ما لا ينتبه أليه الكثيرون في استشهاد الإمام الحسين مع تعليق المُهري

  نص للمفكر الاسلامي الاصولي المرحوم ابو الاعلى المودودي كتب عام 1960 وترجمه الى العربية لاحقاً اي بعد وفاته احمد ادريس ونشرته مجلة "التوحيد" الايرانية (عدد 42) وأعادت "قضايا النهار" نشره اليوم كوثيقة بمناسبة ذكرى عاشوراء.

وبدوري أنا البصري أنقله لكم ليبقى كوثيقة في شبكة الحق ...

 

يتظاهر عشرات الملايين من المسلمين شيعة وسنة في المحرم من كل عام ليظهروا غمهم وحزنهم على استشهاد الامام الحسين رضي الله عنه. لكن لم ينتبه منهم الا اقل القليل - ويا للأسف - الى الهدف الذي لم يبذل الامام في سبيله روحه الغالية فحسب، بل ضحى حتى بأطفاله وعائلته. ان اظهار اهل البيت الحزن والاسى على استشهاد احدهم ظلما وعدوانا، وكذلك حزن المتعاطفين والمؤيدين والمحبين لأهل هذا البيت، امر فطري، فمثل هذا الحزن والاسى يظهر من جانب كل اسرة في العالم، ومن جانب المنتسبين اليها، ولا قيمة اخلاقية له اكثر من كونه نتيجة فطرية لحب هذا البيت وحب المتعاطين معهم شخص هذا الشهيد وذاته.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: اي شيء تميز به الامام الحسين فجعل الحزن عليه يتجدد كل عام رغم مرور كل هذه القرون الطويلة؟ فان لم تكن شهادته لهدف عظيم وقصد جليل فلا معنى اذن لاستمرار الحزن عليه قرونا طويلة بدافع الحب لشخصه والانتساب له، بل واي وزن يمكن ان يكون لهذا الحب الشخصي - مجرد الحب- في عين الامام نفسه؟ فان كانت نفسه اعز عليه من هذا الهدف فلماذا ضحى بها؟ ان تضحيته بنفسه دليل في ذاتها على ان هذا الهدف كان اعز عليه من روحه. ولهذا فنحن ان لم نسعَ في سبيل تحقيق هذا الهدف وظللنا نعمل خلافه، فمهما بكينا على ذاته ولعنّا قاتليه، فلا امل في ان يثني الامام الحسين نفسه علينا ويستحسن فعلنا هذا يوم القيامة، كما انه لا امل في ان يقيم ربه لبكائنا وحزننا هذا وزنا. فعلينا الآن ان نرى اي هدف استشهد في سبيله الامام الحسين؟ هل كان يرى نفسه احق بالحكم فضحى بنفسه لأجله؟ ان من يعرف سيرة بيت الامام الحسين وسمو اخلاقهم لا يمكن ان يظن - حتى مجرد ظن - ان هؤلاء كانوا يريقون دماء المسلمين من اجل الحصول على السلطة والحكم لأنفسهم. ولو سلمنا جدلا - ولو لقليل - برأي من يرون ان هذا البيت كان يدعي احقيته بالحكم، فان تاريخ خمسين عاما - منذ عهد ابي بكر الى عهد معاوية - شاهد على ان القتال واراقة الدماء للحصول على السلطة لم يكن ابدا سبيل اهل هذا البيت ولا خصلتهم. ومن ثم فلا محالة من التسليم بأن الامام كان يرى آثار تغيّر كبير في المجتمع المسلم آنذاك، وفي روح الدولة الاسلامية ومزاجها ونظامها، وانه كان يعتبر ضرورة منع هذا التغير وايقافه - ولو اقتضى الامر القتال - ليست جائزة فحسب بل فرضا مفروضا.


تغير مزاج دستور الدولة وهدفه

اي تغير ذاك؟ ان الناس - بالطبع - لم يغيروا دينهم بل كان الحكام والمحكومون يؤمنون بالله ورسوله وقرآنه، كما كانوا يؤمنون به من قبل وكان قانون الدولة الاسلامية كما هو لم يتغير، وكانت الامور في عهد بني امية يُفصَل فيها في المحاكم وفق احكام الكتاب والسنّة، كما كانت الحال قبل وصولهم الى السلطة، بل ان تغيير القانون لم يقع في اي دور من ادوار الحكومات الاسلامية قبل القرن التاسع عشر الميلادي.

