بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّمَاء
وَالطَّارِقِ
﴿1﴾وَمَا
أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ
﴿2﴾
النَّجْمُ الثَّاقِبُ
﴿3﴾
عادة ما تأتي كلمة السماء إشارة إلى القبة السماوية المحيطة بالكون كله
ولكنها هنا ليست بذلك المعنى. إنها بمعنى الشمس ذلك لأن الله تعالى وفي
الآيتين 11 و12 يُشير إلى نفس السماء المذكور هنا في بداية السورة إذ
أنها في نفس النطاق. وكما قلنا سابقا، فإن السماء المقابل للأرض تعني
الشمس المقابل للأرض داخل النظام الشمسي. فالسماء أو الشمس كما نراها
الآن تجتاز المراحل المتوسطة من عمرها التي تفوق أربعة بلايين ونصف
البليون سنة وبعد فترة غير قصيرة سوف تتم تحول كل الهيدروجين إلى هليوم
ثم تبدأ الهليوم بالاحتراق وتتكون الكربون ومواد أخرى في مركز الشمس
فتنتقل التفجيرات إلى المناطق العلوية القريبة من وجه الشمس فسوف تنتفخ
الشمس وتتوسع لتصير أكبر من حجمها الفعلي حوالي عشرة ملايين مرة!
وبما أن شمسنا ليست من النجوم التي يمكن أن تتحول إلى
Super Nova
ثم إلى النجمة النيوترونية فإنها سوف تنهي عمرها بالتحول إلى
Red
Giant
وسوف تزداد معه لمعانها حوالي عشرة آلاف مرة من لمعانها الفعلي بسبب
كبر حجمها!. ويحتمل أن تبقى في هذه الحالة لمدة خمسمائة مليون سنة. إنها
سوف تتوسع بداية لتبلع بعض الكواكب القريبة منها ولعلها لا تبلع الأرض
ولكنها سوف تحرق ظاهر الأرض بالكامل. ولعل التوسع والانكماش تتكرر عدة
مرات. ولكنها في المرة الأخيرة سوف تتوسع لتبلغ مدار الأرض فتحرقها حرقا
كاملا. كانت الشمس أما حنونا للأرض تحتضنها وتقدم لها قدرا كافيا من
الطاقة بأنواعها مع النور ليسهل على الأرض تحركها نحو جعل نفسها مهادا
ملائما للحياة الكريمة. إنها بمساعدة الشمس تمكنت من استضافة المخلوقات
البشرية الضعيفة بدنيا وإعداد أجمل وأكمل التسهيلات لإسعادهم. كانت الشمس
سماء تظلل الأرض وتمدها بكل مقومات البقاء، ولكنها اليوم تحولت إلى عدو
تطرق الأرض بكل معاني الدمار والخراب. والشمس في كلتا الحالتين تنفذ أمر
الله سبحانه فيقسم بها الله جل جلاله سماء حاضنا كما يقسم بها كرة حارقة
مدمرة غاضبة.
