الحسين يصادق ربه

  كثيرا ما يدعي المؤمنون إخلاصهم وصدقهم أمام الملك الحق جل وعلا ولكن من الذي يصدق فعلا؟ هل هم الذين يقولون الكثير بحضرة أمهاتهم وأخواتهم ثم أزواجهم وأولادهم في مأمن البيت ولا يظهر منهم سوى ما يوافق الرأي العام والسلطة المطاعة خارج سور المنزل؟ أم الذين يختارون ما لا يضاد المنطق السائد في محيط الوطن ويجهرون به بكل حماس أمام الجماهير التي لا تظهر منها سوى التأييد والتصفيق أو التناغم والتوافق؟ أم الذين يفتشون طيات المقولات البائدة لجمع فتات يسند الحضرة الحاكمة ويقوي بنيانها فهم أبطال المجتمع ووجوه الأمة؟ أم الذين يتطلعون إلى ما يرضي الجبار العظيم ملك الكون والوجود فيشيعون أمر الله ولا يبالون بالتبعات حتى ولو قضي عليهم وعلى أهليهم؟

 

ولا يخلو كل مجتمع في ماضي التاريخ وحاضر الحياة من مصاديق لهذه الفئات من الناس الذين يمثلون درجة صدق الإنسان مع نفسه ومجتمعه وربه لكنهم غير صادقين فعلا عدا الفئة الأخيرة التي تمثل القلة من الطيبين. وهذه الفئة المخلصة لا توصف بالشجاعة والكمال في منطق العقل السليم إلا إذا ألبست هممها وتطلعاتها جلباب الرزانة والحكمة وأقدمت على التقليص من تضحياتها جهد الإمكان ليخلد النتاج على شاشة الأفق محتفظا بنفس الإشعاع الذي تميز به من أول يوم. هذا النتاج لا تمحيه النيات الفاسدة ولا تزيله قوى الشر المحاربة ولا تحد من توقده وتوهجه المواليد الجديدة في بيوت الشرف والتضحيات وفي مهاد النوايا الطيبة والخفايا النظيفة.

 

هكذا يتجلى العمل الطيب مكتوبا بخط عريض متأصل على وجنات المجد والشرف ليبقى ويبقى خالدا في قلوب الذين لا يعتريهم فساد السريرة ولا يخالجهم نفثات الشياطين ووساوس الحاقدين البؤساء الذين لا يملكون قطميرا من ثمرات الفضيلة والحياء والإيمان بالله. والحسين بن علي هو قنديل الإخلاص لرب العالمين وسوف يتجلى لمن يتعمق في نضاله المقدس ضد الطغيان الأموي الفاسد. إنه يشعل الفكر الإنساني حينما يتوقف صاحبه متأملا مغزى ما ظهر منه من سمو العقيدة وقدسية الإيمان العميق بالحق والشرف الأصيل الذي لا ينطبق على غير الله تعالى. فقد عظم الخالق في نفس الحسين حتى أضحى من دونه فضولا يمكن التخلي عنه كائنا من كان.

 

فلو ننظر إليه وهو يقف أمام جنود العدى ناصحا يدعوهم إلى الله بعد أن قضوا على آخر ذاب ذب عن حريمه. يا ترى ما الذي كان يريده الحسين وهو يدعو قتلة أعزائه ومحاربي أصحابه أن يعودوا إلى الله ويتوبوا من أعمالهم وسيئاتهم؟ هل فكر الحسين بن علي وهو إمام العقلاء والمفكرين في موقفه معهم إذا رجعوا فعلا عن منكر فعالهم فسيعيش هو مع قتلة أولاده يتودد إليهم ويستغفر لهم؟ فالحسين بن علي يعرف تماما معنى دعوته المخلصة ولا يخفى عليه احتمال التأثير فيهم فهي دعوة مخلصة حقا والدعوة المخلصة تدخل الأعماق بالضرورة. هذه هي شجاعة الحسين بن علي وقوة إيمانه بالعلي العظيم. كان الحسين على أتم الاستعداد فعلا في التعايش مع قتلة أخلص الناس وأحبهم إليه إن عادوا إلى الله.

 

وحتى ينجلي الموقف البطولي فإني أتطلع إلى شجاع مقدام مثل ابن علي بن أبي طالب وهو في آخر ساعاته وقد رأى كل أولاده مقتولين أمامه، فهو لا يتمنى غير الموت ولا يحيده عن تمنيه هذا سوى إيمانه بالقادر المتعال الذي يأمر عبيده بالدعوة إليه في كل حال وتجاه كل فاسق خرق قطع الضلال والعمى، فلعله يرجع إلى ربه ويعود عن غيه وطغيانه.