وبعض الناس يركّزون على سلوك يزيد الشخصي ويصورونه على نحو يفهم منه الناس خطأ ان التغير الذي نهض الامام ليمنعه كان فقط مجيء شخص فاسد سيئ الخلق الى السلطة، غير انه - حتى مع التسليم بأسوأ ما يمكن تصوره عن سيرة يزيد وسلوكه الشخصي كما هو - لا يمكن التسليم بأن النظام كان قائما على اسس صحيحة فان محض مجيء شخص فاسد الخلق الى سدة الحكم يمكن ان يكون امرا عظيما ينفد منه صبر رجل واع، فاهم، عالم بالشريعة علما عميقا، كالامام الحسين. لذا، فان هذا الجانب الشخصي في يزيد لم يكن التغير الحقيقي الذي اقلق الامام. ان الامر الواضح الذي يظهر امامنا جليا، من دراسة التاريخ دراسة عميقة، ان تغيير دستور الدولة الاسلامية ومزاجها وهدفها كان هو الفساد الذي بدأ بولاية عهد يزيد ثم جلوسه على العرش في ما بعد. صحيح ان كل نتائج هذا التغيير لم تتضح آنذاك، الا ان صاحب البصيرة يستطيع ان يعرف - بمجرد تغيّر اتجاه السيارة - ان طريقها قد تغير، والى اي جهة سيأخذها الطريق الجديد. فكان تغيير الاتجاه هو الذي رآه الامام الحسين وقرر ان يقاتل ويضحي بروحه في سبيل اعادة السيارة الى مجراها الصحيح.


نقطة الانحراف

ولكي نفهم هذا الامر فهما تاما علينا ان نرى ما هي الخصائص الاساس لدستور الدولة ونظامها الذي ظل ساريا اربعين عاما برئاسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين، وما هي كذلك خصائص نظام الدولة الآخر - الذي بدأ بولاية عهد يزيد - والتي ظهرت في مملكتي بني امية وبني العباس في ما بعد. فبهذه المقارنة نستطيع ان نعرف على اي طريق كانت السيارة تسير، وعلى اي طريق سارت بعد وصولها الى هذا المنعطف. وبهذه المقارنة ايضا نستطيع ان نعرف لماذا قام ذلك الشخص الذي تربى في احضان رسول الله (ص) والسيدة فاطمة، والامام علي، وقضى حياته كلها في افضل مجتمعات الصحابة منذ طفولته الى شيخوخته، ليوقف العربة من ان تسير في هذا الخط الجديد بمجرد وصولها الى هذا المنعطف؟ ولماذا لم يبال بنتيجة وقوفه امام هذه العربة الضخمة المتينة القوية ليغير اتجاهها؟


بداية ملوكية البشر

كانت اولى خصائص الدولة الاسلامية الاقرار - لا باللسان فقط بل بالقلوب الصادقة وتأكيد ذلك بالسلوك العملي - بأن الملك لله ، وان الرعية رعية الله وان الحكومة مسؤولة امام هذه الرعية، وانها ليست مالكة الرعية، وان الرعية ليسوا عبيدا لها، وان اول فرائض الحكام ان يضعوا في اعناق انفسهم ربقة العبودية لله، ويذعنوا له، ثم بعد ذلك القيام بمسؤوليتهم في تنفيذ قانون الله في رعية الله. لكن الملوكية البشرية التي بدأت في المسلمين بولاية عهد يزيد انحصر فيها تصور ملوكية الله في الاعتراف ذلك باللسان فقط، اما من الناحية العملية فتبنت النظرية نفسها التي تبنتها كل ملوكية بشرية وهي ان الدولة دولة الملك والاسرة الحاكمة، وانها هي مالكة ارواح الرعية واموالهم وكرامتهم وكل شيء واذا كان قانون الله قد نفذ في هذه المملكات فعلى العامة فقط، في حين بقي الملوك وأسرهم وامراؤهم وحكامهم مستثنين في الغالب.


تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

كان هدف الدولة الاسلامية نشر المحاسن التي يحبها الله، والقضاء على المساوئ التي يبغضها الله، لكن بعد اختيار طريق الملوكية البشرية لم يعد للحكومة هدف سوى فتح البلدان، واخضاع الشعوب، وتحصيل الخراج، والعيش في رفاهية وترف. ولم يُعِْل الملوك كلمة الله إلا في القليل، وانتشر على أيديهم وأيدي امرائهم وحكامهم قليل من الخير وكثير من المساوئ، وغالباً ما تعرّض عبادالله الذين عملوا على نشر الخير، ومنع الشر والفساد، ونشر الدين، وتحقيق العلوم الاسلامية وتدوينها لغضب الحكام، لا لعونهم ومساعدتهم، وظلوا يؤدّون واجبهم رغم مقاومة الحكام، كما ظلت آثار سياسات الحكام ورجال حكوماتهم وأساليب حياتهم تدفع المجتمع - رغم جهود هؤلاء العلماء - الى الانحطاط الاخلاقي الدائم، حتى لم يتورع الحكام عن وضع العراقيل في سبيل نشر الاسلام حفاظاً على مصالحهم، وكان أسوأ مثال لذلك ما حدث في حكومة بني أمية من فرض الجزية على من دخل في الاسلام من غير المسلمين.

لقد كانت روح الدولة الاسلامية روح التقوى وخشية الله التي كان رئيس الدولة نفسه أكبر نموذج لها، فكان موظفو الحكومة والقضاة والقادة العسكريون جميعاً مفعمين بهذه الروح ثم كانوا - بدورهم - يملأون المجتمع كله بهذه الروح. لكن حكومات المسلمين وحكامهم ساروا في طريق الملوكية حتى اختاروا طراز عيش كسرى وقيصر، فغلب الظلم والجور على العدل وحل الفسق والفجور محل التقوى، وبدأ عصر الخلاعة والمجون، وخلت سيرة الحكام وسلوكهم من التمييز بين الحلال والحرام وانقطعت صلة السياسة بالاخلاق. وبدلاً من ان يخافوا هم أنفسهم من الله راحوا يخيفون عباد الله من أنفسهم، وبدلاً من ايقاظ ضمائر الناس، طفقوا يشترون ضمائرهم بعطاياهم وأموالهم.


المبادئ الاساس للدستور الاسلامي

كان ذلك هو التغير الذي لحق بالروح والمزاج والهدف والنظرية. والى جانبه حدث تغير آخر مثله في المبادئ الاساس للدستور الاسلامي. فلقد كان هناك سبعة مبادئ هي أهم مبادئ الدستور الاسلامي، غيروا كُلاً منها وقلبوه رأساً على عقب.


1-
الانتخاب الحر

كان حجر الزاوية في الدستور الاسلامي ان تقوم الحكومة برضا الناس الحر، وألا يسعى أحد للحصول على السلطة بجهده ونفسه، بل يختار الناس بمشورتهم أفضل رجل ويوكلون اليه السلطة، وألاّ تكون البيعة نتيجة السلطة بل سبباً لها وموجباً، وألاّ يكون للمرء أي دخل من محاولة، او مؤامرة، في حصول البيعة له، وأن يكون الناس أحراراً في أن يبايعوا أو لا يبايعوا، وألا يصل المرء الى السلطة إلاّ اذا بويع، فاذا طرح الناس عنه ثقتهم لم يتمسك بالسلطة والحكم. وقد جاء الخلفاء الراشدون جميعاً الى السلطة من هذا الطريق ووفق هذه القاعدة لكن وضع معاوية صار مشكوكاً فيه، ومن ثم لم يُعَدَّ من الخلفاء الراشدين مع كونه صحابياً. حتى كانت توليته يزيد العهد الخطوة الانعكاسية التي قلبت هذه القاعدة الدستورية رأساً على عقب، إذ بها بدأت سلسلة المملكات العائلية الوراثية التي لم يقدّر للمسلمين من وقتها حتى اليوم العودة الى الخلافة الانتخابية. فراح الحكام يصلون الى السلطة لا برضا الناس الحر، بل بالقوة والجبر. وبدلاً من حصولهم على السلطة بالبيعة، اخذوا يحصلون عليها بالاكراه والقوة. ولم يعد الناس احراراً في أن يبايعوا او لا يبايعوا، ولم يعد انعقاد البيعة شرطاً للبقاء في السلطة، إذ - أولاً - لم تبقَ للناس حرية في ألاّ يبايعوا من جاءت بيده السلطة. ثم حتى اذا لم يبايعوا، فإن من جاءت في يده السلطة لم يتزحزح عنها، وحين ارتكب الامام مالك جريمة الافتاء ببطلان هذه البيعة الجبرية في زمن المنصور العباسي جلدوه وخلعوا كتفه.


