بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ
الرّحِيْمِ
وَالنّازِعاتِ غَرْقاً
1
وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً
2
وَ السّابِحاتِ سَبْحاً
3
فَالسّابِقاتِ سَبْقاً
4
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً
5 منذ فترة طويلة
بات العلماء يفكرون في نشأة الكون بعد أن أضحوا مقتنعين بسفاهة ما ذكره
كُتّاب الأناجيل و
التوراة وما لحق بها
من كتب مزورة وملفقة. لعل مؤلفو الكتاب المقدس لم يطمئنوا إلى ما ذكره
الله في الكتب السماوية الأصلية أو أرادوا أن يجاروا أفكار الناس
المتأثرة بما فكر به علماء اليونان مع مزيج من أساطيرهم وتصوراتهم
الخيالية البحتة.
ولما ظهر الفيزيائيون في
القرون الأخيرة وخاصة بعد القيام الشجاع للمرحوم جاليليو بفتح باب
التجارب العملية؛ وغب اكتشافات علمية وفلكية واسعة
توصلوا إلى أن هناك انفجارا كونيا وقع قبل عشرة إلى عشرين بليون سنة في
كتلة مادية تناثرت وانتشرت في الفضاء
فتشكلت
منها كرات غازية أسموها
Nebulas
ودعنا نسميها الذاريات بالعربية،ثم تظافرت مجموعات من هذه الذاريات
الغازية في كل بقعة من الكون المحيط بمركز الانفجار لينثروا الغاز في جهة
واحدة لتشكيل مراكز المجرات، ثم صناعة النجوم أو الشموس التي بدأت تسبح
في أفلاك حول مراكز المجرات. ثمت حصلت انفجارات في بعض هذه النجوم، ومن
بينها شمسنا، فانفصلت قطع غازية بقوة الانفجار من الأم واتخذت مدارا
بنسبة حجمها حول الشمس. ثم تحولت سطوح بعضها إثر نشاط واسع في تفاعل
ذراتها إلى جبال صخرية تحيط بمراكز هذه القطع الغازية، وهكذا تشكلت
الكرات الأرضية، بما فيها أرضنا.
لكن هناك عدة مسائل في هذا
المضمار ساهمت في حيرة العلماء. ولذلك ذهب بعضهم إلى تصورات خرافية غير
عقلانية لشكل الكون مثل افتراض الكون اللا نهائي الذي يرفضه العقل ألبتة.
ومن أهم هذه المسائل:
1.
كيف تم الانفجار
ومن أين جاءت الحرارة؟
2.
كيف
اتخذ الغاز المنتشر مسارات خاصة اجتمعت فيها الغازات المنثورة للتفاعل
المفيد؟
3.
إذا
كانت كل كرة تأخذ حيزا مخصصا لها في الفضاء من حيث عنوانها بين بقية
الكرات بواسطة جاذبية الكرات المحيطة بها فما هي القوة التي تجذب الكرات
المتواجدة في أطراف الكون
و حوافها
من الخارج؟
4.
بأية جاذبية أو قوة أخرى استقرت الكتلة الأصلية وسط الفضاء؟
ويرد القرآن المنزل من عند
الله سبحانه على كل هذه التساؤلات المحيرة كما يشير إلى بعض الإشكاليات
الأخرى ولكنه سبحانه قلما يشرحها
بالتفصيل. لعل ذلك
لعدم تمكن العقل البشري من الإحاطة بها.
وفي هذه السورة تكمن الإجابة على بعض المسائل التي تجر الناس إلى الحيرة
في صياغة الكون. وسوف نرى في السور الأخرى بمشيئة الله أن بحرا ضخما من
الماء العادي قد صنع في وسط الكون القديم والذي كان أصغر بكثير مما هو
عليه اليوم. ثم تكونت كتلة إثر اضطراب المياه بطبيعة عرضها الواسع الكبير
والتي تسبب العواصف الشديدة جدا من كل جوانب الكرة المائية. هذه الكرة
كانت محمولة على طاقات خارج نظام الطبيعة كما سيعود بنفس الحال مستقبلا
بعد الدمار الكوني الشامل.
لقد تم الانفجار في البحر
مسبوقا بالحرارة والغليان. وحين الغليان انتزع مقدار كبير من المياه على
شكل غازات لتصعد في الفضاء المحيط وتستقر في حواف الكرة الفضائية الكبرى.
ولعلها هي التي صنعت الكرة الفضائية العظمى. هذه هي النازعات التي غرقت
في الفضاء بعيدا جدا عن مركز الكون الذي انفجر فيما بعد مسببا الانفجار
الكوني المعروف. ولعل الملائكة الحاملين للحوض المائي الكبير قد انتقلوا
مع النازعات ليحملوها من جوانبها الخارجية وأوكل الله حمل الكتلة المائية
إلى النازعات التي سميت بعد بنائها وتكاملها سماء وهي السقف المبني
المرفوع والمبين ذكرها في بداية سورة الطور. وأما شكل هذا السقف المرفوع
فيشبه إلى حد كبير أرضيات الطوابق العلوية لمواقف السيارات الحديثة وسوف
نشرحها بإذن الله تعالى في سورة المدثر. والعلم عند الله وحده وما نقوله
ليست إلا تكهنات نتمنى أن تكون قريبة من الواقع.
مع انتزاع السقف ازداد نشاط
البحر تأهبا للانفجار ولكن هذه السورة تتحدث عن الكون الرطب أو ما يسمى
حديثا ب
Wet Universe. هذه
السورة المباركة تهتم بالماء وأهميتها في الحياة وفي صناعة الإنسان
وتغذية الإنسان كما سنرى. ولذلك فإنها لا تشير إلى كل التحركات والتطورات
المادية في صياغة الكون. فالناشطات تهتم بنشاط الغازات المائية التي
ارتفعت مع تناثر الكتلة التي هي أصل الكون والموجودة داخل الماء أو
الطافية على سطح البحار المهيبة والتي انفجرت مع تفجر البحار، فتصاعدت
المياه معها أيضا لتكوين عالم مليء ومشبع بالماء. سوف نتحدث عن الماء
الأول بإذن الله في الجزء الرابع والعشرين من القرآن الكريم.
والنشاط المائي كان مقارنا
لنشاط الكواكب التي اتخذت مداراتها بأمر الله تعالى في الفضاء وأصبحت
تسبح في أفلاكها. وبعد ذلك ومن هذه الكرات الغازية تمخضت المجرات ثم
النجوم. فالمجرات هي أثقل الكرات العلوية والنجوم هي أسرعها عدوا وقد
تشكلت غب تشكيل المجرات واتخذت أفلاكها حول المجرات التي أوكل إليها حمل
هذه النجوم الضخمة، أخوات شمسنا. وقد ذكر سبحانه هذه المرحلة بالفاء لا
بالواو لتأخرها عن المراحل الأخرى فقال عز من قائل: فالسابقات سبقا.
وبعد اتخاذ كل شمس فلكها حول
المجرة واستقرار محيط الجاذبية حولها، بدأت النجوم بالانفجارات الداخلية
تمهيدا لتشكيل الأسرة الكوكبية التي ستحمل فيما بينها أرضا يطؤها الإنسان
بسلام وأمان. ولكل شمس أرض واحدة تُنبت الجنس البشري أو الحيواني بل
النباتي عامة لقوله تعالى: {خلق الله سبع
سماوات ومن الأرض مثلهن}. ولا وجه للتماثل غير التماثل العددي.
وبما أن عدد الشموس أو النجوم غير موضحة فلعل المقصود هو أرض مسكونة لكل
شمس وليست أراض قابلة للسكن بعدد الشموس حتى يُقال بإمكانية وجود أرضين
حول شمس واحدة مقابل عدم وجود أرض في شمس أخرى. والعلم عند الله سبحانه.
وسميت الأراضي القابلة للسكن
بالمدبرات بأمره سبحانه وتعالى باعتبار أن لكل أرض قانونا طبيعيا لتوزيع
الثروة حولها وفي الأجواف القريبة من سطحها حتى تتدبر أمور الناس
المعاشية والتجارية وتتدبر حركتهم وتجوالهم عن طريق البحار والأنهار
والطرق البرية ويتدبر طقوسهم بتوزيع الحرارة على سطح الأرض كما يتدبر
استقرارهم بتقدير الجبال الراسيات والجبال الشوامخ وتقسيم اليابسة بين
المناطق المائية. أما الطاقة فإنها تتدبر بالأجواف المشبعة بالبترول
والفحم كما سوف نشرحها في أواخر هذا الجزء الكريم.