 

ولو نمعن النظر إليه ثانية وهو يحاول أن يستغيث المجرمين لتقديم الماء لطفله العطشان، فهو لم يفعل ذلك ليبوءوا بإثمهم وإثمه كما هو حال ابن آدم مع أخيه بل أراد أن يستعطفهم لعلهم يعودوا إلى الله وينتبهوا لما هم فيه من الضلال. والدليل على ذلك هو خوف عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي خاف على جيشه الفاسد من الانفصام حتى أمر مجرما مثله ليقضي على الطفل العطشان قبل أن ينهار الجيش ويلتصق بأبي عبد الله تائبا من إجرامه وظلمه. والدليل الآخر أنه نصحهم بعد مقتل طفله العطشان فكان يدعو إلى الله لا إلى إرواء الطفل.

 

ولو ننظر إليه ثالثة وهو يمنع أخته من شق جيبها حزنا على أخيها إذا قضى الإمام نحبه ليزرع في قلبها الاطمئنان والشجاعة وعدم التظاهر بأي ضعف أمام أعداء الله وأعداء الإنسانية من زبانية الطغاة الأمويين لعنهم الله فهو مفارقا الحياة لا يفكر في الجيش العرمرم الذي يتأهب بكل قواها لمحاربة سيد الأبطال بل يفكر في رسالته التي سوف تنتقل إلى أنثى بعده بمشيئة الله وهي أول رسالة إسلامية تحمل أعبائها امرأة مسلمة تكفيها بأنها ابنة علي بن أبي طالب فهي فخار المؤمنات اللاتي عرفن لأول مرة قدرة الأنثى على الزعامة والولاية وهي أول امرأة في الإسلام صارت مصداقا لقوله تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم} التوبة:71.

 

ولو أشار أحد إلى السيدة عائشة زوجة المصطفى التي حملت الراية قبل السيدة زينب فالعاقل يعلم بأنها حملت الراية ضد إمامها المنتخب من قبل المسلمين والذي كان طاعته واجبا عليها فهي خرجت على إمام المسلمين ولكن زينب لم تخرج على أحد بل أجبرت على الخروج على ملك غاصب فرضه أبوه معاوية بن أبي سفيان الناكث لعهده مع الحسن والحسين وبقية صحابة رسول الله.

 

فالحسين بن علي في وصيته تلك كان يتطلع بعين نافذة إلى موقف أختها وكان يقصد بناء الشجاعة في قلب هذه المرأة لتقف بكل جأش أمام المجرم السفاح عبيد الله بن زياد بن سمية ثم أمام الملك الجبار يزيد الفاسق فتجبره بمنطقها السلس وقوة بيانها وإيمانها وعزمها الجبار على إظهار الأسف لما قام به جيشه الفاسد وإعادة الأسرة العلوية الكريمة معززين إلى المدينة. تلك الوصية التي زرعت تلك الصرخة الأنثوية النفاذة التي أرعبت الفاسد يزيد حتى أوصى جيشه المجرم حينما أرسلهم إلى مدينة رسول الله لاستباحتها ألا يدخلوا بيوت بني هاشم أبدا.

 

هكذا هاب يزيد من زينب وصية الحسين بن علي وحافظة عهده المبارك، وهذه وقفة جبارة أخرى للحسين بن علي يصادق فيها ربه وينتظر منها رضوانه وثوابه تعالى. ولو ننظر إليه رابعة وهو يقدم أعز أبنائه لسيوف الأعادي بعد أن قدم أصحابه ليلة عاشوراء للفرار من الجيش الذي سيحاربهم غداة غد. فللنجاة من القتل قدم أصحابه على أولاده وللقتل والموت قدم أولاده على أصحابه. أليس هو موقف لو يحسده المؤمنون جميعا لكانوا به جديرا؟ إنه موقف الإيمان الصلب والعزم الراسخ على حماية الجار والتضحية في سبيله وعلى تقديم الغالي والنفيس في سبيل الله قبل الإيذان بتقديم من هو أقل أهمية عنده كصحابته وأنصاره.

 

هي ليست شجاعة الحسين فحسب بل هي مصادقة الحسين مع ربه الذي يستنقي الخيرة لتقديم الأضاحي إلى الملك المتعالي جل شأنه ويختار من هم دون الخيرة ليبقوا معه فترة أطول. هكذا أعطى الحسين المعنى لقوله تعالى في سورة الحشر:9 {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. فانظر إلى البون الشاسع بينه وهو يستنقي للتقديم إلى الله أحبابه وأصحابه وبين الأنصار  الذين سبقوه وهم يستنقون المال ليقدموه إلى المهاجرين ويؤثرون إخوانهم من الصحابة على أنفسهم في الاستمتاع بما آتاهم الله، فانظر أيهما أكثر إيثارا وأصدق لقول الله تعالى. فإذا أفلح الأنصار بعملهم الطيب ذاك فإن الحسين بن علي هو سيد المفلحين بتفضيله تقديم أولاده في مقام التضحية على أصحابه.