2-
نظام الشورى

وكانت أهم قواعد هذا الدستور بعد ذلك ان الحكم بالشورى، فيستشار من وثق الناس بعلمهم وتقواهم وسداد رأيهم - كالذين كانوا اعضاء الشورى ايام الخلفاء الراشدين - مع انهم لم ينتخبوا انتخاباً حراً، وكانوا، باصطلاح عصرنا، معينين لا منتخبين - إلاّ ان الخلفاء الراشدين لم يعينوهم لكونهم ممن يؤيدونهم في كل شيء، او يعملون على خدمة مصالحهم بل اختاروا بمنتهى الاخلاص والايثار افضل عناصر المجتمع ممن لم يكونوا يتوقعون منهم إلاّ قول الحق وممن يؤمل منهم ان يشيروا في كل أمر بالرأي الامين الصحيح وفق علمهم وضميرهم ولا يتوقع منهم احد ان يتركوا الحكومة تسير في طريق خطأ، او تنحرف عن مسارها. ولو كانت طريقة الانتخابات العامة الرائجة في بلادنا اليوم رائجة آنذاك لاختار المسلمون هؤلاء بعينهم ووثقوا بهم.

لكن ما ان بدأ العهد الملكي حتى تغيّر مبدأ الشورى وراح الملوك يحكمون بالاستبداد والجبر، فصار الامراء ورجال البلاط المتملقون وحكام الاقليم وقادة الجيش اعضاء مجلس الشورى، وأصبح مستشاروهم ممن اذا استطلع رأي الناس بشأنهم لحصلوا على آلاف الاصوات التي تلعنهم مقابل كل صوت واحد يؤيدهم. وعلى العكس من ذلك، كان الذين يعرفون الحق ويقولون الحق وأهل العلم والتقوى ممن كان الشعب يثق بهم، غير أهل للثقة في أعين الملوك والسلاطين، بل على العكس مقصرين أو في الاقل مشكوكاً فيهم.


3-
حرية التعبير عن الرأي

كان المبدأ الثالث لهذا الدستور أن للناس الحرية الكاملة في التعبير عن رأيهم، إذ كان الاسلام قد جعل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً على كل مسلم وليس حقاً من حقوقه فحسب. وكان سير المجتمع المسلم ودولته على الطريق الصحيح اعتمد على أن تكون ضمائر الناس وألسنتهم حرة، وأن يقدروا على الاعتراض على كل خطأ يخطئه أكبر رأس من المجتمع، ويقولوا الحق علانية. ولم يكن هذا الحق مكفولاً للناس فقط أثناء الخلافة الراشدة، بل كان الخلفاء الراشدون يرونه فرضاً عليهم، فكانوا يشجعون الناس على ممارسته. فلم يكن اعضاء مجالس شوراهم وحدهم بل جميع افراد الشعب احراراً في ان يتكلموا، ويعترضوا، ويحاسبوا الخليفة نفسه، وهو ما كان الناس، يُمدحون عليه، لا يُضطهدون ولا يُهددون. ولم تكن هذه الحرية منّة من جانب الحاكم يتصدق بها على الشعب، بل حقاً دستورياً اعطاه الاسلام للشعب. وكان الخلفاء الراشدون يعتبرون التزامه فرضاً عليهم. وكان تطبيقه من أجل الخير فرضاً فرضه الله على كل مسلم. وكان الاحتفاظ بجو الدولة والمجتمع مناسباً لتأديته، جزءاً مهماً من مهمات الخلافة في نظرهم.

