تفسير سورة التكوير

 

بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ    ِإذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ 1 وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ 2  تتحدث هذه السورة المباركة عن بعض المسائل الكونية التي يجهلها الشيطان لإثبات أن القرآن لا يمكن أن يكون من وحي اللعين إبليس. لقد سمع العرب الكثير من المسائل المستقبلية التي نقلتها لهم الكهنة بوحي من الشيطان، حينما كان الشيطان قادرا على أن يقعد مقاعد للسمع في حيز الملائكة داخل نظامنا الشمسي فيطلع على بعض ما سيستقبل الناس. وكانت الملائكة تتعرف على بعض المسائل المستقبلية فترة قبل حدوثها ليستعد لمواجهتها بتقدير من العزيز العليم. كل ذلك قبل أن تنتهي المذنبات من رسم حزام دفاعي كامل حول مركز النظام الشمسي قبيل ظهور الإسلام ومبعث نبينا عليه السلام. وبما أن الشيطان غير قادر على التسمية فهو بالنتيجة عاجز عن التنبؤ بالمسائل الكونية التي ستحصل بعد ملايين السنين. هذه المسائل غير واضحة للملائكة أيضا فهم ليسوا بحاجة إلى فهمها قبل أن يقترب موعدها ليتهيئوا لمواجهتها ويؤدوا دورهم فيها. وسوف نعرف سر التسمية حينما يصل بنا قطار التفسير إلى سورة البقرة بإذن الله تعالى.

 

وأنا لا أدري كيف واجه النبي العربي أصحابه لبيان أسرار هذه الآيات الكونية التي تفوق تصور العقل البشري قبل أربعة عشر قرنا؟ كلما أعرف أن الصحابة لم يتعرفوا بدقة على معاني هذه الآيات ولم ينقل أحد عنهم شيئا يدل على ذلك فيما عدا ما ورد على لسان الصحابي الجليل علي بن أبي طالب من حقائق في بعض خطبه تدل على فهم دقيق لبعض الآيات الكونية. ولم تسلم هذه الخطب والرسائل العلوية من التدخل الأحمق والفاسد من قبل الناقلين غفر الله لهم ولنا. كما لم يرو أحد من أتباع الشياطين مثل الماسونيين أي شيء عن هذه المسائل قبل ظهورها على لسان الفيزيائيين بصورة غير دقيقة أيضا. فالشيطان يجهل هذه الحقائق تماما ولا يمكن أن يكون مصدرا للقرآن العظيم الذي أعجز كل من في هذا الكوكب عن الإتيان بمثله أو عن فهم معانيه وعلومه قبل ظهورها علميا.

 

فالشمس كرة غازية ضخمة مليئة بالهيدروجين (حوالي ثلاثة أرباع اللب). لقد تحول حوالي ربع المخزون إلى غاز الشمس خلال الفترة المنصرمة من عمرها وسوف يتحول الباقي خلال حوالي خمسة بلايين سنة إلى الهليوم (غاز الشمس) ثم تتوقف الشمس عن التفاعل النووي أو الهيدروجيني تماما وبه تنتهي عملية خلق الطاقة والإضاءة.  بعد ذلك يبدأ لب الشمس بالانهيار والخسف. سرعان بعده سوف تتحول طاقة الجاذبية المنبثقة من الانهيار إلى الطاقة الحرارية. وفي الواقع سوف تكون الحرارة الجديدة أكثر من الحرارة المصنوعة من التفاعل النووي السابق والتي كانت في حدود ثلاثة عشر مليون درجة مئوية.

 

هذه الحرارة الشديدة جدا سوف تسبب تورم الغلاف الخارجي للشمس وانتفاخها وبلعها للكواكب التي تتوسع إليها مثل عطارد ثم زهرة يليها الأرض ولعل المريخ في المرحلة الأخيرة. مع بلع عطارد سوف يبرد الغلاف الخارجي قليلا وتبدأ عملية تفاعل نووي جديدة في لب الشمس. كما أن كوكبي زهرة والأرض سوف تحترقان أو بالأحرى تشتويان. التفاعل النووي الجديد سوف يفوق ما سبقه من التطور الحراري التي ستصل إلى حوالي خمسة وثمانين مليون درجة مئوية، كما أن الضياء سوف تزداد مئات المرات حوالي خمسمائة مرة. هذه الدرجة الحرارية  المرتفعة سوف تبدل ذرات الهليوم إلى ذرات كاربون وأكسيجين.