وقد صدق المفسرون حيث قالوا
بأن جواب القسم محذوف تشهد به السورة نفسها وهو: لتُبعثن. ذلك لأن السورة
تتحدث عن إنكار الناس للبعث، فيأتي الله بالشواهد الكونية لإثبات قدرته
سبحانه على إعادة الإنسان نفسه إلى الحياة من جديد. لكنه هنا يتحدث عن
أهمية الماء وليس أهمية الزمان كما في سورة النبإ.
يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ
6
تَتْبَعُها الرّادِفَةُ
7
قُلوبٌ يَوْمَئذِ واجِفَةٌ
8 أبْصارُها
خاشِعَةٌ
9 ينبئنا العزيز
العليم عن مشهد من مشاهد النشأة الأخرى، وهو كما يبدو يوم يجتمع الشمس
والقمر حيث يحصل اضطراب في الأرض الفعلية إثر توسع الشمس و تحولها إلى
دخان مهيب، وسوف نشرح الحادث المرتقب بإذن الله في سورة الزلزال أو سورة
القيامة. هذا الزلزال هو خاص بنظامنا الشمسي وليس ذلك الزلزال المرعب
الذي سوف يعم الكون كله فيما بعد. وفي مثل هذا اليوم ينبأ كل إنسان بما
عمله بنفسه دون أن يرى أعمال غيره. هو يوم عسير على من عصى الله، ثم
تتبعها الزلزال الأكبر بإذن الله وسوف نشرحها في سورة الحاقة بمشيئة الله
تعالى. والحديث هنا عن الراجفة والتي تسبق الزلزال الكبير المشار إليه في
هذه السورة بالرادفة والفاصلة بينهما بلايين السنين كما سنعرف، ولكننا
سوف لا نشعر كثيرا بمرور الرَدَح الطويل.
ففي الزلزال المحلي غير
الشامل وحينما يُبلَغ الناس أعمالهم بصورة فردية، فإن الكثيرين سوف
يضطربون عند تطلعهم على أعمالهم التي أحصاها الله ونسوها. حالة الإنسان
آنذاك وهو في طوره النفسي مختلف تماما عن حالته في هذا العالم وهو محاط
بالجسم الذي يخدعه ويلهيه عن التفكر في يوم الحساب. هنالك يعرف الإنسان
ويتقين بمصيره الأسود الموجع فيتألم ويرتجف عند مروره على كل هزة تقربه
من يوم العقاب الحقيقي. والأبصار هنا هي حاسة الإدراك النفسي وليست
الرؤية العينية. ولقد تفطن لها بعض المفسرين مثل العلامة الطباطبائي
رحمهم الله وإيانا جميعا آمين. فالإنسان بنفسه لا بجسمه يزداد خشوعا من
شدة الخوف والاضطراب إذا ما اطلع على سيئاته التي قدمها للحياة الأبدية.
َيقُولُونَ
أ إنّا لمَرَدُودُونَ في الحافِرَةِ
10
أ إذا كُنّا عِظاماً نَخِرَةً
11
قالُوا تِلْكَ إذاً كَرّةُ خاسِرَةٌ
12 : هذا ما
يقوله معارضو رسالة السماء في عالمنا الدنيوي، والحافرة ولو تأتي بمعنى
الخلقة الأولى ولكنها هنا تعني الأرض المحفورة أو القبر كما تظننه عامة
المفسرين وكما أظن والعلم عنده سبحانه.
لقد أخطأ مع الأسف كل من
قرأت كتابه من مفسري القرآن في تفسير العودة إلى الحافرة تبعا لخطأ فادح
في تفسير عودة النفس إلى الأرض. فمثلا ولبيان قوله تعالى: {منها
خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} ظنوا رحمهم الله
وإيانا بأن الإعادة في الأرض تعني إدخال الجسد في القبر المتعارف بين
معتنقي الأديان السماوية الثلاثة المعروفة. إن غالبية أهل الأرض يحرقون
جثث موتاهم ولا يقبرونها، فما معنى عودتهم إلى الأرض؟ ثم في حالتهم ما ذا
تعني العظام النخرة؟ وفي الواقع أن الله لا يُشير أبدا إلى هذا البدن
الدنيوي بعينه والذي يتحول ترابا أو جسم حيوان أو رمادا أو غير ذلك ولا
أثر له في عودة الحياة أصلا. ولعل كفار مكة كانوا قد سمعوا من رسول الله
أن الذي يعود إلى الأرض هو النفس وليس البدن. ولعله عليه السلام لم يقل
لهم بأن الأرض سوف تُبدل وهي غير هذه الأرض ولكنها من جنسها. ذلك لأن
أفكارهم لم تكن ناضجة لتصور تدمير الكون برمته ثم إعادة صنعه من جديد قبل
أن تبدأ الحياة الأخروية الثانية.
إن الذين نزل القرآن بين
يديهم، كما يبدو كانوا يظنون بأن النفس تعود إلى قبورها في هذه الأرض وهو
ظن كل القدماء الذين تأثروا بتعاليم الرسالات السماوية. كان المصريون
مثلا يحنطون أجساد ملوكهم لاستقبال النفس أو ما يسمونه بالروح. فكانوا
يقولون: كيف نعود (أي بأنفسنا) إلى القبور بعد أن تحللنا (أي تحلل
أبداننا وعظامنا)؟ والله لا يرد عليهم إلا في مثل أنه قادر على إحياء
العظام والمقصود إحياء الخلايا التي تصنع العظام بكامل جيناتها وصورها
التي كانت عليها في الدنيا، وليس إحياء العظام البالية في القبور
الدنيوية. وأضافوا أن عودة النفس إلى العظام البالية في القبور عودة
خاسرة لتنخر العظام التي سوف تضحى عديم الأثر. فكيف تتمكن هذه العظام
البالية من احتضان النفس كما كانت عليه قبل أن تموت؟ وما يلي جواب الرحمن
إياهم:
فَإنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ
13
فَإذا هُمْ بِالسّاهِرَةِ
14
لعل معرفة الآيتين تهون لو
أمعنا النظر إلى الآية 25 من سورة الروم {ومن
آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم
تخرجون} فسوف يُعيدنا سبحانه إلى الأرض الجديدة التي ستُخلَق بأمر
الله، ثم وتحت التراب يجعل لنا أبدانا نباتية ثم يدعونا للخروج. نحن نعرف
بفضل الله أن الخلايا النباتية ليست غريبة على خلايانا الحيوانية، ولكن
الذي سوف يبث الروح الإنسانية والحركة في الخلية النباتية هو نحن
بأنفسنا. لقد بدأ الإنسان خلية حيوانية ثم تكونت نفسه في الدنيا ولكنه في
الآخرة سوف يكون موجودا بنفسه التي يمكنه تكييف الخلية النباتية وتطويرها
إلى خلية تلائمه بإذن الله تعالى. والدعوة هي عبارة عن صوت شديد يؤثر في
سطح الأرض ليحركها ويهزها فتتفتت وتتشقق ليسهل على الإنسان الخروج منها.
معروف أن الأمواج الصوتية
الشديدة تفتت سطح الأرض كما تتفتت الثلوج حينما تُصاب بالقويات من الرعد
فتتحرك الجبال الثلجية وتجر الويلات أحيانا. والعرب تسميها الحادور لأنها
تنحدر من قمم الجبال. كل ذلك بتأثير من الرعد. حتى أصوات الطائرات
وأحيانا السيارات تؤثر في تحرك الحادور المدمر. كما أن بعض النباتات
الأرضية مثل الكمأة تخرج من أثر الرعد وتبرز إلى السطح.
والساهرة هي الأرض الجديدة
التي لم تطأها أحد وكذلك الليلة شديدة السهر، وكلا المعنيين صادقان.
فالأرض ستكون جديدة والنوم ممنوع منعا باتا من بعد ذلك الخروج. النوم هو
أخ الموت ولا نوم في الدارة الآخرة إطلاقا. سوف أوضح الموضوع بتفصيل أكبر
في سورة المدثر بإذن العزيز الحكيم، حينما أشرح نوع الضياء المتيسر
للأخرويين. والخلاصة أن الكافر سوف يبقى إلى الأبد في ظلمات العذاب دون
نوم أو راحة، كما أن المؤمن سوف يعيش أبدا مع إشراقة الصباح، لا ينام ولا
يتألم بل يمرح ويسرح ويعبد الله ويشكره على ما أنعم عليه سبحانه في
الدنيا والآخرة.
