة للبرد
والشراب فيحرمهم من الشراب البارد، بل يسقيهم الماء الحار ليتذوقوا
العذاب، كما فعلوه بعبيد الله في الأرض أو كما عاندوا الله نفسه وكفروا
به وأشركوا. فهم يعطشون ويتوسلون في طلب الماء، فيُسقون ماء الحميم الحار
دفعا للعطش. إنه يقضي بالطبيعة على الحاجة إلى الماء ويحرق في المقابل
أعضاءهم الداخلية فيقطع أمعاءهم من شدة الحر. وإذا جاعوا أعطوهم أكلا غير
سائغ من أشواك وأشجار جهنم التي تتوسطها النار المحرقة فتحول كل الثمار
إلى محروقات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكنها تسد دعوة المعدة للأكل. كل
ذلك حتى لا يواطنوا الجوع والعطش ولا يتهنأوا بما يُقدم لهم للإرواء
والشبع.
جَزاءً وِفاقاً
26
لا يُمكن أن نتصور
الرحيم الكريم يُعاقب أكثر من قدر الجريمة للمسيئين، ولكننا بكل تأكيد
نتوقع منه سبحانه المزيد من المثوبة للمحسنين. فالنار بدرجاتها تأتي
وفاقا مطابقا ومساويا لجرائم العتاة وكفرهم واستكبارهم بغير الحق. إن كل
ما ذكر من الأذى ليس إلا جزاء حقا لمن سولت له نفسه عصيان رب العالمين،
ملك الكون العظيم جل وعلا. ولا يظلم ربك أحدا.
إنّهُمْ كانوا لا يَرْجُونَ حِساباً
27
وَكَذّبُوا بِآياتِنا كِذّاباً
28
إن العاقل في واقع
الأمر يشعر في أول جلسة مع نفسه بأن الله عادل قادر لا يمكن أن يمنح
العقل بموازاة الشهوة والقدرة على العصيان، دون تقدير الجزاء والحساب.
لكن الإنسان حينما يذعن لشهواته مستجيبا لدعوات الشياطين ومنجرفا وراء
أهوائه وملذاته ومجونه، فإنه يغض الطرف عن نداء الضمير ويُظهر عدم
اقتناعه بيوم القسط الأكبر. فهو مستمتع ماض في فجوره اللا محدود. إنه غير
مكترث بدعوة الله العظيم ودعوة أنبيائه الكرام، غير راج للحساب. إن الذي
يتوقع الجزاء والحساب أو يتظننها فإنه يتأهب لها ويستعد. وإذا لم يرج
الإنسان محاسبة القوي العزيز فإنه لا محالة يُكَذب ويفند آيات الله
وعلاماته الواضحة التي تملأ عين كل إنسان في كل زمان ومكان.
هلا يفتح الإنسان قلبه وعقله ليرى الله محيطا بكل شيء علما ويرى ملائكته
المقربين يسجلون كل شيء يصدر من عبيده المكلفين ويحررونها في منحنيات
الذبذبات والإشعاعات النفسية التي تلازم نفس الإنسان وتحيط بكل خلاياه
وأوصاله. ثم يُخرِج الله له ذلك في كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة. ولعله
سبحانه وتعالى كان يُشير إلى هذا الأمر حينما أضاف الجملة التالية داخل
السورة الكريمة:
وَ كُلَّ شَيءٍ أحْصَينْاهُ كِتاباً
29
كان البشر -كما يبدو- في
قديم الزمان يجمع الحَصَيات لأعماله الحسابية فيعطي حصاة لكل وحدة تدخل
في حساباته. ثمت يقوم بالجمع والطرح والضرب والقسمة على أساس الحصيات.