وتعبير ما أدراك لما تحتويه هذه الحقيقة من أهمية علمية غير قابلة لإدراك
البشر الذي كان يعيش حين نزول القرآن. إننا نحن نعرف عنها اليوم بعض
الشيء بعد التحول والتطور الكبير والمطرد للعقل البشري ولعلوم البشر، من
فضل رب العالمين سبحانه وتعالى. فالشمس نجمة بالطبع وهي السماء ثم هي
الطارق والطارق هي حالتها وهي نجمة مضيئة جدا ومحرقة ومدمرة فهي نجمة
ثاقبة. هذا هو القسم وأما جواب القسم:
إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ
﴿4﴾
هناك ملائكة
تحفظ الشمس وتسايرها في تطوراتها كما أن هناك ملائكة تحفظ البشر وتساير
تطور البشر وموته وحياته من جديد. هذه الملائكة تحفظ أعمال البشر وتحفظ
أجسام البشر وسوف نشرحها بكل تفصيل في سورة فاطر بإذن الله تعالى. و
"لما" هنا تعني "إلا" لأنها داخلة على الجملة الاسمية المقدمة خبرها على
اسمها لتفيد العموم والشمول. إن كل إنسان بلا استثناء محكوم بسلطة
الملائكة المحافظين كما أن كل شيطان أو جني كذلك. ثم إن كل نجمة وكل شمس
في مجرتنا المهيبة وفي بقية مجرات الكون العظيم سوف تمر بنفس المراحل تحت
عين الملائكة الموكلين بها والعلم عند الله تعالى. ولمزيد من التأكد من
هذا التحول الغريب في ماهية وشكل النجوم فإن الله تعالى يعلم الإنسان أن
ينظر إلى نفسه كما يلي:
فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ
﴿5﴾
خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ
﴿6﴾
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ
﴿7﴾
لقد خلق الله كل إنسان من ماء دافق حامل للحيوانات المنوية وهذا القانون
يشمل كل البشر بمن فيهم آدم وحواء كما سنعرف مستقبلا بإذن الله تعالى.
والتدفق أو التقدم هو العامل المؤثر في انتخاب الحويمن الذي سيوعز الله
تعالى إليه خلق الإنسان داخل بويضة الأم. إن من الواضح علميا أن الذي
يفوز بخرق البويضة هو أقوى الغزاة من الحيوانات المنوية ليتقدم القوي
المتسابق بدخول البويضة وإقفال الأبواب على بقية الحوامن من الولوج. ولكن
المفسرين لم ينتبهوا بأن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو الإنسان
نفسه وليس الماء.
وقد صرفت أكثر من عشرة أيام أفكر في هذه الآية التي أجمع المفسرون على أن
الماء الدافق هو الذي يخرج من بين الصلب والترائب. وقد راجعت الكثير من
المراجع الطبية وسألت الكثير من الأطباء فلم أفلح لحل هذا اللغز. وقرأت
على بعض المفسرين الكرام محاولتهم أن يعيزوا الحويمن أو المني إلى ما بين
الصلب والترائب دون جدوى. كما حاول القدماء أن يفهموا معناها على أن ما
يخرج من الرجال هو من الصلب فيختلط بماء المرأة التي تخرج من الترائب وهي
عظمة الصدر. بالطبع أنه كلام مثير للضحك في يومنا هذا. وأخيرا وبعد
الالتجاء إلى مُنزّل القرآن جل جلاله انتبهت من فضله تعالى إلى أن متعلق
الذي يخرج من بين الصلب والترائب ليس هو الماء الدافق، بل هو الجنين الذي
هو موضوع الحديث.
هذا الحيوان المنوي الصغير جدا يتحول بإذن الله داخل رحم الأم إلى إنسان
يكبر الحيوان المذكور أضعافا مضاعفة ويتوسع الجنين ليصل قدماه قريبا من
قلب الأم بين العمود الفقاري وعظمة الصدر في جسم الأنثى. ولذلك ضرب الله
به المثل في توسع الشمس أضعافا مضاعفة من حجمها عندما كانت شمسا مفيدة.
المخلوق الذي تحول إلى إنسان كامل الخلقة وكبير جدا سوف يترك مكانه الذي
شمل باطن المرأة الأم من أدنى الرحم الواقع فوق تلاقي الفخذين إلى أدنى
الفجوة الواقعة تحت منطقة القلب لينقلب إلى أسفل السافلين فيخرج إلى
الوجود ليمثل حيوانا صغيرا جدا خارج الرحم بالنسبة لأهل الأرض. والشمس
أيضا تتحول بعد توسعها إلى نجمة صغيرة جدا في الفضاء الواسع بالنسبة إلى
بقية النجوم الضخمة المهيبة.
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ
﴿8﴾
إن قدرة القادر المتعال الذي يحول الموجودات التي نراها إلى ما يشاء من
تغيير في الشكل وفي الحجم وفي الجنس وإعادتها إلى مكانها الأول أحيانا
فإنه سبحانه قادر على إعادة الإنسان إلى حالته الأولى إن شاء دون ريب.