هَلْ أَتاكَ حَدِيُثُ مُوسى
15
إذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوىً
16 موسى، هو نبي
بني إسرائيل الذي بدأ دعوته بين قوم فرعون من أشهر فراعنة مصر. أولئك
الذين غرقوا في النهاية فتحولت نعمة المياه إلى آلة موت وفناء لهم بأمر
الله. وذكر قصة فرعون متناسب جدا مع سورة تتحدث عن نعمة الماء. وأما وجه
السؤال؛ فهو لتفخيم شأن المسألة، حيث استهل القوي العزيز حديثه عن موسى
بتسليط الضوء على أجمل وأعظم حدث وقع لموسى بن عمران طيلة حياته وطيلة
بقاء بني إسرائيل في الأرض. ألا وهو لقاء النبي الإسرائيلي المكَرم بسيد
الكائنات ورب السماوات جميعا، ثم اهتزاز طبلة سمع الرسول الكريم أمام
أشرف وأكرم وأعز صوت خلقه الله في الكرة الأرضية ليمثل تكليم الملك
الجبار للعبد الصالح حفيد إبراهيم وإسحاق. ليس للإنسان أن يصف موقفا
يرتبط برأس هرم الوجود جميعا -إذا صح التعبير- ولذلك يقوم الله نفسه
بتوصيف الموقف بأدق وأصغر الكلمات والتعابير الحية الصادقة. لقد تكثف
النور القدسية الربانية في وادي سيناء حتى خيل لموسى أنه نار تفيده
للتدفئة والاهتداء إلى الطريق الذي يربطه بمصر. لقد انطوى النور الإلهي
في تلك الليلة المباركة بغزارة غير معهودة في الوادي الذي تقدس بحق حينما
تغشى بالطاقة الخالصة النقية. إنه منارة الهدى للبشرية جميعا على مر
العصور التالية كلها. فأوحى العزيز سبحانه من خلال الكلام المطمئن إلى
موسى بن عمران:
اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنّهُ طَغى
17
فَقُلْ هَلْ لَكَ إلى أنْ تَزَكّى
18
وَأهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ
فَتَخْشى
19 هناك الكثير
من المجرمين الذين يحكمون أصقاع الأرض في كل عصر ومصر، ولكن الله اصطفى
فرعون بالذات ليكون نموذجا لمن مثله في الصفات؛ فأرسل إليه عبده موسى
سعيا لإرشاده. كانت النية واضحة وهي رجاء أن يتذكر فرعون عهده الطبيعي مع
خالقه أو يخشى ربه سبحانه وهو الطرف الآخر من العهد فيزكي بذلك نفسه
ويطهرها من دنس الشرك والإثم مادام في سلامة واختيار داخل الدنيا.
وسوف نرى فيما بعد أن الله
سبحانه قد اختار أكبر نموذج من الملوك. كان فرعون عظيم السلطان، قوي
الشوكة؛ في الوقت الذي كان فيه قوي البرهان، واسع الذكاء عميقا في
التفكر. كما أن موسى بن عمران إنسان قوي الإرادة، عظيم النفس، بالغ
البرهان، عبقري في الذكاء، مضاء في العزم، راسخ في العقيدة. أضف إلى أنه
مدير قوي تتجلى قدرته الإدارية في الرسالة المشتركة التي عرضها على ربه
العظيم، ليقوي بهذه المشاركة حجته على فرعون، فلعله ينجح في مهمته
الكبرى. وفرعون هو الذي سعى كثيرا لإقناع موسى بالعدول عن رأيه، ثم سعى
لتحطيم برهان موسى، ثم جدّ لدحض حجته ومعجزته الكبرى. وأخيرا قام بتهديده
فلعله يتأثر من غضب أعظم ملك في مصر الكبرى. أعقب ذلك ممارساته الخبيثة
لتسفيه وتحقير الرسول العظيم. وكان فرعون في كل مرة يستشير وزراءه
وحاشيته ثم لا يخالفهم بل يخالف نفسه إرضاء لهم. إنه كان ملكا قويا
ومثاليا وعاقلا مستعدا للاحتجاج والاستدلال، على عكس بقية الملوك والحكام
الذين يحجبون أنفسهم عن رعاياهم، ولا يستشيرون حاشيتهم ولا يهتمون
بالمنطق والعقل. إنه هو الذي جمع في قصره الفرعوني وليدا مثل موسى بن
عمران ومؤمنا طيب السريرة مثل مؤمن آل فرعون. فإذا كان فرعون غير متقبل
للهدى فإن من دونه علما وفكرا سيرفض الهدى والرشاد قطعا.
ففرعون نموذج صادق للطغيان
والانفراد بالسلطة وغلو التمسك بزخارف الدنيا. كما أن موسى بن عمران هو
أوضح نموذج للإنسان العظيم في أخلاقه فهو تربى على زخارف فرعون ونام على
سريره طفلا ووليدا، احتضنه فرعون وزوجته ابنا يحبانه ويقدمان له ما يشاء
من البهرجة والرخاء والنعماء؛ لكنه عليه السلام ترك كل جنات فرعون وراء
ظهره طلبا لله العظيم خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
سار موسى بن عمران حاملا
رسالة السماء إلى منبته الأصلي، إلى قصر فرعون وقابل فرعون وناقشه ثم
عرض عليه علامة السماء وآية الرسالة الربوبية، فأراها إياه. ومما لا
يعتريه الشك أن عالما بقوة فرعون قد عرف الحق من منطق موسى واستيقنت به
نفسه بعد أن رأى ممن رباه بيده ما يعجزه ويعجز كل أنصاره. لكن حب السلطان
وخبث الباطن وشوائب السريرة ألهته عن الإصغاء للحق والعدل وزين له
الشيطان الرجيم ملك مصر والأنهار التي تجري من تحته، فكذب وعصى ثم أدبر
يسعى. ولنعد إلى الكتاب الكريم ليروي لنا قصة إدبار فرعون عن الحق
ومواجهته الحمقاء مع هدية الرحمن ومكرمة رب العالمين:
فَأراهُ الآيَةَ الْكُبْرى
20
فَكَذَّبَ وَ عَصى
21
ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى
22
فَحَشَرَ فَنادى
23
فَقالَ أنا رَبُّكُمُ الأعْلى 24
لعل الآية
الكبرى هي العصا التي تحولت إلى ثعبان عظيم فزع منه فرعون وقوم فرعون
واضطربوا خوفا وهلعا، كما فزع موسى نفسه من قبل. لكنهم عادوا إلى ما
كانوا عليه من كفر وجحود بعد أن أمسك بها موسى فعادت عصا في يد صاحبها.
وحينما أراهم الله عظمة هذه الآية بعد أن بلع نفس الثعبان المؤقت كل ما
جمعه السحرة من مواد كبيرة في الحجم والشكل وفي ما خدعوا بها أعين الناس
من سحر، تمرد فرعون أيضا قائدا قومه وأتباعه دون أن يتقبلوا الهدى
والرشاد. ولقد أضل فرعون قومه وما هدى.
وبعد أن رأوا الآيات واحدة
تلو الأخرى خاف فرعون من سيطرة موسى على شعب مصر، فأرسل رسله الذين كانوا
يقومون مقام الإذاعة ووسائل الإعلام ليعلنوا للمصريين أن فرعون هو ربهم
الأعلى. ولا ضير أن نعرف بأن المصريين كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها
وسائل للتقرب إلى الله تعالى خالق الكون العظيم. لقد غير فرعون دعوته إلى
الأصنام، ودعا إلى نفسه وبأنه الرب الأعلى. وهذا دليل واضح على أن تشبث
فرعون بالسحرة وبالاحتجاج مع موسى لم يكن بدافع الكشف عن الحقيقة بل كان
من أجل فرض السيطرة والسلطان. إنني أظن أن فرعون دعا لنفسه بالربوبية
بغية توحيد الآلهة وتوجيه الناس إلى عبادته هو بدلا من الأصنام ولم يدع
فرعون بأنه خالقهم قطعا. ذلك لأنه خاف من تمتع موسى بثقة المصريين بعد أن
نجاهم من البلايا بدعائه كما سنعرف مستقبلا.
هذا ما يفعله الطواغيت حينما
يواجهون المشاكل مع شعوبهم، فإنهم يدعون شعوبهم لعبادتهم. ألا ترى أنهم
يرفعون صورهم وتماثيلهم في كل مكان أو يكتبون مقاطع من تعبيرهم وكلماتهم
في الساحات الكبرى وعلى شاشات التلفاز. إنهم بذلك يخلقون في ذاكرة شعوبهم
صورا لا تُنسى لشخص واحد فيشعر العامة بهيمنة صاحب الصورة على النفوس
ويخافون من المساس بهم، ثم يرضخون لأوامرهم ويقدمون لهم الطاعة العمياء.
الطاعة المطلقة هي العبادة بعينها. هذا بجانب الخوف الذي يشيعونه بين
الناس بطرد أو سجن وتعذيب أو قتل مخالفيهم دون رحمة أو اعتبار قرابة أو
ذمة. كان فرعون ولا زال رمزا للطواغيت الذين يتبعون أفكاره في الأرض،
وسوف نتحدث عنها مستقبلا بإذن الله تعالى.