ذلك لأن الحصيات غير ذات ثمن ويسهل جمعها وحفظها أينما شاء دون أن تفسد
أو تقصدها الحيوانات والحشرات للتغذي. فعملية العد تتم بعد تخصيص حصاة
لكل رأس. وكما نعرف بأن العد ليس هدفا، بل الهدف هو تحديد المقام ووضع
الثروة العامة ومعرفة القدرات والمواهب وإحصاء الإمكانات والمصروفات
العامة ثم وضع السياسة المالية والاقتصادية. وهكذا فإن إحصاء الله
للحركات الإرادية في الوجود ليست إلا لتمييز الخبيث من الطيب وتحديد
الشخصية المناسبة والزمرة الملائمة لكل فرد. كل هذه الخصوصيات مسجلة في
كتاب الأعمال. وغب ذلك يُصدر الله سبحانه حكمه العادل، فيذيق زمر
الكافرين والمشركين ما يستحقونه من عذاب وعقاب مخاطبا إياهم مع صدور
الحكم أو بعده:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيْدَكُمْ إلاّ
عَذاباً
30
ليس العذاب الأخروي
مجاريا للعذاب الدنيوي الذي يتزايد شيئا فشيئا حتى لا يواطنه الإنس ولا
الجن. فالعذاب الأخروي عذاب أبدي لا يمكن إضافته وتزويده. لكن العذاب
الأخروي في تزايد وتناقص بغية التذوق دون تغيير العذاب أو تطويره. وبما
أن الحياة أبدية والعذاب محدود بالطبع فإن التزايد يعني وجود تناقص أيضا.
والله سبحانه ما يقول: فلن نزيد العذاب بل يقول: فلن نزيدكم، أي أن
المعذبين يشعرون بالعذاب وبأنه في تزايد باعتبار أنهم يأملون من رحمة
الله أن تشملهم، ولذلك يطلبون من خازن النار أن يعيد الله النظر في قضائه
فيخبرهم مالك بأنهم ماكثون لا خلاص لهم أبدا. والعياذ بالله سبحانه.
إنّ لِلْمُتَّقِيْنَ مَفازاً
31
يخصص الله سبحانه الفوز
والنيل من رحمته الخاصة للمتقين ويؤكد بأن الفوز مكتوب لهم. المتقون هم
الذين خافوا من الله وتهيئوا لاجتناب عذابه. هم الذين سعوا لمعرفة الله
ومعرفة أوامره و نواهيه فاجتهدوا ليكونوا عبيدا صالحين لربهم العظيم.
فالذي يتقي العذاب هو الذي يتحاشاه وليس هو الذي يخافه دون أن يتجنبه. إن
منطق العدالة والقسط هو التفريق بين من لا يعبأ بالإنذار ومن يعبأ به
ويعمل من أجل دفعه واتقائه. و هاهي مظاهر الفوز التي كتبها الله للمتقين:
حَدائِقَ وَأعْناباً
32
وَكَواعِبَ أتْراباً
33
وَ كَأْساً دِهاقاً
34
و قد جاءت جميعا منصوبة
لأنها بيان للمفازة التي هي بدورها اسم لـ إنّ. ووجه تقديم الخبر عليها
هو حصر المفازة للمتقين ووجه التنكير هو نوع المفازة التي تستهوي كل زمرة
من المتقين والعلم عند الله.
الحديقة هي الأرض التي تُخفي الخضرةُ على
سطحها لونَ الأرض، فلا ترى فيها غير النبات ولو كانت صغيرة. والأعناب جمع
عنبة وهي فاكهة معروفة كثيرة الأنواع والألوان ولذلك ذكرها جمعا لكثرة
العنبات من حيث اللون والطعم وفصل القطاف. وشجرة العنب تسير طوليا كلما
فسح لها المجال ويمكن استعماله لإحاطة الحديقة بسور مثمر جميل تتدلى من
أطرافه عناقيد العنب الباهرة الخلابة. كما أن العنب هو معدن الخمر الذي
يقدمه خدم الجنة لأصحاب الجنة وهم جالسون بجوار أزواجهم ذوات النهد
البارز والأجسام المتناسقة المتجانسة والملائمة للأزواج. يُقدم لهم
الكؤوس المضغوطة رحيقها ولعلها إشارة إلى الغازات الشديدة التي تميز
العصير المخمور عن العصير الطازج. و الدهاق يعني الملاءة مع الضغط.