إنه سبحانه سوف يعيد الجسم حول النفس التي لن تموت وهو أهون عليه بكثير
من خلق النفس داخل جسم خال من الحياة. ذلك لأنه خلق الجسم من مادة طالت
كثيرا حتى تطورت ثم خلق النفس دون أن تكون شيئا وليس من شيء ولكنه اليوم
سوف يحول المادة فقط، ثم يهب النفس الموجودة فعلا مادة متطورة جديدة
بأمره جل وعلا. بالطبع إنه سبحانه لن يتعب ولم يتعب أبدا، ولكننا حينما
نقول بأنه أهون عليه نقصد به الزمان الذي يستغرقه العملية التالية
بالنسبة للعملية الأولى، فسوف يحتاج الموجود الجديد إلى فترة أقصر من
فترات التمتع بالربوبية الإلهية حتى يخرج إلى الوجود بالحلة الجديدة. ومن
الجدير بالذكر أن علماء الفيزياء يقدرون عودة الشمس إلى حالتها الأولى
بعد موتها وتحولها إلى قزم أبيض صغير. بالطبع أن هذا لن يُحصل ولكنه قابل
الحصول.
ولقد أراد الله سبحانه أن يؤكد لنا أن عملية الإرجاع حاصلة لا محالة
فعلا. إنه سبحانه سوف يفعّل القوة لتخرج من القوة إلى الفعل فيعود
الموجود مرة أخرى إلى العالم الإنساني ولكن لغرض آخر غير الاختبار. ولذلك
أعقبها سبحانه بقوله الكريم:
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
﴿9﴾
فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ
﴿10﴾
بلى الشيء صار رثا باليا وأبلى الشيء: جعله رثا باليا لا قوة فيه. وتبلى
ليس من البلاء بمعنى الاختبار، فهو ليس واويا بل هو يائي بمعنى الفناء
والزوال بمرور الزمن. ففي يوم القيامة يشعر الإنسان وجدانا بأنه فقد كل
شيء كان يستند إليه للدفاع؛ سواء كان الشيء داخل نفسه كالشجاعة وقوة
القلب والإرادة أو خارج نفسه كالأهل والعشيرة والأنصار والجند والأصدقاء
والأسلحة وما شابهها. والمرء يخفي إمكاناته ليستفيد منها عند حاجته
وليعيش مع الناس ويتمتع بالمزايا الاجتماعية دون أن يهابه الآخرون.
سوف يمر المرء بمراحل كثيرة في عالم البرزخ وسوف يتيقن بأنه فاقد لكل ما
كان يستند عليه من إمكانات فتتحول قدراته إلى أخبار كان. سوف يفقد
الإنسان الإرادة كاملة حين الممات ثم يُعلَم بكل ما فعله يوم اجتماع
الشمس والقمر، ثم تظهر كل خفاياه على شاشة الأفق يوم الدمار الكوني كما
سنعرف فيما بعد، ثم يخرج من الأرض الجديدة وهو لا يأمر ولا ينهى ولا
يكيد ولا يستعمل الحكمة والعقل وحتى أنه لا يمشي باختياره بل يُساق كما
تُساق الماشية. فوضح الله لنا عملية الإعادة بأنها تخالف النشأة الأولى
من حيث الاختيار الذي سيسلب تماما. ثم إن الناس سوف يخرجون من الأجداث
جميعا في وقت واحد، مع آبائهم الأولين وقد زالت كل الاعتبارات. ليست هناك
أب ولا ابن ولا ملك ولا رعية ولا مولى ولا عشير. الملك يومئذ لله وحده
ونعم المولى الله تعالى وسنناله سبحانه إن كنا مؤمنين. هذه الحقائق عامة
تشمل كل الناس ملوكا ورعايا وأنبياء وأمما وآباء وأبناء. إنهم جميعا
بانتظار حكم الله تعالى بينهم.