وهكذا فإن فرعون رأى آية ربه
واستيقن بصحتها بعد انتهاء المباراة الكبرى فيما بين موسى والسحرة ثم بين
موسى وفرعون نفسه لدرء العذاب عن شعب مصر. لكنه تظاهر بتكذيب آية ربه
فعصا الله سبحانه برفضه الهدى والاسترشاد على يد رسول الله، ثم أعرض عن
الذكر والبرهان والاحتجاج وترك كل المعايير العقلية مدبرا ظهره لها
وساعيا لإبقاء ملكه وسلطانه متوسلا بالكذب والتزوير وادعاء الباطل. فحشر
وجمع جنود الصحافة والإعلام وأرسلهم إلى الأرجاء ليعلن تتويج نفسه
بالربوبية وأنه اعتلى عرش الألوهية. فياله من مجرم أثيم القلب نجس
الجنان، لعنه الله ولعن أتباعه وأشياعه ومن سار على دربه.
ولا غرو إن قلنا بأن الملوك
والطغاة وأصحاب التيجان والمسيطرون المتفردون بالسلطة تعلموا من فرعون
أساليب التحدث من الأعلى والاستخفاف بالناس والتدرج في الكبرياء وزعزعة
الثقة بين الشعب والتخويف بالحرب وانعدام الأمان والعدو الأجنبي وسلب
الوطنية والأرض والتفريق بين فئات المجتمع وخلق المذاهب الوهمية لهم وما
شابه ذلك من الحيل الشيطانية أو التوسل بالقمع والتشريد. كما أنهم تعلموا
من فرعون ألا يعطوا الفرصة للبرهان والاحتجاج فإن حجة الله قوية داحضة
وهم غير قادرين على مواجهة من يتوسل بها. سوف نرى كثيرا من ذلك مستقبلا
في كتاب الله المجيد إنشاء الله تعالى. ولذلك كله فإن الله تعالى عجل
بعذاب دنيوي لفرعون بعد أن أتم عليه الحجة وأكمل فيه محاولات الهداية دون
جدوى. فقال عز وجل:
فَأخَذَهُ اللهُ نَكالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلى
25
إنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى
26
لو ننظر إلى الوقت الذي أمضاه موسى بن عمران مع فرعون وقومه وإلى مجموعة
الآيات والعلامات التي ظهرت على يديه ومجموعة الدعوات التي استجابها الله
له بشأن قوم فرعون وفيهم فرعون؛ وكذلك أنواع الفتن الفريدة من نوعها
والتي أراهم الله إياها لعلهم يهتدوا، فسوف نعلم بأن لله تعالى شأنا آخر
معهم يفوق فرعون وبني إسرائيل. وقد وضح الله ذلك في سورة الزخرف: 55و56:
{فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين
فجعلناهم سلفا ومثلا للآخِرين}.
فالآية الثانية تفسر الآية
الأولى، لأن النكال في العربية يعني التنكيل بقصد تحذير الغير وبذلك
فسروا آية فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها. وقد ذكر الله تعالى
نفس اللفظ للسارق والسارقة حيث أمر بقطع يديهما تحذيرا لغيرهما، وكذلك
للمعتدين في السبت من بني إسرائيل ولفرعون وكلاهما من قوم موسى. إنهم
جميعا أمثال لغيرهم من الأمم. ولقد أنهى الله تعالى بزوال فرعون حكما
ملكيا مسيطرا على بني إسرائيل الذين اختارهم الله ليكونوا نموذجا لكل
الأمم السالفة واللاحقة ليبدءوا بعد الحكم الملكي حكما ديمقراطيا برئاسة
نبي كريم وعظيم مثل موسى بن عمران ثم يرى ما يفعله بنو إسرائيل على الحكم
بعد ما كانوا تحت السلطة الأجنبية. والنظام الجماهيري واضح بعد ذلك حيث
أن موسى لم يذهب لربه لوحده فيما بعد بل ذهب مع سبعين ممثلا لقومه. وقد
آذى الإسرائيليون نبيهم كثيرا بعد زوال حكم فرعون كما سنعرف مستقبلا
بمشيئة الرحمان.
وهكذا فلعل الله ينكل ببعض
من يأتي بمثل ما أتى به فرعون في مستقبل الأيام. التاريخ البشري أو تاريخ
المجرمين شاهد على ذلك، حيث نرى الله تعالى يسلط المؤمنين أو المجرمين
على المجرمين لينكلوا بهم في كل زمن ليكونوا عبرة لغيرهم. ولنعد إلى
الآيتين لنطبق المعنى على كلماتهما:
فأخذه الله
:أي أخذ نفسه بقوة للتعذيب (أرجو قراءة موضوع "وإبراهيم الذي وفّى" في
كتابي المفاهيم الصحيحة بنفس موقعي الفكري للمزيد من المعرفة)
نكال
: عقاب عبرة لغيره
الآخرة
: الذين يأتون من بعدهم في أواخر البشرية وليس الدار الآخرة قطعا
والأولى
: بالنسبة للآخرة وهم الذين عاشوا أيام فرعون ومن لحقهم في الأزمنة
المتوسطة حتى عهد البشر الآخرين ونهاية الحياة الإنسانية في هذا
الكوكب. ولعل السر في تقديم الآخرة على الأولى هو امتياز العهد الأخير
بعدم وجود الأنبياء والرسل وانقطاع الوحي فيه حتى يوم القيامة. ذلك لأن
النكال الإرشادي يغلب العذاب شبه الجزائي أيام الأنبياء.
إن في ذلك لعبرة
لمن يخشى : وبالتأكيد
فإن في سرد قصة فرعون وعاقبة أمرهم في الدنيا وهو الغرق بمعية جنودهم في
البحر عبرة وعظة لمن يخشى الله. وقد سبقني العلامة الطباطبائي مشكورا في
بيان أن الخشية هنا تعني العودة إلى الفطرة التي فطرنا الله عليها، وهو
أننا نخشى العواقب بصورة طبيعية. ونعم ما قاله العلامة رحمه الله تعالى
وإيانا.
أ
أنْتُمْ أشَدُّ خَلْقاً أمِ السَّماءُ بَناها
27
رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها
28
وَ أغْطَشَ لَيْلَها وَأخْرَجَ ضُحاها
29
وبما أن السورة تتحدث عن المصنوعات المائية فإن الله تعالى وهو في طور
التوبيخ بالاستفهام عن قوة خلقه وهيمنة الخلق العلوي على البشر، يذكر
سبحانه خلق القبة الكروية السماوية التي تحيط بالكون جميعا. وهنا عدة
مسائل يلزم التنوه بها:
1)
السماء العلوي البعيد مبني
أي مصنوع من وضع قطع فوق بعضها كما نفعله في مبانينا الأرضية ومساكننا.
2)
للسماء سمك مرتفع
من قاعها كما أن مقوماتها مستوية.
3)
للسماء جهة خلفية
مظلمة وهي الجهة التي تواجه اللاشيء الخارجي؛ كما أن لها جهة داخلية
تستمد بعض النور من الكواكب والنجوم المتواجدة في أطراف الكون.
4)
تغاضى الله تعالى
عن ذكر الشمس مع هذه الآيات؛ ولعل السبب في ذلك هو أن الشمس اليوم خلو من
المياه التي حملتها في بداية تكوينها كما سنعرف. إن مواد الشمس قد تفاعلت
مع بعض فكونت الحرارة الشديدة التي لا تُبقي ملاذا للماء فيها. ولعل
محمولاتها من المياه انتقلت إلى أرضنا و/أو تبخرت وارتفعت إلى أعالي
النظام الشمسي لتكوين المذنبات والكرات المائية المتجمدة التي تملأ أفق
النظام من بعيد.
5)
إن صناعة السماء
العلوي سبقت صناعة الأرض لعدم قابلية الاستقرار لأي كوكب بدون وجود القبة
الكروية السماوية التي تمد كل ما في داخل القبة بالجاذبية الكافية
لبقائها.
6)
القبة السماوية
مصنوعة بطريقة هندسية تسمح لها بالتوسع كما سنذكرها مستقبلا بمشيئة الله
تعالى.
7)
كلما نتوسع في
افتراض حجم الكرة المائية الكبرى والمهيبة التي انفجرت في وسط الكون فإن
المواد الموجودة فيها كانت غير كافية لصناعة غلاف جوي سميك جدا وقابل
للتوسع والتمدد بشكل مذهل في أطراف الكون. ولكن الله تعالى في الواقع
يخلق الماء من الماء والإنسان من الإنسان فهو بصورة مستمرة يخلق ويخلق
بعلم وقوة، والماء التي في السماء العلوي في حال تزايد مع تزايد حجم
الكون كما أننا نحن في حال تزايد والكواكب في حال تزايد، والله يمدها
جميعا بالطاقة الضرورية للتكاثر.