إنه سبحانه يمثل مشهدا من مشاهد النعماء
والأنس لأصحاب الجنة وهاهنا تساؤل يلزم ذكره باختصار وهو دور الإناث
المؤمنين في الجنة. هذا الدور أصبح منسيا لدى المفسرين لأنهم عادة رجال
معجبون برجولتهم ولا يفكرون في الجنس الآخر فيما عدا الاستمتاع والإنجاب
وعمل البيت. أو أنهم يعطون كل الحق للرجل كما هو عليه حالهن في الدنيا
الظالمة للمرأة مع الأسف. وهكذا فإن المسلم التقليدي البعيد عن عصر
النبوة النيرة ينظر إلى شريكتها نظرة الإنسان الناقص. لو كان الأمر كما
يقوله المفسرون غفر الله لهم ولي فلا قسط في يوم القيامة ولا عدالة
بالنسبة لإناثنا المكرمات. إنهم مع الأسف يجهلون حقيقة المرأة في الجنة
وسوف أذكرها بإذن الله تعالى متقنا حين تفسير سورة القيامة كما أمهد لها
بإذن الله فيما يلي من السور الكريمة. ثمت سوف ترى المرأة بأنها عين
الرجل وتعلم بأن الآخرة دار قسط حقيقي ولا مجال فيها للتفاخر بما آتى
الله بعض عباده من فضل تبعا لضرورة النشأة الأولى الإختبارية والقصيرة.
لا يَسْمَعونَ فِيها لَغواً وَ لا
كِذّاباً
35
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً
حِساباً
36
وكما نرى تبعات السكر في
الدنيا وهي اللغو وقول الزور والهذيان واستهلاك المال وما يقبح ذكره، فإن
تبعات شرب الخمر في الآخرة ليست مثل الدنيا. إن الله تعال يختار عبيده
الصالحين الطيبين للفوز بالدار الآخرة. فأهل الجنة ليسوا من أهل اللغو
والباطل ولكنهم يستمتعون استمتاعا مقبولا وهنيئا لا لغو فيه ولا تمتعا
كاذبا. إنهم يستمتعون حقا دون خوف ودون تعد ودون ظلم لعدم حاجتهم إليها
ولأنهم خيرة البشر والجن. إن أهل اللغو والباطل قد بقوا فعلا في جهنم ولم
ينجوا من عذاب الخزي المناسب لحقائق نفوسهم الزنخة.
والكِذّاب هو الكذب وقول الكذب ومن الهناء
بمكان أن يصدق الناس بعضهم بعضا في كل أقوالهم وأفعالهم. ولعل وجه ذكر
الكذب بعد اللغو في مجال شرب الخمر الطاهر الفردوسي اللذيذ والمنعش، هو
ما يستتبع الخمر الدنيوي من قبائح وعثرات مما يضطر السكارى معها الكذب
حتى في الدول التي تسمح بالسكر وشرب الخمر. فهذه الدولة التي لا تعبأ
بحكم الله فإنها تضطر في المقابل أن تمنع السكارى من القيام ببعض الأعمال
مثل قيادة السيارة والعربات الأخرى أو المشاركة في المسابقات الرياضية أو
دخول قاعة البرلمان أو مجرد الخروج في الشوارع العامة فيما عدا العودة
مخفورين مصحوبين إلى البيت حتى يفيقوا. فهؤلاء عادة ما يخالفون النظام
فيصبحون مضطرين للكذب هربا من العدالة.
والجزاء حساب وليس كالعذاب وفاق. فالمجرم
ينال من العقاب ما يطابق ظلمه لا أكثر مستفيدا من عدالة السماء، ولكن
أصحاب الجنة الذين خصهم الله بالعطايا فإنهم يُجزون الجزاء الأوفى وبأكثر
من أعمالهم لأنهم استحقوا نعمة المنعم العظيم رب العالمين الذي خلق الخلق
ليجزل لهم العطاء ولكن بحساب واستحقاق مراعاة لتفاوت درجات التقوى لديهم.
فإذا استحق المؤمن العطاء فإن الكثرة تناله من كرم الله، ولكنهم جميعا
يشعرون بالرضا وبأنهم قد أخذوا جزاء أعمالهم دون أن يُظلموا أو يعمهم
الحيف. فالعطاء جزيل كثير ولكن سمة الاستحقاق لا تفارقهم حتى لا يخيب من
أتعب نفسه في إرضاء ربه وهو عيب على الله جل جلاله. وفي نسبة العطاء
الفردوسي إلى نفسه بالشكل الوارد هنا {جزاء من
ربك} إشعار بهي برضا الله وإيماء بجزالة الموهبة التي تناسب مقام
الكريم الحميد. وكما قيل فإن الهدايا على مقدار مهديها.