لكن ما أن بدأ دور الملوكية حتى قيّدت الضمائر بأقفال غلاظ، وكممت الافواه، وأصبحت القاعدة: "انكم ان أردتم ان تفتحوا افواهكم فبالمديح والثناء، وإلا فاسكتوا. وان كانت ضمائركم حية الى درجة لا تستطيع معها الامتناع عن قول الحق فاستعدوا للسجن والقتل". وراحت هذه السياسة تجعل المسلمين - شيئاً فشيئاً - جبناء، خانعين، عبيداً للمصالح، فقل فيهم من يجرؤون على قول الحق والصدق، وارتفع ثمن التملّق والمداهنة بينما انخفضت قيمة الحق والاستقامة والصدق. فابتعد الاكفاء المخلصون الأمناء الاحرار عن الحكومة، وخلت قلوب الناس من اي رغبة او عاطفة للابقاء على اي حكومة من حكومات الاسر الملكية، فإذا ازاحت احداهن اختها لم يتحركوا قط للدفاع عنها، واذا سقطت احداهن حفروا لها هاوية عميقة ورموا بها فيها.

فأخذت الحكومات تجيء وتذهب والناس لا يزيدون عن كونهم متفرجين لا يهمهم شيء في منظر المجيء والذهاب والطلوع والنزول.


4-
المسؤولية امام الله والناس

والمبدأ الرابع الذي يتصل بالمبدأ الثالث اتصالا وثيقا هو مسؤولية الخليفة وحكومته امام الله والناس. فأما بالنسبة الى المسؤولية امام الله، فإن الاحساس الشديد بها حرم الخلفاء الراشدين النوم ليلا والراحة نهارا. واما مسؤوليتهم امام الخلق فقد كانوا يعتبرون انفسهم مسؤولين امام الشعب في كل وقت، فلم يكن مبدأ حكومتهم في هذا ان "يُستَجْوَبوا" في مجلس شوراهم (البرلمان) فحسب من طريق تقديم مذكرة استجواب، بل كانوا يقابلون الناس وجهاً لوجه خمس مرات في اليوم اثناء الصلاة، وكانوا يتحدثون الى الناس ويسمعونهم خلال اجتماع صلاة الجمعة. وكانوا يمشون بين الشعب في الاسواق كل يوم بغير حرس خاص او من يفسح الطريق لهم، وكانت ابواب قصر رئاستهم (اي بيوتهم المتواضعة) مفتوحة لكل فرد، وكان كل انسان يستطيع في كل هذه المناسبات ان يقابلهم ويسألهم ويستجوبهم. فلم تكن مساءلتهم محدودة، بل دائمة وممكنة في كل وقت، ولم تكن مساءلة من طريق النواب واعضاء البرلمان، بل من الشعب مباشرة، لأنهم جاؤوا الى الحكم بارادة الشعب وكان رضا الشعب وحده هو الشيء الذي قد يعزلهم في اي وقت ويأتي بمن يريد غيرهم. لذلك لم يشعروا بخوف ولا خطر في مواجهة الناس والتقائهم، كما لم يكن الحرمان من السلطة خطرا في نظرهم يفكرون في تفاديه قط.

ولكن ما ان حل عصر الملوكية حتى انتهى تصور الحكومة المسؤولة. اما فكرة المساءلة امام الله فربما بقيت على الألسنة فقط، لكن لم تظهر آثارها في السلوك العملي. واما مساءلة الشعب، فمَن هذا البطل الذي يستطيع مساءلتهم؟ لقد كان الخليفة آنذاك غازي قومه وفاتحهم، فأي غاز يُسأل امام المقهورين؟ لقد جاء الى السلطة بالقوة، وكان شعاره "من كانت عنده قوة لينتزع منا السلطة". فكيف يمكن ان يواجه امثال هؤلاء شعوبهم؟ وانّى كان للعامة ان تقترب منهم؟ حتى الصلاة كانوا اذا ادوها ففي مساجد قصورهم الآمنة لا مع الرعاع والعامة. فإن صلّوا خارج قصورهم فوسط جمع غفير من حرسهم الخاص الموثوق بهم غاية الثقة. فإذا خرجت مواكبهم احاطت بها الفرق المسلحة من كل جانب تفسح لهم الطريق.