على أساس ما ذكر فإن بناء
السماء العلوي المحيط أشد خلقا من أي شيء مادي آخر، فما بال الإنسان
الضعيف يتكبر على الخالق العظيم جل وعلا؟ والسمك هو الارتفاع الذي يقابل
العمق. وحينما يحين الحين لنتحدث عن شكل هذا السقف العلوي العظيم فلعلنا
نعرف السبب في رفع السمك. هذا الرفع الذي سوف يُزال فيما بعد كما ستعلم
بإذن الله تعالى. وظلام ليل هذا الجدار وهو الطرف الخلفي فهو طبيعي
لابتعاده عن امتصاص الأنوار المحيطة بالكواكب الجانبية. أما وصف الجهة
الداخلية المقابلة للكواكب بالضحى فلعله بسبب عدم تمكن الكواكب غير
الغازية المتوسطة بينها وبين النجوم القريبة منها من حجب أنوار النجوم
لشمولية سطح القبة من الداخل ولأن الأنوار ستبقى ساطعة باستمرار على
السطح فتكون الحالة حالة ضحى مستمر. أما وجه إخراج الضحى فلأن صناعة
النجوم النيرة متأخرة عن صناعة السماء العلوي المحيط. والعلم عند الله
وحده.
وأما المرحلة التالية في
صناعة الكواكب المائية هي مرحلة صناعة الكواكب الأرضية. إنها أيضا أهم
وأعظم بكثير من صناعة الإنسان. فالأرض أمُّنا ومعدننا التي صُنعنا منها،
وقد مرت الأرض بأربعة مراحل رئيسية أو أربعة أيام حسب تعبير القرآن
الكريم في سورة حم السجدة. من ثم تهيأت الأرض للعطاء والتغذية الحيوانية
والإنسانية فقال تعالى:
1-
وَالأرْضَ بَعْدَ ذلِكَ
دَحاها
30
2-
أخْرَجَ مِنْها ماءَها
3-
وَمَرْعاها 31
4-
والجِبالَ أرْساها 32
مَتاعاً لَكُمْ وَلأنْعامِكُم
33
هذه المراحل الأربعة مشار
إليها في سورة فصلت (حم السجدة) بقوله تعالى: 10 {وجعل
فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء
للسائلين}. ومن المضحك أو المؤسف أن البعض ظنوا بأن هاته الأيام
الأربعة هي من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض. وفي
الواقع وكما سنعلم مستقبلا فإن خلق الأرض تم في آخر الأيام الستة. وهي
بالطبع ليست أياما كأيامنا وليست وحدات زمنية. كما أن الأيام الأربعة هذه
أيضا ليست وحدات زمنية محدودة. وسوف نتحدث عنها بتفصيل في سورة فصلت بإذن
الله تعالى.
ففي اليوم الأول لتهيئة
الأرض تم بسطها وتغليفها بالصخور ولعل طول ذلك اليوم يربو على عدة ملايين
من قروننا (أي عدة مئات من ملايين السنين). ذلك بعد أن توقفت نشاط
الحرائق (مثل أمها الشمس) فتلاصقت المواد المحروقة بعد التبريد لتشكيل
الغلاف الصخري الأخير. هذا الغلاف الصخري الخارجي ليست مؤلفة من صخرة
كروية واحدة بل من عدد من الصخور الضخمة التي تتحرك حول الأرض ببطء. وأظن
أن المياه التي أودعها الله باطن الأرض كانت تحت هذه الصخور مزيجا بالحمم
البركانية التي تنشطت وخرجت حاملة المياه الجوفية.
وفي اليوم الثاني وهو يوم
خروج المياه مع الحمم وطوله ملايين السنين بالطبع، استقرت المياه في
مقاطع منخفضة من سطح هذه الكرة حيث تحولت الخالص منها إلى غازات متصاعدة
في السماء لتمطر مرة أخرى نظيفة خالصة مباركة متزودة بما قدر الله لها من
طاقة شمسية مفيدة. لعل عملية التطهير هذه استمرت ملايين السنيين لتتحول
مياه البحار إلى الشكل الذي نراه عليه اليوم.
وفي اليوم الثالث قدر الله
للأمطار أن توجِد الخضرة، ثم طورها الله لتمتلئ اليابسة بالمراعي الكبيرة
ولعل بعض هذه الحيوانات الكبيرة كانت قد خُلقت مع تنامي النباتات الكثيفة
ثم قدر الله طمي كل هذه المواد تحت الأرض في تحرك جيولوجي آخر سوف نتعرض
له بإذن الله في أواسط هذا الجزء المبارك من كتاب الله. بقيت المياه وبعض
البكتيريا ولعل بعض الخضار لتتطور فيما بعد فيخلق الله منها النباتات
الفعلية والحيوانات بمختلف أنواعها إضافة إلى الإنسان. وكما يبدو فإن
الإنسان بدأ من الطين ومن النبات البدائي المتطور بإذن الله تعالى في
سلالة خاصة بعيدة عن السلالات الحيوانية الأخرى كما تصور بعض العلماء
وخاصة داروين.
ثم بدأت الصخور التحتية
بتحرك خاص بغية تنصيف المقطع البحري إلى نصفين هما ما يسميان اليوم
بالمحيطين الهادي والأطلنطي. إنهما كانا فيما قبل بحرا أو محيطا كبيرا
واحدا. لقد فصلت هذا التحرك الجيولوجي تحت عنوان "مرج
البحرين يلتقيان" في كتابي (المفاهيم الصحيحة) بنفس هذا الموقع
الإلكتروني. غب هذا التحرك تشكلت الجبال الرواسي التي تربط أطراف هذه
الصخور أو الجبال التحتية الضخمة جدا برباط صخري متين يقاوم الاضطرابات
ويساعد على التقليل من الزلازل الأرضية. هذه الجبال الرواسي قلما تؤثر في
هدوء الأرض ولكنها هي التي تشكل الأنهار والعيون المعدنية وكثيرا من
الأعشاب الطبيعية الضرورية لحياة الإنسان.
وبعد انتهاء الأيام الأربعة،
أصبحت الكرة مستعدة لاستقبال الإنسان الأول ولتطور البهائم والحيوانات
تبعا لضرورة الحياة. وبما أن الحيوانات آكلة العشب كانت في تكاثر كبير
ومع عدم وجود البشر أو عدم سيطرة العقول البشرية على النباتات فإن وجود
حيوانات مفترسة تقلص من امتلاء الأرض بالأنعام العشبية باتت ضرورية. خلق
الله الحيوانات المفترسة بعد الحيوانات آكلة الأعشاب بالطبع لأنها تعيش
على الأنعام العشبية، وذلك صيانة للثروة النباتية حتى يأتي من خلقت من
أجله الأرض وهو الإنسان ثم يستولي على ثروته ويكيفها بأسلوبه الخاص.
حينذاك تبدأ السباع بالانقراض وقد بدأت فعلا. وبالطبع فإن التربة تكونت
خلال هذه الفترات الطويلة تسهيلا للزرع والحرث فقال تعالى: متاعا لكم
ولأنعامكم. وصدق الله سبحانه وتعالى. والمتاع هو ما نتمتع به في مأكلنا
وملبسنا ومسكننا وزينتنا وغير ذلك.
فَإذا جاءَتِ الطّامَّةُ الْكُبْرى
34
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ ما سَعى
35
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيْمُ لِمَنْ يَرى
36 الطامة
الكبرى أو الداهية العظمى هي التي أنذرونا بها في الدنيا التي نحن فيها
اليوم ويوم يبلغوننا فردا فردا ونحن في حالة نفسية عراة من البدن وكذلك
حينما يعرضون الأعمال على شاشة الأفق ليراها القريب والبعيد ونحن في حالة
نفسية أيضا. ثم حينما يعيدوننا إلى الأرض الجديدة ليزوجونا مع أبداننا
الجديدة استعدادا للوقوف أمام الديان العظيم في يوم الحساب الأمثل. ذلك
بعد أن يفرزونا في زمر وجماعات بحسب أعمالنا التي صبغت نفوسنا، وليس بحسب
قبائلنا وأعراقنا ثم تقام النار الكبرى في وسط الكرة الأرضية الجديدة
هناك سنرى الطامة الكبرى بعينها ولا ملجأ منها إلا إلى الله نفسه سبحانه
وتعالى.