 

لكن اللب المليء بالهليوم غير قادر على التخلص من الحرارة بسرعة بل سوف تستمر الحرارة في التزايد حتى تتفجر اللب مسببة توسع الغلاف لتبلع الزهرة والأرض خلال حوالي ثلاثين مليون سنة. ولعل التوسع والانكماش تتكرر عدة مرات حتى تتخلص الشمس من الغلاف الخارجي التي سوف تترك الأم متناثرة في الفضاء ومصحوبة بنصف المواد الشمسية. سوف تحترق كل الغاز الشمسي في اللب ثم تنكمش إلى أدنى حد ممكن لتصير بمقدار الكرة الأرضية أو أقل مع أقصى انكماش ممكن للذرات التي تكون قد توقفت تماما عن التحرك وانهارت كاملة. والآن لا تملك الشمس غازا لتحترق وتحافظ على توازنها ولكنها سوف تومض كثيرا إثر تشعشع طاقة الانكماش التي سوف تنتهي قريبا لتتحول القزم الشمسي الأبيض المشع إلى قزم أسود غير مشع بعد أن تمر بمرحلتي النور الأصفر ثم الأحمر. سوف يكون وزن كل ملعقة منها عدة أطنان.

 

وهكذا سوف تموت الشمس وتتكور حول نفسها دون أية خلايا وفرج وتتوقف كل الالكترونات عن الدوران. إذا تم ذلك فإن بقية النجوم المحيطة بالشمس التي كانت تبادل الجاذبية مع الشمس سوف تتوسع في السرعة إثر انقباض جانب من جوانبها التي كانت تجذبها وتحافظ على توازنها وهكذا سوف تنكدر أي تسرع في الابتعاد عن مدار الشمس. هذا ما ستُحصل لمركز النظام الشمسي وهو الشمس وما يقرب منها من كواكب حتى تصل إلى بلع الأرض.

 

وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ 3  وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ 4  وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ 5  أما بالنسبة للأرض فإن الجبال الأرضية التي تحمل الغلاف الترابي والمائي الخارجي للأرض سوف تنتهي في سيرها إلى الطرف الآخر من المحيط الهادي. أي أن القارة الأمريكية سوف تلتصق بأستراليا والفلبين واليابان منهية بذلك المحيط الهادي وموسعة الأطلسي ليتوسع إلى عرضه وعرض الهادي مع بعض. هناك تتنشط العواصف من جديد كما كانت عليها قبل انفصال أمريكا عن الطرف الآخر من الأرض وتكون المحيط الأطلسي الجديد. سوف تتعطل النوق العشار وهي النوق التي مرت على حملها عشرة أشهر وتعتبر من أفضل وأغلى النوق لدى العرب. ذلك لعدم وجود بشر يتنافسون عليها وعدم وجود وحوش تتنعم على أكلها. إن الوحوش سوف تنقرض فترة طويلة قبل الجمال كما أن الجمال قد أتوا إلى الوجود فترة قبل الوحوش. إنها أقدر على البقاء من بقية الحيوانات كما يبدو. أما الوحوش فقد بدأت بالانقراض فعلا. وأحتمل أن الوحوش كانت ضرورية قبل خلق الإنسان حتى لا تفنى النبات تحت أضراس الأنعام التي كانت تتكاثر بصورة متزايدة. ويمكنكم معرفة المزيد من هذا الحدث بقراءة "مرج البحرين يلتقيان" في موقعي الفكري هذا ضمن كتاب المفاهيم الصحيحة. ثم تكون هناك حوادث كونية كبيرة لم تتعرض لها هذه السورة كما سنعرفه في نهاية التفسير بإذن الله تعالى.