وبهذا يتبين أن الظرفية في يومَ تبلى السرائر ليست متعلقة بما قبله
مباشرة "لقادر" بل هي متعلقة بتقدير "وسوف يُرجعه"، إذ أن الله قادر أن
يرجعه متى ما شاء وأراد كما أعاد يونس إلى الحياة قبل أن تبلى سرائره في
العالم الدنيوي. والعلم عند الله تعالى.
وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ
﴿11﴾
وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ
﴿12﴾
وكما قلنا في بداية السورة أن السماء هنا بمعنى الشمس لأنها جاءت ضمن
سورة كرر الله فيها السماء مع ذكر الأرض. فالسماء هنا في مقابل الأرض
وتعني الشمس. تقوم الشمس بالنبض في وجهها لتتمدد وتنكمش بسرعة ستة
كيلومترات في الساعة مرة كل ساعتين وأربعين دقيقة تقريبا. هذه العملية
تسبب اضطرابا في قطر الشمس بحوالي عشرة كيلومترات. كما أن هناك بعض
النبضات الصغيرة الأخرى. وكما يبدو أن هذه النبضات معلولة للانفجارات
الهيدروجينية في باطن الشمس. وفي المقابل فإن الأرض ونتيجة للانفجارات
الباطنية القوية تتصدع بين فترة وأخرى بصورة غير منتظمة فتظهر البراكين
هنا وهناك. فالانفجارات الداخلية احتمالا تسبب تراجع قطر الشمس كما تسبب
تصدع الأرض. وقد أقسم الله تعالى بهما على ما يبدو لي في هاتين الآيتين
الكريمتين.
والقسم لتثبيت
التالي:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ
﴿13﴾
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ
﴿14﴾
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا
﴿15﴾
وَأَكِيدُ كَيْدًا
﴿16﴾
الهاء في إنه ليس راجعا إلى القرآن كما تصوره المفسرون رحمهم الله إذ أن
الحديث في هذه السورة ليست عن القرآن، بل هو راجع إلى القول التالي: إنهم
يكيدون كيدا. يريد الله سبحانه أن يبدي لنا مكنونات نفوس بعض المشركين
الذين كانوا يداهنون المسلمين بقصد خداعهم وتضليلهم ريثما يعيدوهم إلى
ملتهم. والله سبحانه كان قادرا على إزالتهم وإهلاكهم ولكنه أراد أن يقابل
كيدهم بكيد أخطر فأمهلهم ليخوضوا في الضلال. وذلك ليس بقصد التضليل، حاش
لله ذلك بل بأنهم لا يستحقون غير ذلك. فالله سبحانه واجه كيدهم بكيد
مثله، فلو كانوا يطلبون الحقيقة ولا يقصدون المكيدة لواجههم بالمزيد من
البرهان لعلهم يهتدوا بالطبع.
ووجه القسم بالسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع أن السماء والأرض سوف
تنفجران بالنتيجة وتتحول الرجع والصدع لديهما بانكشاف باطنهما المليء
بالمتفجرات ثم احتراقهما وهكذا فإن من يكيد ضد المؤمنين ظلما وعدوانا،
فسوف يتحول كيده إلى نار تحرقه في المستقبل. سوف نعرف كيفية تحول أعمال
الكفار إلى الطاقة التفجيرية المضادة لصاحبها في سورة التحريم بإذن الله
تعالى. وبما أن الله تعالى قد ذكر لهم هذا الكيد المبيت فهو بهذا العمل
يرحمهم ويستميلهم للهدى والعودة إلى الله. إن التهديد من القوي القادر في
فحواه دعوة للعودة إلى الذي يهدد والتسليم له. فالله سبحانه في حين أنه
يكيد، فهو يرحم ويهدي ويسعى لإخراج من لا يستحق من الظلمات إلى النور
ولكن في حدود العدالة التي لا يمكن أن يتخلى العلي القدير عنها، جل
جلاله.