هناك فترات طويلة جدا بين
الحالتين النفسيتين التي أخبرونا فيها ما أخبرونا وبين يوم القيام الأخير
لرب العالمين، هي مسألة عشرات البلايين من السنين الدنيوية التي ألفناها
ولكننا لا نشعر بها كثيرا. إنها فترة طويلة جدا، فيصبح المرء بعدها وكأنه
نسي أعماله وما فعله هذه الأعمال بحقيقة نفسه التي تمثل كل أعماله
وأفعاله. سوف نرى أن الحالة تتطلب معرفة مكاسب النفس، فسوف نتذكر ما
سعيناه في حياة الحرية الدنيوية بكل تفصيل. إنه يوم الفصل الأخير وكل
إنسان حريص على معرفة مصيره، فسوف يتذكر كل شيء دون أدنى شك. حالة
الإنسان غير المجرم هي حالة من يدخل قاعة المحكمة متهَما فيحاول إرضاء
نفسه بأنه سوف ينجو من الحكم بالعقاب وسوف يقوى على دفع التهم الموجهة
إليه. لذلك فهو يسعى بكل ما يؤتى من قوة أن يضغط على ذاكرته لتسعفه بما
يدفع عنه التهمة. إنه يسعى لتقديم كل الحيثيات التي تنجيه من الإدانة في
آخر محكمة يراها فلا حكم بعد ذلك اليوم أبدا. هو ذاك سوف يتذكر كل ما
قدمه وكسبه لا محالة.
وما من شك أن بعض الناس
يُحشرون عميانا في حشرهم الأخير ليبقوا عميانا إلى الأبد. هو ليس الحشر
الفردي الذي يأتون فيه أمام الله فيرون كل شيء ويسمعون كل شيء بكل دقة
وحدة لأنهم سيكونون نفوسا بلا أبدان. بل إنه الحشر الجماعي الأخير فسوف
يخرج البعض من الأرض مزوجين بأبدان غير بصيرة فلا يرون ولن يروا شيئا
بعده أبدا. {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة
ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى} سورة طه:
124-126. وقد توهم بعض المفسرين أن الناس جميعا يملكون حدة البصر يوم
القيامة، فلعلهم أخطأوا ولو أن العلامة الطباطبائي مال إليهم وإن الجواد
قد يكبو. لقد خلطوا بين يوم يقوم الناس فيه لرب العالمين وبين يوم تنفصل
النفس عن البدن فتقترب من الله من حيث ابتعادها عن المادة ثم تصير أكثر
حدة في السمع والبصر بالإشعاعات الطاقوية مثل الإلكترونات وليس بالعين
والأذن الماديتين.
وتظنن العلامة الطباطبائي أن
هذه الآية تدل على أن جهنم كانت مخلوقة موجودة ولكنها غير ظاهرة للعيان.
أعتقد بأن ظنه هذا غير صحيح أيضا ولا معنى لخلق جهنم قبل الحاجة إليها
وجهنم ليست إلا نارا يمكن إيقادها متى ما شاء الله وهو الحكيم الذي يعيز
كل شيء إلى وقته. فلا معنى لخلق الجنة والنار قبل الحاجة إليها. والجنة
هي المنطقة المخضرة من الأرض الجديدة والواقعة في طرفي النار ودعنا
نسميهما شمال الأرض وجنوب الأرض؛ أما النار فهي بالطبع ستكون في وسط
الأرض وسوف نشرح ذلك بتفصيل في سورة الرحمن بإذن الله تعالى. وليست الجنة
والنار شيئين خياليين ولا جهازين ميكانيكيين أو سيارتين متنقلتين حتى
تكشف الستار عنهما أو تُنقلان إلى مرأى الناس. هذه ظنون الذين لم يعطوا
القرآن حقه من التفكير مع الأسف ولا دليل لهم عليها. أما كلمة بُرزت
فتعني أن الناس يقتربون من النار حتى يرونها ولا تعني شيئا آخر والعلم
عند الله.
فَأمّا مَنْ طَغى
37
وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا
38
فَإنّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأوى
39 الطغيان هو
الإسراف في معصية الله ويطغى الإنسان عادة طلبا للمزيد من الترفه في
الحياة الدنيا وبعد أن يتخبطه الشيطان من المس فيشعر بالاستغناء عن الله
وعن ذكر الله تعالى والعياذ به سبحانه. هذا النوع من البشر مارد عن الحق
وهاو في متاهات الضلال ولا شيء يؤويه في الآخرة إلا الجحيم. والحديث في
هذه المجموعة من الآيات والمجموعة التي تليها يدور حول الذين يعملون عملا
بقصد وعلم ولا يشمل الرعاع الذين لا يعون ما يعملون ولا يفكرون في شيء.
هؤلاء الرعاع سوف يطبقوا على غيرهم كما يبدو وسوف يشملهم الكثير من
الغفران لأنهم ضعفاء مستضعفون ولو أن الله لا يحب الذين يرضون بالظلم
ويتقبلون الاستضعاف. إن مغفرة الله ورحمته وكرمه أكبر من أن تتجاهل بعض
العبيد الجاهلين ولو كانوا مقصرين نوعا ما، إنشاء الله تعالى.
فالذين يعون ويفكرون على
صنفين:
أولهما: الذين يشعرون بأن
الثروة محدودة وبأن عامة الناس غير قادرين على التمتع الكامل ولكنهم
يستأثرون بأنفسهم على غيرهم غير عابئين بما يُلقى إليهم من النذر ولا
يفتحون حسابا لله تعالى في سيرتهم الدنيوية. إنهم يفضلون حياة الترف
والنعماء الحاضرة على اتباع الحق والعدل فهم الذين يترفعون على العلي
العظيم جل وعلا كما يترفعون على عبيد الله سبحانه. هم أتباع الهوى وعبيد
الملذات وهم الطغاة المسرفون على أنفسهم، فهم يُرمون بصورة أتوماتيكية في
الجحيم إذ لا مجال لأن يشملهم أي نوع من الغفران. فالغفران لمن يُخطئ
ويتوب من قريب أو لمن لا يعي ماذا يفعل ولكنه على كل حال لا يُسرف في
العصيان. فالإسراف في الإثم نتيجة حتمية لتجاهل الحق والعدل وللكفر
بالمنعم أو رفض الاعتراف بفضله سبحانه. إن الجحيم هي المكان المناسب لهم
في نظام العدالة وبحكم محكمة القسط الحقيقي.
ثانيهما: الذين يشعرون
باللذات الدنيوية ولكنهم يخافون إحاطة الله بهم وحضور سلطانه معهم أينما
كانوا فلا يخلطون الهدى بالتقوى ويسعون لكبح جماح الأهواء، يوبخون أنفسهم
ويحذرونها من غضب الله العظيم وعذابه؛ فهم يرسَلون إلى جنات النعيم بصورة
أتوماتيكية أيضا. ليس لهؤلاء الصفوة مأوى في الجحيم والجنةُ تنتظرهم
بجدارة.
ولعل السبب في البدء بذكر
أصحاب الجحيم هو أن الله سبحانه يريد أن يغفر لمن يمكن التغاضي عن معاصيه
فيجنبه برحمته الواسعة وكرمه المولويِ خزيَ النار. ولعله سبحانه ولهذا
السبب فرز الذين هم حقا أصحاب النار ليفعل شيئا ما بالنسبة للباقين
جميعا. ثم يفصل أهل الجنة من بين الباقين ليتوجهوا مسرورين مشكورين نحو
ما يستحقونه من مساكن طيبة في جنات عدن للاستمتاع والتنعم. ثم يبقى من
يبقى في ذمة الغفران والرحمة العامة. فلعل الكريم سبحانه ينقلهم خدما
لأصحاب الجنة ليعيشوا معهم في قصورهم الرحبة أو عمالا وحرفيين وفلاحين في
مصانع وحقول ومزارع أهل الجنة أو مسئولي الطهو والتنظيف والتزيين
والتقديم وغير ذلك من الخدمات الضرورية للصالحين المتنعمين في فردوس رب
العالمين.
ولعله يفرز المتبقين لينتقل
قسم منهم إلى أعراف السور المحيط بالنار والذي يفصل بينها وبين الجنة
والقسم الآخر يبعدهم قليلا عن النار المحرقة ليبقوا في تخوم منطقة جهنم
أقل إصابة بالحر كما أنه سبحانه يمكن أن يستخدمهم لخدمة المعذبين في
أغلال سقر من الملوك والرؤساء والوزراء والضباط وبعض العلماء وعمالهم
الذين جندوهم للقتل والسلب والنهب والتضليل والتعذيب وإيذاء المؤمنين
الطيبين الذين يحبهم الله جميعا. والله سبحانه أرحم الراحمين وأحكم
الحاكمين عز اسمه ووسع كل شيء رحمة وعلما.