5-
بيت المال... امانة

كان المبدأ الخامس للدستور الاسلامي ان بيت المال (خزانة الدولة) مال الله وامانة المسلمين لا يدخله شيء من طريق غير طريق الحق، ولا ينفق منه شيء إلا في الحق وحق الخليفة في هذا المال من وجهة نظر القرآن لا يزيد عن حق الوالي في مال اليتيم. من كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. والخليفة مسؤول عن تقديم كشف حساب لكل قرش يدخل في بيت المال او يخرج منه، وللمسلمين كل الحق في ان يطلبوا منه هذا الحساب. وقد عمل الخلفاء الراشدون وفق هذا المبدأ بأمانة تامة، فكان كل ما يدخل خزانتهم انما يدخل وفق القانون الاسلامي، وكل ما ينفق انما ينفق في الطرق المشروعة، فمَن كان منهم غنيا خدم الدولة مجانا بلا راتب، بل لم يأسف على ان ينفق من ماله الخاص من اجل الشعب ومَن كان يستطيع خدمة الأمة طول الوقت كان يأخذ راتبا قليلا جدا لسد احتياجاته، كالذي يتقاضاه اوسط الناس بالعدل والانصاف. ثم كان في مقدور كل فرد ان يطلب في اي وقت حساب الداخل في خزانة الدولة والمنصرف منها، وكانوا هم مستعدين في اي وقت لتقديمه الى كل من يطلبه. وكان كل فرد من افراد الشعب يستطيع ان يسأل الخليفة في مجمع عام من اين جئت بهذا القماش اليمني مع ان نصيبك فيه لم يكن يكفي لصنع ثوب طويل لك(...).


6-
سيادة القانون وحكومته

وكان المبدأ السادس لهذا الدستور سيادة القانون (يعني قانون الله ورسوله) وحكمه في الدولة، وان لا احد فوق القانون او يحق له ان يعمل خارج حدود القانون. وان يكون القانون واحدا للجميع، من اصغر الناس الى رئيس الدولة وان يطبق على الجميع بالتساوي وبلا محاباة. وان لا يعامل احد معاملة مميزة عن غيره في القضاء. كما ان المحاكم ينبغي ان تكون حرة من كل ضغط من اجل توفير العدالة والانصاف. ولقد عمل الخلفاء الراشدون بهذا المبدأ فقدموا افضل نموذج له فكانوا مقيدين بقيود القانون الالهي. ومع ان سلطتهم كانت تفوق سلطة الملوك الا ان قرابتهم او صداقتهم لأحد لم تخرج عن حدود القانون فتنفعه بشيء، كا لم يضرّ غضبهم احدا فيظلمه خلافا للقانون. وكانوا اذا اعتدى عليهم احد طرقوا ابواب المحاكم مثلهم مثل عامة الناس، فإن كانت بأحد شكوى ضدهم رفع عليهم دعواه وجرّهم الى المحاكم. كما انهم وضعوا نوابهم وقادتهم والمسؤولين في دولتهم في قبضة القانون. فلم يكن ثمة مجال لأحد ان يفكر مجرد تفكير في التأثير على مجرى العدالة ورجال القضاء. ولم تبلغ رتبة احد به ان يخالف القانون او يخرج من حدوده، ويفلت من المؤاخذة. لكن ما ان تحولت الخلافة ملكا حتى تفسّخت هذه القاعدة ايضا وتناثرت اجزاؤها(...) واصبح للعدالة معياران، احدهما للبائسين والضعفاء، والآخر للأقوياء. وصار الويل للقضاة الذين يحكمون بالعدل والانصاف حتى فضل الفقهاء الاتقياء الجلد والسجن على ان يجلسوا في كرسي القضاء كي لا يصبحوا آلة للظلم والعسف فيستحقوا عذاب الله.


7-
المساواة التامة في الحقوق والمراتب

كانت المساواة التامة بين المسلمين في الحقوق والمراتب المبدأ السابع من مبادئ الدستور. وقد طبق هذا المبدأ في الدولة الاسلامية الاولى خير تطبيق. فلم يكن بين المسلمين ثمة فرق باعتبار الجنس او الوطن او اللغة او غير ذلك. ولم تكن القبيلة والعائلة والحسب والنسب اسبابا لتفضيل احد على آخر فكانت حقوق جميع المؤمنين بالله ورسوله واحدة متساوية، واذا كان ثمة فضل لأحد على آخر فباعتبار سيرته واخلاقه وكفاءته وصلاحيته(...)