فالتهديد المبيت قول فاصل لا رجعة فيه وليس بهزل أو كلام خفيف خال من
المعنى. إن الذي يتصرف في الكواكب المهيبة والعظيمة هو الذي يهدد فهو قول
صحيح فاصل لا مفر منه. هذا الكلام الثقيل ضروري لمن يؤمن بأن هناك من
يستعين به ضد الله تعالى يوم القيامة وضد حكمه بحجة أن الله يحبهم ويذعن
لطلباتهم. كان المشركون يؤمنون بالشفاعة والتوسط عند الله تعالى هربا من
عدالته والله يريد أن يؤكد لهم خطأ ما توهموه ويفند لهم ما أثبته الشيطان
في أذهانهم. سوف نعرف ذلك أكثر من هذا حينما يصل بنا المطاف إلى سورة
الأحقاف بإذن الله تعالى.
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْدًا
﴿17﴾
لعل رسول الله كان بحاجة فعلا إلى هذا لوعد الصادق وإلى تطييب خاطره بأن
يمهل الكافرين قليلا فإن الله لهم بالمرصاد. ذلك لأن الكفار كانوا
يعيرونه دائما بأنه غير محاط بالملائكة وغير مؤيد بالمعجزات كما كان عليه
أنبياء السلف. وكان ذلك ثقيلا على قلب رسول الله ومدعاة لامتعاضه وتوجع
قلبه الشريف. إن هذه الجملة ليست بشأن المشركين الذين يرجى اهتداؤهم بل
هي ضد الذين يئس النبي العظيم منهم فهم الكافرون الجاحدون الذين باتوا
يحاربون رسول الله ويكيدون ضده ولا يستمعون إليه. هم الذين قال لهم
الرسول بأمر العلي العظيم سبحانه: لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما
أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين.
وهي -كما سنعرف قريبا- دعوة مخلصة للتعايش السلمي وعدم التدخل في شؤون
بعضهم البعض. لكن الكفار لم يقبلوا تلك الدعوة الخيرة وأصروا على محاربة
الرسول والسعي للفرقة بين المسلمين. والطارق كما يبدو منزلة فترة بعد
سورة الكافرون.
والخلاصة فإن هذه السورة الكريمة تتحدث عن تبادل التهديد والمكر بين الله
وبين العتاة من المشركين دفاعا عن رسول الله عليه السلام. فبعض الكفار
كانوا يكيدون ضد المسلمين ويرصدون لهم وهم شرذمة طاغية من المشركين وكان
الرسول غير قادر على مواجهتهم بما عنده. إنه عليه السلام كان يقدم الدليل
والبرهان والحب والحنان للناس ولم يكن قادرا على محاربة مخالفيه وأعدائه
الذين لا يبدون اهتماما بالمنطق وبالحب والود. ولعل الله سبحانه أراد أن
يتمم الحجة عليهم بأن يهددهم بنفسه لعلهم يتذكروا أو يخشوا. ولا أظن
بأنهم كانوا يستمعون إلى مثل هذه السور القوية في تعبيرها والخطيرة في
معانيها. وأنا لا أدري كيف كان الرسول يوضح معاني الطارق والنجم الثاقب
ولكني أدري بأنه صلوات الله عليه وآله قد نبه الناس على مسألة تحول قسم
من المياه الدافقة إلى إنسان كامل داخل أرحام الأمهات.
كما تحدث لهم بالتأكيد عن قدرة الله على التغيير الكمي والكيفي ثم إعادة
كل شيء إلى ما كان عليه وإزالة كل التغييرات. ذلك ليثبت لهم أن المعاد حق
وأنهم راجعون إلى الله دون شفعائهم ووسطائهم. وإنه دون شك قد أوقفهم على
خطورة التهديدات الربانية وأن القادر المتعال لهم بالمرصاد وسوف يكيد ضد
كيدهم. لقد قال لهم بالطبع أن طول صبر صاحب القوة دليل على خطورة
المواجهة وعظم ما ينتظرهم من العذاب. وقد استعمل في صياغة السورة كلمات
تدل على المباغتة وقوة المواجهة مثل الطرق والدفق والصلب والقدرة والقوة
والنصر والرجع والصدع والفصل. والعلم عنده سبحانه.