 

وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ 6  وبعد انتهاء النظام الشمسي ثم انتهاء الكون برمته وتدميره وإعادة صياغته من جديد بإذن الله تعالى فستكون هناك انفجار كوني آخر كما كان في النشأة التي نحن فيها. والانفجار الجديد ستكون في البحر أو البحار المهيبة الجديدة أيضا. بحر يبلغ عرضه بلايين البلايين البلايين من الكيلومترات، فستتشكل فوقه الأعاصير غير المعهودة بالطبع. لعل سرعة الأعاصير تفوق ملايين الكيلومترات في الساعة. هذه الأعاصير المحرقة سوف تعصف بالبحار المهيبة وتشكل فوقها من كل الجوانب غلافا ضاغطا لتمنع انتشارها بالغليان فتسعرها وتسجرها ليتفجر معها كتلة بقايا النجوم المحروقة. سوف تبدأ مع انفجارها نشأة جديدة تبشر بحياة أبدية حادثة.

 

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ 7  هناك بعد هذا الانفجار العظيم مراحل كثيرة أخرى لم تذكر في هذه السورة مثل تشكل المجرات والنجوم الجديدة وظهور الأراضي القابلة للبقاء الأبدي. يتلو ذلك إعادة النفوس البشرية والجنية إلى الأرض الجديدة ثم إنماء الأجسام النباتية حول كل نفس لتخرج من الأرض وقد تخلصت من فرديتها وازدوجت ببدن مستعد للنعمة الفياضة أو العذاب المهين أعاذنا الله من خزيها وألمها. ومن الجدير بالذكر أن نعلم بأننا حينما نموت موتتنا الدنيوية فإننا سوف نترك كل المظاهر المادية تحت رحمة هذه الأرض التي نحن فيها اليوم فننتقل إلى الله نفوسا مفردة غير مشفوعة بأية إضافات. فنحن لسنا ذكورا ولا إناثا، ثم لا سودا ولا بيضا، ثم لا نأكل ولا نشرب ولا ننام ولا نتكاثر. سوف نفقد كل مظاهر الحياة الفعلية.

 

وحينما نعود إلى أبداننا الجديدة فسوف نكون جنسا آخر غير ما كنا عليه بإذن الله. وعلى أقوى الاحتمالات فإن الجن والإنس والذكور والإناث سوف يتحدون في البدن والجنس دون تمييز. ذلك ليخلع الله تعالى قسطه وعدالته كاملة غير منقوصة عليهم سواسية دون تفريق. فلا داعي للإخوة الذكور أن يمنوا أنفسهم بنفس القسط من الحظ الدنيوي ولا داعي للإناث أن يخافوا من قسوة الطبيعة عليهم فالأمر مختلف تماما. سوف أوضح ذلك مستقبلا بمشيئة الرحمن.

 

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ 8  بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ 9  إن أكبر إثم وظلم أتى به الإنسان على مر العصور هو التعرض للأطفال الأبرياء من كل ذنب وتقصير. الأطفال هم مظاهر البراءة والشفافية والخلوص التام. لا يمكن خلع أية نية فاسدة عليهم ما داموا أطفالا. إن كل نفس ترضى بإيراد الظلم والقسوة على هؤلاء فإنهم وحوش بشرية ونفوس مجرمة بالغة القسوة وقد تلبست رداء الإنسانية الجميل دون وجه حق. ليس هناك مجال للدفاع عمن أتى بظلم ضد هذه الطبقة الناعمة والطيبة من البشر. وبما أن الدنيا هي مكان للاختبار فلا داعي لمزيد من الاختبار لمن يظلم طفلا كما أنه لا داعي لمحاكمته. إنهم مجرمون لا يستحقون أي مهلة للدفاع فدفاعهم تهاتر وتوسل بالكذب وقول الزور ولا مجال لذلك في الحياة الحقيقية الأبدية في الدار الآخرة.