رَبِّ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما
الرَّحْمانِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً
37
تنبيه آخر مناسب للمقام وليعلم السامع أن ربنا الحميد الكريم الذي يُكرم
الصالحين بجنات النعيم ويخصهم بفيض نعمه ويوضح لهم مجالس أنسهم وتمتعهم،
هو نفسه رب السماوات والأرض وما بينهما. ذلك ليشعر طالب الرضوان بأنه في
مسيره إلى الله خالق كل شيء وسوف يستلم جزاءه وهداياه مباشرة من العظيم
ذي الجلال والإكرام الذي لا أول لأوليته ولا آخر لآخريته، فاطر الكون ولا
كون، ومعيدها ثم محييها من جديد، خالق كل من في هذا الكون المهيب من
كواكب و مجرات و ملائكة وبشر تفوق الحصر وتقضي على تصور الخيال حتى يتوقف
العقل والإدراك من مهابة الخوض في عظيم الخلق.
إنها العدالة بحق وجد ألاّ يملك أحد، إنسا
أو جنا أو ملكا أو روحا مقدسا حق التفوه والخطاب، ليقضي العليم الخبير
بما يشاء دون منازع. هذا غاية ما يتمناه المؤمن اللبيب أن ينفرد معبوده
الذي لم يُشرك به أحدا حينما اجتاز مرحلة الاختبار للحكم والقضاء بحقه.
المؤمن الذي لم يظلم أحدا يتوق إلى من لا يمكن أن يظلم أحدا وهو الله
وحده الغني المتعالي. هو المالك وهو العالم الخبير وهو أرحم الراحمين وهو
الكريم الودود، فما هو دور عبيده؟ المؤمنون الصالحون يريدونه هو سبحانه
وتعالى ليفيض عليهم بكرمه ولا يريدون حكم عبيده الذين لا يملكون حق
الإكرام لعدم تملكهم للمكرَم به.
من ذا الذي يحكم غيره؟ فالكل مدينون، وهو
الدائن الأحد، ثم من ذا الذي يملك شيئا يوم الدين حتى يعطيه لغيره؟ كل
الحاضرين بلا استثناء مواقِعُ للقضاء الربوبي، فسوف يقضي الله بين العبيد
جميعا، أناسا وأنبياء ورسلا وجنا وملائكة وأرواحا مقدسة. لعل أجمل شيء في
المحكمة الكبرى ألا يفوض الله الأمر للعبيد، لتكون الكلمة كلها له وحده.
بل ينفرد الذات القدسية بالخطاب والتكلم وما أجمل كلامه وما أحلى قضاءه
وما أروع حكمه وما أجل ملكوته وما أعدل تقديره وما أحكم علمه وإحاطته
بالخلق أجمعين وما أكرم عطاياه المولوية؟ رزقنا الله رضوانه وفيضه سبحانه
وتعالى.
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوح وَالْمَلائِكَةُ
صَفّاً لا يَتَكَلَّمُوْنَ إلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمانُ وَ قالَ
صَواباً
38
الروح القدس هو الذي أنزل القرآن على نبينا وهو الذي يؤيد الله به الرسل
الكرام، وهو كما يبدو رئيس أو مدير الملائكة في نظامنا الشمسي. والملائكة
هم الخلق المصفى والمصطفى الذين اختارهم الله لنفسه ليعبدوه ويطيعوه
وينفذوا أوامره دون أن تكون لهم إرادة شخصية. إنهم أطهر المخلوقات والروح
واحد منهم كما يبدو ولكنه أعظم وأهم ملك في منظومتنا. هم أعف الخلق
وأخلصهم عبادة وأطوعهم لإرادة الرحمان وأمره وأقواهم على الإطلاق. ليس
للأهواء مكان بين هذه النخبة الطيبة النظيفة، وإن قالوا ما لا يرتضيه
الله –مثلا- فهو من أجل الله نفسه لا من أجل أنفسهم، لأنهم حريصون على
مصالح الله وحده.
لعل بعضهم فكر بأن الله محمود ومعبود من
قِبلهم فلماذا يخلق البشر ليفسدوا في الأرض ويشيعوا سفك الدماء. كان ذلك
لأنهم يحبون الله ويرغبون في بقاء قوة الإرادة كلها بيده وحده دون أن
يخلفه أحد من خلقه في الإرادة. ومما لا شك فيه أنهم لم يعترضوا على الله
أبدا، ولعلهم فكروا فقط فعلم الله المحيط بهم بالطبع وهو سبحانه مهتم بأن
تكون له الحجة البالغة أبدا فيعنيه أن يفكر أحد من خلقه الإتيان بما لا
ينبغي، أو يتنافى مع ألوهيته سبحانه. ولذلك أراهم حكمته في خلق الإنسان
وسوف نتطرق إليه في مكانه بمشيئة الله تعالى.