ولعل من يعترض بأن في هذا
التقسيم ظلما على أهل الجنة الذين تحملوا شقاء الدنيا في سبيل الله وحده
حيث يشاركهم من دونهم في جناتهم التي يستحقونها بجدارة. وفي الواقع أن
هؤلاء وبالفرض الذي قلناه سيخدمون أهل الجنة وهم ليسوا بخبث أصحاب
الجحيم. ثم إن المؤمنين حينما يروا سعير النار قبل أن يخرجوا من جهنم
بإذن ربهم فإنهم سوف يرضوا بكل من ينجيه الله من العذاب المهين والموجع.
إن قلوب المؤمنين رحيمة طيبة فهم غير متشابهين مع المجرمين ذوي القلوب
النجسة والضمائر الفاسدة الظالمة.
وَ
أمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَ بِّهِ وَ نَهى النّفْسَ عَنِ الْهَوى
40
فَإنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأوى
41 كل الكون بمن
فيها وما فيها مقام لله تعالى، فهو يرى كل شيء ويحيط بكل شيء وقيوم على
كل شيء. ليس الخوف من الله أكثر من خشوع المؤمن أمام ربه العظيم الذي
يراه في كل حال ويسمع ويعلم ظاهره وباطنه. هذا الحضور الشديد أكبر مثار
للخوف من الله، فمالك الكون يرانا في كل حال خارج نطاق الزمان والمكان
ونحن لا نراه أبدا. فمن خاف من المقام الأسمى فهو كمن يشعر بوجوده سبحانه
معه، فهو يسعى بالطبع لإرضاء الذات القدسية جل وعلا. إنه لا محالة يحارب
هواه قائلا لنفسه: مه إن العظيم يراك ولعله لا يرضى فامتنعي عما تهمين
به. وهكذا فإن المؤمن في خوف دائم من الله وفي حالة تقرب دائم وصلاة
مستمرة إلى ذي الجلال والإكرام. فلا مأوى لمثله غير الجنة، جنة الرضوان
وجنة النعيم.
هكذا يجب أن نكون ونسعى لأن
نكون حتى تُسجل الجنة باسمنا وندخلها بجدارة، وإلا فالمواقف الأخرى غير
مرغوبة فيها حتى ولو نجانا الله من عذاب الخزي. إنه سبحانه يريد لعبيده
أن يرثوا الجنة بعد أن يستحقوا رحمة الرحيم. وهذا لا يتنافى مع الخوف من
ناره والطمع في جنته كما تراءى لبعض الفضلاء مستشهدين ببعض الأحاديث
الكاذبة. وأما ما ذكر عن الإمام علي في نهج البلاغة ونصه "إن قوما عبدوا
الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد
وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار؛ فهو كذب محض أيضا. كان علي
بنفسه يُغمى عليه خوفا من الله. كان الأنبياء يدعون الله رغبا ورهبا بنص
القرآن في سورة الأنبياء. ودعاء الله هو عبادته. ثم هل هناك أحرار أمام
الله؟ كل من يعبد فهو عبد وليس حرا والمؤمنون يفتخرون بأن يكونوا عبيدا
لله لا أحرارا. سوف أشرح ذلك بتفصيل في سورة الأنبياء بمشيئة الله تعالى.
والخلاصة أن مسألة الجنة
والنار في يوم القيامة، مسألة محسومة في نظام الكون ولكن الله يتدخل
لمساعدة الناس وإرضاء المظلومين منهم والعلم عند الله. وما أجمل قضاء
الله وحكمه ولو علينا فهو الحق المبين سبحانه وتعالى رب العالمين ومالك
يوم الدين جل جلاله.
وأما السبب في ذلك فهو أن
الله تعالى كريم يحب أن يُكرم عبيده وقد خلق الدنيا بصورة مؤقتة لفرز
المحسن من المسيء تبعا لعدالته التي لا ينفك عنها. إنه تشريعا يريد أن
يطهرنا جميعا لندخل جنات النعيم. فلكل إنسان مكان في الجنة بصورة طبيعية
تبعا لمكرمة رب العالمين جل وعلا. وفي المقابل فإن كل إنسان يجب أن يخشى
الله بصورة طبيعية كما تخشاه الملائكة و المجرات والنجوم والكواكب برمتها
والشجر و الحجر والجبال والمياه والنيران وكل شيء في الوجود الممكن.
والخشية من الله طبيعية تبعا للضعف في الخلق مقابل القوة في الخالق. فإذا
تمرد إنسان على ربه فلم يدع للخوف الطبيعي أن يستقر في قلبه بل طرده
بالإثم والعدوان فطغى على طبيعته وفطرته فهو غير مؤهل لنيل الرحمة
الخاصة.
والخوف الطبيعي يتجلى في كل
ما نراه وما لا نراه. فنحن نرى بأن الماء تجري إذا وجهناه إلى أسفل
لتنجذب نحو الأرض التي تميزت بمقدار كبير من الطاقة والنور الإلهي فلا
نور ولا طاقة لغير الله. وهكذا فإن كل شيء حتى الصخور الصلبة تنجذب نحو
الطاقة المتعالية. وأما ما لا نراه فنحن نشعر بوجود الملائكة التي تحفظنا
يوميا من كثير من موجبات الموت اليومي ولا نراهم يطغون علينا أو على
أرضنا مع قوتهم الكبيرة لأنهم يخشون القوة القاهرة التي تفوقهم وتحيط
بهم. لا نرى لهم أي ظهور طغياني ولم نسمع بذلك أبدا. ولا يمكن للخوف أن
يزول إلا بالطغيان والتمرد واستغلال الخلافة الإلهية المؤقتة التي وهبنا
الله إياها ليختبرنا فحسب. ففي هذه الدنيا ومع وجود الخلافة والإرادة
المؤقتة فإن القانون الطبيعي لا يأخذ مجراه تماما بالنسبة للإنسان
باعتباره خليفة لله لا يمكن مسه بدون إذن خاص من ربه. ولكن الآخرة التي
تتميز بتجلي الحقائق وغياب الخلافة الإلهية والإرادة عند غير الله مطلقا،
فإن التفاعلات الطبيعية تأخذ مجراها دون منازع. والذي خبث وطغى في الأرض
فسيُحشر خبيثا وسوف يكون مأواه الطبيعي النار.
كل الناس سيكونون موجودين في
المنطقة التي تقام النار في وسطها فالطيبون يملكون الطاقة الكافية التي
كسبتها أنفسهم في الدنيا لتخولهم الخروج من جهنم والتوجه نحو جنات النعيم
ولكن الفاسقين لا يملكون الطاقة الطبيعية للتحرك خارج جهنم فيبقون
بطبيعتهم في مكانهم. وهكذا فإن من خاف مقام ربه ونهى النفس عن التمايل عن
طريق الصواب فإنه يميل طبيعيا إلى الجنة لتكون مأواه الأخير ومن طغى ولم
يقاوم نفسه الراغبة في زخارف الدنيا فهو يميل طبيعيا وبدافع الضعف ونقصان
الطاقة للجوء إلى الجحيم.
يَسْألُوْنَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها
42
فِيْمَ أنْتَ مِنْ ذِكْراها
43
إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها
44
إنّما أنْتَ مُنْذَرُ مَنْ يَخْشاها
45
كَأنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا
إلاّ عَشِيَّةً أوْ ضُحاها
46 الخطاب
للمصطفى ولكن من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فالآيات واردة في جواب
الكفار الذين يسألون رسولهم أسئلة تعجيزية مثل متى يوم القيامة؟ ولعل
إلقاء لفظة الساعة على يوم القيامة والتي كثر ذكرها في التنزيل الحكيم هي
من باب أن الحياة بعدها تبدأ من جديد فيودع الناس والجن والملائكة في تلك
اللحظة كل ما مضى من الأيام بما فيها من مشاكل وهموم ومظالم لا مفر منها
وتساؤلات وأوهام وتخيلات لبعضهم. سوف تنتهي كل الأدوار من بعد تلك
الساعة. إنها تمثل ساعة الصفر وتبدأ من بعدها الساعة الجديدة لحياة قسط
عادلة يقضي فيها الملك الديان ما يشاء لوضع كل شيء في مكانه الصحيح
وتكميل ما يمكن تكميله من النواقص بفضله وكرمه، فلا يشعر أحد بالغبن أو
الظلم أو الغرر أو الجهل. فاليوم يوم الفصل بين الظالم والمظلوم والساعة
ساعة العدل والقسط التي يريدها الجبار المتكبر والبارئ المصور سبحانه.
يسأل الكافرون الذين ينكرون
البعث والنشور نبيهم عن موعد ساعة الحق والعدل. متى ترسى دعائمها وتثبت
أركانها؟ هذا السؤال في الواقع استفهام إنكاري بغرض نفي الحساب الأخروي.