 

ثم إنهم لا يستحقون المحاكمة ولا الدفاع ولا الاستجواب. سوف يوجه السؤال للمظلوم دون الظالم إذ لا مجال للدفاع أبدا. كلما ادعاه المظلوم مشفوعا بشهادة الملائكة بالطبع كافٍ لإنزال أشد العقاب بمن ظلم الأطفال فلا داعي لنشر الصحف ولا مجال للبحث عن بقية أعمال المتهم. إنه مجرم حقا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون. هذا أول فرز يتم في صفوف الخلق بعد أن تُربَط النفوس بالأبدان. والعلم عند العليم القدير وحده. والموؤودة تعني المدفونة حية كما كان متداولا في العصر الجاهلي مع الأسف وكما هو الحال بيننا اليوم فإن بعض الحكومات المجرمة تقتل الأطفال أو تدفنهم حيا، معاذ الله من هؤلاء المجرمين لعنهم الله. وفي ذكر الطفل الأنثى بالذات إمعان رباني جميل لما سنعرفه من سر هذه السورة المباركة في نهاية التفسير.

 

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ  10  يتلو ذلك الفرز الخطير مرحلة نشر الصحف بين الذين لم يثبت ضدهم جريمة قتل الأطفال. سوف تُنشر الصحف على الأفراد. إن الناس بفرديتهم وقبل ذلك اليوم كانوا مبلَغين بأعمالهم يوم انهيار النظام الشمسي كما سوف نشرحه في سورة الزلزلة بمشيئة الله. أما في يوم الفزع الأكبر فسوف يكون التعامل بصورة جماعية. هي يوم الفضيحة الكبرى إضافة إلى ما يشوبه من خوف وفزع تنتهي بالصعقة لمن لا يتمتع بصبغة الله الواقية من كل سوء بعد الموت.  ثم تُنشر الصحف بعد أن يخرج الناس من الأرض الجديدة مشفوعة بكل الحيثيات والكيفيات لإظهار الدعاوي أمام المحكمة الكبرى. هناك مجال للدفاع الشخصي كما سنعرفه مستقبلا قبل أن تقوم الملائكة بتبويب وتصفيف الناس كل حسب مكاسبه النفسية على شكل جماعات. إن الحكم الرباني وهو الحكم النهائي كما يبدو سيكون ضد المجموعات المتجانسة وليس الأفراد. سنعرف ذلك مستقبلا بمشيئة الله.

 

وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ 11  وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ 12  وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ 13  عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ 14  سوف نشرح في سورة المدثر ماهية الطقس في الحياة الأبدية وكيف تتم محاربة الإشعاعات الشمسية فوق البنفسجية. سينتهي دور الأوزون ويبدأ فصل جديد وجميل للحياة في الأرض المقبلة، كما سنعرف إنشاء الله. لذلك سوف لا يكون هناك حاجة للغلاف الغازي حول الأرض بتاتا. إنها غير ملائمة لوضع الحياة الجديدة. إن النار الكبرى سوف تُسعر في وسط الكرة كما يبدو وسوف ترتفع اللهب ارتفاعا مهيبا لا يمكن للغازات الأوزونية تحملها. وبما أن غاز الأوزون هو تحول طبيعي بين الإشعاعات الشمسية والأوكسجين العادي حيث تتكون الأوكسجين الثقيل المعروف بالأوزون، فإنها سوف تتشكل طبيعيا بعد تكون الأرض الجديدة احتمالا. ولكن الله سوف يُزيلها بأمره وهو يعرف كيفية ذلك سبحانه وتعالى. وكلمة كُشطت تعني نُزعت الغطاء وأُزيلت. هي في الواقع غطاء لحماية الأرض من الأشعة فوق البنفسجية ولكنها لا تناسب النار الكُبرى المرتفعة.