الامام الحسين وسلوكه الايماني

كانت هذه هي التغيرات التي ظهرت بانقلاب الخلافة الاسلامية ملكا عضوضا ولا يستطيع احد ان ينكر ان ولاية عهد يزيد كانت بداية هذه التغيرات(...).

ومع ان هذه المفاسد لم تكن قد ظهرت بتمامها وكمالها حين اتخذت هذه الخطوة (ولاية عهد يزيد) الا ان كل صاحب بصيرة كان بوسعه ان يعرف ان هذه المفاسد كلها نتائج حتمية لهذه الخطوة، وانها ستقضي على جميع الاصلاحات التي اوجدها الاسلام وجاء بها في نظام السياسة والدولة. لهذا لم يستطع الامام الحسين على ذلك صبرا، وقرر ان يتحمل اسوأ النتائج التي قد تنتج من جراء الثورة على حكومة راسخة مستتبة ويخاطر بمحاولة وقف هذا التبديل...

اما مصير هذه المحاولة فالجميع يعرفونه، لكن الامام، بنزوله الى هذا الخطر العظيم، وتحمل نتائج هذه السلوك الرجولي المؤمن، اثبت ان الخصائص الاساس للدولة الاسلامية هي رأس مال الأمة الاسلامية الذي إن ضحّى المؤمن برقبته واسرته واهله وعياله في سبيل الحفاظ عليه لا يكون قد عقد صفقة خاسرة. وان المؤمن اذا ضحّى بكل ما يملك في سبيل وقف التغيّرات التي ذكرناها آنفا، وهي الآفة العظمى للدين والملّة، فلا ينبغي له ان يأسف على ذلك قط. وليستحقر هذا من شاء، وليسمّه عملا سياسيا، لكنه كان في عين الحسين بن علي عملا دينيا خالصا، ولهذا اعتبر التضحية بالروح من اجله شهادة، فاسترخص روحه وضحى بها في سبيله.

 
                                               
عبد الحسين البصري



 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنه الحسين عليه السلام ...



 

المفيد

ومنكم نستفيد يا بصري ..

جهد رائع ..

مشكور عليه حتى ينقطع النفس ..

ممكن تعطينا فكرة عن أصل الكتاب والمؤلف اذا سمحت ؟

 

 

رد أحمد المُهري


 

كنت أبحث عن موضوع نشر ضدي في هذه الشبكة المباركة ولم أقف عليه، لكن أحد الإخوة أشار إليه البارحة في شبكة أنا المسلم وبالصدفة رأيت عنوانا مثيرا حفزني لأن أراه فقرأت قبل قليل ولأول مرة كلمة المرحوم أبوالأعلى المودودي حول هدف القيام الحسيني المقدس. وأعجبت بها وأشكر الأخ البصري على إعادة نشرها وليس لي تعقيب عليها سوى أني فكرت في الخلافة الراشدة التي يشير إليها الأستاذ المرحوم وقلت في نفسي: ماذا لو كان معاوية قد جاء بعد الخليفة عثمان مباشرة دون الفاصل القصير الذي تولاه علي بن أبي طالب ليعيد إلى الأذهان حكومة أستاذه الأكبر محمد بن عبد الله فأجاد في إحيائها وشرح الكثير من مفاهيم الحكم التي بقي بعضها ليزيد المكتبة الإسلامية تألقا وإشراقا. وذلك مثل عهده المعروف لمالك الأشتر النخعي ومثل تفسيره لمبادئ البرمجة الإدارية والفصل بينها وبين مبادئ البرمجة الإلهية بأسلوب علمي وأدبي رائع.