على هامش الإعجاز العلمي للقرآن:
لا مناص لنا في هذا المقام، من البحث حول مسألة الإعجاز العلمي للقرآن
والذي ظهر للبشر بعد فترة طويلة من وفاة رسول الله والذين معه من أصدقاء
وأعداء. يتبادر إلى ذهن كل فاحص السؤال عن فائدة الإشارة إلى المسائل
الكونية التي كانت فوق الذهنية الجاهلية التي نزل فيها القرآن الكريم،
ومدى حجيتها على الكفار الذين لم يكونوا ليألفوا أعماق الحقائق العلمية
لما هو في الطبيعة؟ و من حقنا أن نتساءل أيضا عن فائدة هذا النوع من
الاحتجاج لرسول الله نفسه الذي عاش في نفس الوسط ولم يتسن له المحاسبات
الفيزيائية؟ إن كتاب الطبيعية كما قال العالم المناضل جاليليو مكتوب بلغة
الرياضيات الحسابية ومميزاتها الشخصية هي المثلثات والدوائر وبقية
الأشكال الهندسية، وبدونها فإن الإنسان عاجز عن فهم كلمة واحدة منها.
وبغير هذا فإن المرء يهيم في المتاهات المظلمة. (انتهى كلام جاليليو).
إن إشارات القرآن للحقائق الكونية دليل واضح على ارتباط الكتاب بمصدر
الخلق دون أدنى شك ولكنه منزل لأهل مكة قبل أربعة عشر قرنا. فلو كانت هذه
الألغاز سببا في توصيف رسول الله بالجنون كما ادعاه المشركون لكانوا على
حق فكيف يحتج عليهم الله سبحانه؟ ولنفرض جدلا أن الرسول كان يعلم بعض
الحقائق الكونية، فكيف تمكن من التمسك بهذه الحقائق دفاعا عن كتابه
المنزل، وكيف أقنع المؤمنين بها على أن الجميع كانوا في عتمة من هذه
المعارف العالية؟ ونحن لا نشك في أنهم بقوا في غيبة من هذه الأمور حتى
ظهرت العلوم الحديثة، وإلا لرأينا شيئا منها في كتبهم التي ورثناها.
وللجواب على هذه التساؤلات علينا أن نعود إلى الوراء لنرى طبيعة القطع
الفنية الأدبية للعرب في الجاهلية. كانوا معجبين لحد العبادة بالشعر
الجاهلي وكان الشعراء عادة ما يفتحون قصائدهم بالغزل أو بوصف ما عندهم من
مظاهر الطبيعة الخلابة أو بذكر النجوم والأفلاك وما يشاهدونه في سمائهم
في لياليهم الخالية عادة من الغيوم. ناهيك عما يصفونه من مراكبهم
ومقاتلهم ومنازلهم وقصورهم وشواطئهم وما إلى ذلك. كان الاهتمام العام
موجها نحو التركيب الفني للشعر وليس المعنى العلمي للمقطوعة الفنية. ولو
نعود إلى تفاسير القدماء نجدهم يجولون بأفكارهم نحو الإيقاعات الأدبية في
القرآن الكريم ويصرفون وقتا غير قصير في أحوال أواخر الكلمات وأنواع
الجناس وتصريف الأفعال واستخراج التركيبات البديعة في كتاب الله. ولقلما
اهتم أحدهم برسالة القرآن أو حاول الربط بين آيات السور وبين السور
نفسها. إنه كان يكتفي بأن يتعرف على معنى بسيط للطارق مثل تسمية نجمة
بهذا الاسم ثم يبحث عن وقع هذه الكلمة أدبيا على النفس حينما يربط بينها
وبين النجم الثاقب ثم الحافظ فالترائب. فكان القرآن يسحرهم ويبهتهم
بجماله وروعة تركيباته التي تفوق قدرة الناطقين بالضاد برمتهم.