 

فإذا أزيلت الأوزون فإن النار سوف تُقدح تمهيدا لرفع درجة الحرارة في منطقة جهنم. ويتم ذلك بحضور كل الناس بمن فيهم الأنبياء والصالحون. لعل المراد هو أن يروا مصير الذين ظلموا في الدنيا ليتحسسوا قيمة النعيم الفردوسي الخالد. سوف تبلط الشوارع والطرق المؤدية إلى جنات الفردوس تمهيدا لنقل المؤمنين إليها. وبعد تعبيد الطرق وإزالة المرتفعات وتسوية المنخفضات الطبيعية فإن الطريق إلى الجنة سوف تقصر وسوف يشعر المسافر الفردوسي بازدلاف جنات النعيم. حينئذ يكون الناس بأفرادهم قد عرفوا ماهية نفوسهم ووقفوا على موقعهم الطبيعي في الحياة الأبدية. وقريبا ما يُصدر الله حكمه وتتبين استحقاق كل فرد ما يناسبه من المغفرة والرضوان أو العذاب والخذلان.

 

فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ 15  الْجَوَارِ الْكُنَّسِ  16  وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ  17 وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ 18  شرحنا في بداية السورة مآل الشمس وموتها. كما ستموت النجوم واحدة تلو الأخرى وسيكون الموت النهائي بأن تتورم الشمس كثيرا ثم تنكمش ولعلها تكرر العملية حتى تفقد كل المحروقات المخزونة في داخلها فتنكمش على نفسها إلى أقصى حد ممكن من الانكماش الطبيعي. سوف تتوقف كل الإلكترونات وتتحول الشمس إلى كرة غنية بالكربون وتتوقف كل التشعشعات الشمسية وتبرد في النتيجة. هكذا تدخل الشمس في خبائها وتتحول إلى كرة صغيرة بحجم الأرض وتفقد كل الطاقات حتى طاقة الجاذبية وتسير مع زميلاتها من النجوم الميتة في الفضاء بانتظار حكم الله سبحانه. فمجموعة هذه الشموس الميتة وهي حوالي سبعة أو ثمانية نجوم متقاربة في المجموعة النجومية التي نشأت مع بعض من تجمع غازي واحد قبل حوالي خمسة بلايين سنة، تشابه الظباء التي التجأت إلى خبائها وهي خانسة مظلمة لا نور فيها.

 

ومن الواضح أننا لا يمكننا رؤية النجوم الميتة التي لا تضيء نورا فهي جوار كنس. والجوار جمع الجارية بمعنى الشمس. والكنس جمع الكانس بمعنى الظباء الداخلة في منازلها. والخنس جمع الخانس وهو المستور الخفي. فالشمس في مغيبه غائبة وفي مغيبه الأبدي خانسة. وهي في تكورها حول نفسها كانسة. هذه النجوم في خنسها وكنسها تستحق أن يحلف بها الله لما لها من وزن وكثافة ثقيلة جدا. فكل ملعقة منها تزن الأطنان. وأما الليالي وهي الحالات التي عاش البشر معها نصف عمرهم في الحياة الدنيا فهي ماضية إلى الأبد. لا ليل في الحياة  الأبدية ولا نوم فيها كما سنعرف قريبا. والصبح هو حالة الأرض الأبدية. وسوف نشرحه في سورة الإنسان بإذن الله تعالى. وأما تنفس الصبح يعني ظهوره وتجليه وأي تجل أكبر من أن يبقى الصبح خالدا لا يسوده الظلام ولا تتخلله ضياء الشمس؟

 

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ  19  ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ 20  مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ  21 وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ 22  جواب القسم الكبير: إن القرآن هو مقولة رسول إلهي كريم استحق أن يكرمه ربه بشرف الرسالة السماوية العظمى. إنه يتسلم القرآن بقلبه ثم يتلوه على أصحابه بلسانه فيخرج النطق بالقرآن من شفتيه الكريمتين في أول ظهور له بين البشر. فيا له من نطق كريم يتمناه كل مؤمن ومؤمنة. ولقد ظن المفسرون بأن الرسول هنا هو الروح القدس ونسوا بأن الروح القدس روح ملائكي غير متلبس بالبدن ولا ينطق باللسان. إنه كان يُنزل القرآن على قلب النبي ولم يقل الله أبدا أنه تمثل بشرا أمام رسول الله كما فعله ذات مرة مع العذراء مريم. ولعلهم قالوا ذلك ليُزيلوا بعض الشكوك التي اعترتهم حين تفسيرهم لسورة النجم وسوف أفسرها بإذن الله تعالى بكل وضوح ولا حاجة للتشبث بالروح القدس صلوات الله عليه.