كل ذلك بالإضافة إلى خطواته العملية في تنفيذ الأسلوب المحمدي في الحكم وتطبيق مبادئ القرآن وتمشيط الكفاءات لانتخاب الأقوى على رأس كل مهمة بعض النظر عن سوابقه ومشاكله الفكرية والعملية الشخصية. كان يعتقد بأن الكل سوف يذوبون في مرجل الحكم الواعي ولا يبقى لأحد أي وقت أو مجال لأن يخون الأمة. وبعد تعييناته الإدارية القوية وقف يتطلع إلى الجميع عن طريق عيونه ليصطاد الهنات من ولاته فيمدهم بالنصح والتوبيخ والعزل والمعاقبة أحيانا. ولا يفوته تشجيع الأوفياء من ولاته. كما كان لاينسى أن يأمرهم بتشجيع المخلصين من عمالهم وإدارييهم ومعاقبة المخلفين منهم.

هذا النموذج الرائع أعطى الخلافة معنى جميلا تهنأ بها من أتى بعده دون أن يعمل مثله. كما أنه غطى على هنات الخليفة عثمان واستئثاره لنفسه ولبني أبيه. واليوم ينادي حزب التحرير لإحياء الخلافة الإسلامية وفيها نموذج رائع مثل علي بن أبي طالب. فلو حذفنا عليا من قائمة الخلفاء الراشدين وسلم عثمان الولاية بعده لمعاوية فهل كان المثل التي ذكرها المودودي بكاملها ناتئة على صدر الخلافة الإسلامية؟

ولو حذفنا عليا من التاريخ ودفناه مع حبيبه المصطفى في يوم واحد فما ذا كان مصير الخليفتين الذين كانا مهتمين باتباع نظام الرسالة المحمدية. فهما صحابيان جليلان وكان الصحابة برمتهم محيطين بهما وناظرين لأعمالهما. ماذا كان يقول عمر في مقام الخطأ: لولا  (من) لهلك عمر أو لولاك يا (من) لافتضحنا. ثم من يشير عليه في حروبه وفتوحاته التي لم تكن من مرامي الإمام علي كما لم يقم بمثلها الرسول المصطفى. لكن عليا كان يحترمه ويساعده باعتبار منصبه وباعتبار قربه من رسول الله.

وهل فكر الأستاذ المودودي عن منبت يزيد المجرم ومن أوصله إلى هذا المنصب. أليس هو الذي سلم الشام دون محاسبة لأبيه معاوية (يخضم مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع) ببيان علي بن أبي طالب. أنا أتحاشى الخوض في تاريخ سلفنا فالألم يقلقني والأسى يملأ فؤادي وما باليد حيلة. أرى الحق باطلا والباطل حقا والكل يحاول أن ينسب الفضل والشرف لمن يؤمن به دون حق مع الأسف. هذا ظلم وتقرب من الشيطان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وحتى أكون إيجابيا فإني أدعو المؤرخين والعلماء الذين يحبون عليا من السنة والشيعة أن يقوموا بهذه الحركة العلمية تصحيحا لمسار الحكم بيننا وخدمة لأجيالنا في المستقبل لعلهم يتمكنوا من غربلة التاريخ الإسلامي الأول والذي أثار الكثير من الخلافات بين المسلمين بسبب الغموض الذي يلف أبطال تاريخهم. دفن الإمام علي علميا مع النبي وتصوير الخلافة الإسلامية بدون علي ثم دفن الخلفاء مع النبي وتصوير علي على رأس الأمة دون الخليفتين ودون عثمان.

لعلي أكون قادرا على ذلك فكريا ولكني ضعيف تاريخيا وليس لدي متسع من الوقت، إلا أنني مستعد لمساعدتهم في حدود وقتي وإمكاناتي، ولعلهم لا يحتاجون إلي، فبها ونعمت. لكن أمتنا ومجتمعنا بحاجة إلى هذا العمل العلمي الكبير.

وليكن واضحا أنني لست بصدد تأييد الشيعة ولو كنت شيعيا. إن الشيعة عامة لا يحبونني لأنني أخالف الكثير من معتقداتهم وخرافاتهم. لكن عليا هو وجه مجمد ومرآته الذي لا نرى فيه غير محمد وغير الخضوع المطلق لله جل وعلا. هذا الذي لم يمنعه عمله الكبير والمجهد أيام خلافته من صرف شطر من لياليه في التفكير في الله والبكاء خوفا منه وقد ملأ الله قلبه فلم يبق فيه مكان لأحد غيره. ومن الظلم والإسراف على أنفسنا أن نقارنه بالذين هم دونه علما وإيمانا.

                                أحمد المُهري