حتى هؤلاء النفر الطيب، فإنهم لا يتكلمون
يوم القسط الأكبر. وتكلم الملائكة ليست مثل تكلمنا نحن البشر. لعل مجرد
التفكر في شيء يُعبّر عنه بالكلام، لأن الله سبحانه يفهمه والمقصود من
الكلام هو إيصال ما في الذهن إلى المخاطب. أما في يوم القيامة فإن الملك
العفيف والروح القدس النظيف غير مهتم بشيء عدا الإصغاء إلى حكم الواحد
القهار جل جلاله. شاء الله أن يكون يوم القيامة يوم حق وعدل من كل
الحيثيات، ولذلك فإن الجميع ممنوعون من التحدث بما يروق لهم أو يمليه
عقولهم وأفكارهم أو أهواؤهم بالنسبة للجن والبشر. سيكون الملائكة والروح
جميعا في حال الخضوع والخشوع وفي تجمع شبه عسكري متشابه كأنهم في صفوف
متراصة، والكلام هناك لله وحده. كلهم يرددون إرادة الله دون أي نوع من
أنواع التفكر الشخصي، وذلك لتقوم العدالة بوجهها الصحيح كما يريدها الله
تعالى دون أي منازع.
ذلِكَ اليَومُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ
مَآباً
39
يوم الجزاء هو اليوم
الحق الذي لا يمكن تحاشيه أبدا فهو اليوم الحق؛ والله هو الحق المطلق
الذي يجب أن يكون ليكون كل من يكون فكل زمان وكل مكان وكل موجود حق بقدر
ارتباطه بالحق المطلق. ولذلك فإن الله يمنع كل الموجودات من الإرادة في
يوم القيامة لتعود الإرادة كلها لله وحده لا شريك له. هو وحده يمكنه
إقامة موازين القسط لليوم العظيم. إنه يوم القضاء العادل وإنها محكمة
العدل والقاضي هو الديان نفسه دون عبيده. وبما أنه هو الحق المطلق فكل من
أراد أن يكون في أمان من ضغوط ذلك اليوم، فما عليه إلا أن يتمسك بحبل
الله وحده وهو في الحياة الدنيا؛ وإلا فإنه سوف لا يُمنح سلاما وأمانا
يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
إن رحمة الله وفضله سوف تتجلى بعد المحكمة
العليا وليس إبانها. واليوم طويل بطبيعته وخطير جدا. لعل الله أن يغفر
للكثيرين كما وعد ولكنه في ساعات المحكمة التي لا نعلم مداها الزماني،
فإنه تعالى وبحكم عدالته، لا يمكن أن يتفضل على أحد أبدا. ولسان الحال:
دع القضاء تسير سيرها الطبيعي ثم يأتي دور الفضل الرباني. وحينما نتحدث
عن يوم الفزع الأكبر أو يوم تكور الشمس فسوف نرى نفس الخطر. هناك الكثير
من الأهوال المفزعة قبل يوم الحساب وفي يوم الحساب، ولا سبيل للتخلص منها
عدا إيجاد وزن وثقل شخصي بالارتباط الوثيق والعبودية الصادقة لله تعالى
في الحياة الدنيا.