 

وما أرسل الله من رسول إلا ليُطاع بإذنه سبحانه فمحمد رسول أتى ليطيعه الناس. وقد مكن الله سبحانه لنبيه وقدر له أصحابا يفدون أنفسهم وأموالهم بين يديه. لقد بلغت الطاعة أوجها بالنسبة لرسول الله محمد الأمين الصادق الذي أدى رسالة السماء على أكمل وجه فبلغ وشرح وأنذر وبشر، عليه وآله الصلاة والسلام. الملوك يهبون وزراءهم المكنة وينعتونهم بالأمانة حتى يتمكنوا من أداء واجبهم بيسر وراحة بال، ألا ترى فرعون مصر يخاطب يوسف: "إنك اليوم لدينا مكين أمين". وهكذا الأنبياء فإنهم يحصلون على المكنة والأمانة من ربهم ليساعدهم على تنفيذ رسالتهم السماوية. قال تعالى في سورة الشعراء بلسان صالح وشعيب {إني لكم رسول أمين   فاتقوا الله وأطيعون}. فرسولنا المصطفى قوي، مكين، أمين ومطاع عند الله تعالى. ثَمّ يعني هنالك والمقصود به تأكيد الصفات المذكورة عند الله سبحانه. وذو العرش هو الله تعالى وقد نعت نفسه بصاحب العرش والملك تأكيدا للمقام ولأن التمكين والتقوية تأتي من الملك المتعالي لرسوله الأمين.

 

إن الرسول لا يُطاع من قبل المشركين والكافرين بالطبع. ولكن الله فرض طاعته على من يؤمن بالله، فهو في تشريع القدوس سبحانه وتعالى مطاع وأمين وقوي ومكين. ثم إن الله سبحانه يقدر لأنبيائه جندا من المؤمنين ليكونوا أنصارا وأعوانا وحواريين وصحابة للمرسلين، فلا يشعر رسله المكرمون بالضعف وقلة الأنصار أمام أعداء الله وأعدائهم. ولذلك فإن الكفار كانوا يستهزئون به وينعتونه بالجنون. إن في ذلك دليلا واضحا على أن قوة الرسول ومكنته تشريعية وليست تكوينية مفروضة على الناس شاءوا أم أبوا. لكن الله سبحانه يقدر بعض الانتصارات ويُظهر بعض المعجزات بين يدي رسله لتكون حجة قاطعة ضد خصومهم. إن ذلك يمنحهم المزيد من القوة والمكنة ويساعدهم على تشكيل المجتمع المؤمن المتماسك القوي القادر على صيانة الأنفس والأموال والأعراض إذا ما بقوا تحت راية دين الله وتركوا التحزب والتفرق.

 

والصاحب يعني الذي يسير معك في سفر أو حضر أو طفولة أو كهولة أو في مقهى أو في متجر أو على ظهر دابة أو في منتدى أو في معبد أو غير ذلك. فالصحابة في حد ذاتها ليست فضيلة أو مدعاة للطعن والمعرة. النبي صاحب للمشركين والمنافقين والمؤمنين مثلما أن المؤمنين والمشركين والمنافقين أصحاب للنبي.

 

وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ 23  وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ 24  وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم 25  فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ 26 لقد رأى الرسول القرآن رؤية قلبية مباشرة موحى من الله تعالى في أعلى أفق الفكر والبصيرة بكل وضوح وجلاء. الأفق المبين هو نفس الأفق الأعلى باعتبار شدة تجلي الأعلى. لقد رأى ذلك مرتين مذكورتين في سورة النجم وسوف أشرحها بتفصيل إنشاء الله. هذه الرؤية الملكوتية العظمى تساعد النبي المكرم على فهم كتاب الله وتعطيه الثقة بحقيقة نزول الكتاب المجيد من عند رب العالمين. فالقرآن ليس بخيلا أو ضنينا على ذكر المعارف الغيبية الخفية على البشر ولكن الرسول غير قادر على فهمها لو لم ترتبط نفسه الشريفة بالملكوت الأعلى لبعض الوقت حتى تستنير بالحقائق الغيبية. وأما في غياب الرسول فإن الله يُظهر خفايا الكتاب على لسان العلماء والمفكرين الذين يصرفون الوقت للتفكر في خلق السماوات والأرض.