ولقد انصب اهتمام المسلمين منذ بدايات القرن الثاني الهجري على تزيين
وتذهيب القرآن وبعد ذلك على المقامات الموسيقية في الكتاب العظيم ثم على
التجويد والترتيل والترجيعات الصوتية. وعلى غرار هذه التفاسير والمعالجات
الفنية ترجمت القرآن إلى اللغات المختلفة وانتقلت الثقافة القرآنية إلى
الغرب والشرق غير العربي عن طريق الخطأ. هذا ما حدا ببعض الغربيين أن
يتعلموا العربية ليكشفوا بأنفسهم أعماق الكتاب الكريم الذي كان يُظهر
نفسه أمامهم بأنه فوق قدرة البشر. وبما أنهم عادة ما يبتلون بنفس الداء
الفني التي ابتلي بها المسلمون والعرب، بقيت المعاني العميقة بانتظار من
يهتدي إليها حتى العقود الخمسة الماضية.
في الخمسين سنة الماضية بذل بعض المفسرين جهدا مضنيا لتفسير الآيات
العلمية في القرآن الكريم وقد نالوا قسطا كبيرا من التوفيق في هذا
المضمار. لكن القرآن لم يفسر علميا طيلة القرون التي سبقت التحول العلمي
الأخير. ثم إن للحديث دور كبير في إخفاء المعاني الدقيقة للقرآن العظيم
باعتبار انتساب الأحاديث إلى المرجع الأعلى للمسلمين عليه الصلاة
والسلام. وبما أن الحديث نفسه كان ضحية التعاملات السياسية لأصحاب النفوذ
والقوة فإنه قد فرغ من الأسرار العلمية التي قد أظهرها رسول الله ولذلك
فإننا نجهل كيفية تعامل صاحب الرسالة مع الآيات الكونية والعلمية. فلعله
قد شرح لهم بعض الشيء عن أعماق هذه الآيات الكريمة.
نستنتج من هذا البحث أن الاحتجاج كان يمر على مرحلة السحر الفني لإثبات
ارتباط الكلام بما وراء الطبيعة ثم يذكر لهم الرسول بعض الاحتجاجات
الواضحة مثل خلق الطفل من الماء ثم تغيير شكل الماء السائل إلى عظم ولحم
وشحم ثم تكبيره أضعاف المرات داخل الرحم. بغض النظر عن الارتباط الدقيق
بمراتب تطور الشمس والنجم. فكانت الشمس والنجم بمثابة المدخل الغزلي أو
الطبيعى للسورة البديعة لا غير. وعليه فإن رسول الله لم يكن ليحاجج خصومه
على المعاني الكونية والعلمية في القرآن لأنهم لم يكونوا ليلتفتوا إلى
لباب هذه الكلمات إطلاقا. وبما أن المشركين كانوا عاجزين عن الالتفاف على
ما بان لهم من المعاني فإنهم كانوا غير صادقين في دعاويهم وكانت الحجة
ثابتة عليهم. وبما أن القرآن سيبقى محتجا على المعاندين فلا مانع من ظهور
معان جديدة باستمرار بإرادة من الجبار العظيم وتقدير منه ليحتفظ بالحالة
الإعجازية المستمرة حتى تنتهي الحياة البشرية في الأرض. ولذلك فإن
المجتمع الإسلامي بزعمائه مطالب بالإنفاق من ماله وعلمه ووقته للكشف عن
خبايا الكنوز القرآنية لننصر ربنا في كتابه العظيم ليبقى هذا المصحف
المجيد قويا مضاء وضاء متصدرا السنام الأعلى للأبحاث العلمية والكونية.
والله جل جلاله هو وحده الموفِق والمعين.
تم تفسير سورة
الطارق وبانتظار الأعلى قريبا إن شاء الله تعالى.