 

 ولو نفتح عيوننا عليه خامسة وهو يطلب من جيش  العدى مهلة ليلة واحدة يتركوه فيها ليحاربوه غداة غد وكان واضحا أنه في الليل كان أقوى منه في النهار حيث أنه كان مع أكثر من ألف نفر بالليل وأضحى في الصباح مع أقل من مائة ثم كان الجيش الأموي الكثير في العدد والقليل في القدرة البدنية غير قادر على مقاومته بالليل ثم كان العطش سوف يستولي عليهم أكثر في النهار من الليل ليس فقط لطول المدة بل لفرق درجة الحرارة بين الليل والنهار. كل المؤشرات كانت لصالح الحسين في الليل وضده في النهار وكان هو عالما بكل ما نوهت إليه كما أن عمر بن سعد كان يعرف ذلك أيضا والذي أسرع بقبول الطلب دون مماطلة.

 

إذن فما هو السبب في طلبه ذاك؟ هل كان ذلك للقيام بالصلاة والخشوع فهو كل عمره خاشع لله وكل عمره يصلي لله ولا معنى لتأخير الحرب للصلاة. هذا ما يقوله الذين لا يمعنون في حركة الحسين بن علي ولا يدققون في ثورته العظيمة. كان هو فارغا من صلاتي المغرب والعشاء حيث كان مسافرا يجمع ويقصر في المغرب وأمامه ليل بارد وطويل للحرب.  ولو كانت الصلاة همه لكانت الصلاة الواجبة التي سيخاطر بها ظهر غد أكثر أهمية من الصلوات المستحبة في الليل. فبالتأكيد لم يطلب الحسين تأجيل الحرب للصلاة بل أجلها لغرض آخر وهو ما قام به في الليل حيث طلب من جيشه أن يتخذوا الليل جملا ويأخذوا معهم بعض أهل بيته ينجون بأنفسهم تاركينه وحده مع الأعداء الذين لا يريدون غيره.

 

فعل ذلك حتى يقلل من خسارة المسلمين في الأرواح فهو مهتم بحقن الدماء أكثر من الانتصار تماما كأخيه الحسن بن علي الذي حقن دماء المسلمين بالصلح مع معاوية. وهما تماما كأبيهما علي بن أبي طالب الذي قال لأصحابه الذين رآهم مشغولين بسب أهل الشام أيام حربهم بصفين: "إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو  وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به" (الخطبة 206 في نهج البلاغة). فالطيبون لا يفكرون بالثأر بل يريدون النجاة للناس. هم بذلك يصادقون ربهم الذي لا يريد منهم بعد التسبيح والصلاة إلا أن يكونوا دعاة لله وناصحين لغيرهم يقونهم عذاب الله. أما الثأر فهو ليس من شيم الطيبين من البشر بل هو من صفات الذين ينسبونه إلى أولياء الله ظلما أو جهلا. والحسين ليس منتقما بل هو داع إلى الله وهاد من الضلال بإذن الله.

 

وحياة الحسين بن علي مليئة لمن يتأملها بالصدق مع الله وهو غاية الصدق. فسلام على الحسين بن علي في وفائه بالعهد الذي قطعه أخوه مع عدو الله معاوية، وسلام عليه في تجاهره برد دعوة معاوية لتنصيب يزيد وليا للعهد وسلام عليه في خضوعه لطلب المسلمين في العراق ليتزعم جهادهم ضد عدو الله يزيد وسلام عليه في دعوته للذين نكثوا العهد معه وخانوه والتحقوا بعدوه ابن زياد المجرم السفاح ليعودوا إلى الله ويتركوا نصرة المجرمين حتى فارق الحياة الدنيا وسلام على البطلة العظيمة زينب أخت الحسين بن علي وسلام على كل الشرفاء الذين دافعوا عن الحق والهدى واستشهدوا بين يدي الحسين بن علي سيد الشرفاء وإمام المتقين وقدوة المجاهدين في سبيل الله. وهنيئا لهم رضوان الله وغفرانه الذي يتمناه كل مؤمن يعرف الله ويخاف عذابه.

 

أحمد المُهري

  عاشوراء عام 1422