 

إننا نحن اليوم نعلم بكل يقين أن القرآن يفوق إمكانات الشياطين العلمية والغيبية لما نرى فيه من حقائق عجزت عن فهمها البشرية أكثر من اثني عشر قرنا بعد رسول الله حتى وصل إلينا مع انفتاح البشر على آفاق العلم والكمال. لقد توصل الإنسان إلى حد التنبؤ بأصول الكواكب وتخمين ما سيحل بها مستقبلا. كان للشيطان الرجيم أنصار منذ تاريخ الكفر والشرك، لم ينقطعوا حتى يومنا هذا وقد عجزوا عن التنبؤ بالمغيبات الكونية حتى أبرزها العلم وجلاها الاكتشافات الكونية (Cosmology). فهذا الكتاب ليس من صنع ووحي الشيطان دون أدنى شك. ولو كان للشيطان يد في إنزاله فما فائدة أن يلعن الشيطان نفسه بأنه رجيم مطرود من رحمة الله؟ فلا سبيل لمن يعلم حقائق الكون إلا أن يعتقد بصحة نزول الكتاب المجيد من عند الله تعالى وبأن الله موجود وهو الذي خلق كل شيء وسيعود إليه كل شيء للحساب ولبسط العدالة. ذلك إن لم يفسد الشيطان قلب الإنسان ولم يخضع نفسه للأهواء والملذات التي لا تتناسب مع الحقائق العلمية.

 

فأين يذهب المفكرون بعد أن وقفوا على بعض أسرار الكون الغريبة عن كل الكتب وكل من سبقنا عدا القرآن العظيم؟ من كان يعرف نهاية الشمس ونهاية النجوم وتكويرها وسيرها في الظلام؟ من كان يعرف أن الانفجار هو بداية النمط الفعلي من المادة وقد ذكره القرآن في هذه السورة وصحح ما اعتقد به العلماء العصريون من حصول الانفجار في الكتلة بحقيقة حصول الانفجار المهيب في بحار عظيمة أدت إلى تناثر الكتلة من فوقها. هذا الانفجار أعقل من انفجار الكتلة الكبرى بحد ذاتها؟

 

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ 27  لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ 28  وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ 29  ليس القرآن إلا وسيلة للتفطن ولعودة الإنسان إلى فطرته ليرى الكثير من الحقائق التي أغفله عنها الشياطين من الإنس والجن لمصالحهم الفاسدة لعنهم الله جميعا. والعالمون هم كل من اطلع على هذا الكتاب من أهل الأرض. كلمة العالمين وهو جمع العالم تدل على الذين يُعلم بهم الموضوع. فالله تبارك وتعالى يُعلم بكل خلقه فالعالمون بعد ذكر الرب يعني رب كل الموجودات الذين يُعرَف الله بهم. وأما القرآن فهو بنفسه جزء من العالمين في رب العالمين ولكنه غير معروف لغير البشر والجن. فالجن والبشر هم الذين يعلمون اللغة المنطوقة فالقرآن ذكر لهم لا لغيرهم ممن لا يستعمل أو لا يعلم اللغة. أما الملائكة فإنها بالتأكيد لا تستعمل اللغة مثلنا ولعل القليل منهم يعلم بها. ولو كانوا يعلمون اللغة فإنهم بالتأكيد لا يُعرفون بها. ولذلك فإن القرآن ليس ذكرا للملائكة ولا لبقية الموجودات كالحيوانات غير البشرية. إنهم لا يُعرفون باللغة فلا نقول لأي نوع من الحيوان عربا أو فرسا، كما لا نقول للملك عربا أو فرسا. ولكن الشياطين يقترنون بالفاسقين بأمر الله فهم شياطين عرب وفرس وافرنج وصينيين. وهكذا بقية الجن الذين يجيد بعضهم اللغة العربية بنص القرآن فهم بالضرورة يجيدون اللغات الأخرى أيضا.