إذا كنا نريد الاتكال على الله فهو غير
متاح لأحد إلا بعد الاستماع إلى القضايا وإلى الشهداء و الأشهاد. ولولا
ذلك لتعثرت العدالة. وبعد إقفال أبواب المحاكم، فسوف يُكرم الله من يشاء
قبل إصدار وإعلان الحكم النهائي الذي لا راد له. هذا ما تنادي به هذه
الآية التحذيرية الكريمة فضلا من الله علينا، ليهدي من اهتدى عن بينة ولا
يتكل الضالون على الفضل الإلهي وحده دون أن يقدموا عبادة صادقة وعملا
صالحا، تثبيتا لحبل التمسك بالله العظيم، ومفازة من ضغوط يوم الحساب،
والعلم عند الله وحده الذي ختم السورة المباركة بوعظ إلهي يفيض بالمحبة
والفضل:
إنّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيْباً، يَوم يَنْظُرُ
الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الُكافِرُ يا لَيْتَنِيْ كُنْتُ
تُراباً
40
يواجه المرء عددا من
مشاهد يوم القيامة وهو في حالة نفسية غير مصحوب بالبدن، إلى أن يحل أجل
الله ويأتي يوم المعاد الأكبر. آنذاك سوف يكون المرء محاطا بالبدن الجديد
استعدادا لتذوق الجزاء نعيما أو جحيما. فالعذاب النفسي الذي مني به في
البرزخ كان مجرد ذعر وفزع بالإضافة إلى الفضيحة والشعور بالخذلان، لكنه
في اليوم الأخير سوف ينظر بعينيه كلَ مكاسبه النفسية التي تمثل خلاصة
أعماله وما قدمت يداه وقد تحولت إلى طاقة إيجابية تعطيه الثقل والقوة
وتخوله دخول جنات النعيم، أو تتركه باتجاه النار لتتحول طاقاته إلى
قداحات نارية لإشعال حجارة جهنم. سوف يرى المجرم أن إيجابياته الناقصة ما
نفعته أبدا بل ساهمت في تأجيج النار ليُصلى بها بدنه ويُنضج جلده. هنالك
يقول الكافر: يا ليتني ما أتيت إلى الدنيا ويا ليت أبي لم يلتق بأمي ويا
ليتني كنت باقيا قطعة من تراب الأرض ولم يحولني الله إلى إنسان. لقد
أمضيت فرصة الحرث والزرع بالمجون وعمل السيئات و ها أنا ذا اليوم في
حياتي الحقيقية صفر اليدين.
مجرد رؤية العذاب الشديد الذي ينتظره
ويقترب منه والحكم الأبدي الذي أبلغ به يكفيه ليتمنى أنه لو كان معدوما
لا وجود له ولا حياة ولا إمكانات وقدرات في الدنيا، لكان خيرا له. وحتى
نقف على شدة الذعر في تلك اللحظات الطويلة علينا أن نتصور حال المحكوم
بالإعدام قبل أن يُعدم وما يجول في خاطره من تمنيات فلعله كان يتفادى
لحظة الإعدام. والإعدام في الواقع مسألة لحظات من الألم، ثم يموت بعدها
المعدوم وليس من يفكر فيما بعد الموت إلا قليلا. أما ساعة رؤية العذاب
الأبدي فإنه يعلم بأنه سوف يُعذب بعد قليل عذابا خالدا لا خروج منه
إطلاقا. وكلنا نعرف بأن هيبة الموت والعذاب أشد من العذاب نفسه. قال
الشاعر ابن أبي الحديد:
خض الحتف تأمن خطة الخسف إنما يبوخ ضرام
الخطب والخطب مشبوب
إن الله تعالى يُكرمنا ليحفزنا على تجنب
هذا القول غير المجدي في اليوم الأخير من الحساب واليوم الأول من الحياة
الأبدية. لعلنا نفكر قليلا في دنيانا التي أتينا بها لنزرع لآخرتنا
ولنعبد الله وحده و نتخذه وحده وكيلا نتوكل عليه فيغمرنا بكرمه ونعمه
ونعمائه، فلا يضرنا قسطه وعدله سبحانه وتعالى.
خلاصة القول:
وهكذا
رأينا أن
السورة
الكريمة تتركز-كما
يبدو-
على
التوقيت وبأن لكل تغيير في الوجود وقتا وزمانا لا يمكن تجاهله، فليوم
الفصل وهو اليوم الذي يملأ الله فيه الكون قسطا وعدلا، ميقات لا يتجاوزه،
ولا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى. هب أن الله تعالى هو نفسه الذي قدر
الأوقات والأزمان وقدّر مراحل التنفيذ، ولكنه لا يمكن أن يتخطى قوانينه
وقراراته التي سبق أن أمضاها جل وعلا.
وقد دخل في صياغة السورة كلمات تعني أو
تقترن بالوقت والزمان مثل: النبأ، الليل، النهار، ميقات، يوم، لابثين،
أحقاب، حساب، أحصيناه، قريبا؛ والعلم عند الله وحده لا شريك له.
انتهى
تفسير سورة النبأ ويتلوها سورة النازعات بتوفيق من الله تعالى.