إنهم يقولون بأنهم يقطفون نتاج جهدهم في حياتهم الفعلية ويستمتعون به ثم
يموتون إلى الأبد. هكذا يُقنع الكافر نفسه بمباركة من الشيطان الرجيم. إن
اللعين المرجوم يوسوس لهم بأن الذين مضوا قبل آلاف السنين قد سمعوا نفس
التحذيرات من أنبيائهم وقد ماتوا وتلاشت أجسادهم ولم تظهر بوادر يوم
القيامة. ثم إن بعض من مضوا عينوا وقتا تقريبيا ليوم القيامة وقد عافت
دواليب الدنيا ذلك اليوم أو الفترة المحددة دون تغيير في سنة الدهر.
ولنحدد بعض من قال ذلك فإن
مدعي النبوة بولص قد كتب ذلك في رسالته الأولى إلى تسالونيكي، إصحاح 4
جملة 17 (1
Thessalonians 4:17)
من الكتاب المقدس ما ترجمته من الإنجليزية: "
وبعد ذلك فنحن الذين بقينا أحياء سوف نُلحق بهم في الغمام لنقابل الله في
الهواء ولذلك فسنكون دائما مع المولى" وكما نعلم فإن نبوءة بولص
لم تفلح حيث أنه مات قبل ألفي عام دون أن يصعد إلى السماء ليُبعث مع
رفاقه دون أن يموت فيبقى مع الله إلى الأبد!. وكان المسيحيون فيما بعد
يعينون وقت القيامة في نهاية الألفية المسيحية الأولى كما سمعت من بعضهم
فلم تصدق نبوءتهم أيضا. وكان شهداء اليهوه وهم من أكثر المسيحيين تدينا
وتعصبا يقولون عدة سنوات قبل الألفية الثالثة أن القيامة سوف تقام في
بدايتها.
لقد حضرت إحدى صلواتهم
الدينية في يوم الأحد في منطقة سربيتون بلندن وهم يسمون معبدهم بقاعة
الملك لأنهم لا يؤمنون بالكنائس ويعتبرونها دورا مزخرفة لا يليق بشأن
الله تعالى. قال الخطيب إن موعد اللقاء بالله قد اقترب وقد بدت تباشيره
فالأرض أضحت مشلولة والحياة سوف تصبح غير قابلة بعد عدة سنوات كما يبدو
لي. القيامة قائمة والحشر قريب والوقت قليل للعودة إلى الله. كان يدعو
أتباع اليهوه بتضعيف الجهد لإرشاد من يمكن إرشاده خلال السنوات القليلة
القادمة لعلهم ينجوا من غضب الله. كان ذلك عام 1994 ميلادية. وقد أقبلت
الألفية الثالثة ولم تصح نبوءتهم أيضا.
والله تعالى يعلم ما
يقصدونه من السؤال إذ أن كتب اليهود والنصارى القديمة تجاري الأديان غير
السماوية وتعين الوقت التقريبي لقيام الساعة؛ فيقول سبحانه بأن وقت
الساعة غير واضح لأحد غيري وأنا لا أجليها لأحد أبدا. هذا الكلام مكرر
كثيرا في الكتاب المجيد. يؤكد سبحانه أن الأنبياء لا يعلمون وقتها وليس
من شأنهم ذلك فهو من شؤون الربوبية. كل الأنبياء معرضون للاختبار مثل
بقية الناس وسوف يُحاسبون معهم أمام الله دون أن يكون لأي منهم أي شأن في
المحكمة الكبرى. ذلك لأنهم ينتظرون جزاء أعمالهم كما ينتظره غيرهم فلا
معنى لتسليم ورقة الأجوبة لمن أدى الاختبار بل تسلم للمعلم الذي يمكنه
تعيين درجات التلميذ المعرض للامتحان دون أي من التلاميذ أنفسهم. إنما
يؤكد سبحانه وتعالى للناس بأن البعث هو وعد الله ولن يُخلف الله وعده
مهما طال الزمن.
إن كل الذين عاصروا الوحي
والنبوة يعلمون بعض الحقائق وبدقة أكثر من الذين غابوا وابتعدوا زمانيا،
فأسئلتهم ليست اعتباطية. إنها تحتوي على بعض الإشكاليات العلمية.
والإشكال الذي يورده هذه الزمرة من المعارضين للبعث والجزاء أن الحياة
دولاب تدور وتعود إلى بدئها ثم تنتهي وتعود إلى بدايتها. ونحن بدورنا
نحيا ونعيش ثم نموت ثم يحيا غيرنا على رفاتنا ويعيش ويموت مثلنا وهلم جرا
فلا مجال للبعث ولا تغيير لسنة الحياة. إنهم يعلمون بأن البعث الذي يتحدث
عنه أنبياؤهم غير ممكن في هذا العالم الذي لا يمكن ألا ينتهي. إن كل أمة
تنتهي أمدها فإنها تخلف أمة أخرى تأخذ مكانها ولا تموت قرية إلا وتلحقها
قرية جديدة بالظهور ولا مجال لتغيير هذه النشأة إلى نشأة أخرى. على هذا
الأساس فإنهم يسألون عن دعائم الساعة ومستلزماتها بقولهم: أيان مرساها؟
هذا يعني متى يمكن أن يتوقف دولاب الطبيعة عن التحرك لتبدأ ساعة جديدة من
الوجود؟ على أننا سمعنا كثيرا ممن سبقكم دون أن نشاهد توقف الطبيعة
الفعلية عن استمرار المضي.
فيوضح سبحانه بأن ليس للنبي
أن يفكر في ذلك بقوله المجيد: فيم أنت من ذكراها؟ وتعني ما الذي يعنيك من
شأن الساعة؟ وهو استفهام إنكاري أيضا لدرء العلم النبوي عن فهم ساعة
الصفر الأخيرة للكون الفعلي وساعة الصفر الأولى للنشأة الثانية. فالساعة
الأخيرة تدق حينما يريد الله لها أن تدق والنبي مسؤول عن إنذار الناس بما
أبلغه الله به من وعده سبحانه بتوقيف الدولاب الكوني من التحرك في ساعة
يحددها الكريم جل وعلا فحسب. ذلك لمن أراد أن يخشى الله ويخشى عدالته.
ولنعرف معنى الآية الأخيرة
علينا بأن نتصور ليلة ساهرة مليئة بالنعماء يعقبها صباح دموي مضن فسوف
تظهر الليلة الجميلة في نظر الذي يرى أجساد أحبابه أمام عينيه في الصباح
وكأنها لحظة أبقت لنفسها صورة وجودية قصيرة في مكنون الخيال لتعقبها صباح
قاس طويل جدا لا يمكن لمن لا يراه أن يصور طوله أو يقارن بينه وبين ما
سبقته من بهجة وترف قصير في العين مع غلبة طول الليلة الهنيئة. وهكذا
يمكننا تصور لحظة الموت لكبار المترفين الذين أمضوا عقودا طويلة في
النعيم الدنيوي فإن ساعة الموت القصيرة فعلا ستطول في عيونهم لشدة وقعها
على نفوسهم حتى يظنوا سريعا بأن ليالي الهناء مرت بسرعة فمجموعها لا تزيد
عن بضعة أيام. أما ساعة التحول العظيم حيث تتوقف الطبيعة الفعلية امتثالا
لأمر الله تعالى في لحظة عصيبة جدا لتغير الوجهة بعدها إلى الجهة
المعاكسة فسوف تكون أطول بكثير من حقيقتها في خيال المجرمين ليصغر معها
سنوات المرح الدنيوية فيراها الماجنون منهم عشية واحدة كما يراها
المفكرون منهم نهارا واحدا هي كل الحياة الدنيا. سوف نرى الحركة السريعة
للمنطقة التي نحن فيها من الكون والتي تسير نحو ما نسميه بالشمال تتوقف
للحظة قصيرة جدا لتغير الوجهة بعدها. سوف نشرح بعض ما يحصل في تلك اللحظة
في السورة التالية عبس بإذن الله تعالى.
الخلاصة: كما رأينا فإن سورة
النازعات تحدثت عن أولى بدايات النشأة الكونية الفعلية وانتهت بساعة
نهايتها وهي ساعة بداية النقلة التالية إلى النشأة الثانية بإذن الله
تعالى وقد اهتمت السورة بدور الماء في تكوين اللبنات الأولى من بنيان
الصرح الكوني المهيب. وقد ذكر الله تعالى كلمات عديدة تدل على الماء أو
ما ترتبط بالماء مثل: غرقا، السابحات، سبحا، الساهرة ومعناها العين دائمة
الجريان، ماءها، الطامة، طغى، مرساها، كما تضمنت غرق فرعون وقومه بالماء.
تم تفسير سورة النازعات
برحمة الكريم الرحيم لننتقل بعدها إلى سورة عبس بإذنه سبحانه