 

إن اللغة القرآنية هي التي تحدد مفهوم العالمين كما أن الخلق الذي يصدر من الله هي التي تحدد مفهوم العالمين في رب العالمين. ولذلك فإن الله تبارك وتعالى انتقل في الآية التالية إلى مخاطبة الإنس والجن بقوله لمن شاء منكم أن يستقيم. فالقرآن ذكر ينذر ويبشر من شاء من البشر أن يطلب الصراط المستقيم، بغض النظر عما يهدي إليه هذا الصراط. إن مما لا ريب فيه أن الصراط المستقيم ليس مسؤولا عن إشباع شهوات الجن والإنس بل هو صراط الحقيقة التي قد لا تتفق مع كثير من رغباتنا. فمن شاء منا أن يتبع الحقيقة ولو كانت غير مريحة له فليتبع القرآن، كتاب الحق الذي أنزله الحق المطلق سبحانه وتعالى. إن هذه السورة في القرآن بما فيها من حقائق علمية وأخبار مستقبلية لم يتفطن ولم يتكهن بها الشياطين وأنصارهم حتى أولها الله تعالى بالكشفيات العلمية المقارنة؛ لهي أكبر دليل على أن القرآن منزل من عند رب العالمين خالق الكون العظيم سبحانه وتعالى.

 

ولا يفوت الله سبحانه وتعالى أن يُذكرنا بأن اتباع القرآن هو ترجمة للهداية، والهداية لا تصدر من عند غير الله جل جلاله. ذلك لأنه هو الذي طور العالمين وتفرد في خلقهم وتطويرهم وإخراجهم في أحسن تقويم فهو الذي يعرف من يستحق الهداية منهم ليكرمهم بهداه سبحانه وتعالى. ولذلك فإن التناسل القومي بأن ينحدر الفرد من الأسر المسلمة ليس دليلا على حقيقة التبعية للقرآن. إننا نرى الكثير بل غالبية المسلمين يتشبثون بغير القرآن ويعملون بما يقوله الغير ولا يميلون إلى القرآن سوى للترنم بموسيقاه الجميل أو تذاكر الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله وخلفائه في العلم والملك لتأويل الكتاب المبين، معاذ الله من جهلهم وضلالهم. ومثل ذلك أيضا توافق وجود الإنسان في عهد رسول الله وكونه صحابيا؛ أو عضوا في بيت الرسالة، فهو ليس دليلا على اهتدائه فعلا بالقرآن الكريم. إن القرآن يلعن الكثير من الصحابة بأنهم منافقون أو ظالمون. وخطاب الآية الكريمة للصحابة بالدرجة الأولى وبأنهم لن يشاؤوا الهداية بالقرآن إلا أن يشاء الله. ولا يمكن أن يشاء الله مكرمة لشخص لم يستحق تلك المكرمة وإلا كان الله ظالما وهو سبحانه وتعالى غني عن الظلم.

 

والخلاصة فإن هذه السورة المباركة تتحدث عن أعظم وأقوى الموجودات الكونية وكيف يدمرها الله تعالى ويقضي عليها فهو الذي يدمر الشمس وبقية الشموس وهن أسرع الكواكب وأكثرها حرارة ويسير الجبال وهي أقوى التركيبات الكونية ويعطل العشار وهي أكبر الحيوانات الأليفة ويقرض أقوى الحيوانات وهي الوحوش ويزيل أهم التجمعات الغازية وهي الأوزون ويقضي على الليل والنهار وكل ما ألفناه. وهو مع تعامله مع أقوى المخلوقات فإنه لن ينس أضعف المظلومين من البشر وهم الأطفال الذين وقع عليهم أشرس أنواع القتل وهو الدفن حيا. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والعلم عند الله العظيم جل جلاله.

 

انتهى تفسير سورة التكوير بلطف الله تعالى ويتلوها سورة الانفطار بإذنه سبحانه.